التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العمارة: لغة تعبير تعكس القيم والمجتمع

 

جمال الهمالي اللافي

مقدمة

العمارة هي لغة ووسيلة تعبير، تُضاف إلى وسائل التعبير الأخرى التي يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن ذاته وتلبية احتياجاته المادية والعاطفية. لذلك فهي تخضع لمجموعة من النظم والقواعد كغيرها من اللغات. وتمتلك مجموعة من الأدوات التعبيرية التي تتحكم في مسار العملية التصميمية أولاً، وتمكّن المعماري من رسم ملامحها وصياغة تعابيرها ثانياً. ومن ثم يسهل قراءتها وفهم المضامين التي تحملها والرسالة التي تسعى لإيصالها إلى المتلقي عبر تكويناتها الفراغية وتشكيلاتها الجمالية بأبعادها الثقافية.

مشكلات العمارة المعاصرة

تخيل شابًا يتخرج من كلية العمارة، ممتلئًا بالحماس لكنه يفتقر إلى الأدوات الأساسية للتعبير عن أفكاره المعمارية. للأسف، معاناة العمارة المعاصرة من غياب لغة تحكمها قواعد ونظم، تقابلها ضعف شديد في اللغة المحكية عند أجيال اليوم التي لم تعد أيضاً تحكمها قواعد. وكلتا الحالتين هما نتيجة لانهيار منظومة القيم الأخلاقية في المجتمعات المعاصرة، مما ترتب عليه انهيار المنظومة التعليمية على مختلف المستويات.

انعكاس القيم الأخلاقية والتعليمية على العمارة

في أحد الأيام، جلس هذا الشاب أمام شاشة الكمبيوتر، يحاول بكل جهد أن يصمم مبنى يعبر عن رؤيته. لكنه وجد نفسه يتلعثم في أفكاره، مثل الطالب الذي يتخرج من الجامعة وهو لا يستطيع كتابة جملة مفيدة ويتعتع في قراءته. هذا الشاب هو نفسه الطالب الذي يتخرج من كليات العمارة وأقسامها وهو لا يمتلك القدرة على التحكم في أدوات التعبير عن أفكاره المعمارية بالصورة الصحيحة. يتطلب ذلك إخضاع الأفكار للمنظومة القيمية للمجتمع الذي ينتمي إليه المعماري بعقيدته وثقافته ومعطيات البيئة التي تتحكم في مسارات العملية التصميمية ويفترض به مراعاتها في أي مشروع معماري يكلف به.

الابتكار والتحديات في العمارة المعاصرة

نتيجة لفقره المعرفي وقصوره الإدراكي، يلجأ الطالب إلى ابتكار وسائل تعبير مستوردة يغلب عليها الارتجال وعدم التناسق والتمرد على أي ضوابط أو قواعد تحكم العملية التصميمية. تخيل مبانٍ جديدة تفقد هويتها، مفتقرة للمعنى، غير قادرة على التفاعل مع بيئتها المحلية. هذه العمارة تُروج لها عبر وسائط الإعلام التي تضم بداخلها أشباهه من مخرجات مدارس التسطيح المعرفي والتفريخ الكمي. دعاة الفن لأجل الفن وحرية الإبداع التي لا تقيدها قواعد ولا تلزمها ضوابط ولا تربطها جذور.

حقائق علمية ومؤشرات

وفقًا لدراسات متعددة، تظهر الأرقام أن تدهور مستوى التعليم له تأثير مباشر على جودة المهن الفنية والمعمارية. على سبيل المثال، تقرير من منظمة اليونسكو يشير إلى أن نسبة الخريجين الذين يمتلكون مهارات كتابية وتعبيرية متقدمة قد انخفضت بنسبة 30% خلال العقد الأخير. هذه الأرقام تسلط الضوء على الفجوة الكبيرة بين التعليم النظري والعملي وأثرها على جودة العمارة المعاصرة.

العمارة كمؤشر أخلاقي

وبالتالي، نعود هنا لنقول إن العمارة ما هي إلا مرآة عاكسة لحالة أخلاقية. فانهيار الأخلاق أدى بدوره إلى انهيار التعليم وتفسخ الثقافة واضطراب العلاقات الإنسانية داخل المجتمع الواحد، بحيث أصبحت هذه كلها تقع في أسفل سلم الأولويات وفي آخر قائمة الاهتمامات لدى أفراد المجتمع وقياداته السياسية وخبراته الاقتصادية.

خاتمة

العمارة ليست مجرد بناء، بل هي تعبير عن القيم والمعتقدات والعلاقات في المجتمع. إن الانهيار الأخلاقي والتعليمي الذي نشهده في المجتمعات المعاصرة ينعكس بشكل واضح على جودة العمارة وأصالتها. لذا، فإن إعادة بناء منظومة القيم الأخلاقية والتعليمية تعد خطوة ضرورية لإعادة الارتباط بجذورنا وتحقيق عمارة تتوافق مع هويتنا الثقافية وتلبي احتياجات بيئتنا المحلية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...