أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، مايو 30، 2025

في مواجهة غياب الأصالة: تأملات في العمارة الليبية المعاصرة وجذور الإشكالية

 

جمال الهمالي اللافي

لا يمكن تأسيس معمار إسلامي، إنساني، أخلاقي في كنف سائد يتجاهل الجذور؛ إنه سعي مضاد للتيار، محكوم عليه بالمقاومة، بالإقصاء، وبالصمت. الكلمة لن تتجاوز حدود مدادها، والمشاريع ستُوأد في دروب الإهمال، يلاحقها الإنكار والتشكيك. في أعينهم، هي غربة؛ كل وميض أصيل يُخمد في مهده. سيعلن المنادي أن كلفته باهظة، وأن أيدي عمالته الفنية التي طالما أبدعت في فنون البناء التقليدية قد تلاشت، وأن مواده الطبيعية الأصيلة باتت شحيحة في سوق يسيطر عليه المستورد والجاهز. سيزعمون أن طرازه عفا عليه الزمن، وأنه يعجز عن مواكبة روح العصر، التي يفسرونها بتبني النمط العالمي الموحّد دون تمحيص، متجاهلين أن الأصالة هي جوهر المعاصرة الحقيقية.

إن جذور هذه الإشكالية تمتد عميقاً في بنية الوعي الجمعي والسياسات الثقافية والتنموية. فبعد عقود من التهميش الممنهج للهوية المعمارية المحلية، وتغليب نماذج التنمية المستوردة التي لا تراعي السياق الثقافي ولا الجغرافي، ترسخ الانطباع بأن كل ما هو "حديث" يجب أن يكون قادماً من الخارج. أصبح "التطور" مرادفاً لـ"التبعية"، و"الحداثة" تُختزل في الاستنساخ البصري لمفردات غريبة عن روح المكان والإنسان.

لقد غابت المبادرات الحكومية والمؤسساتية الفاعلة لدعم البحث في العماره التراثية وتأهيل الحرفيين والعمالة المتخصصة في تقنيات البناء التقليدية، كما تم إهمال إنتاج وتطوير مواد البناء المحلية التي كانت تشكل أساس عمارة تاريخية غنية. بل الأدهى من ذلك، أن تدهور الوعي الجمالي العام قد أدى إلى تراجع الحس النقدي، فبات أي "جديد" يُقبل دون تفكير في مدى تناغمه مع الذاكرة البصرية للمدينة والقرية، أو مدى تلبيته للاحتياجات الروحية والاجتماعية للسكان.

إن هذا التماهي في التبعية والانسلاخ عن القيم ليس مجرد جهل، بل هو في كثير من الأحيان خيار واعٍ، مدفوعاً بقناعة بأن طريق التقدم الوحيد يكمن في التخلي عن "الماضي" لصالح "المستقبل" المزعوم، الذي هو في حقيقته استهلاك لما هو سائد عالمياً. هؤلاء المعارضون يمتلكون قيماً مختلفة تماماً، تتناقض وتتضارب مع الدعوة للأصالة. ولذا، فإن إهدار الوقت والجهد في محاولة إقناع من اختار هذا الطريق عن قناعة هو محض عبث، ولن يقود إلا إلى صراعات لا طائل منها.

ويبقى السؤال المُرّ يطرح نفسه:

هل سيؤول هذا الإصرار إلى تنازل؟

وسيبقى الجواب الصادح يتردد:

لا، أبداً.

فما قيمة الإنسان دون مبدأ راسخ يوجه بوصلته؟

وما جدوى العقل دون رؤية تُضيء دروبه نحو البناء المستنير؟

وما معنى الروح دون انتماءٍ لجذورها العميقة التي تمنحها الثبات والقوة؟

وأي قيمة لإنجاز معماري يُفتقد الأصالة، فلا يحمل بصمة المكان والإنسان، ولا يروي حكاية حضارة؟

الاثنين، مايو 26، 2025

مدرسة العمل الجماعي: دروس من مكاتب العمارة الكبرى وتحديات الواقع الليبي


 

جمال الهمالي اللافي

لطالما كانت مكاتب العمارة الكبرى، عبر التاريخ، بمثابة مدارس حقيقية لصقل المواهب وتشكيل الرؤى المستقبلية للمهنة. الصورة المرفقة، والتي تُظهر عدداً كبيراً من المهندسين والمعماريين يعملون جنباً إلى جنب في مساحة مشتركة، تجسد بوضوح هذا المفهوم. هذه المشاهد ليست مجرد لقطات أرشيفية من الماضي، بل هي شواهد على نهج مهني عميق الأثر كان يسعى إلى بناء القدرات وتوريث الخبرة.

نموذج التعلم بالانغماس:

إن التجمع الكثيف للمعماريين، رجالاً ونساءً، في مكتب واحد لإنجاز المراحل الأخيرة من مشروع ضخم صممه معماري بارز، لم يكن مجرد ترتيب لوجستي. لقد كان، في جوهره، نظاماً تعليمياً قائماً على الانغماس والممارسة المكثفة. الهدف الأساسي لم يكن حصر العمل في يد معماري واحد، بل تمكين هذا "المعلم" من نقل فلسفته المعمارية، منهجيته التصميمية، وتفاصيل رؤيته الفنية لجيل من المهندسين الشباب.

لم يكن الدافع وراء هذا الالتزام هو الكسب المادي في المقام الأول، بل كان شغفاً بالتعلم العميق وتشرباً لفكر المعماري الذي آمنوا بمقاربته كسبيل نحو عمارة المستقبل في زمنهم. هذا النوع من التتلمذ، الذي يتجاوز حدود التعليم الأكاديمي النظري، يوفر للمتخرجين فرصة لا تقدر بثمن لاكتساب الخبرة العملية، فهم تعقيدات المشاريع الكبرى، وتطبيق المبادئ النظرية في سياقات واقعية. إنه يهيئهم للانطلاق في عالم المهنة بأساس متين من الخبرة والممارسة المستقاة من العمل الجماعي تحت إشراف مباشر.

الواقع الليبي: فجوة بين الطموح والخبرة:

على النقيض من هذا النموذج البناء، يواجه الواقع المعماري في ليبيا تحديات جسيمة، خاصة فيما يتعلق بتأهيل الأجيال الجديدة من المعماريين. للأسف، يتخرج العديد من أقسام العمارة في ليبيا وفي أذهانهم تصور مغلوط عن مدى إتقانهم للمهنة. هذا "الريش المنتفخ" أو الشعور المبالغ فيه بالذات، يؤدي إلى اعتقاد خاطئ بأنهم قد بلغوا ذروة الإبداع والمهارة، مما يجعلهم في غنى عن التتلمذ على يد خبرات معمارية لها تجربتها العميقة ورؤيتها المعمارية الثاقبة.

هذا العزوف عن الانخراط في بيئة عمل جماعية تحت إشراف معماريين ذوي خبرة، يحرم هؤلاء الخريجين من فرصة لا تعوض لصقل مهاراتهم، وفهم تعقيدات السوق، واكتساب "الخبرة المطبخية" التي لا تُدرس في الجامعات. إنها الخبرة التي تكتسب من معالجة المشاكل المعمارية المعقدة، والتفاعل مع العملاء، وإدارة المشاريع، وفهم الجوانب التنفيذية التي لا غنى عنها لأي ممارس معماري ناجح.

النتائج على أرض الواقع:

تُفصح جودة العمارة في ليبيا، في الكثير من الأحيان، عن النتيجة المباشرة لهذه العقلية. فبدلاً من أن تكون العمارة مرآة للابتكار والإبداع والجودة، تتحول في بعض الأحيان إلى انعكاس لـ"عقلية مسطحة"، تفتقر إلى العمق والرؤية والفهم الشامل للمتطلبات المعمارية. هذا النقص في الخبرة المكتسبة من خلال الممارسة المنظمة والعمل الجماعي يؤدي إلى مشاريع تفتقر إلى الأصالة، الفاعلية، والجمالية، وتستوي في بعض الأحيان بـ"تراب الأرض الموحل" من حيث القيمة والتأثير.

نحو مستقبل معماري أفضل:

لإصلاح هذا المسار، يتطلب الأمر إعادة تقييم شاملة لكيفية تأهيل المعماريين الشباب في ليبيا. يجب أن تشجع الجامعات والمؤسسات المعمارية على إقامة روابط أقوى مع مكاتب العمارة المرموقة، وتسهيل برامج التوجيه والتدريب العملي. الأهم من ذلك، يجب غرس ثقافة التواضع المهني والإيمان بأهمية التعلم المستمر والتتلمذ على يد من سبقوهم. فالعمارة ليست مجرد موهبة فردية، بل هي أيضاً تراكم خبرات جماعية وموروث فكري وفني ينتقل عبر الأجيال. إن إعادة إحياء نموذج "مدرسة العمل الجماعي" في مكاتب العمارة الليبية هو السبيل نحو بناء جيل من المعماريين القادرين على صياغة مستقبل معماري يليق بطموحات البلاد.

الجمعة، مايو 16، 2025

عمارتنا الليبية التقليدية: فخر لنا، لا مجال للتشويه!

معالم من المعمار الليبي

جمال الهمالي اللافي

تخيل أن تسمع أحدهم يُرجع تاريخ أجدادك وحضارتهم إلى مكان آخر. هذا بالضبط ما نشعر به نحن الليبيين عندما تُنسب عمارة مدننا التقليدية، بكل ما فيها من إبداع وتفرد وقيمة فنية فريدة، إلى ثقافات بعيدة. هل يعقل أن تُنسب بيوت الحفر في غريان إلى مطماطة التونسية أو الصين؟ أو أن تُقارن عمارة غدامس ببيوت اليمن أو نجد أو مالي؟ أو أن تُعتبر بيوتنا الجبلية مجرد نسخ من العمارة الجبلية في اليونان أو إيطاليا؟ هذا المقال يناقش هذا التجاهل المؤسف لتراثنا المعماري الليبي ويدعو إلى وقفة جادة لحماية هويتنا.

يا أهلنا الكرام في ليبيا، كم يؤلمنا ويُثير غضبنا أن نسمع أو نقرأ يوميًا من ينسب عمارة مدننا التقليدية، بكل ما تحمله من أصالة وعبقرية وجمال، إلى ثقافات وحضارات أخرى. من غريان وبيوتها الحفرية الفريدة، مرورًا بغدامس وتصميمها المعماري المتكيف مع الصحراء، وصولًا إلى مدننا الجبلية وبيوتها الشامخة، تراث معماري عريق يُحاول البعض طمس هويته ونسبته زورًا. هذا المقال هو صرخة غيرة على هذا الإرث الحضاري الذي يمثل جزءًا أصيلًا من هويتنا الليبية.

بالنسبة لأهلنا في غريان: من غير المقبول بتاتًا أن يُنسب فن حفر البيوت في باطن الأرض، هذا الإبداع الهندسي الذي نشأ وترعرع في أرضكم ليناسب طبيعتها ومناخها، إلى أي مكان آخر. بيوت الحفر في غريان ليست مجرد مساكن، بل هي شاهد حي على ذكاء أجدادكم وقدرتهم على التكيف مع البيئة. إنها جزء أصيل من تاريخكم وثقافتكم.

وبالنسبة لأهلنا في غدامس: عمارتكم الفريدة، بتصميمها المتراص وشوارعها المسقوفة التي تحمي من حرارة الصحراء، هي بصمة خاصة بكم. لقد استلهم أجدادكم هذه التصاميم من بيئتهم وحاجاتهم، وهي تعكس عبقرية في استغلال الموارد المتاحة. من المؤسف حقًا محاولة ربط هذه العمارة المتميزة بأي نمط آخر.

وأمّا أهلنا في المدن الجبلية: فتلك البيوت الشامخة التي تتحدى وعورة التضاريس، والتي بُنيت بحجارة جبالكم الصلبة، هي دليل على قوة إرادتكم وعمق ارتباطكم بأرضكم. إنها تعكس فهمًا عميقًا لطبيعة المكان وانسجامًا فريدًا معه.

ولنا جميعًا كليبيين: من المحزن والمؤسف أن نرى هذا التجاهل لتراثنا المعماري الغني والمتنوع. إن عمارة مدننا التقليدية ليست مجرد مبانٍ قديمة، بل هي جزء من ذاكرتنا الجماعية، وتحمل في طياتها قصصًا وحِكمًا وتعبيرًا عن هويتنا الليبية المتفردة.

إن هذا التداول الخاطئ للمعلومات، سواء كان ناتجًا عن جهل أو إهمال، يستدعي منا جميعًا وقفة جادة. علينا أن نعمل على نشر الوعي بقيمة هذا التراث وأصالته، وأن نُعرّف الأجيال القادمة بجماله وأهميته. يجب أن نفخر بعمارتنا التقليدية ونعتبرها جزءًا لا يتجزأ من هويتنا الوطنية.

فلنتكاتف جميعًا لحماية هذا الإرث الثقافي العظيم وتوريثه للأجيال القادمة بكل فخر واعتزاز.

الأحد، مايو 11، 2025

مسارات التأصيل: منطلقات فكرية لتشكيل العمارة الليبية المعاصرة

 

جمال الهمالي اللافي

تمهيد:

·     التقليد كمورد لا كقصور: إن الاقتداء بالموروث المعماري أو محاكاته ليس بالضرورة نقطة ضعف في المنهج الفكري للمعماري. بل قد يمثل صونًا لإنجازات الماضي القيّمة، سواء على صعيد المعالجات البيئية الذكية أو الاستجابة الفعالة للمتطلبات الاجتماعية التي لا تزال قائمة بكفاءة حتى يومنا هذا.

·     الحداثة ليست دائمًا تقدمًا: لا يمكن اعتبار التجديد أو الحداثة أمرًا محمودًا بإطلاق، خاصة عندما يصاحبه ميلٌ جارف لتقويض الأسس المتوارثة دون سند من مبررات منطقية أو منهجية مدروسة العواقب والنتائج. فمثل هذا النهج قد يخلف آثارًا سلبية على سلوك المجتمع واستقراره المادي والمعنوي.

من هذا المنطلق، يصبح لزامًا على المعماري الليبي الطموح للتواصل مع عمارته المحلية أن يستوعب هذه الجوانب جيدًا وينطلق منها في رحلة تأصيل العمارة الليبية المعاصرة، مرتكزًا على الآتي:

·     إرث الخبرة المتراكمة: إن ما تركه الأجداد هو خلاصة تجارب متواصلة وتوارث للخبرات بين أسطاوات البناء التقليديين. لقد نجحوا ببراعة في تحقيق التوازن الدقيق بين قيم ومعتقدات المجتمع واحتياجاته الحياتية اليومية، مستفيدين من الإمكانات المتاحة من مواد البناء والتشطيب، وتقنيات الإنشاء، وعناصر التأثيث.

·     صدق التفاني في مواجهة التحديات: إن الكفاءة والاقتدار الذي أظهره أسطى البناء التقليدي في التعامل مع عمارته المحلية نبع من إخلاصه وتفانيه في معالجة الإشكاليات المعمارية وتقديم حلول ناجعة أثبتت جدواها البيئية والوظيفية والاقتصادية، فضلاً عن ملاءمتها لمتطلبات المجتمع وقدرتها على استيعاب المتغيرات والمستجدات حتى عصرنا الحالي.

·     العمارة المحلية: تفاعل الاحتياجات والمعطيات: تستمد العمارة المحلية قوتها من قدرتها الفائقة على المواءمة بين الاحتياجات المادية والعاطفية للمجتمع من جهة، والمعطيات البيئية والاقتصادية التي تحيط به من جهة أخرى.

·     تنوع الأنماط بتنوع السياقات: لا تمثل العمارة المحلية نمطًا معماريًا واحدًا يمكن تعميمه على كافة المدن الليبية. بل هي علاقة وثيقة الترابط بين الشكل والمضمون من جانب، والسياق الاجتماعي والبيئي الفريد الذي نشأت فيه من جانب آخر.

·     وحدة الشكل والمضمون في التعبير عن الهوية: إن العلاقة بين المفردات والتفاصيل المعمارية والزخرفية من جهة، والتوزيع الفراغي للعمارة المحلية من جهة أخرى، هي علاقة عضوية لا يمكن فصلها. بل تشكل كلاً متكاملاً يعكس أساليب التعبير المتنوعة التي تعرّف بهوية المكان والمجتمع الذي يحتضنه.

·     امتدادات أفقية ورأسية تعكس التنوع البيئي: تتجلى أصالة العمارة المحلية التقليدية في تنوع انتشارها المكاني. فهي تمتد أفقيًا في مساكن الريف وضواحي المدن الساحلية وبعض المدن الصحراوية، بينما ترتفع رأسيًا في عمارة مساكن غدامس الفريدة. وهناك عمارة تنحت في صلب الأرض كما هو الحال في بيوت الحفر في غريان، وأخرى تتدرج مع سفوح الجبال أو تخترقها وتحفر في أعماقها كعمارة الدواميس في الجبل الغربي. ونتيجة لهذا التنوع، لا يمكن تصور تصميمات لمبانٍ سكنية بمفردات معمارية وزخرفية منفصلة عن طبيعة التوزيع الفراغي المرتبط بها في بيئتها الأصلية.

·     تأثير التحولات المجتمعية على الموروث: إن الانقلاب الجذري الذي طال هذا الموروث يعود في المقام الأول إلى تحول المجتمع عن قيمه ومعتقداته، وفقدانه لبوصلة التوجيه التي كانت تساعده في تحديد احتياجاته الحقيقية. وهذا أثر بدوره على القدرة على ترجمة هذه الاحتياجات إلى أشكال معمارية وتوزيعات فراغية تعكس الهوية وتحقق المتطلبات المادية والعاطفية في رؤية معاصرة. (لقد لعب الإعلام دورًا كبيرًا في هذا التحول ولا يزال).

·     إهمال الموروث في التعليم المعماري: يضاف إلى ذلك انصراف مؤسسات التعليم المعماري عن التواصل مع هذا الموروث، وتبنيها فكرًا ومنهجًا وتطبيقًا وتشريعًا غربيًا، دون إخضاع ذلك القدر الكافي من المراجعة للتوفيق بينه وبين المعطيات البيئية والخصوصية الاجتماعية والظروف الاقتصادية لكل بيئة محلية.

·         الإبداع: تطوير لا قطيعة: لا يكمن الإبداع في البحث الدائم عن كل ما هو جديد وغير مألوف على حساب القطيعة مع الموروث المعماري الغني.

·     المنهج التصميمي: استلهام الأصالة من الواقع: يعتمد المنهج التصميمي للمشاريع المعمارية بشكل أساسي على استكشاف تلك الملامح الأصيلة لكل عمارة محلية من خلال الزيارات الميدانية للمعالم التاريخية للمدن، والبحث العميق في إمكانيات الحفاظ على أصالة التوزيع الفراغي، وتفرد التفاصيل والمفردات المعمارية والزخرفية التي تميز كل عمارة محلية عن غيرها.

·     احترام الخصوصية الإقليمية في التصميم الجاد: إن المحاولات التصميمية الجادة التي تسعى لإعادة الاعتبار للعمارة المحلية تنطلق في جوهرها من احترام خصوصية كل نمط معماري، وحصر تصميم وتنفيذ هذه الأنماط في البيئة التي نشأت فيها، دون محاولة تطبيقها قسرًا على مدن أخرى تمتلك بدورها أنماطًا معمارية مميزة.

·     التجديد المدروس: ضرورة لا ترف: يستوجب البحث في مسألة الابتكار في تصميم المشاريع المعمارية وتفاصيلها ومفرداتها المعمارية والزخرفية، أو تطوير التقليدي منها، أن يستند المعماري في ذلك على دراسة واعية لمستلزمات هذا التجديد وضرورات الإلغاء أو التعديل.

·     البحث عن جوهر المعاصرة الحقيقية: يجب السعي نحو تحديد تلك القواسم المشتركة التي تصنع (حقيقةً لا وهمًا) صورة العمارة المحلية التي تستحق أن توصف بالمعاصرة، من خلال قدرتها على التوفيق بين الثوابت التي لا يمكن تجاوزها بأي حال (المتمثلة في الظروف البيئية وقيم المجتمع ومعتقداته)، والمتغيرات التي تشكل مساحة واسعة للمعماري للتعبير والتجديد من خلالها (مثل مواد البناء والعزل الحراري ومصادر توفير الطاقة الكهربائية وتقنيات الإنشاء الحديثة، بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية للمستعملين التي تؤثر على حجم المبنى وثراء تفاصيله المعمارية والزخرفية).

·     فهم منطق الفراغات ووظائفها: ينبغي بذل الجهد لفهم أبعاد ومنطلقات ودوافع التوزيع الفراغي ووظائفه في العمارة المحلية التقليدية. وفي هذا السياق، تبرز أهمية مفهوم الوظيفية (функциональность)، الذي يعني بالروسية الوظيفية أو الفعالية أو القدرة على أداء وظيفة معينة حيث يشير إلى مدى قدرة الفراغ أو التصميم على تلبية الاحتياجات العملية والوظيفية للمستخدمين، وجعله سهل الاستخدام ومناسبًا للغرض الذي أنشئ من أجله. فعلى سبيل المثال، تتجلى وظيفية غرفة المعيشة في توفيرها مساحة كافية للجلوس والاسترخاء، وإضاءة مناسبة، وأثاث مريح وعملي. وبشكل عام، تؤكد هذه الوظيفية على الجانب العملي والتطبيقي للتصميم ومدى نجاحه في أداء وظيفته. ومن ثم، الإبقاء على شكل وتوزيع كل فراغ وظيفي أثبت ملاءمته لمتطلبات العصر، وتعديل ما يحتاج إلى تعديل من حيث الشكل والمساحة ليتناسب مع هذه المتطلبات، وتحديث عناصر التأثيث لتكون أكثر فاعلية. وقد يتطلب الأمر نقل فراغ من مكان إلى آخر ليواصل أداء وظيفته على أكمل وجه وتنتفي عنه أوجه القصور. وأخيرًا، يجب عدم التردد في إلغاء أي فراغ أو توزيع فراغي لم يكن في حقيقته ملائمًا حتى في عصره، وإنما فرضته ظروف الواقع فرضًا على مستعمليه بتلك الصورة لدواعي عادات اجتماعية تتعارض مع القيم الصحيحة، أو لتأثيرات اقتصادية أو إنشائية بحتة.

·     التركيز على التأصيل كمسار مهني: يجب على المعماري الليبي أن يحصر مساره المهني والبحثي في مهمة التأصيل للعمارة الليبية المعاصرة، متجاوزًا بذلك كل دعوات التشكيك والتثبيط التي ترى في هذا المنهج تقليدًا يتعارض مع متطلبات الإبداع والتجديد من منظور التغريب والاختزال لرسالة المعماري وفهمه لأدواره في المجتمع الذي يعيش فيه.

·     معيار النجاح: تحقيق التأصيل: ينبغي أن يحصر المعماري مناقشة مشاريعه وإدارة الحوار حولها ضمن دائرة مدى توفيقه في حل معضلة التأصيل من عدمها. وأي محاولة لإبعاده عن هذا المنهج الذي اختاره عن قناعة بجدواه كطريق في مسيرته المهنية لتحقيق رسالته السامية في الارتقاء بمجتمعه عمرانيًا وحضاريًا، يجب التعامل معها بحذر.

وما التوفيق في كل ما نسعى إليه إلاّ من عند الله سبحانه وتعالى، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

السبت، مايو 10، 2025

جمال الظاهر.. ورسالة الباطن: قراءة في العمارة والفن التشكيلي


 

جمال الهمالي اللافي

في صميم العمارة، وبعمق أوسع في رحاب الفن التشكيلي، يكمن افتراض جوهري: تضمين رسالة جلية، قادرة على استنطاق المتلقي وإدراكه بمجرد التحديق فيها. الحالة الجمالية ليست سوى واجهة مُغرية، بينما الرسالة هي الكنه الحقيقي. وعليه، فإذا تعثر فهم المتلقي في استشفاف هذا المضمون، يصبح الشرح المفصل ضرورة مُلحة لإزالة الغموض.

وإن غاب التفسير المُجلي لمحتوى العمل المعماري والتشكيلي، أو جاء مُناقضًا له، مُدعيًا صفات لا يكتنزها، حينها يفقد العمل قيمته الحقيقية، ويتزعزع رصيد المصمم والفنان التشكيلي من المصداقية. ويجد المتلقي نفسه تائهًا في دهاليز الجهل بقيمة ودور ورسالة العمارة والفنون التشكيلية في شموليتها. ليصبح الجمال السطحي معيارًا وحيدًا للتقييم، مُتجاهلاً العمق والمحتوى وتأثيرهما البالغ.

الجمال عنصر جاذب للأنظار، والقبح عنصر مُنفر للطباع، وكلاهما ليسا سوى قشرة خارجية، لا يمثلان جوهر العمل. فكم من عمل بهيج المظهر يُخفي في طياته قبحًا تستنكره النفوس السليمة. والعكس قد يكون صحيحًا، وإن كان القبح في ذاته مُستكرهًا ولا يُعوّل عليه في حمل أي رسالة قابلة للفهم والقبول وتحقيق الهدف المنشود من العمل. بل إن الآثار النفسية السلبية للقبح في العمل أشد فتكًا في إفساد الفطر السليمة والسلوك القويم، مهما تعددت المبررات الأخلاقية الواهية.

لهذا، فالقبح نادرًا ما يستهدف إيصال رسالة، بقدر ما يسعى إلى تطويع السلوك ليصبح مُستسيغًا لكل فعل شائن في الحياة. أما الجمال، فهو أداة جذب وإثارة للحواس، تستدرجها لتقبل ما قد ترفضه. وتعيش نشوة اللحظة دون اكتساب أي منفعة مُستدامة، سوى المزيد من الانغماس في الملذات والذهول عن البحث عن الفائدة وتحقيق المصلحة النافعة للفرد والمجتمع.

وعليه، فإن لوحة الخط العربي التي تحمل آية قرآنية مُنيرة أو حديثًا نبويًا بليغًا أو حكمة راسخة، تكون أعمق أثرًا في نقل معنى مُحدد وهدف واضح. وهذا لا يقلل من قيمة فن الحروفيات الذي يُمثل بدوره احتفاءً فريدًا بجمال الحرف العربي وقوته الكامنة. ففي تركيزه على جماليات التكوين الشكلي للحروف والألوان، يُبرز فن الحروفيات جوهر الحرف العربي ككيان جمالي مستقل، قادر على إثارة المشاعر وتقديم متعة بصرية راقية. ولعل في إشارات المولى عز وجل في العديد من سور القرآن الكريم، التي استُهلت بحرف أو عدة حروف لا يزال سرها مُستغلقًا على الفهم، دليلًا على القوة الخفية والقيمة الذاتية العميقة التي تحملها هذه الحروف.

الأمر ذاته يتجلى في العمارة المُفتقرة للهوية، فهي خليط مُشوّش من تراكيب الكتل الإسمنتية والزجاج وأنواع الأحجار وتشكيلات المعادن والخشب. تُبهرك بجمالها الصامت، دون أن تُحدّثك عن شيء. تستغفلك بواجهاتها البراقة لتُخفي خلفها عيوبًا ومساوئ لا تُحصى. تأخذ بك مذاهب شتى، ولا تُمكنك من الاستقرار للحظة على أرض ثابتة. تُحوّلك إلى ريشة مُعلّقة في مهب الريح.


الثلاثاء، مايو 06، 2025

العمارة وتأثيرها على الكرامة الإنسانية: قراءة في أفكار سينكلير جولدي



جمال الهمالي اللافي


مقدمة

العمارة ليست مجرد تصميم وظيفي، بل هي لغة تبني العلاقات بين الناس. عندما يكون الفضاء المعماري مصممًا لتشجيع اللقاءات والتفاعل الإنساني، فإنه يعزز الترابط الاجتماعي، حيث يكون التصميم موجّهًا نحو خلق بيئة تحتضن العيش الجماعي، التلاحم، وتعزيز الانتماء. هذا يعاكس الاتجاه السائد في المدن الحديثة، التي تضع الفرد في عزلة داخل مساحات معمارية ذات طابع منفصل عن السياق الاجتماعي.

في كتابه تذوق الفن المعماري، يطرح المعماري سينكلير جولدي رؤية عميقة حول تأثير البيئة المبنية على الإنسان، محذرًا من أن العيش في فضاءات غير ممتعة أو مفتقرة للتنظيم يمكن أن يؤدي إلى تآكل الكرامة الإنسانية، وانتشار مشاعر الإحباط واللامبالاة. يرى جولدي أن المجتمع الذي يتجاهل أهمية العمارة كعنصر أساسي في جودة الحياة يخاطر بتشكيل بيئة تدفع الأفراد إلى تكيف قسري يفوق طاقاتهم النفسية، مما يخلق مواطنين غير مبالين وفاتري الشعور.

البيئة المعمارية وتأثيرها النفسي والاجتماعي: بين الراحة والاغتراب

الفضاء يمكن أن يكون مصدرًا للأمان أو للاغتراب، بحسب كيفية تصميمه. يشير جولدي إلى أن الفضاءات غير المدروسة، والتي تفتقر إلى الانسجام أو تهيمن عليها الفوضى البصرية، يمكن أن تؤثر سلبًا على المزاج العام والاستقرار النفسي. فعندما تكون المدن والمباني غير مدروسة من حيث التناسق أو الضوء الطبيعي، فإنها تفقد قدرتها على توفير بيئة محفزة ومريحة، مما يؤدي إلى حالة من الاغتراب النفسي.

هذا التأثير ليس مجرد جانب جمالي، بل يمتد إلى العمق الاجتماعي؛ فالمساحات العامة المصممة بإهمال تعيق التفاعل المجتمعي، بينما الفضاءات المدروسة تعزز الترابط، الراحة النفسية، والانتماء.

من هنا، يظهر أن العمارة التي تدمج الضوء الطبيعي، النسب المتوازنة، والخامات العضوية، يكون لها تأثير مهدئ ويعزز الراحة النفسية، على عكس الفضاءات ذات الألوان الباردة، الإضاءة الاصطناعية الحادة، والزوايا غير المدروسة، التي قد تولّد شعورًا بالتوتر أو العزلة.

المسؤولية المجتمعية في تشكيل الفضاء المعماري

وفقًا لجولدي، فإن المسؤولية عن تحسين البيئة المبنية لا تقع فقط على عاتق المعماريين، بل هي جهد مجتمعي متكامل. على المواطنين إدراك تأثير المكان على مشاعرهم، والمطالبة ببيئات تعزز الراحة والتوازن النفسي بدلاً من أن تكون عبئًا على الحياة اليومية.

هنا تتقاطع أفكاره مع مفهوم "حوش العيلة" في العمارة الليبية، الذي يستجيب للتحديات التي يطرحها جولدي، حيث يتمحور حول التواصل الاجتماعي، الاستدامة، والانتماء الثقافي، مما يجعله نموذجًا حيًا يعكس أهمية البيئة في بناء مجتمع متماسك ومتفاعل.

الهوية المعمارية كامتداد للذاكرة الجمعية

المباني ليست مجرد هياكل وظيفية، بل هي وعاء يحمل ذاكرة الناس وهويتهم. حين تفقد المدن عمقها الثقافي بسبب توجهات عمرانية تفتقر إلى الأصالة، فإنها تفقد قدرتها على ترسيخ الانتماء وتعزيز الترابط بين الأفراد والبيئة. يرى جولدي أن المجتمع الذي يهمل أهمية العمارة كعنصر أساسي في حياته اليومية يهدد بقاءه، ويترك أفراده في عزلة نفسية مستمرة.

نحو استدامة عمرانية تحترم الإنسان

المعماريون اليوم يواجهون تحديًا كبيرًا: كيف يصممون مساحات تراعي الإنسان، ثقافته، ونفسيته، دون أن تكون مجرد استجابة سطحية للمتطلبات الاقتصادية؟ هذا يتطلب إعادة التفكير في مفهوم العمارة، ليس فقط كإنشاء مادي، بل كأداة لتحقيق التناغم بين الإنسان وبيئته.

إذا أردنا تطبيق أفكار جولدي عمليًا، فنحن بحاجة إلى نهج معماري يستعيد قيم الانسجام والهوية الثقافية، بحيث تكون العمارة وسيلة لإثراء المجتمع وليس مجرد استجابة لمتطلبات السوق. في هذا السياق، يمثل مفهوم "حوش العيلة" نموذجًا للتصميم الذي يضع الإنسان في قلب الفضاء المعماري، بدلًا من أن يكون مجرد عنصر ضمن مخططات عمرانية جامدة.

حوش العيلة: نموذج محلي يعزز الكرامة الاجتماعية والانتماء

في سياق العمارة الليبية، يمثل "حوش العيلة" نموذجًا حيًا للفضاءات المعمارية التي تعزز التواصل الاجتماعي، الترابط العائلي، والانتماء الثقافي، وهو ما يتوافق تمامًا مع الطرح الذي قدمه سينكلير جولدي حول أهمية البيئة المبنية في تشكيل الكرامة الإنسانية.

التصميم المكاني والاستدامة الاجتماعية

يعتمد تصميم حوش العيلة على الساحة الداخلية المفتوحة (الفناء)، والتي تعمل كنقطة تجمع طبيعية تجمع أفراد العائلة في فضاء مشترك، مما يعزز التفاعل اليومي، التآلف بين الأجيال، ويمنح شعورًا بالأمان والانتماء. هذا يتناقض مع العمارة الحديثة التي كثيرًا ما تعتمد على تصاميم انعزالية تقلل فرص التواصل الاجتماعي، مما يؤدي إلى تفكك العلاقات المجتمعية.

كما أن هذا النموذج يقدم استدامة اجتماعية، حيث يدعم التكافل الأسري والتعايش المشترك، ويتيح للعائلات العيش في بيئة متماسكة بدلًا من الاعتماد على السكنات المتفرقة التي تقلل فرص الترابط.

الهوية الثقافية والعمارة الأصيلة

يرى جولدي أن الفضاءات غير الممتعة أو المفتقرة للنظام تؤدي إلى إحساس باللامبالاة، وحوش العيلة يعكس كيفية تجاوز هذا التحدي من خلال تصميم متجذر في الثقافة الليبية. فبدلًا من أن يكون مجرد بناء وظيفي، يحمل في طياته الذاكرة الجمعية، حيث يمثل أحد أشكال العمارة التي تحافظ على التراث وتحترم التقاليد، مما يعزز إحساس القاطنين فيه بالهوية والاستمرارية الثقافية.

إسقاط "حوش العيلة" على مستقبل العمارة الليبية

تتجه العمارة الحديثة نحو العزلة والانفصال، بينما يطرح حوش العيلة بديلًا يعيد إحياء العلاقات الاجتماعية في قلب التصميم المعماري. إذا كنا نبحث عن بيئات مبنية تعزز الكرامة الإنسانية، فلا بد من إعادة التفكير في كيفية دمج نماذج مثل "حوش العيلة" في مشاريع معمارية حديثة، بحيث لا يكون مجرد نموذج تقليدي، بل أساسًا لمنهجية عمرانية أكثر ترابطًا واستدامة.

ختامًا: من العمارة إلى الإنسان

في نهاية المطاف، يرى جولدي أن العمارة ليست مجرد إطار مادي للحياة، بل هي قوة تؤثر في النفسية والمجتمع، ويمكن أن تكون إما مصدر إلهام وتعزيز للكرامة، أو سببًا في خلق بيئات تضعف الروح الإنسانية. إذا كان الهدف هو عمارة لا تحبط الإنسان بل تحتفي به، فعلينا إعادة صياغة نظرتنا للتصميم بحيث يعكس قيمًا ثقافية واجتماعية متجذرة في التجربة الإنسانية.

 

 

 

الفكرة الأساسية لهذه المقالة تستند إلى كتاب سينكلير جولدي" تذوق الفن المعماري". 

الاثنين، مايو 05، 2025

المعمار العربي: بين التقليد المتأخر وفقدان الهوية

نموذج معاصر للحوش الطرابلسي محوره الفناء


جمال الهمالي اللافي

في رحلة تطور المجتمعات، تمثل العمارة مرآة تعكس التحولات الثقافية والاجتماعية، حيث لا يمكن فصلها عن مسار الفكر السائد والقرارات الاقتصادية والسياسية. إلا أن ما نلحظه في الواقع العربي المعاصر هو نوع من التقليد المتأخر، حيث تُعتنق الأفكار المعمارية بعد أن اختبرها الغرب، واستنزف عيوبها، ثم تخلى عنها. وعندما يتبين للعالم العربي فشلها، يأتي الدور الليبي ليكرر التجربة، ليس فقط دون تحليل أو مراجعة، ولكن عناداً وكِبراً، كما لو أن مجرد رفض الاعتراف بالخطأ يمنحه شرعية النجاح.



التقليد غير الواعي وغياب البصمة المحلية

المعمار العربي لم يكن يوماً مجرد تراكم من الجدران والأسقف، بل كان يحمل في طياته فلسفة العيش، ويوازن بين البيئة والوظيفة والجمال. بيد أن دخول الحداثة، بشكليها العشوائي، أدى إلى استيراد نماذج معمارية غير متكاملة مع السياق المحلي، حيث غابت المعايير التي كانت تضبط التناسب بين المساحة والمناخ والثقافة، ليحل محلها التقليد الأعمى لما يبدو "حديثاً" و"عصرياً"، بغض النظر عن ملاءمته للواقع.

يمكننا أن نلاحظ كيف أن مشاريع الإسكان الحديثة في كثير من الدول العربية فقدت الطابع الذي يجعلها امتداداً طبيعياً للبيئة، كما فقدت روح الترابط الاجتماعي التي كانت معمارياً تُجسد في أنماط السكن الجماعي مثل "حوش العيلة"، الذي كان يراعي فكرة العيش متعدد الأجيال في إطار متكامل. اليوم، أصبحت الأبنية مجرد كتل صماء، معزولة عن هويتها الثقافية، وغير قادرة على خلق التفاعل الاجتماعي الذي كان يميز العمارة التقليدية.


دورة الفشل: من الغرب إلى العرب إلى ليبيا

التجارب الفاشلة للغرب في المعمار ليست مجهولة، بل موثقة ومعروفة: عشوائية البناء السريع، التغاضي عن الاعتبارات البيئية، خلق مدن غير إنسانية بمبانٍ شاهقة تخنق روح المجتمع. ورغم أن الغرب نفسه بدأ مراجعة تلك الأفكار، ساعياً إلى العودة نحو التكامل بين الإنسان والبيئة، فإن العالم العربي يظل متأخراً بآلاف الخطوات، حيث يتبنى الأفكار بعد سقوطها، ويكرس الأخطاء التي تم التخلي عنها.

في ليبيا، تسير الأمور وفق نمط أكثر تأخراً، حيث لا يتم اعتماد النموذج الغربي إلا بعد أن يثبُت فشله عربياً. وهنا تتجلى المفارقة: لا يتم استيعاب الفشل ولا التعلم منه، بل يُعاد إنتاجه بصيغة أكثر هشاشة، حيث تغيب أدوات النقد والتحليل التي تمكن من استدراك الخطأ وتعديله قبل تبنيه بالكامل.



نحو عمارة أصيلة تعيد التوازن

السؤال الذي ينبغي طرحه هو: كيف يمكننا كسر هذه الدورة؟

الحل لا يكمن في رفض الحداثة أو العودة العمياء إلى التراث، بل في إيجاد نقطة التوازن حيث يكون للعمارة دور واعٍ في التعبير عن الهوية واستيعاب المستجدات. إن إعادة إحياء المفاهيم الأصيلة، مثل التكامل بين الإنسان والبيئة، والارتباط الثقافي بالتصميم، يمكن أن تكون أساساً لتطوير نماذج معمارية أكثر انسجاماً مع واقعنا الاجتماعي والمناخي.

ما نحتاجه ليس مجرد تصاميم جميلة، بل فلسفة واضحة تعيد تعريف العمارة كوسيلة لبناء مجتمعات متوازنة، تتجاوز التقليد المتأخر، وتؤسس لمنهج نقدي يحفظ الهوية ويستوعب التطور دون أن يكون مجرد تابع متأخر لأفكار سبق أن تم التخلي عنها.

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية