أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، ديسمبر 25، 2024

العمارة: لغة تعبير تعكس القيم والمجتمع

 

جمال الهمالي اللافي

مقدمة

العمارة هي لغة ووسيلة تعبير، تُضاف إلى وسائل التعبير الأخرى التي يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن ذاته وتلبية احتياجاته المادية والعاطفية. لذلك فهي تخضع لمجموعة من النظم والقواعد كغيرها من اللغات. وتمتلك مجموعة من الأدوات التعبيرية التي تتحكم في مسار العملية التصميمية أولاً، وتمكّن المعماري من رسم ملامحها وصياغة تعابيرها ثانياً. ومن ثم يسهل قراءتها وفهم المضامين التي تحملها والرسالة التي تسعى لإيصالها إلى المتلقي عبر تكويناتها الفراغية وتشكيلاتها الجمالية بأبعادها الثقافية.

مشكلات العمارة المعاصرة

تخيل شابًا يتخرج من كلية العمارة، ممتلئًا بالحماس لكنه يفتقر إلى الأدوات الأساسية للتعبير عن أفكاره المعمارية. للأسف، معاناة العمارة المعاصرة من غياب لغة تحكمها قواعد ونظم، تقابلها ضعف شديد في اللغة المحكية عند أجيال اليوم التي لم تعد أيضاً تحكمها قواعد. وكلتا الحالتين هما نتيجة لانهيار منظومة القيم الأخلاقية في المجتمعات المعاصرة، مما ترتب عليه انهيار المنظومة التعليمية على مختلف المستويات.

انعكاس القيم الأخلاقية والتعليمية على العمارة

في أحد الأيام، جلس هذا الشاب أمام شاشة الكمبيوتر، يحاول بكل جهد أن يصمم مبنى يعبر عن رؤيته. لكنه وجد نفسه يتلعثم في أفكاره، مثل الطالب الذي يتخرج من الجامعة وهو لا يستطيع كتابة جملة مفيدة ويتعتع في قراءته. هذا الشاب هو نفسه الطالب الذي يتخرج من كليات العمارة وأقسامها وهو لا يمتلك القدرة على التحكم في أدوات التعبير عن أفكاره المعمارية بالصورة الصحيحة. يتطلب ذلك إخضاع الأفكار للمنظومة القيمية للمجتمع الذي ينتمي إليه المعماري بعقيدته وثقافته ومعطيات البيئة التي تتحكم في مسارات العملية التصميمية ويفترض به مراعاتها في أي مشروع معماري يكلف به.

الابتكار والتحديات في العمارة المعاصرة

نتيجة لفقره المعرفي وقصوره الإدراكي، يلجأ الطالب إلى ابتكار وسائل تعبير مستوردة يغلب عليها الارتجال وعدم التناسق والتمرد على أي ضوابط أو قواعد تحكم العملية التصميمية. تخيل مبانٍ جديدة تفقد هويتها، مفتقرة للمعنى، غير قادرة على التفاعل مع بيئتها المحلية. هذه العمارة تُروج لها عبر وسائط الإعلام التي تضم بداخلها أشباهه من مخرجات مدارس التسطيح المعرفي والتفريخ الكمي. دعاة الفن لأجل الفن وحرية الإبداع التي لا تقيدها قواعد ولا تلزمها ضوابط ولا تربطها جذور.

حقائق علمية ومؤشرات

وفقًا لدراسات متعددة، تظهر الأرقام أن تدهور مستوى التعليم له تأثير مباشر على جودة المهن الفنية والمعمارية. على سبيل المثال، تقرير من منظمة اليونسكو يشير إلى أن نسبة الخريجين الذين يمتلكون مهارات كتابية وتعبيرية متقدمة قد انخفضت بنسبة 30% خلال العقد الأخير. هذه الأرقام تسلط الضوء على الفجوة الكبيرة بين التعليم النظري والعملي وأثرها على جودة العمارة المعاصرة.

العمارة كمؤشر أخلاقي

وبالتالي، نعود هنا لنقول إن العمارة ما هي إلا مرآة عاكسة لحالة أخلاقية. فانهيار الأخلاق أدى بدوره إلى انهيار التعليم وتفسخ الثقافة واضطراب العلاقات الإنسانية داخل المجتمع الواحد، بحيث أصبحت هذه كلها تقع في أسفل سلم الأولويات وفي آخر قائمة الاهتمامات لدى أفراد المجتمع وقياداته السياسية وخبراته الاقتصادية.

خاتمة

العمارة ليست مجرد بناء، بل هي تعبير عن القيم والمعتقدات والعلاقات في المجتمع. إن الانهيار الأخلاقي والتعليمي الذي نشهده في المجتمعات المعاصرة ينعكس بشكل واضح على جودة العمارة وأصالتها. لذا، فإن إعادة بناء منظومة القيم الأخلاقية والتعليمية تعد خطوة ضرورية لإعادة الارتباط بجذورنا وتحقيق عمارة تتوافق مع هويتنا الثقافية وتلبي احتياجات بيئتنا المحلية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية