جمال الهمالي اللافي
إن العمارة ليست مجرد قوالب صماء أو تراكيب وظيفية؛ إنها مرآة تعكس الروح الجمعية لمجتمعها، وتجسد قيمه وتطلعاته. في خضم التحديات التي تواجه المدن المعاصرة، تبرز الحاجة الملحة إلى وقفة مراجعة حقيقية مع الذات. فالسعي وراء الأوهام المعمارية المستوردة أو التصميمات العشوائية هو سراب لا ينتهي، يقود المدن وأهلها إلى متاهات الضياع وفقدان الهوية. هنا، تكمن ضرورة العودة إلى الجذور كفلسفة معمارية وحضرية أصيلة.
العودة
إلى الجذور: إحياء القيم المعمارية
إن مفهوم "العودة إلى الجذور" في السياق المعماري يتجاوز مجرد الحنين إلى الماضي أو تقليد الأشكال القديمة. إنه دعوة لإعادة الاتصال بالجواهر الخالدة والمبادئ الأساسية التي شكلت هويتنا المعمارية عبر العصور. هذا يعني التركيز على القيم الجوهرية التي تحملها عمارة الأجداد ضمن سياقها الثقافي والبيئي والاجتماعي. فالعمارة الليبية التقليدية، على سبيل المثال، لم تكن مجرد فن بناء، بل كانت تجسيدًا حيًا لفهم عميق لـماهية الحياة السعيدة التي يجب أن يحياها المسلم". لقد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالمفاهيم الإسلامية للحياة، التي تشمل الخصوصية، الترابط الأسري، الضيافة، والانسجام مع البيئة.
المسكن
التقليدي: بوتقة تشكيل الهوية والقيم
لا يوجد
مثال أوضح لتجسيد هذه العلاقة الوثيقة بين العمارة والقيم من المسكن التقليدي. لم يكن هذا
المسكن مجرد مأوى، بل كان "بوتقة" حقيقية تحتضن
ولادة المسلم ونموه الإدراكي وتنامي مشاعره، وتشكل قيمه التي سيسير على خطاها مدى
عمره. لقد بُنيت أساساته ورُفعت أركانه على مبادئ الشريعة الإسلامية، ترجمةً لأسس
الحياة الإسلامية السعيدة.
تتجلى هذه المبادئ في عناصر تصميمية دقيقة:
· الخصوصية
والستر: يُعد الفناء الداخلي (الحوش) هو
القلب النابض للمسكن، حيث يضمن الخصوصية الكاملة للأسرة ويحميها من أعين
المتطفلين. الجدران العالية والنوافذ القليلة المطلة على الشارع تؤكد هذا المبدأ،
مما يخلق ملاذًا آمنًا وهادئًا للحياة الأسرية.
· الترابط
الأسري والتواصل: الفناء الداخلي ليس فقط خاصًا
بل هو أيضًا مساحة مركزية للتجمع الأسري، حيث تتفاعل الأجيال وتنمو العلاقات في
بيئة مفتوحة ومريحة تحت السماء.
· التهوية
والإضاءة الطبيعية: يضمن الفناء دخول الضوء والهواء
النقيين إلى جميع غرف المنزل، مما يوفر بيئة صحية ومريحة، ويعكس الانسجام مع
الطبيعة المحيطة.
· الضيافة
والكرم: على الرغم من الخصوصية، كانت
هناك دائمًا مساحات مخصصة لاستقبال الضيوف (مثل الديوان أو المجالس)، مما يعكس
قيمة الكرم والضيافة المتأصلة في الثقافة الإسلامية.
· البساطة والجمال الوظيفي: كانت التصميمات تتسم بالبساطة الأنيقة والجمال المستمد من الوظيفة، مع استخدام مواد طبيعية متوفرة محليًا، مما يعزز قيم الاستدامة والاعتماد على الذات.
تشريع
الهوية: نحو بيئة عمرانية إسلامية أصيلة
لتحقيق
رؤية أعمق وأكثر استدامة، لا يكفي الاكتفاء بالدراسات أو المبادرات الفردية. إن
الخطوة الجريئة والمحورية تكمن في دمج أحكام البنيان الإسلامية ضمن التشريعات
المنظمة لتصميم المشاريع العمرانية والحضرية، والتخطيط المديني،
والتصميم الداخلي، وحتى التفاصيل المعمارية والزخرفية. هذا التوجه سيضمن أن البيئة
العمرانية الجديدة ليست مجرد هياكل بلا روح، بل تعكس روح العقيدة الإسلامية بكل ما
تحمله من معانٍ جمالية ووظيفية وأخلاقية.
هذا التكامل التشريعي يجب أن يغطي مستويات
متعددة:
· التخطيط
المديني والحضري: يجب أن تشمل
التشريعات مبادئ تخطيطية تعزز المقياس الإنساني للمدينة،
وتدعم النسيج العمراني المتماسك الذي
يعزز الجوار والتكافل الاجتماعي، مع مراعاة توفير المساحات الخضراء والمرافق
العامة. يمكن أن تستلهم هذه التشريعات من تنظيم "الحارات" و"المدن
العتيقة" التي كانت تعطي الأولوية للتواصل الاجتماعي والخصوصية في آن واحد.
· التصميم
المعماري للمباني: يجب أن تفرض
اللوائح مبادئ تصميمية تعزز الخصوصية البصرية والصوتية داخل
المساكن، وتشجع على استخدام الفناءات الداخلية، وتوجيه المباني بما يخدم المناخ
المحلي (مثل استخدام المشربيات والعناصر التي توفر الظل والتبريد الطبيعي). كما
يجب أن تشجع على استخدام المواد الطبيعية والمحلية التي
تتناغم مع البيئة وتحكي قصة المكان.
· التصميم
الداخلي والتفاصيل المعمارية: يمكن للتشريعات
أن توجه نحو تصميمات داخلية تحترم فصْل الفراغات (مثل فصْل استقبال الرجال عن
النساء في بعض الثقافات)، وتشجع على استخدام الأنماط الزخرفية الإسلامية
كالزخارف الهندسية والنباتية والخط العربي، والتي تعبر عن التوحيد والبعد عن
التجسيد، وتضيف قيمة روحية وجمالية للفراغ.
هذا الإطار التشريعي سيعمل كآلية قوية لتصحيح الأخطاء التي خلقتها المدن العشوائية والعمارة "المغتربة" التي انفصلت عن سياقها الثقافي والديني، والتي أدت إلى ضياع الهوية والتفكك الاجتماعي في كثير من الأحياء والمناطق الحديثة.
التحدي
الأكبر: إرادة النظام السياسي
يبقى
التحدي الأكبر، والذي يشكل العائق الأساسي أمام تحقيق هذه الرؤية الطموحة، هو غياب نظام سياسي يستوعب، بالعمق الكافي، أن تصحيح
مسار المجتمع يبدأ من تخطيط مدنه ومشاريعها المعمارية وإحياء فنونها الحرفية على
مبادئ العقيدة الإسلامية. فكثيرًا ما تُدار مشاريع التنمية
العمرانية بمنطق اقتصادي بحت، أو تحت تأثير نماذج مستوردة، مما يهمل الأبعاد
الثقافية والاجتماعية والروحية للمجتمع.
إن هذه التجربة المريرة، التي شهدناها مراراً في سياق العمل المدني والجهود المخلصة لجمعيات مثل الجمعية الليبية لإحياء التراث الثقافي وفق مبادئ الشريعة، حيث سُرقت الجهود ووُظفت لمآرب شخصية بعيدًا عن الغاية النبيلة، تترك شعورًا بالإحباط والعجز. ومع ذلك، فإن إدراك هذه العقبة لا يلغي صحة وضرورة الرؤية. بل يؤكد أن الطريق إلى استعادة بنيوية العمارة الليبية المعاصرة، بما يعكس هويتها وقيمها الإسلامية، يتطلب إرادة سياسية قوية وواعية تضع بناء الإنسان قبل بناء الحجر، وتدرك أن الفراغ العمراني هو في جوهره فضاءٌ لتشكيل الوعي والقيم، ومفتاحٌ لإعادة تصحيح مسار المجتمع نحو الازدهار والأصالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق