الثلاثاء، يوليو 15، 2008

مشاريع معمارية

مشروع تصميم 
مسجد السيدة عائشة رضي الله عنها







تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي

المسقط الأفقي للدور الأرضي
المسقط الأفقي للدور الأول





مرافق المسجد/

يضم مسجد السيدة عائشة رضي الله عنها، بيت الصلاة وصحن المسجد ومدرسة قرآنية وصالة متعددة الأغراض وبيت للقيّم على المسجد وحجرة الإمام مع مرافقها الخدمية ومجموعة محلات تجارية.


أخذت الاعتبارات التالية في تصميم المسجد/
  • الفصل بين حركتي دخول الرجال والنساء، حيث يتم دخول الرجال من أقصى الطرف الأيمن للمسجد وتدخل النساء من أقصى الطرف الأيسر حيث يتم الوصول إلى الدور الأول من خلال السلالم الموجودة في منارة المسجد. مع توفير ميضأة ودورات مياه لكل منهم.
  • المعايير التخطيطية للمساجد بصفة عامة وخصوصا في مدينة طرابلس.
  • فصل الميضأة ودورات المياه عن صحن المسجد.
  • استثمار العناصر المعمارية والمفردات المحلية لعمارة مدينة طرابلس.لأنها نتاج تراكم تجارب وخبرات الأولين وتعاطيهم مع الظروف البيئية المحيطة.
  • استغلال المئذنة لتكون بئر السلم المؤدي إلى الدور العلوي للمسجد حيث مصلى النساء. وفي الجزء الأخير منها تم وضع خزان المياه التي تغذي المسجد. وتمثل المئذنة المربعة نموذج المآذن المنتشرة في المغرب العربي ومن ضمنها ليبيا، وقد تم اختيارها على هذا الشكل في إطار إحياء الطراز المعماري المحلي للمساجد والذي بدأ يندثر.

المعلم/ علي سعيد قانة


موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا
1936- 2006





جمال الهمالي اللافي


الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة" هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.•

التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة.


مساهماته الفنية/
اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفنية.•

شارك في العديد من المعارض الفنية في الداخل والخارج منها المهرجان الأول للفنون الأفريقية بالجزائر ومقامات من الرسم المغاربي المعاصر. •
كلف عند عودته إلى ليبيا بإعداد تمثالين رأسيين للشاعرين أحمد الشارف وأحمد رفيق المهدوي.•
كلف بتصميم والإشراف على تنفيذ هدية الفارس الليبي بمناسبة العيد العاشر لثورة الفاتح.


تجربته التعليمية/
التحق بمجال التدريس بقسم العمارة والتخطيط العمراني بكلية الهندسة، جامعة الفاتح سنة 1974 كأستاذ لمادة الرسم الحر... وقد تجاوزت تجربته في قسم العمارة حدود مادة الرسم الحر لتشكل تحولا كبيرا في حياته المهنية والفكرية، وتميزت علاقته بأعضاء هيئة التدريس وطلاب القسم بالعمق وسعة الأفق وبعد النظر وغزارة المعرفة المدعومة بالتطبيق حيث مثّل وجوده رافدا مهما من روافد التعريف بالتراث العمراني المحلي والسعي الدءوب لإيجاد صيغة معاصرة لمفهوم وتطبيقات التراث المعماري والحرفي في جميع مناحي الحياة. لهذا منح درجة ماجستير فخرية من كلية الهندسة / جامعة الفاتح سنة 1992 ف تقديرا لنشاطه العلمي والفني المميز.وفي سنة 1993


كانت له تجربة متميزة أخرى في مجال التدريس بكلية الفنون الجميلة والإعلام في قسم الخزف، لم يكتب لها الاستمرارية لظروف خارجة عن إرادته وطموحه التعليمي فترك التدريس بهذه الكلية سنة 1996ليتفرغ نهائيا لتلاميذه بقسم العمارة.

كان الأستاذ علي قانة صاحب رسالة واكبت مسيرة حياته. ورؤية واضحة لكل إشكاليات العصر تميزت بالنضج والعمق وهو ما ميز تجربته التعليمية والمهنية والشخصية على حد سواء... لهذا استحق لقب المعلم عن جدارة واستحقاق. كما لقبه المخرج السينمائي الليبي محمد المسماري بلقب آخر هو " موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا" وذلك بعد أن قام بتصوير سيرة هذا الفنان واطلع من خلالها على تبحّره في كل مجالات الفنون التشكيلية من خلال مجموعة من الأعمال والمساهمات الإبداعية.



انتقل المعلم والفنان التشكيلي" علي سعيد قانة" إلى رحمة الله، صباح يوم السبت الموافق 22/4/2006 عن عمر يناهز السبعين عاما



أهم مقالاته/
خزف وفخاريات غريان.


يمتلك المعلم علي قانه رصيدا هائلا من الأعمال التوثيقية للمعالم المعمارية الإسلامية لمختلف المدن الليبية القديمة، لهذا سأقوم مستقبلا بتزويد هذا الموضوع بكل ما يقع تحت يدي من معلومات أو وثائق جديدة.

روح المدينة


جمال الهمالي اللافي


" روح المدينة في ارتباط سكانها بعاداتهم وتقاليدهم الأصيلة، فإذا غابت هذه العادات والتقاليد، أضحت المدينة جسدا بلا روح".




تناهى إلى سمعي وأنا ببيت الشيخ محسن، صوتا بدا وكأنه صدر عن إحدى زواياه المهجورة، لم أستطع أن أحدد ماهيته، ولكنه جعلني أتوقف عن عملي، لأجول ببصري في أرجاء المكان بحثا عن مصدره، وعهدي بخلو المكان يعزز يقيني بتوهمي بوجود أحد سواي في هذا البيت.

كان السكون يخيم على المكان مما جعلني أعاود انشغالي ببحثي وأعزو مصدره إلى وهم ناتج عن إرهاقي في العمل تحت وطأة حر الصيف، أو إلى بعض القطط التي تتخذ من مثل هذه الأماكن المهجورة ملاذا لها ومركزا لتجمعها.

مرت لحظات ليعاود الصوت بعدها طرق أسماعي، وكان هذه المرة أكثر وضوحا فهناك شخص ما يدعوني إليه؟!… سرت في جسدي قشعريرة وانتابت أوصالي رعشة… توقفت عن العمل وبدأت دوامة من الهواجس تلف رأسي، وتذكرت القصص التي يتداولها الناس حول البيوت المهجورة في مدينة إطرابلس القديمة التي تسكنها الجن.

طردت سحابة الهواجس السوداء التي خيمت فوق رأسي… وتوجهت ناحية السلالم المستحدث التي تتوسط الفناء، وبدأت أصعد الدرجات ملبيا دعوة فضول الاستكشاف الذي قادني إلى هذا البيت، ودفعني إلى سبر أغوار المجهول في تاريخه. وأحسست بأن ثمة شيء يشدني إلى استشفاف مكنون هذه الدعوة الغامضة. كان مصدرها يأتيني من " دار القبول" التي وصلت إليها لأجد بابها مغلقا… دفعته بيدي فأصدر صريرا حادا، وانبعثت من الداخل رائحة البخور، مما جعل إحساس التردد الذي ينتابني يتضاعف ليصبح حالة من التوتر تشل أوصالي وتربك كياني، وتضطرب لها أفكاري وتضاعف من مخاوفي… فلم يكن من السهل علي قبول فكرة مواجهة الجن في عقر دارها.

أنزاح عن الحجرة بعض دخانها فتكشّفت- وكان عهدي بها خاوية- عن السدة التي اقتلعت منذ زمن بعيد وقد عادت إلى مكانها، وتحتها صندوق الملابس الخشبي"السحرية" وهذه الدكة الطويلة تتصدر الغرفة وخلفها علّقت الحيطية الحريرية المطرزة بخيوط الفضة وفوقها علّقت صور صاحب البيت وعائلته.

التفتت في أجواء المكان وعقلي ينكر ما تراه عيناي، لتستقرا على طيف يجلس متصدرا السدة… صعقت لوقع المفاجأة، فتراجعت إلى الوراء بخطوات سريعة وأنا أحبس صرخة تريد أن تنطلق من مكمنها ارتعشت لها فرائصي وألجمتني بحالة من الذهول للحظات، تمالكت بعدها نفسي... وتفرست في وجهه محاولا اختراق حجوبات العتمة التي تغلف المكان علني أميز ملامحه أو أتعرف إليه… فبدا لي من خلال ضوء خافت يتسلل عبر نافذة صغيرة تحتضنها إحدى زوايا الغرفة، وجها ملائكيا لفتاة تكلله ابتسامة عذبة، وقد بدت في زينتها وكأنها عروس في ليلة زفافها، "بردائها المخملي، وحرائر قميصها وسروالها والدبوس الفضي المعلق في ضفائر شعرها الأسود، وصدرتها الموشاة وحذائها الذهبي وحلقها المشبك من ستة ثقوب في كل أذن، وعقودها المصنوعة من الليرات الذهبية وسلاسلها المنسوجة على هيئة أزهار حول خديها القرمزيين" .

نظرت إلى هذا الكائن الماثل أمامي، وقد تمازج على صفحة وجهي الخوف مع اندهاشي، فلم تتمالك هي نفسها من موقفي هذا، وأطلَقَت ضحكة مرحة، انسابت على نفسي المضطربة كالماء البارد، لتهدئ من روعها وتجعلني أستمد منها بعض الجرأة لأسألها وأنا أصارع ارتباكي، عن ذاتها من تكون؟! لمعت عيناها السوداوان ببريق أخّاذ، وظل ابتسامة رقيقة يترنم على شفتيها، وقالت في نبرة هادئة أضفت على ملامحها سحر غامض:
- أنا من جئتَ تنبش جدران هذا البيت، وتحفر أرضيته بحثا عنها.
قاطعتها مستدركا:
- بل الرغبة في إدراك المعاني التي تختفي وراءها رموز هذا التداخل بين الثابت والمتغير في تشكيل بيوت المدينة، هي التي قادتني إلى هذا البيت.

أطرقَت في صمت للحظات وقد بدت علامات انفعال هادي تظهر على ملامح وجهها، ثم استطردت قائلة:
- آلا تذكر رحلاتك إلى مدينة درنة القديمة في أقصى شرق البلاد، والى مدينة سوكنه قلب الصحراء. ورحلاتك إلى مدن الجبل الغربي"جادو ويفرن وكاباو"، إنك لم تترك مدينة بساحل أو جبل أو صحراء إلا وشددت رحالك إليها بحثا عني. وآخرها كانت رحلتك إلى مدينة غدامس، وهناك التقينا، ولكنك تجاهلتني، حين انزويت بمشاعرك في ظلمة مبانيها الصماء، وجعلت جوارحك لا تنفعل مع سواها، رغم أني كنت أتبعك كظلك أينما حللت… كنت معك كلما عبرت شارعا إلى آخر، أو دخلت بيتا أو عرجت إلى مسجد… فلم تسمع نبض قلبي وهو يهتف لك. أنا هنا، أنا من جئت باحثا عنها، لا هذه الكتل الصماء… لا هذه الكتل الخرساء… لا هذه الكتل التي لا نبض فيها ولا حياة. فهل عرفتني الآن؟

انتابني شعور خفي أحسست خلاله بأني قد رأيت هذا الطيف الساحر، ولكني لم أستطع أن أحدد كنهه أو ماهية المكان أو الزمان الذي رأيته فيه… وبدأت خطوط اليأس ترتسم بشحوبها على تعابير وجهي.

وكأنها قرأت أفكاري وعلمت بما يجول في خاطري، تابعت متسائلة تريد تبديد حيرتي :
- وهل وصلت إلى ما تصبو إليه؟

بنبرات خالطتها مرارة الخيبة
أجبتها:
- ليس بعد… فكلما اعتقدت أنها بدأت تتضح أمامي، غشيني ضباب التاريخ فحجبها عني. حتى أعجزني البحث عن الوصول إلى شيء يشبع دوافعي… فعمر هذه المدينة تجاوز الألف الثالثة من السنين، وكل حضارة مرت بها تركت لها بصمة، وكل عهد أستوطنها جعل له رسمة. فصارت وكأنها بيوت نحتت في مدينة محفوفة بالألغاز.

نهضت واقفة تريد النزول من فوق السدة وهي تضع قدمها على الصندوق النحاسي الموشح برقائق النحاس، فبدأ عرقوب قدمها أشبه بقطعة من الرخام الأبيض، وقد أحاطته بخلخال ذهبي مرصع بالياقوت الأحمر… اقتربت مني وتدانت حتى لفحني منها عطر قوي هو مزيج من رائحة العنبر المحروق والقرنفل والمسك وجوز الطيب. وأشارت بيدها المخضبة بالحناء تدعوني للخروج إلى الرواق، لأفاجأ بأن الحياة قد دبت في جميع أركان البيت.

فهاهي شجرة تين وارفة تنشر ظلها في أرجاء الفناء حيث كانت تجلس عائلة كبيرة… تجولت ببصري في أرجاء المكان وأنا مشدود إلى ما حولي… أتطلع تارة إلى أروقته المزدانة بالأعمدة والتيجان الحفصية والقره مانللية التي ترتفع على أكتافها العقود الدائرية، وبلاطات القيشاني تغطي جدرانه التي تحمل فوقها أسقف خشبية تزينها الرسومات النباتية ذات الألوان الزاهية… وأراقب تارة أخرى هذا التناغم البديع بين الأجيال المتعاقبة… فهذا الشيخ الهرم منشغل في حجرته بتلاوة القرآن وكأني به قد اطمأن إلى أحوال أهل بيته في اجتماعهم حول امرأة مسنة تطهو على موقد الكانون الشاي الأخضر الذي فاحت رائحته حتى اختلطت برائحة شجرة الياسمين التي تقبع في إحدى زواياه… تحيط بها نسوة تداعب إحداهن طفلها الرضيع والأخرى كانت صبية تنسج أثواب عرسها، والأخريات منشغلات بأمور البيت… بينما أخذ بعض الرجال مجلسهم في إحدى غرفه يتجاذبون أطراف الحديث… والأطفال من حولهم قد جعلوا من زواياه مسرحا لألعابهم الطفولية. فاكتسى هذا البيت من اجتماعهم فيه ألفته الحميمة وجوهر كينونته.

مرت لحظات وأنا لا أدري بنفسي الهائمة في ترنيمة هذا السحر، هل طالت بي مدتها أم قصرت حينما انتشلني صوتها من انشغالي وهي تسألني:
- هل نخرج إلى الشارع؟
لم أجبها فقد لفت نظري اختفاء السلالم التي كانت تتوسط الفناء... اعترتني حيرة! ولاحظت هي ذلك فأشارت إلى زاوية الرواق وقالت: من هنا.

احتوتنا أزقة المدينة تحت ظلال عرائشها وصاباطها… فتحرك شغفي وفضولي لاستشفاف ما وراء جدران بيوتها المتلاحمة من قصص، وما تفضي إليه شوارعها من أسرار… شوارع تستنفر كل الحواس و تستميلك في وداعة بجمالها وبساطتها. لننساب بين حناياها الملتوية النحيلة… نتأمل بيوتها بلونها الترابي الدافئ. وهي تنعم بسرمدية السكينة وستائر الحرمة تنسدل عليها… ومن نوافذ مطابخها الصغيرة المتناثرة في عفوية على واجهاتها تنبعث رائحة الطعام المطهو على أفران الطين. لتختلط برائحة أفران الخبز المنتشرة في أرجاء المدينة… التي اعتادت أن تغسل عنها إغفاءة كل ليلة على ترنيمة آذان الفجر وأصوات الباعة وهم ينادون على بضاعتهم، مشكلين بذلك موشحا تختلف ألحانه من بائع لآخر، يزيده عمقا هدير أمواج البحر الذي يحيط بالمدينة من جانبيها الشمالي والغربي.

فوق رابية تشرف على البحر حيث يربض مقهى صغير يضج بأحاديث الصيادين حول قصص البحر وما يلاقونه فيه من أهوال، وهم يضيفون إلى أساطيره القديمة، أسطورة جديدة يعيدون نسج أحداثها مثلما ينسجون شباكهم المعطوبة… رنت وهي في وضع التأمل وكأنها تبحر ببصرها عبر هذه القرون التي خلفتها المدينة ورائها. ثم قالت تحدثني بنبرة دافئة عميقة:
- أنظر إلى هذا التواصل بين البحر والسماء في ذاك الأفق البعيد… والى تزاوج الأسطورة بالواقع في حكايات الصيادين… بمثل ذلك تتواصل الأمم، وتتزاوج الحضارات، دون أن يفقدها ذلك شخصيتها المتفردة أو أصالتها المتجددة... فالذات المتقوقعة على نفسها، تنفصم عروتها لحظة اصطدامها بالآخر… بينما تستثمر الذات المنفتحة ميراث الحضارات الوافدة، وتوظفه بما يخدم مجتمعاتها ويسمو بقيمها ومعتقداتها.

انبثقت هذه الحقيقة من فجاج دامس لتوقظ عقلي الكابي من غفوته… فأيقنت أن الخالد في الحضارات، هي القيم الأصيلة التي يتوارثها البشر…وهي الروح التي تستمد منها هذه المدينة، وكل مدينة حية تواصلها مع التاريخ.

انتبه شعوري فجأة لغيابها، في زحمة انشغالي بما توارد في ذهني من أفكار. بحثت عنها في كل أرجاء المكان، فلم أجدها… صرخت مناديا عليها، فرددت كل أطراف المدينة صدى أسمها، ولكنها لم ترد.

أسرعت إلى حوش الشيخ محسن… وصعدت درجات السلالم إلى الدور العلوي حيث رأيتها أول مرة بدار القبول… فتحت بابها لأجد أن الحجرة قد عادت إلى سابق عهدها خاوية مهجورة، تنبعث منها رائحة الرطوبة، ويلفها برد قارص… وعلى أرضيتها وقعت عيناي على لفافة الخرائط، التي سقطت مني. عندما التقيت بها أول مرة… تصفحتها الواحدة تلو الأخرى، ومع كل خريطة كانت ملامح الحوش الطرابلسي بمحتواه الإنساني تتضح أمامي:
" بيت فناءه مفتوح على السماء، تحيط به حجرات متباينة في الحجم، يسكن كل واحدة منها عم… وتكلل جدرانه ونوافذه أغصان الياسمين… حوائطه من طين هذه الأرض وسقفه من نخيلها، وجذوره تضرب في عمق التاريخ… بيت يحمي كل ملتجئ إليه من حر الصيف وبرد الشتاء… زواياه مخبوءة يحيط بها غموض محبب، يبعث على التساؤل و التأمل في ملكوت الله. ويثير في النفس فضول البحث والاستكشاف، وقراءة التاريخ… بيت يجمع الأحباء ولا يفرق".

وعلى "قطاع"، لم تتضح تفاصيله، أشرق وجهها بابتسامته الساحرة… فناديتها بإلحاح أن تعود. ولكنها خاطبتني قائلة:
- وداعا أيها الباحث بين حطام التاريخ، عن مدينة استأصلت روحها… وبيوت هجرت ألفتها... ثم غابت عن ناظري وسط زحام المدينة الحديثة.


1991.11.5 ف- إطرابلس القديمة.

الاثنين، يوليو 14، 2008

بيت العائلة.... واقع وطموح




جمال الهمالي اللافي

قضية المسكن والإسكان ليست مشكلة معمارية بحثه بقدر ما هي مجموعة من الإشكاليات التي تتعلق بالظروف البيئية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. لذلك فإن فهمنا العميق للأطروحات العالمية والمحلية لمفهوم المسكن والإسكان العام سيساعدنا على تكوين حصيلة معرفية تدعم أولا فهمنا لإشكاليات البناء، مثلما تدعم طرحنا لمجموعة الأفكار والرؤى حول مفهومنا للبيت الاقتصادي. وهل هو حقا كحل مناسب لبيئتنا وظروفنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أن نستمر في طرح نموذج العمارات السكنية- التي أضحت تشكل السمة الغالبة على صورة المدينة العربية المعاصرة- أم أن هناك بدائل أكثر ملائمة لا زالت خافية عنا، لقصور في فهمنا أو إدراكنا لحجم الإشكاليات التي أضحت تعاني منها المشاريع الإسكانية التي تستهدف معالجة الطلب المتزايد على المساكن في عالمنا العربي.

ربما يكون طرحنا هنا تحت عنوان، الإسكان الاقتصادي... واقع وطموح، الهدف منه الخروج بخلاصة القول أنه يجب علينا تجاوز مرحلة الحديث عن البيت الاقتصادي- الذي لا يرى حلا لإشكالية البيت الاقتصادي إلا من خلال البحث في مواد البناء- مع عدم إهمالي لأهميتها- أو من خلال الاقتصاد في مساحات فراغات البيت أو في تكرار نموذج والارتفاع به رأسيا" نموذج العمارات السكنية"، إلى البحث عن المسكن الملائم للأسرة العربية المسلمة بيئيا واجتماعيا واقتصاديا، بغض النظر عن مستوى معيشتهم. وهناك الكثير من المؤثرات والمعطيات التي تجعلنا نعيد التفكير ألف مرة في كيفية الوصول لحل مثالي لإشكالية الإسكان بصفة عامة والإسكان الاقتصادي بصفة خاصة.

وفي الغالب ستبقى دائما سكنى العمارات مرحلة انتقالية وحل مؤقت وإحساس بعدم التوفيق في الحصول على المسكن الملائم وشعور بالغبن وتمييز طبقي بين فئات المجتمع الواحد. وهي حل مؤقت لأزمة حاصلة ولكنها متجددة مع الأيام. لأن من سكن العمارات يبحث عن بديل يستوعب زيادة حجم عائلته ونموها وخصوصا عندما يبلغ الأبناء سن الزواج.

لهذا قدمت خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة قراءة لواقع العمارة العربية المعاصرة من خلال " البحث عن النظرية الإسلامية في عمارتنا المعاصرة" وأعقبتها بتحليل لمفهوم المسكن في" جدلية الساكن والمسكون" وختمتها بـ " رؤية جديدة ومعاصرة لمفهوم البيت الاقتصادي" وقدمت تلخيصا لهذه المواضع تحت عنوان" بيت العائلة... رؤية جديدة ومعاصرة لمفهوم البيت الاقتصادي". وكان المنطلق إلى حل إشكالية الإسكان الاقتصادي تتمثل في طرح بيت العائلة كنموذج معاصر يتجاوز في فكرته إعادة استنساخ نماذج البيوت التقليدية في المدن القديمة، إلى طرح نموذج معاصر يبحث في جوهر الفكرة التي يقوم عليها البيت التقليدي والمردود الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي الذي يتحقق من خلال العودة إليه كنموذج معاصر لحل إشكاليات البيت الاقتصادي. كما يسعى إلى البحث عن حلول للمشاكل التي كان يعانيها البيت التقليدي، من حيث صغر مساحة الجزء المخصص لكل أسرة وعدم قدرته على تحقيق جوانب أكبر من الخصوصية لكل فرد من أفراد العائلة. ومن خلال البحث في جملة هذه التساؤلات/
1. ما هي الاعتبارات التي يجب مراعاتها لتحقيق عناصر الألفة والانسجام بين مجموعة الأسر التي تشكل عائلة واحدة؟
2. ما هي الأنشطة والوظائف الأساسية التي يجب توفيرها في بيت العائلة؟
3. ما هي الفراغات التي يجب الاستغناء عنها؟
4. ما هي المساحات المناسبة لكل فراغ؟
5. ما هو الطرح المعماري المناسب لتكرار مجموعة وحدات سكنية تشكل حي سكني متكامل؟

يؤكد بيت العائلة المعاصر في طرحه على عنصر الخصوصية لكل أسرة، ويحرص وبنفس الدرجة على جمع شتات العائلة وضمها في هذا البيت الكبير... كل أسرة في العائلة الكبيرة لها خصوصيتها الكاملة قي " وحدة سكنية" ولها قواسم مشتركة مع باقي أفراد العائلة". وهو يعتمد في مجمله على العناصر التالية/
اشتراك العائلة في الفراغات التالية: حجرة استقبال الرجال/ حجرة استقبال النساء/ حمام الضيوف.
صالة متعددة الأغراض.
مجموعة شقق تحتوي على: فراغ للمعيشة/ مطبخ/ حمام عائلي/ حجرتين للنوم/ حجرة نوم رئيسة مع حمام خاص.
فناء داخلي تجتمع فيه الأسرة.
مع عدم المغالاة بالزيادة أو التقليص في مساحات الفراغات الداخلية للمسكن والاكتفاء بالمساحات المنطقية لكل فراغ. والمقصود من هذا عدم التضييق في حجم بيت العائلة بحث لا يستوعب مساحات مفتوحة أو مغلقة تكون متنفسا لسكان البيت الكبير" بيت العائلة"، فيسبب ذلك في التضييق على حركة سكانه وإحساسهم بعدم الراحة وشعورهم جميعا بأنهم محشورون رغم أنفهم في عمارة سكنية واحدة لا تلبي طموحاتهم ولا تميزهم عن غيرهم من سكان العمارات الشعبية أو الحكومية. كما أن إعادة طرح فكرة الفناء الداخلي- وهو المتنفس الداخلي لسكان البيت- لم يأت من منظور الاقتباس من العمارة التراثية أو التماشي معها، ولكنه جاء كمطلب اجتماعي ووظيفي، فالخصوصية ومراعاة الحرمة تمثل جذر البيت الإسلامي.


ما أود التركيز عليه هو جملة المكاسب متعددة الجوانب التي ستجنيها العائلة والدولة من خلال طرح نموذج بيت العائلة كحل اقتصادي دائم المردود.

تبقى أمامنا عدة تساؤلات تستوجب الرد لأنها تطرح جملة من الإشكاليات التي تشكك في جدوى إعادة طرح بيت العائلة كبديل للبيت الاقتصادي. نعرض منها على سبيل المثال لا الحصر هذه الإشكاليات الثلاث مع الرد عليهما/
الإشكالية الأولى/ هل يعتبر هذا الطرح واقعيا؟ 
بيت العائلة، كان واقعيا ولا يزال واقعيا لأنه حفظ عبر قرون تماسك هذه الأمة في مواجهة المتغيرات والظروف التي كانت تلم بالمجتمع الإسلامي من حين لآخر، مثلما كان حافظا لكيان المجتمع من التفسخ والانحلال الخلقي وحافظا لثقافته من محاولات التغريب والتشويه وداعما لأفراد العائلة الواحدة من الضغوطات النفسية التي تفرزها حالة الكدح وراء توفير لقمة العيش الكريمة ومخففا من وطأة الأزمات الاقتصادية الناتجة عن عدم قدرة الفرد على توفير كل المستلزمات والضروريات التي تحتاجها الأسرة، بيت العائلة كان قائما على مبدأ التكافل الاجتماعي وتوفير أسباب الأمن والراحة لساكنيه... بيت العائلة كان مؤسسة تربوية وتعليمية وثقافية، مثلما كان مؤسسة إنتاجية.

بالتالي جاء هذا الطرح لـ" بيت العائلة". كبديل إسكاني يعيد تصحيح العلاقات الاجتماعية والإنسانية من خلال إعادة طرح نموذج كان قائما وأثبت لأجيال صلاحيته وقدرته على لم شمل العائلة وترسيخ روح الألفة والتعاون. وهو محاولة للخروج من مأزق الإسكان المعاصر الذي يعتمد أساسا على مبدأ الاقتصاد في التكلفة دون النظر للعواقب الاجتماعية والنفسية والصحية. ودون مراعاة لطبيعة المجتمع ثقافته وحاجاته وتطلعاته ورؤاه.

فالفكرة الاقتصادية في هذا الطرح تتجاوز مسألة تكلفة البناء وسعر الأرض، لتشمل المصاريف الأخرى والاحتياجات الضرورية، ومعالجة مشاكل- لا تخفى على الجميع- لا يستطيع رب الأسرة منفردا أن يتصدى لها فينهار وتنهار من ورائه أسرته، وذلك لأنه لم يجد أحدا بقربه يشد أزره ويعينه، فالكل منفردا مشغول بهمه. لهذا ضعفت قوتنا وتكالبت علينا الأمم.

لذلك فإن الإشارة إلى أن الوضع الراهن يمنع التقاء أفراد العائلة الواحدة في بيت كبير يضم الأجيال الثلاثة، الأجداد والأبناء والأحفاد، من خلال إسقاط إفرازات التردي الحاصل في نموذج الإسكان المعاصر وانعكاساته السلبية داخل المجتمع الإسلامي المعاصر على نموذج بيت العائلة، جانبه الكثير من الصواب، لأن ما نعايشه اليوم من تفسخ اجتماعي وانحدار أخلاقي طال جميع أوجه الحياة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، لهو إفراز صريح للمؤثرات الثقافية الهدامة على مجتمعنا الإسلامي. وهو نتاج لطبيعة المخططات التي قامت بطرح النموذج التخطيطي والإسكاني الغربي وفرضته كحل وحيد لأزمة الإسكان أو تطوير مخططات المدن المعاصرة.

لم تكن الفرقة، سنّة الحياة كما يحلو للبعض الترويج له، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه:" إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون". ويقول في محكم كتابه:" واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا". وحبل الله يبدأ بإتباع منهجه، ومنهج الله يأمرنا بالتواصل والتراحم، لا بالفرقة والقطيعة، ورسوله الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام يشبّه المؤمنين في توادهم وتراحمهم بالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه البعض... والأهم من ذلك كله أننا كأمة إسلامية لها تاريخها الموغل في عراقته وسيادته على العالم وتفرده وتميزه، مدعوون للتمسك بالمنهج الذي ارتضاه الله لنا. ليس من منظور الانقياد الأعمى ولكن ليقيننا بأن ألله سبحانه وتعالى، لم يطرح علينا منهجا قاصرا عن التعاطي مع طبيعة البشر واحتياجاته، بقدر ما يمتلك القدرة على التفاعل مع المتغيرات والظروف المختلفة التي يعيشها البشر بفعل تأثير الزمان والمكان. فهو سبحانه وتعالى الخالق وهو الأعلم باحتياجات مخلوقاته وما ينفعهم وما يضرهم، ومن كرمه سبحانه وتعالى علينا أن جعل خاتم رسالاته شاملة لمنهج حياة متكامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، منهج صالح لكل زمان ومكان، يكتفي به البشر عن معاناة البحث والاختلاف والتشتت والضياع وتضارب المصالح... إلاّ إذا كان لسان حالنا يرفض المنهج الإسلامي ويتعالى عليه، ويرى في الغرب وما ينتجه من أفكار، المرجع الحق.

الإشكالية الثانية/ 
ما هو المستوى الذي ستطبق عليه الفكرة؟ 
اتفق إلى حد بعيد مع الرأي القائل بأن نموذج بيت العائلة لا يصلح تطبيقه داخل المناطق القائمة، ولكنه يحتاج إلى مشروع إسكاني مستقل، أي أنه من الناحية التطبيقية فإن الفكرة كي تكتمل نتائجها، لا بد أن نتعامل معها على المستوى الحضري أو التخطيطي- في" بيئة تمتلك كل مقومات الحياة الطبيعية والقابلية للتوطين والسكن"- وليس على المستوى المعماري، ولا يعني ذلك عدم إمكانية تطبيقها على المستوى المعماري، ولكن كما قال أحد العقلاء" ألف باني وخلفهم هادم فكفى، فما بلك بباني وخلفه ألف هادم". أي أن القيم الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية لا يمكن لها أن تتمر في بيئة تفتقر في تركيبتها العمرانية لمجموع القيم التي ينشدها بيت العائلة- الذي يستلهم من حديث الحبيب المصطفى في قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما المؤمنون في توادهم وتراحمهم كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضا"- طرحه الاجتماعي والاقتصادي للعمارة ويعالج العديد من المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا الإسلامية وخصوصا مع تلك التصنيفات للمناطق والمسميات للمشاريع التي تعزز روح الطبقية بين أفراد المجتمع الواحد.

إن فكرة بيت العائلة في عمومها تطرح رؤية جديدة للحياة تستلهم من المفاهيم الإسلامية للعمارة جذورها الفكرية وتسترشد بمخططات المدن التقليدية في طرح الحلول وتأخذ في الاعتبار المتغيرات والمستجدات وتطور تقنيات الاتصالات والمواصلات ومواد وأساليب الإنشاء وغيرها من الضروريات التي لا يستقيم العيش بدونها.

الإشكالية الثالثة/ 
علاقة هذا المشروع بمصادر دخل ساكنيه؟
أشار الدكتور مشاري بن عبد الله النعيم، في معرض تعليقه على قرية القرنة التي صممها المعماري حسن فتحي، إلى نقطة هامة تتعلق بفرص العمل المتاحة في المشاريع الجديدة حيث قال:" أذكر على سبيل المثال أن أحد المشاريع الإسكانية التي قدمت للفقراء كانت بعيدة عن وسط المدينة، فاكتشف القائمون على المشروع بعد ذلك أن سكان الحي لا يملكون المقدرة المادية لتوفير المواصلات إلى أعمالهم. هذه المشكلة البسيطة كفيلة بأن تجعل من المسكن الجديد عبئاً ثقيلاً على الأسرة الفقيرة وأن تزيد من معاناتها". وفي فقرة أخرى أضاف:" قربني العمل مع مؤسسة الأمير عبد الله للإسكان التنموي وهي مؤسسة تتطلع لبناء مساكن للفقراء، من قضايا كثيرة تمس تركيبة الفقر الاجتماعية والاقتصادية، وحتى المكانية،وتذكرت أحد ورش العمل التي حضرتها مع المؤسسة وكانت تتحدث عن تجارب من العالم كلها تجمع تقريباً على أن نقل الفقراء من أماكنهم إلى مشاريع إسكان جديدة يؤدي إلى زيادة معاناة هؤلاء الفقراء ولا يحل أيا من مشاكلهم وبالتالي غالباً ما تفشل تلك المشاريع".

لذلك فإن تنفيذ فكرة بيت العائلة على المستوى التخطيطي سيتيح للغالبية العظمى من السكان فرصة الانتقال بوظائفهم الخدمية والتعليمية والتجارية والإدارية والصناعية إلى منطقة المشروع التي سيؤخذ منذ البداية في الاعتبار توفيرها مسبقا قبل الانتقال إلى السكن ضمن دائرة هذا المشروع، وخصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الانتقال إلى السكن في هذا المشروع هو أمر اختياري وليس إجباري كما حصل في مدينة القرنة، ومصادر دخل الناس متنوعة وليست واحدة محددة. لهذا فتخوفات الجميع من عدم نجاح المشروع ستقل بنسبة كبيرة كلما تقادم الزمن بالمشروع، لأنه مع الاستقرار ستفتح أبواب جديدة للرزق غير منظورة ولا تشكل عبء مادي على سكان بيت العائلة أو مجتمع المدينة الإسلامية.

وأخير... فإن العبء الأكبر في تحقيق هذا المشروع ونقله إلى حيز الوجود ومتابعة تنفيذه بالصورة الصحيحة يقع على عاتق الدولة، أما تنفيذه أو تمويله فيتم ذلك بالاستعانة بمؤسسات القطاع الخاص، أي بالإمكان بيع قطع الأراضي للمواطنين أو المؤسسات الراغبة في تنفيذ مساكن أو مرافق خدمية أو تجارية أو إدارية وبالتالي لا تتحمل الدولة وحدها تكاليف تنفيذ مثل هذا النوع من المشاريع. وتتولى مكاتب خاصة جوانب التخطيط العمراني والتصميم المعماري للمشروع وفق احتياجات مالك المشروع وحجم أسرته ومساحة قطعة الأرض التي اشتراها.... وقد تتولى شركة ما استثمار مجموعة من قطع الأراضي وبناء نماذج غير متكررة وبيعها لمن يريد. خلاصة القول أنه بالإمكان التصرف مع هذا النوع من المشاريع بعدة طرق وكلا منها ملائمة، المهم أن نحقق الهدف الأسمى من هذا من هذا المشروع.

التوصيات/
تستدعي الضرورة وضع إستراتيجية لمعالجة إشكاليات المسكن الاقتصادي. وذلك للخروج بورقة عمل لآلية تطبيق الرؤى المطروحة وتحويلها إلى واقع ملموس، إذا ما سلمنا جميعا بأن البيت الاقتصادي المثالي والعملي هو في إعادة طرح نموذج بيت العائلة كسكن اقتصادي. يكون علينا تحقيق الخطة الإستراتيجية التالية:
1. عرض هذه الرؤية من خلال ورقة عمل على الجهات المسئولة لتبني الفكرة وطرحها في ندوات وحلقات نقاش داخلية ومن تم الدعوة لمؤتمر دولي تقسم محاوره على المواضيع التالية:- مواد البناء المحلية البديلة للإسمنت ومدى قدرتها على تقديم حلول إنشائية ناجحة للمسكن متعدد الأدوار. " المواد المتعارف عليها/ الطين، الطوب الرملي" كيف يمكننا توظيف هذه المواد بصورة ناجحة وقابلة للتعميم والانتشار، وإلى أي مدى هي اقتصادية.
- فكرة بيت العائلة، كمجمع سكني يوفر بعض الفراغات وليس المساحات، هل هذا النموذج واقعي وعملي، أم أنه مجرد فكرة مثالية ليس لها علاقة بالواقع ولا يمكن إدراجها ضمن إطار المسكن الاقتصادي.
- الحي السكني الاقتصادي، كيف يمكن تطبيق فكرة الإسكان الاقتصادي على مستوى المجاورة السكنية حتى نحقق نتائج أكبر.
- الطراز المعماري للمنطقة التي سينفذ فيها مشروعات الإسكان الاقتصادي، كيف يمكننا مراعاة الخصوصية الفراغية والثقافية والاجتماعية لسكان المنطقة التي سيقام فيها مثل هذا النوع من المشاريع.

2. الدعوة للفكرة من خلال وسائل الإعلام المختلفة ودعوة رؤوس الأموال لتبني هذا الطرح وخصوصا أننا نشهد في هذه الآونة حركة عمرانية كبيرة في أغلب الدول العربية.

نحو رؤية جديدة ومعاصرة لمفهوم البيت الاقتصادي




جمال الهمالي اللافي


مقدمة /
ما قادني إلى الخوض في هذا الموضوع بالبحث والدراسة هو ذلك الموقف الذي صادفني خلال فترة دراستي بقسم العمارة والتخطيط العمراني ، والذي أحببت أن أبدأ به عرض رؤيتي هذه .

فخلال تلك الفترة عثرت داخل مكتبة والدي التخصصية على مجلد يضم بين طياته مجموعة من البحوث الاجتماعية يحمل عنوان (البيت العربي). وكنت أحمله معي إلى القسم بغية الاطلاع عليه والاستفادة من محتواه ، فكان الكثير من طلبة القسم يلاحظونه بحوزتي ويلفت نظرهم العنوان فيسرعون بشغف إلى انتشاله من على طاولتي للاطلاع عليه ليفاجئوا بمحتوياته التي تضم مواضيع عن ( مشكلات الأسرة العربية ـ مشكلة الزواج والطلاق ـ مشكلة أوقات الفراغ لدى الشباب العربي ـ مشكلة المرأة العاملة ـ مشكلة انحراف الأحداث ـ مشكلة التنمية ـ مشكلة الهجرة من الريف إلى المدينة ...... الخ) . فلا يتورعون عن إلقائه على المنضدة وفى وجوههم علامات الخيبة ويكررون جملة مفادها " كنا نعتقد بأننا سنجد فيه مساقط أفقية أو واجهات وقطاعات لبيوت عربية أو على الأقل مواضيع معمارية ". كانت هذه الجملة تطرق سمعي وتثير حيرتي من موقفهم هذا ، فأردد أنا أيضا جملتي اليتيمة كلما تكرر الموقف معي " لم أكن أعلم أن البيت العربي ضيق إلى هذا الحد ".

هذا المفهوم الضيق لماهية البيت العربي لدى طلاب العمارة ... يقابله مفهوماً آخر أكثر ضيقا نراه لدى الكثير من مهندسينا المعماريين، سواء كانوا يتعاطونه كأفراد أو كمؤسسات استشارية أو علمية، حين يتناولون موضوع" البيت الاقتصادي ". فمن خلال إطلاعي على أغلب البحوث التي تناولته، رأيت أن جميع الأفكار المطروحة تتناوله بالحل :ـ
* إما من خلال إيجاد نموذج متكرر لوحدة أو عمارة سكنية. وكم من مشروع نفذ وفق هذا المقترح نراه قد صف فيه هذا النموذج المتكرر بطريقة تذكرنا بمشاريع تربية الدواجن أو بحضائر المواشي، ليصبح الإنسان وفق هذا الطرح مجرد رقما بيانيا في إحصائيات الثروة الحيوانية. وحاشا أن يكون الإنسان كذلك وقد كرمه الله ورفع منزلته عن سائر المخلوقات.

* كما يطالعنا حل آخر يراعى في طرحه الاقتصاد في مساحات الفراغات بالمسكن إلى الحد الأدنى الذي يسمح فقط لقاطني الشقق بتنفس كمية من الهواء تكفى لبقائهم على قيد الحياة.

* وحل آخر يتمثل في البيوت الخرسانية الجاهزة، وهو أمر يتعلق بالاقتصاد في مواد البناء إلى الدرجة التي ستعود بنا يوما إلى بيوت الصفيح باعتباره مادة أكثر رخصا من الخرسانة وربما يقودنا هذا الطرح إلى المبيت في العراء زيادة في التوفير والاقتصاد.

وقد قادني هذا القصور في الفهم لماهية البيت الاقتصادي إلى الخوض فيه من خلال طرحي لرؤية جديدة لمفهوم " البيت الاقتصادي ". أبدأها باستعراض لفكر المهندس المعماري المصري " حسن فتحي " و الذي بنى عليه أساس نظريته ( عمارة الفقراء ) والتي تنص على أنه بإمكان عشرة أشخاص بناء عشرة مساكن ولكن ليس بإمكان شخص واحد بناء مسكن واحد. أي أنه يبين لنا أهمية العمل الجماعي الشعبي في حل أزمة السكن ، كما يشير أيضا في نظريته هذه إلى أن المواد التي يتم بها البناء يشترط استجلابها من نفس الموقع الذي سيتم فيه تنفيذ هذه المساكن وباستعمال الطرق التقليدية في الإنشاء ، وخصوصا في تنفيذ الأسقف باستعمال نظام " القبة أو القبو ".

ولو أعدنا قراءة ما وراء السطور في فكر هذا المهندس ... هذا الفكر الذي نقله بأمانة عن المنهج الذي كان متبعا في بناء المدن العربية القديمة ـ بما فيها مدينة إطرابلس القديمة ـ فسنرى رؤية اقتصادية شاملة:
* فالأشخاص الذين سيتعاونون في بناء مساكنهم لابد وأن يكونوا إما من الأقارب أو من سكان الحي الواحد. وبالتالي فان انشغالهم بأعمال البناء لابد وأن يكون استغلالا لطاقة كانت معطلة لا تجد لها عملا في دوائر الدولة، وبالتالي فان هذا الانشغال بأعمال البناء سيوفر على الدولة تكاليف البحث عن مواطن شغل لهؤلاء الأشخاص، كما أن هذه الطاقة المعطلة وغير القادرة على توفير ثمن إيجار لمسكن فما بالك بتكاليف بناء مسكن صحي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء فبتعاونها هذا في بناء مساكنها بدون مقابل تكون قد استبدلت المادة بالجهد المشترك.
وهذا المنهج سيكون له مردوده الاقتصادي في توفير الأموال الطائلة التي كانت سترصد كميزانية لبناء مشاريع إسكان ذوى الدخل المحدود، سواء من قبل الدولة أو الأفراد. وبذلك سيكون لهذه البيوت بعدها الاقتصادي إلى جانب بعدها الاجتماعي الذي تحقق من خلال تآلف هذه الجماعات وتعاونها في حل أزمتها بالحصول على سكن لائق بها.

* كما أن البناء بمواد مجلوبة من نفس الموقع أو من مواقع قريبة بحيث لا تتجاوز في امتدادها الحدود الإقليمية للدولة له أيضا بعده الاقتصادي ـ وخصوصا إذا علمنا أن أغلب المواد المستعملة في البناء حاليا هي مواد مستوردة من الخارج "وبالعملة الصعبة كما يقولون" وهو ما يشكل عبئا اقتصاديا على الدولة والأفراد على حد سواء.

* كذلك فان استعمال التقنية التقليدية في البناء بطريقة الأقبية والقباب، حتما سيوفر تكاليف استجلاب المواد الداخلة في عملية التسقيف مثل الحديد والخرسانة والياجور أو المواد المساعدة على تنفيذ الأسقف كالخشب مثلا ... وحتى لو افترضنا أنها مواد تصنع محليا " باستثناء الخشب "، فمعنى ذلك أن هناك مصانع قد بنيت كلفت الدولة مصاريف باهظة في تنفيذها وتشغيلها وصيانتها الدورية، تم هنا الاستغناء عنها من خلال تطبيق هذا المفهوم للبيت الاقتصادي.

* كما ثبت بالدراسات العلمية أن البناء بمواد محلية مجلوبة من نفس الموقع يحفظ لها خاصية التكيف مع حالات التذبذب في درجات الحرارة خلال فصول السنة أو بين فترات اليوم المختلفة وهو أمر يساهم بدوره في عملية الاقتصاد في استهلاك الطاقة الصناعية المستخدمة في عمليات تكييف المباني، مما سيوفر على الدولة والأفراد أيضا مصاريف استجلاب الطاقة وتوزيعها على المباني.
* وهذا باختصار ما استطعنا قراءته من خلف سطور فكر المهندس المعماري حسن فتحي أو بمعنى أصح فكر المدينة القديمة.

وإذا أجرينا أيضا إعادة صياغة للفكر الذي يقوم عليه تصميم المسكن الإسلامي بصفة خاصة ومثالنا في ذلك " الحوش الطرابلسي التقليدي " وقمنا بتحليل مكوناته إلى عناصرها الأساسية من خلال قراءة في التاريخ الاجتماعي للعائلة الطرابلسية التي كانت تستعمل هذا المسكن فإننا سنجده يتكون من نموذج متكرر لحجرة سميت عند البعض " بحجرة القبو " وعند البعض الآخر" بحجرة القبول" وهذه الحجرة إلى جانب أنها تتكرر في جميع البيوت الطرابلسية فهي كذلك تتكرر في البيت الواحد بمعدل أربع حجرات على حسب حجم البيت وعدد ساكنيه، وهى عبارة عن فراغ متعدد الوظائف والاستعمالات يضم بداخله أسرة متكاملة، فيه سدتان متقابلتان الفراغ العلوي منها للنوم والسفلي منها يستعمل كفراغ للتخزين، إحدى السدتين تكون للوالدين والأخرى للأبناء وباقي فراغ الحجرة فيستعمل كفراغ للمعيشة والآكل والاستقبال من خلال مرونة الأثاث المستعمل ليلائم ظروف المناخ الحار الذي تتصف به منطقتنا والذي استدعى من سكان البيت ـ للتخفيف من حدته ـ إلى التقليل من الأثاث الخشبي والاكتفاء باستعمال هذه المفروشات. أي أن هذا النوع من التأثيث لم يأت اعتباطا أو قصورا عن الإبداع بقدر ما هو مراعاة لمعطيات بيئية ساهمت بدورها في حل مشكل اقتصادي.

ويشترك جميع أفراد العائلة المكونة من عدة أسر في استعمال المطبخ والحمام، كذلك الفناء الذي يمثل بدوره فراغ المعيشة وممارسة الأنشطة الاجتماعية التي تخص جميع أفراد العائلة إلى جانب وظيفته البيئية في توفير الإضاءة والتهوية اللازمة للحجرات.
كما أنه يمثل للطفل انطلاقته الأولى إلى العالم الخارجي بعد أن تفهم ذاته ومحيطه الصغير المكون من أبويه ليتعرف من خلاله على عائلته الكبيرة والتي منها سينطلق إلى عالم أكبر هو عالم الحي أو المدينة فلا يصدمه انتقاله المفاجئ إليها فينشأ بذلك سويا متفهما لدوره الاجتماعي مقبلا عليه لا رافضا له" وهذه قليل من كثير الفوائد التي يقدمها الفناء للعائلة ـ وسنفرد له ورقته البحثية الخاصة به في فرصة لاحقة إن شاء الله تعالى لتبيان عظيم أهميته".

وهنا أيضا لو قمنا بإعادة قراءة لما خلف سطور هذا البيت فسنجد الآتي /
ـ بيت واحد تشترك فيه على الأقل أربع أسر، ومعنى ذلك أنه قد تم توفير بناء ثلاثة مساكن على الأقل. وهنا تأتى أكبر عملية اقتصادية تتم في مجال الإسكان، وهى حل مشكلة لأربع أسر من خلال بناء بيت واحد واستغلال قطعة أرض واحدة وبإمكان الجميع حساب ما تم توفيره من أموال طائلة عند تنفيذ مشروع إسكاني من هذا النوع وخصوصا إذا طبقنا نظام الكتل المتراصة للمباني لتوفير أيضا أكبر مساحة من الأرض هذا إذا تناولناه من جانبيه المعماري والإنشائي .

ـ أما إذا تناولناه من جانبه الاجتماعي ففي أغلب الأحيان أن العائلة التي تقيم في بيت واحد هي في حقيقتها تضم الأبوين والأبناء والأحفاد فلنقراء ما خلف هذا السطر أيضا ونقوم بتفكيك رموزه إلى عدة جوانب /
الجانب الأول :ـ
نرى فيه ترابطا اجتماعيا وثيق الصلة بين الأجيال الثلاثة " الأب، الأبناء، الأحفاد" يعيش فيه طفل المستقبل ويتربى بين أحضان جيلين، جيل الماضى ويمثله الجد الذى امتدت به السن وأقعدته عن السعي وراء طلب الرزق فجلس مطمئنا في بيته يعد نفسه للقاء ربه وهو عنه راض، من خلال الإكثار من العبادات. ويرى الطفل كذلك جيل الحاضر والذي يمثله الأب وهو يسعى في طلب الرزق له ولأفراد عائلته مع إشراقة شمس كل يوم ليعود في غروبها منهكا تعبا يطلب الراحة.
هذا الحوار الصامت بين جيل الماضى والحاضر يراه الطفل بعين المدقق و يتشربه فيشب على توازن المطالب الروحية والمادية لديه، وهنا يتكامل البناء النفسي للطفل" جيل المستقبل " ليخلق بذلك جيل سوى يساهم في بناء مجتمعه.

وإذا استعرضنا أيضا إحدى الظواهر التي بدأنا نرى بوادرها في مجتمعنا تكاد أن تستفحل وتتفاقم. وهى عدم رغبة بعض الأزواج في وجود أحد أبوي الطرفين أو كلاهما كشريك في السكن وخصوصا إذا كانا في حالة مرضية أو في سن الشيخوخة، وهو ما يراه الطرف الآخر أمرا يرهق كاهله من خلال قيامه بأعباء عيادتهما والإشراف عليهما. مما استدعى من الدولة إنشاء ما يعرف" بدور العجزة " كحل لهذه المشكلة، وقامت بالصرف عليها من خلال صندوق الضمان الاجتماعي. وفى حين ساهم البيت الحديث في تفاقم هذه المشكلة وزيادة حدتها . تقدم لنا فكرة الحوش الطرابلسي التقليدي والذي تشترك في سكناه أكثر من أسرة الحل ـ حين يقوم الأزواج أو الزوجات بعملية المناوبة داخل هذا البيت على رعاية الوالدين، بحيث لا يشكل هذا الأمر عبئا نفسيا واقتصاديا على أحد الأطراف.
هذا الأمر يلغى الحاجة إلى وجود دور العجزة فيوفر الطمأنينة والسكينة لكل من سيصير يوما أبا ثم جدا  ًويوفر على الدولة الأموال الطائلة التي كانت تصرف على هذا الجانب. وبذلك نكون قد حققنا ضمانا اجتماعيا واقتصاديا بالمعنى المطلق لهذه الكلمة.

الجانب الثاني :ـ في ظل وجود المرأة العاملة، وهو أمر تقتضيه روح العصر ومقتضيات المنطق بأهمية دور المرأة في بناء المجتمع، ظهرت عدة مشاكل اجتماعية خلفها خروج المرأة إلى العمل. منها هذا السؤال المطروح في إلحاح: من يقوم على رعاية الطفل وتربيته والعناية به وضمان تنشئته تنشئة صحيحة ؟ مما استدعى طرح حلين أحلاهما علقم لا يستساغ.

الحل الأول / يتمثل في إنشاء رياض الأطفال، والتي تهتم برعاية أطفال المرأة العاملة خلال تواجدها الصباحي بأماكن عملها، مما ترتب عليه تكبيد الدولة مصاريف إنشاء هذه الرياض ودفع مرتبات القائمين عليها إلى جانب تكاليف الصيانة .

الحل الثاني / قيام الأسرة بتوفير مربية أجنبية " أي ليست من أفراد العائلة " للقيام بمهمة الإشراف على رعاية الأطفال خلال فترة غياب الأمهات، وهو إلى جانب ما يشكله من عبء مادي على الأسرة، فقد اتضحت مساوئه الاجتماعية والنفسية والصحية على الطفل وهذا ما أثبتته الدراسات الاجتماعية التي أجريت بالخصوص .

ومن خلال عودة إلى فكر الحوش الطرابلسي الذى يضم أكثر من أسرة نجد أيضا أن أحد أفراد العائلة " الأبوين، أحد الأبناء أو البنات، إحدى زوجات الأبناء" لابد وأن يكون متواجدا صباحا أو مساءً بالبيت خلال غياب الأم للقيام بهذه المهمة ـ وهذا إلى جانب مردوده الاجتماعي والمتمثل في زيادة الترابط الاجتماعي بين أفراد العائلة الواحدة، وفى التنشئة النفسية الصحية للطفل ـ فانه لا يخفى علينا مردوده الاقتصادي على الدولة والأسرة بإلغاء فكرة وجود رياض الأطفال والمربيات الأجنبيات.

الجانب الثالث :ـ
من خلال تواجد ثقافات ومهارات مختلفة لدى أفراد العائلة الواحدة وخصوصا بعد التقدم العلمي والتقني الذي تشهده كافة مجالات الحياة، فإننا نرى أضخم عملية تربوية تعليمية ثقافية اجتماعية إنتاجية تتم في البيت التقليدي وسؤالكم المطروح: كيف؟
أولا / كل امرأة في هذا البيت تتقن حرفة ما " خياطة الملابس ، صناعة المفروشات والسجاد صناعة وتحضير أصناف الطعام المختلفة ... الخ. حتما ستقوم بأدائها لتوفير احتياجات العائلة بالتعاون مع باقي نساء البيت، وهنا تكمن العملية التربوية التعليمية، حيث يتم تلقين الأجيال الجديدة من الفتيات مهارات وخبرات الأمهات والعمات وزوجات الأعمام والأخوات الأكبر سنا جميع هذه الحرف، ونفس الأمر يندرج في العلاقة بين الآباء والأبناء الذكور في نقل الخبرات، ولا يمنع ذلك أن يتم التبادل العكسي في بعض الأمور بين أفراد العائلة والتي بدورها قد تشكل مصدر رزق لهذه العائلة.

هذا إلى جانب أبعاده التربوية، فله أبعاده الاقتصادية، فالدولة لن تعود في حاجة لإنشاء مصانع لإنتاج وتحضير مستلزمات الأسرة، وليست في حاجة إلى إيجاد مواطن شغل، ولا يستدعى الأمر بناء مراكز للتدريب والتكوين المهني. فلا بطالة هنا ولا استيراد من الخارج ولا حاجة بنا أيضا للتعامل مع العملة الصعبة. وهنا يتحقق جانب الاكتفاء الذاتي في أرقى مراتبه.

ثانيا / من الناحية التموينية الاستهلاكية ـ ففي البيت الواحد ستتقلص احتياجات العائلة الواحدة من هذه السلع " سيارة أو سيارتين لأربع أسر ، ثلاجة وإفريز أو اثنين، فرن واحد أو اثنين جهازين للإذاعة المرئية أو ثلاثة ... الخ. وهذا يساعد الدولة على ترشيد الاستهلاك وتقليص حجم الاستيراد من الخارج في حالة عدم وجود صناعة محلية في هذا الإطار. كما يخفف العبء على أفراد الأسرة ويضمن لها توفير احتياجاتها الضرورية والكمالية على حد سواء من خلال دعم العائلة لبعضها البعض ماديا ومعنويا وهنا يتحقق جانب التكافل الاجتماعي في أسمى معانيه .


وإذا خرجنا من إطار البيت الواحد بمشتملاته، لننطلق في رحاب الحي الواحد والذي يضم في داخله أكثر من عائلة، قد تشترك في صلة القرابة والرحم، لنعاين البعد الاجتماعي والاقتصادي من خلاله لفكرة المجاورة السكنية "الحي" وذلك بالغوص في أعماقه التاريخية والاجتماعية والهندسية، كما نهجنا في دراستنا وتحليلنا للبيت الواحد. فاشتراك أكثر من عائلة تجمعها صلة قرابة واحدة في الجوار يضاعف من حجم المردود الاجتماعي والاقتصادي للأمور التي قمنا بسردها في تحليلنا للبيت الواحد فنخرج بالنتائج التالية:ـ
1) الاستغلال الأمثل للأراضي من خلال فكرة البيوت المتراصة والتي توفر إلى جانب الحماية البيئية والتي يترتب عليها التقليل من استهلاك الطاقة الصناعية على مستوى أكبر . يضمن لنا أيضا فرصة تجميع مياه الأمطار الساقطة على سطوح المدينة ذات المخطط التقليدي وإحالتها إلى المواجن التي تنشأ بالخصوص بدلا من ضياعها هدرا عبر شوارع المدينة ذات المخطط الغربي.
2) شيوخ الحي من خلال ممارستهم لأنشطتهم التجارية والاجتماعية داخل الحي، يقومون بمهمة الرقابة على سلوكيات الأطفال والشباب.
3) التعاون في توفير الخدمات والاحتياجات لسكان الحي في كافة المناسبات مما يخفف من الأعباء الاقتصادية على أفراده وأهمها مشكلة الزواج ومصاريفه " تكافل اجتماعي على مستوى أكبر".
4) التعاون على توفير الحماية الأمنية للحى، فالغريب لا يستطيع التوغل في الحي دون سؤاله عن مبتغاه.
5) التعاون على رعاية العجزة والأقارب الذين ليس لهم أبناء.
6) الضمان الاجتماعي للأسر الفقيرة من الأقارب.
7) ضمان صلة الرحم والترابط الاجتماعي يخلق مجتمعا خاليا من الأمراض النفسية ويحمى الجميع من الانحرافات السلوكية ، وتأكيد لتعاليم الدين الإسلامي الذي يحث على صلة الرحم فالجميع يتجاورون في السكن ويرى بعضهم البعض بصورة شبه يومية.
8) إحساس الإنسان بأنه ينتمي إلى مجتمع مترابط ويحمل هوية ، هذا الأمر ثبت من خلال التجارب التي أجراها علماء النفس أنه يقلل من مشكلة الانحرافات السلوكية وكذلك يقلل من روح العدوان التي ثبت أنها من نتاج فقد الهوية .
9) كذلك أثبت علماء السياسة (( أنه في المجتمع الصناعي ومجتمع المدن الكبيرة يواجه الإنسان قوى غير شخصية ، وإحساس الإنسان بعدم الأمان والطمأنينة والازدراء والوحدانية وفقدان السيطرة على ما حوله وعدم قدرته على مراجعة ذلك ، يدفع بالإنسان للهروب من الحرية إلى أحضان الاستبدادية) "1".

هذا الاستعراض لخصائص فكر الحوش الطرابلسي بأبعاده التاريخية والاجتماعية والهندسية ونضيف إليها أبعاده الاقتصادية والنفسية والسياسية يقودنا إلى طرح فكرة استثمار هذه الأبعاد وللأفكار التي تشكل نسيج المدينة القديمة بفروعه الثلاثة .
أ) النسيج العمراني والمعماري، والمتمثل في هذا التشكيل البصري المتناغم بين المصمت والمفتوح ، أي بين كتل المباني والفراغات سواء كانت في شكل أفنية البيوت أو الساحات العامة أو الشوارع والأزقة . إضافة إلى ثراء هذه الكتل مجتمعة في صف واحد داخل الأزقة والشوارع بالعناصر والمفردات المعمارية والزخرفية.
ب) والنسيج السلوكي ، والذي يتمثل بدوره في حجم أفراد الأسرة والعائلة وجنسهم وعاداتهم وتقاليدهم ومصادر دخلهم واختلاف أديانهم ومعتقداتهم.
ج) وكذلك النسيج الإدركي ، والذي يعكس مفهوم الفرد والجماعة لكيفية استغلال واستعمال فراغات البيت الواحد أو الحي الواحد أو المدينة بكل مشتملاتها .

كل ذلك يدفعنا لطرح رؤية جديدة لعمارتنا الإسلامية ، من خلال وضع الأسس النظرية لمدرسة إسلامية في العمارة والفنون" تستلهم فكرها من تراثنا الخالد المشبع بروح تعاليم ديننا الإسلامي الذي جاء ليصحح مسيرة الإنسان نحو بناء ذاته السوية ، من خلال ما جاء على لسان صاحب هذه الرسالة الربانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، حينما عبر عنها بقوله " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " فلم ينسلخ برؤيته الربانية بالإنسان عن جذوره التاريخية بأبعادها الاجتماعية والذاتية بما تحويه من ذكريات تجمعت عبر المراحل الزمنية لعمر الإنسان.


هذه الفلسفة تؤكد أن الرسالات السامية التي جاءت لسعادة البشرية تحرص في مجملها على أن تضع في مفهومها الفكري عدم إلغاء الماضى وطمس تجربة الأوائل واستحداث حلول جذرية جديدة تجتث الماضى من جذوره لترمى به في سلة النسيان ـ لأن ذلك يتعارض مع طبيعة الإنسان الذي فطره الله على فكرة الانتماء إلى جماعة يتبادل معها المصالح المشتركة ويضمن من خلالها تحقيق الأمن له ولغيره ومصداق ذلك قوله سبحانه وتعالى (( يــأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )) صدق الله العظيم . سورة الحجرات الآية 13 .

لذلك فان الرؤية التي تسعى إلى إلغاء الماضى هي في محاولتها هذه تكون قد انطلقت من فكر أجوف ليس له بعد إنساني ... وما نراه اليوم من انهيار لفكر الحداثة بكل ما يحمله من عداوة للماضي والتراث وظهور فكر ما بعد الحداثة والذي يدعو إلى دمج الحاضر بالماضي لصنع المستقبل لهو دليل على أن الإنسان قد خلق بطبعه مدني يحب الاجتماع والانتماء لأمة لها تاريخها وأصالتها .


لهذا فان هذه النظرية في العمارة والفنون " كذلك " الآداب ـ إن شئنا الإشارة إلى هذا الجانب ـ لابد وأن ينطلق في مفهومها من أبعاد اجتماعية دينية ، تاريخية ، اقتصادية ، قومية أممية ، سياسية .
وأقف عند كلمة قومية أممية ... فهذا الاعتبار لم يأت في سياقه اعتباطا أو مداراة لبعض الآراء السياسية ، بل إنني قصدته "مع سبق الإصرار والترصد ـ إذا تكلمنا بلغة رجال القانون"

* فلكل قومية خصوصياتها التي لا تقبل التنازل عنها لأنها تعكس ذاتها الإنسانية وتمثل رؤيتها للعالم المحيط ولكن إذا عدنا إلى المنهج الذي قامت عليه رسالة الإسلام والذي لخصه صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم في قوله " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " أي تنقية القلوب وتوحيد إخلاصها لعبادة الله ، والتنزه بها عما يشينها أو يكون فيه امتهان لكرامتها أو كرامة غيرها ... وهذا هو المقصد من منهج الرسالة ، أي أنه لم يأت لطمس القوميات ومسخها في قومية واحدة تحت أي شعار ... ولهذا الأمر حكمته الربانية ... والتي تتجلى في هذه الصورة التي يرى فيها العربي في بلاد الفرس أناسا يختلفون عنه في ألوانها وألسنتهم ، ولكنه يشم فيهم روح الإسلام من خلال رؤيته لهم وهم يؤدون شعائر الإسلام ، ويلقون عليه تحية الإسلام ومن خلال تطبيقهم لتعاليمه في كافة شئون حياتهم ـ وفى نفس الوقت يرى تنوعا في عاداتهم وتقاليدهم وفنونهم وآدابهم ـ وهنا تتجلى عظمة الإسلام وحكمته في الجمع بين نقيضين هما(الوحدة والتنوع) الوحدة هي في اجتماع الأمة الإسلامية على كلمة "لا اله إلا الله ، محمد رسول الله" والتنوع في غير ذلك من أمور الحياة ما لم تخالف تعاليم الإسلام.

وفى مجال العمارة كل من يستطيع أن يجمع في عمارته من حيث الشكل بين هذين النقيضين بغض النظر عن المضمون نعده من عباقرة العمارة . فما بالك بحضارة اجتمع فيها هذان النقيضان شكلا ومضمونا " شكلا معماريا ومضمونا فكريا " الإسلام نراه في ثراء الحضارة الإسلامية على امتداد رقعتها .
أي أنه ليس هناك تناقضا من أن نكون إسلاميين ، وفى نفس الوقت قوميين أو حتى غارقين في المحلية أو الذاتية إلى الدرجة التي نصل بها إلى الاختلاف بين بيت وآخر من حيث الشكل في الشارع الواحد ، وهذا ما نراه في تنوع البيوت الطرابلسية بالرغم من أنها تنطلق من فكرة واحدة ( بيت فناءه مفتوح على السماء تحيط به حجرات متباينة في الحجم ).

* والإسلام أيضا دين أممي يحترم الأديان والمعتقدات والأجناس الأخرى ويكفل لها حرية ممارسة عقائدها " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " سورة البقرة الآية 256 . ويسمح بتبادل المصالح المشتركة معها ما لم تبادر تلك الأمم بالاعتداء.

وهذا أيضا نراه يتجلى داخل المدن الإسلامية القديمة ... حيث يروى لنا التاريخ أنها كانت تجمع في نطاقها الأديان السماوية الثلاثة ( اليهودية ، المسيحية ، الإسلام ) في حسن جوار وتعاون مشترك تحت ظل مجتمع إسلامي لم يمانع من أن تعبر كل ديانة عن رؤيتها في شكل البيوت التي تحويها أو من خلال المفردات المعمارية والزخرفية التي تعبر عنها مما أضاف تنوعا وثراء لنسيج المدينة القديمة العام . على عكس ما حصل في مالطا عندما استولى عليها الصليبيون، فأبادوا كل مسلم فيها حتى تنصرت الجزيرة عن بكرة أبيها، أو كما حصل في زمننا هذا لمسلمي البوسنة والهرسك في ظل النظام العالمي الجديد ، أو في فلسطين تحت ظل الحكم الصهيوني . فالإسلام على هذا الأساس دين قومي أممي في جوهره وفى مظهره.

* كما أود الإشارة هنا إلى بعد أخر يطرح نفسه في إلحاح يستوجب من المعماري باعتباره أحد الفعاليات المناط إليها عملية المساهمة في إصلاح المجتمع وتقديم المقترحات والحلول لمشاكله أن يأخذه بعين الاعتبار ولا يتجاهل وجوده إذا كان يبغي القيام بدوره على أكمل وجه . ألا وهو البعد السياسي . فنحن نعلم جيدا أن عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع ما لابد وأن يكون مرده إلى عدم استيعاب المفاهيم السياسية المطروحة على الساحة والتي تشكل أحد المؤثرات البيئية التي تستدعى أخذها بعين الاعتبار عند القيام بعمليات التخطيط والتصميم للمشاريع الإسكانية بصفة خاصة.
ـ ففي الوقت الذي نرى فيه البيت الحديث يقف عاجزا عن استيعاب الأفكار السياسية المطروحة على ساحة مجتمعنا ، نجد أن البيت الإسلامي التقليدي يستوعبها مجتمعة كما تستوعب مياه المحيط رخات المطر . من خلال ثراء هذا البيت بالمفاهيم الإنسانية .
فاجتماع سكان الحي الواحد لبناء بيوتهم بطريقة استثمار الجهد المشترك ، وكذلك تعاون سكان البيت الواحد أو الحي الواحد على إنتاج بعض السلع وتسويقها إلى الأحياء أو المناطق الأخرى يحقق لنا في بساطته المقولات التالية " البيت لساكنه ، شركاء لا أجراء ، الذي لا ينتج لا يأكل إلا العجزة ".
ـ كذلك تعاون أفراد العائلة على خدمة بيتها ورعاية أطفاله هو تطبيق عملي لمقولتي " البيت يخدمه أهله ، الطفل تربيه أمه ".
ـ وتعاون أهل الحي على حماية حيهم يحقق فكرة الأمن الشعبي ، والحي الجماهيري .

وهذا قليل من كثير الحلول التطبيقية الإيجابية والفعالة التي يقدمها لنا البيت الإسلامي التقليدي للأفكار السياسية المطروحة على الساحة.

ومن المنطلقات السابقة مجتمعة تقدم النظرية الإسلامية للعمارة والفنون " فكرها الفلسفي على هذا الأساس ( المسلم بسيط في مظهره ، غنى في جوهره ، كذلك المسكن الإسلامي ) .

ذلك المسكن الذي يمتاز ببساطة مظهره الخارجي ، فلا تعالي ولا اعتداء على حرمة الجار ولا تفاخرا عليه، بل بنيان مرصوص يشد بعضه البعض. وفى داخله يجتمع الثراء المعماري والفني الممزوج بثراء العادات والتقاليد والذي يصنع في مجمله فكر " المدينة الفاضلة " التي سعى إليها الفلاسفة وعلماء السياسة عبر عصور التاريخ الإنساني، وظلت حلمهم الأبدي. يجسدها لهم المعماري بما اتصفت به دراسته الأكاديمية من شمولية في المنهج. فهو لا يتعامل في رؤيته للمدينة على أنها " لوحة فنية لا تحدها حدود ولا تقيدها شروط أو لوائح. بل يراها بمنظار عالم السياسة الذي يحمل ريشة فنان تشكيلي وعالم النفس بحيوية رجل الأعمال وعالم الرياضيات بفكر الفيلسوف وعالم الجغرافيا بموضوعية رجل القانون وبروح المؤرخ الذي يمسك بقلم الأديب ليكتب قصة الحضارة الإنسانية على رقع من الأراضي تصغر أو تمتد لتشمل القرى والمدن والبلدان" مشكّلاّ بذلك عالم" المدينة الفاضلة " الخالية من السجون ومستشفيات الأمراض العقلية ودور العجزة، الخالية من ملوثات البيئة. عالم اجتمعت فيه القيم الجمالية المادية والروحية في تناغم بديع مع المتطلبات الإنسانية النفعية .

وعند هذه المدينة الفاضلة نقف لنعيد صياغة مفهومنا للبيت فنستبدل البحث عن البيت الاقتصادي بمفهومه المادي الضيق، إلى البحث عن" حوش العائلة " بكل ما يحمله من رؤاي تاريخية وقيم اجتماعية وأفكار معمارية وإبداعات فنية ومعالجات إنشائية بمواد محلية وحلول اقتصادية ومفاهيم فلسفية وأبعاد سياسية ومتطلبات إنسانية ورموز ذاتية، مشبعة جميعها بروح العصر الذي نعيشه وباستخدام تقنيات تقليدية مطورة .

وعلى أبوابها نودعكم على أمل أن نراكم بداخلها من جديد عبر مقترح لمشروع تخطيطي معماري سأقدمه إن شاء الله من طرفي، قمت من خلاله بتطبيق هذه الرؤية، مستعينا بمشروع أنجزته في السابق خلال فترة دراستي الجامعية، وكان يمثل المرحلة الأولى من مشروع تخرجي.

ولا يسعني في الختام إلا أن أسجل وقفة تقدير واعتزاز لكل من ساهم معي في الخروج بهذه الرؤية إلى حيز الوجود. وأقول لهم بأن هذه هي رؤيتهم جميعا ولم يكن لي إلا فضل جمعها وعرضها عليكم مصداقا لقوله تعالى :

(( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )) سورة الرعد الآية 17

جدلية الساكن والمسكون




جمال الهمالي اللافي


 }ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين(12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) {- سورة المؤمنون

هذه الآيات الكريمة من سورة المؤمنين ستكون بإذن الله منطلقي للخوض في جدلية الساكن والمسكون، وعليها سأستند في تحليلي للعلاقة بين الإنسان ومسكنه ذلك ليقيني بأن الله سبحانه وتعالى قد جعل في القرآن الكريم مفتاح كل معضلة تواجه الإنسان وتقف حجر عثرة أمام بناء ذاته السوية، أو تعوقه عن أداء مهمته التي خلق لأجلها.

فقد أصبح المسكن في عصرنا هذا يمثل إحدى أهم المعضلات التي واجهت الإنسان وعانت منها المجتمعات البشرية عامة بتعدد مذاهبها ومعتقداتها وباختلاف مواقعها وتضاريس بلدانها، خلّفها ذلك الغموض الذي أصبح يخيم على طبيعة العلاقة بين الإنسان ومسكنه، وما تمخض عن ذلك من أزمات طالت عدة جوانب من حياته الاجتماعية والصحية والاقتصادية والثقافية والسياسية، بل إنها تجاوزت ذلك لتؤثر على نظرته الفلسفية للحياة والكون.

ومرجع ذلك يعود لتعدد المذاهب الفلسفية والنظريات المعمارية والاتجاهات الفكرية التي أفرزتها حضارة القرن العشرين والتي تبحث في أبعاد هذه العلاقة. والتي تضاربت جميعها في تحديد مفهومها للمسكن. فمنها من اعتنقت مذهب الوظيفية والقواعد الإنشائية وحددت مفهومها للبيت على أنه" آلة للسكن" ومنهم من اعتنق مذهب العضوية وفسر مفهومه للبيت على أنه تكامل العلاقة بين الفراغات الداخلية والمحيط الخارجي واعتبر المبنى جزء لا يتجزأ من الطبيعة وهي التي تشكل صورته النهائية. كما اعتنق مذهب آخر القيم الفراغية والتشكيلية فأصبح البيت في مفهومهم عبارة عن قطعة نحتية يتم من خلالها إبراز قدرات المعماري في السيطرة على الفراغ في أبعاده الثلاثة لخلق رؤية بصرية جمالية، كما انطلقت مذاهب أخرى إلى الآفاق المستقبلية وأخرى قلبت دفاتر الماضي لتستطلع من خلالها رؤية جديدة لعمارة الحاضر.

وفي خضم هذا الصراع الفكري بين هذه النظريات، أغفل جوهر القضية، فلم يتم البحث في علاقة الإنسان بمسكنه رغم اتفاقها جميعها في البحث عن العلاقة بين المبنى بتعدد استخداماته بمواد البناء وطرق الإنشاء، واشتد تنافسها حول استنباط حلول جديدة في هذا الاتجاه فأغرقت الأسواق بالخرسانة المسلحة والحديد الصلب والزجاج. وذلك تلبية لطموح رجال الاقتصاد في التوجه بالعمارة نحو الشمولية- والتي لا تعني استعمال معين أو مبنى معين لأداء وظيفة محددة بالذات- وهو ما يحقق لهم استثمار أمثل للفراغات من الناحية الاقتصادية.

ومع تضارب هذه الاتجاهات في تحديد مفهومها للعلاقة بين الإنسان ومسكنه، هذا إن تجاوزنا عن اتهامها بالإغفال عن البحث في هذه العلاقة، أصبح من العسير جدا الارتكاز إلى إحداها واعتمادها كمرجع يحدد لنا ماهية هذه العلاقة بمفهومها الصحيح، والذي قد يساعد على وضع حلول جادة للمشاكل التي انبثقت عن القصور الناتج عن الفهم الخاطئ لهذه العلاقة وما ترتب عنها من أزمات أخلاقية واجتماعية واقتصادية وثقافية، والتي تفاقمت حدثها حتى أصبحت تشكل أزمة حضارية وضعت عدة علامات استفهامية حول ما حملته إلينا حضارة القرن العشرين من قيم ومفاهيم فكرية أنتجتها الثورة الصناعية، التي رفضت في مجملها مبدأ التبعية لتراث الماضي الثقافي وانفصلت عنه بكل معطياته الإنسانية بدعوى أنه لا يواكب تطلعات هذه الحضارة النامية، التي اعتنقت مذهب العقلانية- وذلك بالاحتكام إلى العقل وحده في تفسير كل الظواهر الطبيعية وتحليل معطياتها، واعتبار الجوانب الروحية في الإنسان مجرد أوهام اختلقتها الخرافة والأسطورة الشعبية لمجتمعات موغلة في البداوة- فأصبح الله في نظرها وَهْمٌ والروح والبعث وَهْمٌ وكتب السابقين وعلومهم كلها أوهام وما جادت به نظريات وفلسفات معتنقيها فقط هو عين الحقيقة.

فغابت عن هذه الحضارة قيم الروح وطغت المادة، فأصبح الإنسان يدفع لهذه الحضارة ثمن اعتناقه لها حروب استخدمت فيها أسلحة الدمار الشامل وكوارث طبيعية ومجاعات وعزلة قاتلة داخل صناديق الكبريت التي تناطح السحاب، إلى جانب الأزمات الاقتصادية وما ترتب عنها من بطالة مكشوفة وأخرى مقنعة أدت إلى تعرض الإنسان للأمراض والانحرافات السلوكية وغياب عن الوعي والذات وفقدان للهوية، وآخرها غياب السكينة عن مسكن الإنسان. وهذه الإشكالية الأخيرة هي الخيط الذي أمسكنا به وجعلناه محور بحثنا هذا ليقيننا بأنها كانت البداية التي انطلقت منها أزمات الإنسان الأخرى والقُمع الذي احتضن بداخله نتائجها.

فحضارة القرن العشرين اعتمدت لضمان انتشار مذهبها على مبدأ " فرّق تسد " وذلك بإخراج الإنسان من مسكن العائلة والانفراد به داخل وحدة سكنية تعزله قدر المستطاع عن محيطه الاجتماعي ليكون أكثر استعدادا وتقبلا وتأثرا باعتناق فلسفاتها المادية التي تنادي بها. أي بمعنى آخر أن المسكن كان أداتها الأولى التي اعتمدت عليها في تحديد علاقة الإنسان بخالقه أولا ومن تمّ بمحيطه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وذلك من خلال رسم علاقة جديدة بين الإنسان ومسكنه عبر نظريات وفلسفات ومناهج فكرية طالت مجالات العمارة والتخطيط العمراني والتصميم الحضري مثلما طالت غيرها من المجالات.

من المعطيات السابقة ومن الدور الذي تضطلع به العمارة باعتبارها أحدى العلوم الإنسانية والتطبيقية التي تجعل من أولويات أهدافها السعي إلى إيجاد بيئة صالحة لمعيشة الإنسان تخرج به من دائرة العزلة عن ذاته ومحيطه إلى آفاق أرحب ينمي من خلالها علاقاته الإنسانية مع بني جنسه، بما يكفل له المحافظة على توازنه النفسي والسلوكي والروحي إلى جانب إشباعه لرغباته المادية.

وكان لابد لتحقيق هذه الغاية أن يتم إعادة تصحيح للمفاهيم المطروحة وإعادة رسم الصورة الحقيقية للمسكن والذي بدوره سيعيد للإنسان علاقته السوية بخالقه ومن تمّ مع ذاته ومحيطه الاجتماعي. وهذا قاد بطبيعة الحال إلى طرح عدة تساؤلات تهدف إلى تلمس بدايات الطريق للوصول إلى تحديد المفهوم الصحيح للمسكن وعلاقته بالإنسان تحت ظروف تؤكد حاجة كل منهما للآخر، فلا يمكن عمارة مسكن بلا إنسان، والذي في غيابه يتغير المصطلح إلى خرابه، كما أن حاجة الإنسان للمسكن من الضروريات التي تدعم استمرارية وجوده وممارسته لحياته الطبيعية من خلال إحاطته بجدار أمني يضمن له الاستقرار ويوفر له الخصوصية ويحميه من التقلبات البيئية ويعينه على ممارسة أنشطته الاجتماعية، شأنه في ذلك شأن الماء الذي يشربه أو الهواء الذي يتنفس، إضافة إلى الطعام الذي يسد به رمقه والكســاء الذي يستر به نفسه ويحمي به جسده من حر الصيف وبرد الشتاء والتي تنتهي حياة الإنسان بحرمانه من إحداها أو منها جميعا.

وانطلاقا من هذه الروابط الوثيقة بين الإنسان ومسكنه، اعتمد مسار البحث على المنهج التحليلي لكل طرف على حده، وذلك بالتقصي عن أصول نشأته والمراحل الطبيعية التي يمر بها كل طرف حتى يصبح كائنا مكتمل الهيئة قادرا على ممارسة دوره الطبيعي. فتعذر ذلك بالنسبة للمسكن وذلك لتعدد المذاهب واختلاف تفسيراتها لمفهوم المسكن والاعتبارات والمراحل التي تتطلبها العملية التصميمية. في حين كان الباب مفتوحا على مصراعيه فيما يختص بمسألة خلق الإنسان والأطوار التي تمر بها عملية الخلق هذه، مدّنا بها المرجع الإلهي العظيم" القرآن الكريم" في الآيات التي استفتحنا بها هذا المقال، والتي يصف فيها الله سبحانه وتعالى منهج خلقه لصنعته" الإنسان" والتي مرت عبر سبعة أطوار بدأت بخلق الإنسان من سلالة من طين ثم جعله نطفة في قرار مكين" رحم الأم" لتمر عملية الخلق بعدها بطور العلقة فالمضغة فالعظام وانتهاء بكسوة هذه العظام باللحم، وكل إنسان في هذا الوجود لابد أن يمر بها حتى يخرج إلى الحياة سوي الخلقة وقادرا على ممارسة وظائفه العضوية دون عائق يذكر. ثم بعد ذلك يدخل هذا الإنسان في طور آخر يتعلق بنشأته وإعداده ليمارس دوره كعنصر صالح وفاعل داخل محيطه الاجتماعي. فماذا يحدث لو أن خللا ما طرأ على تسلسل هذه المراحل، أو أن إحداها قد تم تجاهلها أو أن طفرة ما تدخلت عليها؟ حتما سيكون الجواب خروج الجنين من بطن أمه إما ميتا أو مسخا مشوها أو أبله معتوها.

وهذا يقودنا إلى استخلاص نتيجة واحدة وهي أن لهذا الكون نظاما محددا ومراحل ثابتة يمر بها كل عنصر يحتويه هذا الفضاء الهائل من حولنا، والذي أحكمت صنعته بحيث يؤدي كل كائن فيه دوره المخلوق لأجله بما يحفظ للحياة توازنها، سواء كان هذا الكــائن" إنسانا أو *****ا أو نباتا أو جمادا". وبالتالي فإن الخروج بهذا النظام عن سياقه الطبيعي يصيبه بالخلل أو يعيقه عن أداء مهمته وربما ينحرف به نحو نهج طريق الإفساد بدلا من الإصلاح. فإذا كان هذا منهج الله في خلقه، فلماذا لا نعتمد هذا المبدأ في عملية تشكيل الصورة النهائية للمسكن باعتباره يحتوى بداخله إنسانا يحتاج لعنصر النظام حتى تتكامل حياته مع محيطه. ونعتمد مراحل ثابتة تنطلق منها العملية التصميمية للمسكن حتى يأخذ شكله النهائي تبدأ بمرحلة وتنتهي بأخرى يؤدي الإخلال بتسلسلها إلى الخروج به عن أداء دوره كمحتوى لتفاعل مجموعة من العلاقات الإنسانية تتسم بالتوافق مع النظام الكوني وتنسجم مع الفطرة السليمة التي فطر الله عليها الإنسان.

ولتحقيق هذه الغاية تم وضع فرضية محتواها يعتمد على اعتبار المسكن كائن حي وليس جمادا:
• يبدأ رحلته نحو النشوء والارتقاء بالخروج من صلب رغبة ساكنه ليزرع في رحم ذاكرة المصمم المعماري، حيث تختمر فكرة نموه المكونة من حصيلة اجتماع جينات وراثية تحمل الخصائص والصفات التي سيئول إليها هذا المسكن متضمنة احتياجات الساكن العاطفية والمادية، مع طبيعة المنطقة والمؤثرات المناخية عليها والطراز المعماري السائد والذي يشكل الهوية الثقافية للمحيط الاجتماعي والمتمثل في العادات والتقاليد والأعراف، إضافة للقوانين والتشريعات واللوائح التي تتحكم في مسار العملية التصميمية للمسكن في شكله النهائي، فيأتي بذلك معبرا عن ذات ساكنه وملبيا لمتطلباته ومراعيا لظروف البيئة المحيطة بكل معطياتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وقد أسمينا هذه المرحلة " طور النطفة ".
• لتنتقل بعدها الفكرة إلى مرحلتها الثانية حيث تأخذ لنفسها شكلها المبدئي على صفحات الورق تتراءى فيها ملامح فراغات المسكن وعلاقتها ببعضها دون أن يكون لها شكل واضح أو مساحات محددة، ولنسمي هذه المرحلة" طور العلقة".
• بعد ذلك يبدأ كل فراغ يتضح بمساحاته النهائية وتفاصيله المعمارية، ويأخذ موقعه المحدد له حسب وظيفته التي سيؤديها داخل هذا المسكن وعلاقته بالفراغات الأخرى وتوجيهه المناسب، محققا بذلك اكتمال المرحلة الثالثة والتي سنسميها" طور المضغة".
• وفي المرحلة الرابعة يتم اختيار النظام الإنشائي الذي سيقام على أساساته المسكن بحيث يأتي متماسكا في بنيانه ومتجانسا مع روح الفكرة ومعبرا عن مضمونها، وهذه المرحلة أطلقنا عليها" طور خلق العظام".
• ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الخامسة والتي يتم فيها دراسة واجهات المسكن من زواياه المختلفة دراسة وافية يُراعى فيها أن تعبر في مجملها عن الاحتياج الفعلي للمستعمل في تحقيق عاملي الأمان والخصوصية إلى جانب توفير الإضاءة والتهوية الطبيعية، وأن تراعي كذلك ظروف البيئة المناخية المحيطة بالموقع، إضافة إلى تحقيق عامل البساطة والاقتصاد دون إغفال للجانب الجمالي الذي يعتبر إكليل الغار الذي يتوج هذا الجهد المضني بالنجاح في الوصول بأطوار الخلق إلى مرحلتها النهائية وهي " كسوة العظام باللحم".
وأي محاولات للمعالجات المفتعلة تفقد هذه الواجهات قيمتها الوظيفية والجمالية وتصبح مثلها في ذلك مثل العجوز المتصابية التي تلطخ وجهها بالأصباغ لتقنعنا بأنها صبية حسناء، فلا نزيد على أن نمر من أمامها ونحن نخفي ابتسامة السخرية، وفي أسوأ الحالات نصاب بالأسى على العقل المفقود في هذه العملية.

وبانتهاء هذه المرحلة يدخل المسكن مرحلة جديدة وهي طور الإنشاء) " ثم أنشأنـاه خلقا آخر" ( أو ما يعرف بالعملية التنفيذية على أرض الموقع التي تبدأ بحفر الأساسات وتنتهي بتسليم المفتاح إلى ساكنه. وفي هذه المرحلة قد يتعرض المسكن لبعض التعديلات التي تهدف إلى إعداده ليكون صالحا لأداء وظيفته كسكن، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى في سورة النحل: ( الله جعل لكم من بيوتكم سكنا). وقد فسر سبحانه وتعالى معنى السكن في سورة الروم وذلك في قوله سبحانه وتعالى في حق الزوجة: ( من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). فجاءت السكينة هنا بمعنى الرجوع إليها طلبا لراحة النفس والطمأنينة التي تساعد على توثيق العلاقة ودوامها، وخلق عامل الانسجام والتآلف.

هذا الربط بين علاقة الإنسان بزوجه وعلاقته ببيته عند نقطة" السكينة" يحدد لنا أن غاية الإنسان من إيجاد العلاقة معهما هو سعيه للظفر بعامل السكينة والتي بغيابها تنتفي دوافع العلاقة وأهدافها. كما أن خلق وجه الشبه بين المرأة ككائن حي والبيت كجماد هو الذي دفعنا إلى اعتماد فرضيتنا واعتبار المسكن كائن حي يتفاعل معه ساكنه ويتأثر بما يبثه فيه من عوامل السكينة والاستقرار. وبالتالي فكلما كانت التعديلات التي تُجرى على المسكن في مرحلة التنفيذ مدروسة دراسة جيدة، كلما كان البيت صالحا للسكن والعكس ينافي ذلك، وهذا تماما يشبه مرحلة إعداد الطفل ليكون رجلا صالحا يعتمد عليه مجتمعه.
كما أسلفنا فإن أي تدخل في تسلسل المراحل السابقة، سواء كان ذلك أثناء العملية التصميمية والتي توافق مرحلة نمو الجنين في بطن أمه، أو أثناء العملية التنفيذية التي تليها والتي توافق مرحلة إعداد الطفل ليصبح رجلا فاعلا، حتما سيؤدي إلى حدوث خلل في المسكن ناتجا إما عن عدم التزام المصمم بالتسلسل المنطقي لمراحل التصميم، أو بالانحراف بالفكرة الأساسية عن مسارها الصحيح وذلك بعدم احترام رغبات الساكن الطبيعية والمادية أو تغييب دوره أو حضــــوره- كما يحدث في المشاريع الإسكانية التي تتبناها الجهات العامة أو الخاصة والتي يتكرر فيها نموذج الوحدة السكنية في اتجاه أفقي أو رأسي تحت دعوى تلبية احتياجات مستعجلة واقتصادية لحل أزمة سكن- أو بعدم مراعاة الاعتبارات التصميمية التي تفرضها طبيعة الموقع وتجاوزها تحت طائلة العجز عن التوفيق بين جميع هذه المتطلبات أو رغبة في الكسب السريع أو سعيا وراء نظريات وفلسفات يهدف أصحابها من خلال طرحها إلى تحقيق الشهرة أو النيل من آدمية الإنسان وصولا إلى تحقيق أغراض سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. كما إن عدم متابعة العملية التنفيذية من قبل المصمم المعماري وترك المهمة للساكن أو المقاول أو العامل ليجري التعديلات التي توافق هواه أو تسهّل مهمته على التصميم الأصلي، حتما سيعرض المسكن للاختلال في وظائفه أو هيئته المعمارية مثله في ذلك مثل الطفل الذي يهمل والديه العناية بتربيته تاركين أمره للشارع وما يترتب عليه من احتكاك برفاق السوء، مما يعرضه للانحراف في سلوكياته والتي قد تقوده إلى احتراف الجريمة أو تعاطي المحرمات.

إن ما قمنا باستعراضه يجرنا إلى تفهم أكبر لأبعاد العلاقة بين الإنسان ومسكنه إلى الحد الذي يجعلنا نستلهم من حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:" تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" معياراً آخر نستند عليه لتنظيم هذه العلاقة ووضعها في مسارها الصحيح، فكما أن دور الزوجة لا يقتصر على كونها مبعث السكينة للزوج بل تتعداه لتمثل الوعاء الذي يحتوي بداخله إنسان المستقبل والذي يرتجى أن يأتي سليم الخلقة، سوي النشأة، كذلك يكون الحال بالنسبة للمسكن الذي لا يقتصر دوره على اعتباره منبع السكينة للإنسان بقدر ما هو وعاء آخر يحتضن بداخله مجتمعا إنسانيا أكبر يسمى" العائلة أو الأسرة" والتي يرتجي منها محيطها الاجتماعي الممثل في القبيلة أو الدولة أن ينشئوا أسوياء أصحاء يمكن الاعتماد عليهم في تسيير دفة الأمور نحو مسارها الصحيح.

لهذا أصبحت الدقة في اختيار موضع الفكرة أمرا مهما وحاسما بالنسبة للإنسان الراغب في إرساء قواعد مسكنه. هذا المسكن الذي أكدت مجموعة من الدراسات والأبحاث الاجتماعية والنفسية ضلوعه وبشكل كبير في انتشار الجريمة والانحرافات السلوكية واعتبره علماء النفس أحد أهم العوامل المساعدة على تولّد الكثير من الأمراض النفسية مثل الاكتئاب النفسي والتوتر العصبي والقلق والتي أدت إلى تزايد حالات الانتحار وخصوصا في المجتمعات الصناعية، كذلك اعتبرته مسئولا عن بث روح العدوان داخل المجتمعات الفقيرة التي يكثر فيها الازدحام وتنعدم الهوية . وقد أثبتت إحدى هذه الدراسات" أن الطفل الذي يولد ويعيش في الأدوار العليا من المباني المرتفعة لا تتاح له الفرصة لممارسة حياته الطبيعية واكتساب الخبرة في التعامل مع الآخرين والاحتكـاك بهم وكذلك يفتقر إلى الإحساس بالطبيعة وجمالها والتي عزلته عنها الارتفاعات الشاهقة للعمارات السكنية. مما يولد لديه الإحساس بالانعزال عنها وعن الآخرين، فينمو بذلك نموا غير سوي وخصوصا مع تحذيرات الأهل المتكررة له بعدم الاقتراب من النوافذ والأبواب والشرفات خوفا عليه من السقوط أو الخطر، وبالتالي يتولد معه الإحساس إما بالانطواء أو بالميول العدوانية تجاه الآخرين الذين لديهم ظروف معيشية أفضل".

" كما اضطرت سلطات مدينة سنت لويس، ميزوري في أمريكيا إلى تدمير مشروع برويتايخوي للإسكان وذلك بنسفه بعد إخلائه من سكانه اللذين انتشرت بينهم الجريمة واستفحل داؤها للدرجة التي لم تفلح معها الإجراءات الأمنية المشددة في التخفيف من حدتها أو القضاء على عناصرها، وذلك بعد أن توصلت نتائج الأبحاث التي أجراها علماء النفس والاجتماع، إلى أن المحرك الرئيسي للجريمة في هذا الحي هو النظام التخطيطي وأسلوب توزيع فراغاته وشكل واجهاته التي اعتمدها المصمم المعماري لهذا الحي السكني وهو ما دفع بسكانه إلى امتهان حرفة الإجرام وذلك بما يهيئه لهم من فراغات تحرك نوازع الشر في نفوسهم" .
ويمثل هذا المشروع المدى الذي يمكن أن تصل إليه العمارة الحديثة الدولية في لا إنسانيتها بما تعكسه من رتابة وتكرار يدفع إلى السأم والملل وبالتالي يؤدي إلى حالة من الكآبة والارتباك الاجتماعي، الذي يؤدي بدوره إلى انتشار الأمراض النفسية والانحرافات السلوكية داخل المجتمعات التي اعتمدت عمارة الحداثة في مخططاتها العمرانية ومشاريعها المعمارية. وهذا ما يدعم الاتجاه القائل بأن المبنى يبدأ متأثرا في تشكيل هيئته وفراغاته بفكر وفلسفة مصممه، ثم يتحول بعد ذلك إلى مؤثر في العلاقات الإنسانية التي تدور بداخله إما سلبا أو إيجابا.

هذا الاستعراض للعلاقة بين الإنسان ومسكنه والتي تضاربت في تفسير مفهومها جميع النظريات والفلسفات والمناهج الفكرية المطروحة على الساحة المعمارية والتي حتى وإن نجحت في تغطية جوانب منها فإنها عجزت عن تغطية جوانب أخرى لا تستقيم حياة الإنسان بدونها. يدفعنا إلى طرح رؤية جديدة ومعاصرة لمفهوم البيت الاقتصادي، تستقي من القرآن الكريم منهجها الفلسفي الذي تعبر به عن طموح الإنسان وسعيه لتحقيق السعادة له ولبني جنسه بمختلف مذاهبهم ومعتقداتهم واختلاف مواقعهم وأجناسهم.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...