جمال الهمالي اللافي
مقدمة
العمارة
ليست مجرد تصميم وظيفي، بل هي لغة تبني العلاقات بين الناس. عندما يكون الفضاء
المعماري مصممًا لتشجيع اللقاءات والتفاعل الإنساني،
فإنه يعزز الترابط الاجتماعي، حيث يكون التصميم موجّهًا نحو خلق بيئة تحتضن العيش
الجماعي، التلاحم، وتعزيز الانتماء. هذا
يعاكس الاتجاه السائد في المدن الحديثة، التي تضع الفرد في عزلة داخل مساحات
معمارية ذات طابع منفصل عن السياق الاجتماعي.
في كتابه تذوق
الفن المعماري، يطرح المعماري سينكلير جولدي رؤية عميقة حول تأثير
البيئة المبنية على الإنسان، محذرًا من أن العيش في فضاءات غير ممتعة أو مفتقرة
للتنظيم يمكن أن يؤدي إلى تآكل الكرامة الإنسانية، وانتشار مشاعر الإحباط
واللامبالاة. يرى جولدي أن
المجتمع الذي يتجاهل أهمية العمارة كعنصر أساسي في جودة الحياة يخاطر
بتشكيل بيئة تدفع الأفراد إلى تكيف قسري يفوق طاقاتهم النفسية، مما يخلق
مواطنين غير مبالين وفاتري الشعور.
البيئة
المعمارية وتأثيرها النفسي والاجتماعي: بين الراحة والاغتراب
الفضاء يمكن أن يكون مصدرًا للأمان أو للاغتراب، بحسب كيفية تصميمه. يشير جولدي إلى
أن الفضاءات غير المدروسة، والتي تفتقر إلى الانسجام أو تهيمن عليها الفوضى
البصرية، يمكن أن تؤثر سلبًا على المزاج العام والاستقرار النفسي. فعندما تكون
المدن والمباني غير مدروسة من حيث التناسق أو الضوء الطبيعي، فإنها تفقد قدرتها
على توفير بيئة محفزة ومريحة، مما يؤدي إلى حالة من الاغتراب النفسي.
هذا التأثير ليس
مجرد جانب جمالي، بل يمتد إلى العمق الاجتماعي؛ فالمساحات العامة المصممة بإهمال
تعيق التفاعل المجتمعي، بينما الفضاءات المدروسة تعزز الترابط، الراحة
النفسية، والانتماء.
من هنا،
يظهر أن العمارة التي تدمج الضوء الطبيعي، النسب المتوازنة، والخامات العضوية،
يكون لها تأثير مهدئ ويعزز الراحة النفسية، على عكس
الفضاءات ذات الألوان الباردة، الإضاءة الاصطناعية الحادة، والزوايا غير المدروسة،
التي قد تولّد شعورًا بالتوتر أو العزلة.
المسؤولية
المجتمعية في تشكيل الفضاء المعماري
وفقًا لجولدي،
فإن المسؤولية عن تحسين البيئة المبنية لا تقع فقط على عاتق المعماريين، بل هي جهد
مجتمعي متكامل. على
المواطنين إدراك تأثير المكان على مشاعرهم، والمطالبة ببيئات تعزز الراحة
والتوازن النفسي بدلاً من أن تكون عبئًا على الحياة اليومية.
هنا تتقاطع
أفكاره مع مفهوم "حوش العيلة" في العمارة الليبية، الذي يستجيب للتحديات التي
يطرحها جولدي، حيث يتمحور حول التواصل الاجتماعي، الاستدامة، والانتماء الثقافي،
مما يجعله نموذجًا حيًا يعكس أهمية البيئة في بناء مجتمع متماسك ومتفاعل.
الهوية
المعمارية كامتداد للذاكرة الجمعية
المباني ليست
مجرد هياكل وظيفية، بل هي وعاء يحمل ذاكرة الناس وهويتهم. حين تفقد المدن
عمقها الثقافي بسبب توجهات عمرانية تفتقر إلى الأصالة، فإنها تفقد قدرتها على ترسيخ
الانتماء وتعزيز الترابط بين الأفراد والبيئة. يرى
جولدي أن المجتمع الذي يهمل أهمية العمارة كعنصر أساسي في حياته اليومية يهدد
بقاءه، ويترك أفراده في عزلة نفسية مستمرة.
نحو
استدامة عمرانية تحترم الإنسان
المعماريون اليوم يواجهون تحديًا كبيرًا: كيف
يصممون مساحات تراعي الإنسان، ثقافته، ونفسيته، دون أن تكون مجرد استجابة سطحية
للمتطلبات الاقتصادية؟ هذا يتطلب إعادة التفكير في مفهوم العمارة، ليس
فقط كإنشاء مادي، بل كأداة لتحقيق التناغم بين الإنسان وبيئته.
إذا أردنا تطبيق
أفكار جولدي عمليًا، فنحن بحاجة إلى نهج معماري يستعيد قيم الانسجام والهوية
الثقافية، بحيث تكون العمارة وسيلة لإثراء المجتمع وليس مجرد استجابة لمتطلبات
السوق. في هذا السياق، يمثل مفهوم "حوش العيلة" نموذجًا للتصميم الذي يضع الإنسان في قلب
الفضاء المعماري، بدلًا من أن يكون مجرد عنصر ضمن مخططات عمرانية جامدة.
حوش
العيلة: نموذج محلي يعزز الكرامة الاجتماعية والانتماء
في سياق العمارة
الليبية، يمثل "حوش العيلة" نموذجًا حيًا للفضاءات المعمارية التي تعزز التواصل
الاجتماعي، الترابط العائلي، والانتماء الثقافي، وهو ما يتوافق تمامًا مع
الطرح الذي قدمه سينكلير جولدي حول أهمية البيئة المبنية في تشكيل الكرامة
الإنسانية.
التصميم
المكاني والاستدامة الاجتماعية
يعتمد تصميم حوش
العيلة على الساحة الداخلية المفتوحة (الفناء)، والتي تعمل كنقطة تجمع طبيعية
تجمع أفراد العائلة في فضاء مشترك، مما يعزز التفاعل اليومي، التآلف بين
الأجيال، ويمنح شعورًا بالأمان والانتماء. هذا
يتناقض مع العمارة الحديثة التي كثيرًا ما تعتمد على تصاميم انعزالية تقلل فرص
التواصل الاجتماعي، مما يؤدي إلى تفكك العلاقات المجتمعية.
كما أن هذا
النموذج يقدم استدامة اجتماعية، حيث يدعم التكافل الأسري والتعايش
المشترك، ويتيح للعائلات العيش في بيئة متماسكة بدلًا من الاعتماد على السكنات
المتفرقة التي تقلل فرص الترابط.
الهوية
الثقافية والعمارة الأصيلة
يرى جولدي أن
الفضاءات غير الممتعة أو المفتقرة للنظام تؤدي إلى إحساس باللامبالاة، وحوش
العيلة يعكس كيفية تجاوز هذا التحدي من خلال تصميم متجذر في الثقافة الليبية.
فبدلًا من أن يكون مجرد بناء وظيفي، يحمل في طياته الذاكرة الجمعية، حيث
يمثل أحد أشكال العمارة التي تحافظ على التراث وتحترم التقاليد، مما يعزز
إحساس القاطنين فيه بالهوية والاستمرارية الثقافية.
إسقاط
"حوش العيلة"
على مستقبل
العمارة الليبية
تتجه العمارة
الحديثة نحو العزلة والانفصال، بينما يطرح حوش العيلة بديلًا يعيد إحياء
العلاقات الاجتماعية في قلب التصميم المعماري. إذا
كنا نبحث عن بيئات مبنية تعزز الكرامة الإنسانية، فلا بد من إعادة التفكير في
كيفية دمج نماذج مثل "حوش العيلة" في مشاريع معمارية حديثة، بحيث لا يكون
مجرد نموذج تقليدي، بل أساسًا لمنهجية عمرانية أكثر ترابطًا واستدامة.
ختامًا:
من العمارة إلى الإنسان
في نهاية
المطاف، يرى جولدي أن العمارة ليست مجرد إطار مادي للحياة، بل هي قوة
تؤثر في النفسية والمجتمع، ويمكن أن تكون إما مصدر إلهام وتعزيز للكرامة،
أو سببًا في خلق بيئات تضعف الروح الإنسانية. إذا
كان الهدف هو عمارة لا تحبط الإنسان بل تحتفي به، فعلينا إعادة صياغة نظرتنا
للتصميم بحيث يعكس قيمًا ثقافية واجتماعية متجذرة في التجربة الإنسانية.
الفكرة الأساسية
لهذه المقالة تستند إلى كتاب سينكلير جولدي" تذوق الفن المعماري".