أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

السبت، يونيو 14، 2025

تأملات في العمارة الليبية: هل نحن في صحوة أم غفلة متجددة؟

مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية- صرح في التعليم الحرفي، تم تهميش حضوره.

جمال الهمالي اللافي

أُعيد طرح تأملات قديمة، نشرتُها قبل سنوات على صفحتي بفيسبوك ومدونتي "الميراث"، والتي عرضها علي الفيسبوك اليوم ضمن ذكرياتي اليومية. هذه التأملات، التي نُشرت بالتزامن مع احتفال قسم العمارة والتخطيط العمراني بذكراه الثلاثين في العام 1999، لا تزال تلامس واقعنا المعماري بشدة، وربما أكثر من أي وقت مضى.

كانت تلك الفترة شاهدة على تحول لافت في الخطاب الأكاديمي. فبعد عقود من التعصب الشديد لـعمارة الحداثة بين أعضاء هيئة التدريس في ثمانينيات القرن الماضي، استمعنا في الندوة المعمارية المذكورة إلى ورقات بحثية، قدمها أعضاء هيئة التدريس أنفسهم، تمجد العمارة المحلية. هذا التحول دفعني للتساؤل: هل هي صحوة بعد غفلة، أم غفلة أخرى تعقب غفلات؟

تزامن هذا التحول مع بروز عمارة ما بعد الحداثة في ليبيا، وإن كانت متأخرة بما يزيد عن ثلاثة عقود عن العالم الغربي. حينها، خشيتُ أن يكون هذا مجرد امتداد للتبعية الفكرية، وهو ما رأيته "مصيبة". خاصة وأن تلك الفترة شهدت بداية بروز الحركة التفكيكية في أوروبا في أوائل التسعينيات، والتي تدعو إلى هدم كل القواعد الأخلاقية، مدعمة بإرهاصاتها المعمارية التي رأيتُ فيها خطرًا، ودفعتني لنشر مقال في جريدة "الشط" حينها.

واليوم، بعد عدة عقود مضت على تلك الندوة، تتجلى إرهاصات هذه النظرية الفكرية بوضوح مقلق في مشاريع تخرج طلاب العمارة. حيث تفتقر هذه المشاريع للإبداع الحقيقي الذي يجاريها. وما يزيد الأمر سوءًا هو الاعتماد الحصري على الخرسانة المسلحة ونظام الهياكل الخرسانية في المشاريع التي ينفذها خريجو القسم، مما يؤكد أن العقل المعماري الليبي لا يزال أسير التبعية الفكرية، يركض خلف كل صيحة دون إبداع يذكر ودون حتى مواكبة للمواد والنظم الإنشائية المصاحبة لهذه التوجهات الفكرية. (هنا أقف عند المقالة الأصلية التي عرضتها في حينها)

أبعاد التبعية وآفاق التحرر

إن توصيفي للتبعية الفكرية بأنها "مصيبة" هو توصيف دقيق، لأن هذه التبعية لا تقتصر على مجرد استيراد الأنماط، بل تجاوزت ذلك إلى استيراد المنهجية الفكرية التي تقف خلف تلك الأنماط. ففي الثمانينيات، كان التعصب للحداثة ليس فقط اعتناقًا لشكلها الخارجي، بل تبنيًا لرؤيتها الفلسفية التي رأت في كل ما هو تقليدي "تخلفًا". هذا الأمر يطرح تساؤلاً حول مدى النقد الذاتي والفحص العميق لهذه الأفكار قبل تبنيها.

وعندما ننتقل إلى ما بعد الحداثة ثم التفكيكية، أرى أن الأمر يصبح أكثر تعقيدًا وخطورة. عمارة ما بعد الحداثة وإن كانت قد دعت إلى التعددية والتنوع والعودة إلى بعض الرموز التاريخية، إلا أنها في سياقنا الليبي، يبدو أنها لم تُستوعب بما يكفي لتوليد إبداع محلي، بل أصبحت مجرد تقليد شكلي يفتقر إلى العمق الفكري الذي يميزها في سياقاتها الأصلية. أما التفكيكية، التي أشرتُ إلى "خطرها" و"هدمها للقواعد الأخلاقية"، فإنها تمثل تحديًا أكبر. فإذا كانت هذه الأنماط تُطبق دون فهم عميق لفلسفاتها، أو دون تمييز بين ما يتوافق مع قيمنا ومجتمعنا وما يتعارض معه، فإن النتيجة الحتمية هي ما وصفته بـ "الانحطاط الأخلاقي" على المستويين الاجتماعي والمهني، وغياب الإبداع الحقيقي.

ما يزيد الطين بلة هو النقطة التي أضفتُها حول "عدم مواكبة للمواد والنظم الإنشائية المصاحبة لهذه التوجهات الفكرية". فالمشاريع التي تتبنى أساليب معمارية حديثة أو ما بعد حداثية، لكنها لا تزال تقتصر على الخرسانة المسلحة والهياكل الخرسانية، تكشف عن انفصال بين الفكر والتطبيق. العمارة ليست مجرد شكل خارجي، بل هي نتاج تكامل بين الفكرة، المادة، الوظيفة، والسياق. عندما نستورد الفكرة دون استيعاب لتطبيقاتها المادية الحديثة والمتنوعة، ودون محاولة للتكيف مع المواد المحلية المتاحة ومعطيات البيئة، فإن النتيجة تكون أعمالاً غير أصيلة، لا تعبر عن هوية ولا تستفيد من الإمكانيات المحلية.

إن الاعتماد الكلي على الخرسانة المسلحة قد يكون نتيجة لعدة عوامل، منها التدريس الأكاديمي الذي يركز بشكل كبير على هذه المادة، كذلك الممارسات الهندسية السائدة في السوق، بالإضافة إلى غياب الابتكار في استخدام المواد المحلية أو تطوير مواد جديدة مستدامة ومناسبة لبيئتنا. هذا يقودني إلى نقطة أعمق: أين هو دور البحث والتطوير في جامعاتنا ومكاتبنا الاستشارية في إيجاد حلول إنشائية ومادية تتوافق مع التوجهات المعمارية الحديثة مع الحفاظ على الأصالة والاستدامة؟ 

الطريق نحو التحرر: صياغة هويتنا المعمارية

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم، ونحن نرى هذه الأنماط تتكرر، هو: متى يتحرر عقلنا المعماري من هذه التبعية؟ ومتى نبدأ في صياغة هويتنا المعمارية الخاصة التي لا تجاري الموجات فحسب، بل تبدع وتثري المشهد المعماري بما يتناسب مع قيمنا وثقافتنا ومعطيات بيئتنا المحلية وموادها الإنشائية المتاحة؟

أعتقد أن التحرر من هذه التبعية يتطلب:

·     مراجعة نقدية للمناهج التعليمية: يجب أن تتجاوز المناهج تدريس الأساليب الغربية كمسلمات، وأن تشجع على التفكير النقدي، والبحث في التاريخ المعماري المحلي، وتشجيع الطلاب على استكشاف حلول مبتكرة تستلهم من البيئة والثقافة الليبية.

·         تشجيع البحث والتطوير: دعم الأبحاث التي تركز على المواد المحلية، وتقنيات البناء المستدامة، وتطوير أساليب تصميم تتوافق مع مناخنا واحتياجاتنا.

·     ربط الأكاديميا بالممارسة: يجب أن يكون هناك جسر أقوى بين ما يُدرس في الجامعات وما يُطبق في السوق. تشجيع المشاريع التجريبية التي تدمج الفكر الجديد مع المواد المحلية والتقنيات المبتكرة.

·     تعزيز الهوية الثقافية: العمارة ليست مجرد بناء، بل هي تعبير عن ثقافة وهوية. يجب أن نعود إلى قيمنا الثقافية والاجتماعية وأن نستلهم منها في تصاميمنا، بدلاً من التقليد الأعمى. هذا لا يعني الانغلاق، بل يعني القدرة على استيعاب الجديد وتكييفه بما يخدم هويتنا.

·     مسؤولية المهندس المعماري: يجب على المعماري الليبي أن يتحمل مسؤولية أكبر في كسر حلقة التبعية، وأن يكون رائدًا في تقديم حلول إبداعية تتجاوز المألوف والمستورد، مع التركيز على الاستدامة والبعد الثقافي.

    إن القضية تتطلب جهدًا جماعيًا من الأكاديميين، الطلاب، المهندسين المعماريين، وحتى الجهات التشريعية. فالعمارة هي مرآة المجتمع، وإذا أردنا أن نرى مجتمعًا مبدعًا ومستقلاً، يجب أن تبدأ هذه الصحوة من صميم عمارته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية