الجمعة، سبتمبر 19، 2008

العمارة... قضية ورسالة



جمال الهمالي اللافي


مقدمة/
لا نشك لحظة في أن الجميع يتفق على تحديد مفهوم الخيانة على كافة المستويات بدء بالخيانة الزوجية وانتهاء بخيانة الوطن والأمة. كما أن الجميع متفق على العقوبة التي يستحقها الخائن ويشدد عليها.

ورغم أن الجميع يعرف جيدا كيف يحدد طبيعة الخائن ويستكشف وسائله وأدواته في ممارسة دوره كخائن لأمته... إلاّ أن هناك حالة لم يستطع أحد منا أن يحدد مسؤولية صاحبها وهل يمكن توقيع تهمة الخيانة العظمى عليه أم يستثني أعماله من ذلك.

· نعرف السياسي الخائن والمتواطئ مع أعداء الأمة، من شعاراته التي يرفعها، من خطاباته التي يلقيها ومن مواقفه تجاه قضايا أمته المصيرية.
· نعرف جميعا خيانة المثقف لأمته من خلال كتاباته ونصوصه الأدبية.
· ونعرف الإعلامي الخائن من خلال تحليلاته للأحداث.
· كذلك نميز الفقيه الخائن لأمته من خلال الفتاوى التي تبرر للعدو ما يفعله وتصبغها بالصبغة الشرعية.
ما من دور يمارسه الخائن لأمته والمتعاطف مع عدوها إلاّ ونستطيع تحديد ماهيته من خلال فهمنا العميق للدور الذي يلعبه أو يمارسه علينا.
صنف واحد لا زال يمارس مهمته في خيانة أمته ولكن حتى هذه اللحظة لم توجه إليه أصابع الاتهام أو الحكم عليه بالخيانة.... لا لشئ إلاّ لعدم فهم الناس لطبيعة دوره الخياني وكيف يمارسه.

لن أطيل عليكم وسندخل في الموضوع مباشرة، ونطرح عليكم هذا السؤال:

هل يمكن للمعماري أن يخون أمته؟ وكيف يفعل ذلك؟
لاشك في أن تهاون المعماري في أصول ممارسته لمهنته وتقصيره في المسؤوليات الملقاة على عاتقه والتي تحملها عن طيب خاطر في إطار عمله الذي يأخذ عليه أجرا، يعتبر جرما كبيرا يستحق العقاب الرادع. وهي تعتبر في حكم المشرّع خيانة للأمانة يعاقب عليها المرء في الدنيا والآخرة. .... ولكن من الناحية الفكرية، لو سلمنا بأن هذا المعماري حريص على إتقان عمله/
· فهل يحق للمعماري المسلم أن يتبنى أي منهج فكري أو نظرية معمارية ويطبقها على أرض الواقع في شكل مشاريع هندسية أو محاضرات أو مقالات؟
· وهل هو حر في اتخاذ الاتجاه المعماري الذي يراه مناسبا له، أم هو مقيد بمنهج معين؟
· ما هو هذا المنهج الذي يجب على المعماري المسلم الالتزام به ولماذا؟
· هل العمارة قضية وهمّ يحمله المعماري على عاتقيه؟ أم هي مجرد هواية يحترفها ليتعيّش منها ويمارس من خلالها رغبته في إبراز قدراته الإبداعية على مجاراة أحدث الصرعات في العمارة وتطويع نظم الإنشاء لتحقيق أشكال جمالية متنوعة وربما وظيفية؟
· هل المعماري على وعي تام بما تعنيه هذه النظريات الحديثة والمنهج الذي تدعو إليه، أم يراها مجرد مدارس معمارية تسعى لتجديد العمارة ومواد وتقنيات البناء وتطويعها لخدمة الإنسان؟
· وهل هناك ضير في تبني أي مدرسة معمارية غربية أو شرقية مهما كانت أهدافها النظرية التي تروج لها؟
· هل نعتبره من دعاة التجديد والتطور والتنوير؟ أم نعتبره خائنا يروّج لفكر هدام ويعادي قيم المجتمع وعقيدته؟
وأخيرا هل العمارة مفصومة عن الفكر الذي تنطلق منه؟
لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل العمارة عن الفكر الذي تنطلق منه، بل هي تتويج له وتطبيق عملي لمنظومة القيم التي ينادي بها.... والمعماري كمفكر وفنان وعالم يفترض أنه يعي جيدا ما يفعل. وأن العمل المعماري ليس مجرد هوى يقود صاحبه كيفما شاء، بل هو أداة طيعة بين يديه، يوجهها هو كيف يشاء.
ومن هنا نستطيع أن نحدد بعض الأدوات التي يتورط المعماري والمخطط من خلالها تحت طائلة الخيانة وتدمير كيان أمته وقيم مجتمعه، سواء كان ذلك عن قصد أو حسن نية وهي:
1- المناهج التعليمية بكليات وأقسام العمارة وتخطيط المدن/ والمسئولية هنا تقع على عاتق المعلم الذي يغرس في عقول طلبة العمارة هذه المفاهيم ويرسخها في وجدانهم على أنها الحراك الطبيعي لسنة التطور في الحياة. وأن القيم التي انطلقت منها العمارة التقليدية وشواهدها وتطبيقاتها أصبحت من الماضي الذي يجب عدم الالتفات إليه والاكتفاء بدراسته على أنه جزء من تاريخ تطور العمارة عبر العصور. ويضعه كجزء يسير في حلقة كبيرة من منهج تاريخ العمارة ويسمي هذا الجزء تاريخ العمارة الإسلامية.

2- قوانين المباني وتشريعاتها/ المستقاة مصدرها إن لم نقل المستنسخة بنودها حرفيا من النظم والتشريعات الغربية، شأنها في ذلك شأن القانون المدني وقانون الأحوال الشخصية في القضاء. فهي أحدى الأدوات المهمة التي مارس ويمارس المعماري من خلالها خيانة أمته. وذلك بترسيخها كنظم معمول بها بديلا عن أحكام البنيان المأخوذة نصوصها عن الشريعة الإسلامية والتي على ركائزها قامت مخططات المدن والعمائر الإسلامية وازدهرت. وهو عندما استنسخ قوانين تشريعات المباني الغربية يقع تحت أمرين:
أولهما/ أنه عندما تمّ تكليفه بوضع قوانين جديدة تنظم حركة البناء والتعمير، لم يكلف نفسه عناء البحث والتطوير، بل سارع إلى استنساخ ما وجده جاهزا وقدمه. وهذه مصيبة كبيرة.
وثانيهما/ أنه تعمد أن يستبدل أحكام البنيان المعمول بها في تخطيط المدن الإسلامية والتي كانت سائدة في المجتمع وأحل بدلا منها التشريعات الغربية. وهو عالم بما سيترتب عنها من تغيرات في قيم المجتمع لأمر في نفس يعقوب. والمصيبة هنا تكبر وتعظم.

3- تبني النظريات الغربية والترويج لها/ عبر مشاريع عمرانية ومعمارية يدك اسفينها في عمق أراضينا وأفكارنا وأهمها/
• نظرية الحداثة/ التي ترفض كل شئ مرتبط بالغيب وتعلي من شأن العقل على حساب النص. وأي نص إنه الكتب السماوية، إنه التوراث والإنجيل والقرآن.
• نظرية ما بعد الحداثة/ تعلن موت الله وانتصار الإنسان وتمهد لنظرية التفكيك التي تدعو للتشكيك في كل القيم وتحطيمها وعدم إعادة بنائها وتنادي بالحرية المطلقة التي لا تتقيد بأي قيمة أخلاقية.

وخلاصة القول/
أننا لا يمكن أن نبرئ المعماري من تهمة الخيانة العظمى، عندما يحيد عن المنهج ومنظومة القيم التي يدين بها مجتمعه. وهو- كما تفرضه طبيعة المهنة- يصمم ويخطط لمجتمعه وليس فنانا تشكيليا يرسم لوحة تعبر عن خلجات ذاتية مفصوم أثرها وعراها وتأثيرها عن المجتمع الذي ينتمي إليه. ولو أننا هنا لا نبرئ أي فنان أو مفكر أو قائد أو عامل يسخر إمكانياته لضرب منظومة القيم والعقيدة التي قبلها المجتمع عن قناعة راسخة وأصبحت جزءا من كيانه ووجدانه وحياته وموته.

وأخيرا/
هل يمكن التوفيق بين المنجز الحضاري الغربي أو الشرقي المعاصر وتوظيف بعض الجوانب الإيجابية فيه، كتطور التقنية ومواد البناء. وإعادة توظيفها في صياغة عمارة إسلامية معاصرة دون المرور على الفكر الذي يختفي وراءها ويخفي وراءه تلك القيم والمفاهيم الهدامة؟ أم ليس لنا بد من حمل الجمل بما حمل؟

وسنصل في النهاية إلى قناعة واحدة وهي أن مجال العمارة والعمران هو فكر ومنهج يوضع ويؤسس له وليس مجرد خربشات جميلة على صفحات الورق.


وضوح الرؤية يساعد على تحديد الأهداف ويرسم الطريق إلى الغاية المنشودة.

السبت، سبتمبر 13، 2008

تأملات في مرآة غدامس



جمال الهمالي اللافي


روح المدينة في حركة سكانها بعاداتهم وتقاليدهم الأصيلة،
فإذا غابت هذه العادات والتقاليد،أضحت المدينة جسداً بلا روح .


كان لقاءي بصاحبي اليوم يختلف كثيراً عن لقاءاتي السابقة به، فهو على غير عادته يبدو شارد الذهن، مستغرقاً في تفكير عميق وكأنه يغوص في أغوار نفسه باحثاً عن حقيقة أمرٍ بات يحيره.


جلستُ على الأريكة أمامه في صمتٍ أضفي على الحجرة جواً من الخشوع والترقب، وتساءلت في نفسي عن سبب هذا الشرود الظاهر. وعن حقيقة الأمر الذي شغله عن كل ما يحيط به، حتى أنه لم يرد على تحيتي، التي رددت صداها الجدران، ولم يكن لها أي صدىً في نفسه.

رفع رأسه ونظر إلى نظرة اعتذار وقطع الصمت مجيباً على تساؤلاتي وكأنه قرأ أفكاري وعلم بما يجول في خاطري قائلاً :
- عذراً صاحبي على سوء استقبالي لك ، ولكني أجدني اليوم منشغلاً عما حولي بأمرين، اقلب الفكر بينهما علني أصل إلى بواطن العلاقة التي تربطها معا، فترتاح نفسي إلى ذلك .

نظرت إليه باستغراب متسائلاً عنهما!
فقال سأروي لك قصتي معها منذ البداية، فقصتي هذه نسجت أحداثها من التاريخ، وأعطت الدور فيها لمدينة ضربت بجذورها في أعماقه حتى صارت جزءاً لا يتجزأ منه، تحكي كل زاوية وحجر فيها عن حدث من أحداثه، فكان لابد لمن أراد أن يستشف أحداث التاريخ من منبعه، أن يشد الرحال إليها.


وهذا ما فعلته حينما حزمت حقيبتي متوجهاً صوبها يدفعني حنين إلى سبر أغوار التاريخ وجرأة إلى استشفاف غوامض هذه المدينة التي جسدت انتصار الإنسان على قسوة الصحراء، كما جسدت نقاء عمارتها وفنونها المحلية من كل شائبة تشوبها. فهي لم تخضع لتأثيرات الفاتحين أو الغزاة، وظلت شاهداً حياً على إبداع أبنائها الذين جعلوا من جحيم الصحراء جنةً وارفة الظلال، دانية القطوف لتبدو في بحر الرمال الذهبية، المترامي الأطراف وكأنها علم يستدل به الضــال أو العابر طريقه إلى النجاة والأمان.

وفي تلك المدينة رأيتها، كانت تبدو وكأنها خرجت من أعماق التاريخ. كانت امرأة عربية بكل ما تحمله الكلمة من معاني ، رأيت فيها تلك المرأة التي تغزل الشعراء بمحاسنها، وعدد الحكماء مآثرها.
كنت اعتقد أن مثلها صارت مجرد تاريخ غابر يروى، فإذا بها حقيقة ماثلة أمامي، تُرى بأم العين بعد أن حجبتها عن الناظرين ستائر الحضارة الغربية بكل زيفها وهشاشتها.


نظرت إليها فرأيت ليلى العامرية بكل حسنها وظرفها الذي أوحى لقيس بن الملوّح بأروع أشعاره، كما رأيت فيها هند بنت عتبة بحضورها المؤثر واعتدادها بنفسها، ودفاعها عن قناعتها بكل ما فيها من قوة الحضور وسرعة البديهة وحسن البيان، ورأيت فيها الخنساء، وهي تغرس في نفوس أبنائها معاني التضحية والفداء وتدفع بهم إلى معارك الجهاد دون أن تذرف لها دمعة، فهي تعي جيداً أن استشهادهم دفاعاً عن الحرمات هو الخلود بعينه.
وأكثر من ذلك أني رأيت فيها كبرياء هذه المدينة وأصالتها التي لم تستطع دعاوى التحضر والانقياد وراء الثقافات الغربية أن تمحو صورته، لأنها نبتت من طينة هذه الأرض، ومدت جذورها في أعماق تربتها حتى صارت جزءاً منها.


كذلك هي، ولدت على هذه الأرض، وفي هذه المدينة كانت تكبر وتستمد قوتها من ثمراتها، فاكتسبت شموخها من شموخ نخيلها، ولفحتها الصحراء بسمرة تعادل سمرة رمالها، وزينتها بساتين المدينة، فاكتست حسنها من حسن أزهارها… رأيت فيها عظمة هذه المدينة. و جمال مبانيها. توحدتا معاً فصارت هي الروح والمدينة جسدها إلى أيهما نظرت تجسدت الأصالة في أبها معانيها والشموخ في أرقى مراتبه.
كانت امرأة عربية بكل ما فيها من عفة وطهارة وعطاء وسحر … سحر استمد قوته وتأثيره من سحر مدينة غدامس، وامتزجت فيه حرارة عينيها بحرارة صحرائها، فبعثا في جسدي دفئاً غامضاً شعرت خلاله أن التاريخ يقف أمامي وجهاً لوجه، أشم رائحته، واسمع أنفاسه العميقة وكأنه كائن حي متجسد يتسرب إلى روحي وأنفذ إلى أغواره.

وبعد صمتٍ قصير قطعه قائلاً: لم أعرها أي اهتمام في بادئ الأمر فقد كان عقلي وكل جوارحي تغوص في قلب أسرار هذه المدينة. متلهفةً على اكتشاف غوامضها وسبر أغوارها، كنت مشدوداً بما رأيت، وأنا أتجول بين شوارعها المغطاة بالكامل، محولةً المدينة إلى أشبه بوعاء يحفظ الهواء البارد بداخله لتحمـي سكانها من هجير الصحراء اللافح. وبساتينها التي تداخلت مع مبانيها في تناسقٍ عجيب، وقد زرعت فيها أشجار النخيل والعنب والتين … والرمان الذي صنعوا من أزهاره الحمراء ألوانا زينوا بها جدران بيوتهم وحجراتها برسوماتٍ على أشكال المثلثات. ونسجوا حولها الأساطير حتى أمتزج في بيوتهم غموض الشرق العظيم بسحر قارتنا السمراء.


كما اجروا المياه من عيونها لتصل بساتينهم ومساجدهم عبر دروبٍ ضيقة وجعلوا بينهم القادوس ميقاتاً يسقي كل واحدٍ فيه زرعه في نظامٍ وتناسقٍ بديع .. فلم يتركوا بقعة جذبة إلا هزوا تربتها واحيوا مواتها فاستحالت غدامس تحت سواعد أبنائها إلى روضةٍ من رياض الجنة تفيض أزهارا وثماراً وتسيل عيوناً وغدراناً… كنت مشدوداً إلى غدامس بجمالها، الذي حجب عني كل جمال وسحرها الذي أبطل عني مفعول كل سحر.

مرت الأيام سريعةً. وعدت من رحلتي لأكتشف بأني قد نسيت قلبي، حيث تركته معلقاً على مشجب عينيها فلم ادر هل ألوم نفسي على تجاهلي لوجودها وحضورها في هذه المدينة أم التمس لها العذر ؟

أطرق في صمت للحظات ثم نظر إلي قائلاً : استحلفك بالله يا صاحبي أن تصدقني القول ـ فأنت وحدك من رآها وسمع صوتها وهي تناديني عبر دروب المدينة... هل أخطأت حينما فتنت بجمال غدامس عن جمالها وانشغل قلبي عنها ... أم أن سحر عينيها كان أقوى من أن يحتمله قلبي، الذي ما انشغل يوماً بغير سحر المدن القديمة. وهل كنت مخدوعاً بحبي لهذه المدن. أم أنها لم تجد لها منافساً على قلبي قبل هذا اليوم ، فظلت مرتعاً خصباً لروعتها وسحرها، حتى جاءت من نفضت عنه غبار هذه المدن وركامها لتتربع على عرشه دون استئذان.

نعم، دون استئذان، فقد عزمت الرحيل إلى غدامس ليكون لي موعداً مع هذه المدينة لا غير.. فإذا بي أعود والشوق يحملني إلى عينيها وصرت أرى غدامس من خلال هذه الحسناء .. اسمع صوت الطرقات تترنم على إيقاع مشيتها، وأرى رحابة الدار على بسمتها، واطل على بساتين غدامس من نافذة عينيها واشم فيها عبق الحاضر المعطر بعبير تاريخها الأصيل.

أشحت بوجهي عن المرآة بعد هذا الحوار الصامت ـ لقد كان فعلاً شخصاً آخر هذا الذي رأيته يحاورني خلف المرآة- ولم يخطر ببالي يوماً أنه سيكون لي مع نفسي مثل هذا الموقف.

شعرت برجفةٍ غامضة تهز كياني، وتساءلت في حيرةٍ عن كنه هذا الإحساس المبهم الذي ينتابني، هل هو شعور الحب الذي يفعل بصاحبه كل هذا الفعل؟
لم أستطع الإجابة عن كل ما يعتمل في صدري من تساؤلات فقمت إلى باب الدار والحيرة تتملكني… نظرت إلى الساعة فوجدت أن الوقت قد حان للذهاب إلى عملي بالمدينة القديمة. خرجت مسرعاً ولكن إلى أين؟.

قادتني قدمي إليها وأنساني سحر عينيها طريقي إلى المدن القديمة. لأبدأ رحلتي من جديـد. ولكن هذه المرة ليس إلى غدامس. بل إلى حسناء غدامس .. وكان اللقاء على مشارف المدينة. وانطلقنا إليها لنغوص في أعماقها بحثاً عن التاريخ.






الأحد 91.7.28 م- مدينة إطرابلس القديمة

الاثنين، سبتمبر 08، 2008

غدامس، جوهرة الصحراء



م. عزت علي خيري



(( وبعد – فاعلم أيها الواقف على هذا أن بلاد غدامس بلاد قديمة من زمان النمرود بن كنعان بن سام بن نوح وقيل قبله .. وقبل فارس من قوم النمرود الذي خرج ماء عينها – ثم بعد ذلك جازت قافلة على الوادي وقيلوا في الوادي ، وتغدوا هناك ، ثم رحلوا وساروا إلى أن باتوا ، فلما أصبحوا أرادوا الرحيل ففقدوا التهم من الأكل ، وقال أحدهم . نسيناها في غدانا أمس ، ثم رجع فارس منهم على إثرهم حتى أتى إلى الوادي وترجل عن فرسه يطلب آلته ، وإذا بالفرس تنبش الأرض وينبع من ذلك الموضع الماء ولذلك سميت بعين الفرس ، وسميت البلاد بغدامس وقيل أول من سكنها اغدامس بن سام والله أعلم )).
" مصطفى خوجة - دفتر غدامس "
في التراث الشعبي عن أهالي غدامس روايات عدة عن نشأة غدامس أشهرها هذه الأسطورة التي بدأنا بها حديثنا وبكل تأكيد يرجع زمن تأسيسها إلى عصر ما قبل الإسلام وقد حررها العرب المسلمون في عام 42هـ وأصبحت تدين بالإسلام ، ولقد اشتهر أهل غدامس منذ زمن بعيد بالتجارة نظراً لموقعها الاستراتيجي عبر الصحراء وتشتهر كذلك بعدة صناعات منها ما يقوم على الجلود وأخرى على النخيل والنحاس والفخار وأهل غدامس أناس طيبون يتمتعون بصفاء النية وبيض السريرة وبهم من الصفات الحميدة والطيبة ما تقل في كثير من الأحيان والأماكن.
ونعود أدراجنا إلى الرواية التي افتتحنا بها هذا المقال والتي يظهر على ملامحها الأسطورة ونسائل: هل كان النمورد وأهله يعرفون اللغة العربية حتى يقول هؤلاء غدانا أمس؟ بهذا الضبط والإيقاع أنما نكتفي بالقول هنا بأن غدامس هي ( سيد أموس ) وهي كلمة غير عربية ولا صلة لها بغدامس. ورواية الفارس قد رويت أيضاً عن عقبة بن نافع عندما فتح جرمه وكر راجعا.
وأول من سكن غدامس بنو ماني وبنو مازيغ وأصلهم من فزاره ( وفي رواية قراره ) بنوها وعمروها وتناسلوا فيها حتى صارت مدينة ثم دمرت ثم صارت قصورا ثم دمرت ثم صارت مدينة ثم انقرض بنو مازيغ وأعقبهم بنو ماني وتولوا البلاد ثم تناسلوا إلى أن وصلوا إلى بني وليد وبنو وازيت كما التقسيم الموجود أسفل.

غدامس في المعجم بضم العين وفتحها وأعجام الدال هي بلد بالمغرب وذكر أيدي ننتوليسكس( أول من سكن غدامس هو غدامس بن سام ومن هنا أخذت المدينة أسمها نسبة إلى أول ساكن لها) وأضــــاف( غدامس بلد قديم من زمن النمرود بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام ).

عرفها المؤرخ ابن عبد البر الحميري التونسي في كتابه الروضى المعطار في أخبار الأقطــــار( غدامس في الصحراء على سبعة أيام من جبل نفوسة وهي مدينة لطيفة قديمة أزلية من قبل الإسلام واليها ينسب الجلد الغدامسي وبها دواميس وكهوف وكانت سجونا للكاهنة التي كانت بأفريقيا). وأضاف ابن الشباط التوزري في شرحه( غدامس قرية كثيرة النخل وأهلها أكثر طعامهم التمر والكماة). ويذكر ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان( غدامس يفتح أولها… مدينة بالمغرب جنوبية ضاربة إلى بلاد السودان بعد بلاد زغوان تدبغ فيها الجلود الغدامسية) ويمضي فيضف( فيها عين أزلية وعليها أثر عجيب رومي ينبض منه الماء ويقسطه أهل البلد بأقساط معلومة لا يقدر أحد أن يأخذ أكثر من حقه وعليه يزرعون). وقد زارها د. مصطفى محمود ووصفها فقال( وقد بنى الأهالي مدينتهم فوق هذه الأنهار فأصبحت أول مدينة تجري من تحتها الأنهار .. أنها الجنة. أهلها لا يعرفون السرقة ولا القتل والبوليس يجلس فيها بلا وظيفة أمام دفاتر خالية .. وتحجمها روح سيدي البدري. وتجري من تحتها الأنهار .. ولكنه جنة عجيبة درجة حرارتها 48oم).

مدينة غدامس كأي مدينة قديمة توفرت فيها العناصر الأساسية لقيام المدينة ويمكن تلخيص هذه المقومات فيما يلي:-
1- الماء.
2- الظهير الاقتصادي.
3- توفر عنصر الأمان.


أولاً عنصر الماء : وهو أهم عنصر لقيام أية مدينة وخاصة إذا كانت في الصحراء وبالنسبة لغدامس كانت عين الفرس هي أساس الحياة في لهيب الصحراء وجفاف جوها ويمكن القول( غدامس هبة عين الفرس) فبدونها لما كانت حياة ولازرعت تلك المساحات الشاسعة حولها نخيلا ونباتات مختلفة.
وهذه العين ملك للجميع( حبس ) للغدامسية الأوائل ويوزع ماؤها بنظام حسب الأسهم ومنهم من باع نصيبه ومنهم من انتقلت إليه عن طريق الوراثة. وللعين خمس سواقي هي حسب القوة كالآتي :-
v ساقية تصكو ولها 81 سهما.
v ساقية تاروط ولها 27 سهما.
v ساقية تنقبشين ولها 9 أسهم.
v ساقية تتدفران ولها 3 أسهم.
v ساقية تنجناون ولها سهم واحد.
والسنة المائية في غدامس تبدأ من بداية شهر الماء (مايو) وحتى نهاية شهر الطير (ابريل) من كل عام.
v ساقية تاروط لها نائبان وكاتبان أحدهما تصكووذرار والآخر من مازيغ.
v ساقة تنقبشين لها نائب وكاتب من بني وازيت.
وفي نهاية شهر الطير(ابريل) يتم تقديم الحسابات لمجلس الأعيان المكون من المحلتين من قبل النواب والكتاب.. ويتم طريقة حساب كمية المياه التي تنساب إلى المزارع عن طريق وحدة قياس تسمى القادوس ومكانه السوق القديم ملاصقا لجماع يونس ويسمى الشخص المسئول عن ذلك (القداس) ويستعمل سطلا متوسط الحجم وسطه ثقب صغير ويجب أن يملأ ويفرغ عشرين مرة في الساعة الواحدة من خلال الثقب الذي بأسفله والمسافة بين القادوس وأبعد مزرعة لا تزيد عن كيلو مترين وقد ألغي القادوس سنة (1943). وتكون مسيرة المياه بداية من عين الفرس تذهب أولا لأغراض الشرب ثم تمر إلى المساجد لغرض الوضوء والغسل ثم لأحواض الغسيل المختلفة ثم تنتهي في المزارع.

ثانيا الظهير الاقتصادي :
بالنسبة لغدامس كانت التجارة هي المصدر الأساسي للرزق بالإضافة لبعض الزراعات البسيطة والصناعات التقليدية حيث كانت غدامس حلقة وصل للقوافل التجارية القادمة من الشمال إلى الجنوب وكانوا يقدمون الخدمات لعابري الصحراء حيث أن البضائع التي تأتي من أوروبا إلى موانئ طرابلس وتونس وتتوجه جنوبا إلى غات وتمبكتو وبالعكس ويقوم الغدامسية بالشراء والبيع ويقوم هم أنفسهم بهذه الرحلات الشاقة وكانت أثمان البضائع مرتفعة الربح نظراً للمخاطر التي قد يتعرضون لها خلال السفر في الصحراء فكان أهالي غدامس يشترون الصناعات المعدنية والعطور ويبيعون منتجات النخيل والجلود وكما ذكر. محمد الشركس في أحد تعقيباته في المؤتمر العلمي الأول حول الواحات الليبية بتاريخ 5-1-1991م في محاضرة( غدامس وغات توأما الصحراء).
( أن الصحراء بالنسبة للغدامسية كالبحار بالنسبة للفينيقيين).

ثالثاً توفر عنصر الأمان ( السور ) :
غدامس كأي مدينة قديمة لها سور وبوابات والغرض من السور هو تحديد الزمان والمكان والشعور بالأمان داخل المدينة وهو طبيعة سياسية للمدن وقد يكون السور عبارة عن حزام أخضر لغرض الحماية من الرياح وهذا ما كان لمدينة غدامس حيث أنها محاطة بغابات من النخيل ثم يأتي السور الذي يحيط بها من جميع الجهات بما في ذلك المزارع وقد أزيل السور ولم يبق منه سوى جزء من شارع أولاد بالليل وفي أواخر عهد الأستعمار الإيطالي أزيل جانب من هذا السور من الجهة الشمالية من قبل ( الكولونيل زاني ) وهو آخر حكام إيطاليا بغدامس.
أما البوابات الرئيسية للمدينة فهي سبعة أبواب وهي باب جرسان الذي يؤدي إلى شوارع بني وازيت ويقع جنوب المدينة وباب الظهرة كذلك في الجنوب وعلى بعد 200 متر من باب جرسان ويؤدي إلى شوارع بني وليد وهناك أبواب أخرى لايعرف مكانها وهي باب أبو شاتة ، باب شيده ن باب ستثار ، باب النادر وباب زواغة بالإضافة إلى مجموعة من الأبواب الثانوية تقع داخل المدينة ذكر منها باب البرج وباب اندعلاد وباب تنقزين وغيرها. وكل الأبواب كانت في الماضي تغلق ولا تفتح إلا في الصباح عدا باب الظهرة الذي كان حارساً يفتحه ليلاً لسكان المدينة الذي يتعرف عليهم فقط. ومن هنا ننظر إلى الناحية الدفاعية في المدينة حيث الطرق الملتوية تجعل استيعاب مخطط المدينة بالنسبة للغريب غير واضح بالإضافة إلى الظلمة التي تتسم بها هذه الشوارع أضف إلى ذلك أن الفتحات العليا تغلق لزيادة الظلمة في حالة وجود معتدي فيضيع العدو ويسهل السيطرة على الموقف من سكان غدامس عن مدينتهم أمام هجوم الترك بقيادة رمضان بأي صاحب عسكر تونس ( كان يقيمون نهارهم بالبنيان وتهريس البارود ويقيمون ليلهم بالعسه ، فأهل شارع تغرفرة وشارع تصك فزعه وتوقزين وبني درار قسم وجرسان وبن مازيع قسم هذا الاستعداد والتنظيم يعطي فكرة عن تماسك أهل غدامس ودفاعهم في سبيل بلادهم ، تنظيم الشوارع والمحلات وتصيد الأخبار وبعضا منهم جعلوه لرفع الروح المعنوية كما وزعوا الشيوخ على الأحياء والمناطق ).

التقسيم الاجتماعي والعائلي في غدامس/
تنقسم غدامس إلى محلتين هما بنو وليد وبنو وازيت ( بن زيد ) وتنقسم كل محلة إلى مجموعة من الشوارع والشارع في غدامس هو مجموعة من الناس انحدروا من أب واحد ويسكنون بالقرب من بعضهم البعض وهناك آخرون وفدوا بعدهم وسكنوا معهم وتسموا بأسمائهم.
أما محلة بني وليد والتي تقع شمال المدينة فتنقسم إلى ثلاث شوارع هي شارع مازيغ ويميز هذا الشارع عدم التصاقه بأي شارع آخر غير أنه قريب من شارعي المحلة الآخرين ولا يفصله عنهما سوى ساحة التوتة الشهيرة وبهذا الشارع يقع جامع تندرين (( جامع الخطبة )) ثم يأتي بعده شارع درار من جهة ساحة التوتة ويتصل جنوباً بشارع تصكو وهو الشارع الثالث بالمحلة ويعتبر الدعامة الاقتصادية الأولى بالمدينة ويرتبط هذا الشارع كذلك بمدخل إلى ساحة التوتة من جهة الشمال وجنوباً يفتح على ساحة السوق والجامع العتيق أدم مساجد غدامس.
أما محلة بنو وازيت فتنقسم إلى ثلاث شوارع هي شارع تغرفرة وجنوبه شارع تنقزين الذي يتصل كذلك بساحة السوق وبه جامع يونس أما آخر الشوارع بهذه المحلة فهو شارع جرسان وبه ساحة جرسان الشهيرة وجامع عمران.
وهناك شارع سابع بغدامس هو شارع أولاد بالليل واغلب سكانه من سيناون وجاءوا إلى غدامس من زمن بعيد وبنو عمارة تخالف الهندسة المعمارية المعتادة فقد بسطوا البناء واختصروا فيه وأنتجوا نماذج بعيدة عن غدامس التي ارتبطت بالأذهان.

وصف المدينة/

إذا أردنا أن نقدم الوصف الشامل لمدينة غدامس فعلينا بالقيام بجولة داخل المدينة فعند الدخول إلى الشوارع من أي مدخل نشر بتغير مفاجئ لدرجات الحرارة ونحس ما يعرف بالراحة المناخية من حيث برودة الهواء ورطوبته رغم المحيط الصحراوي الشديد الحرارة والجفاف وشوارع المدينة كما ذكر م. فوزي عزيز في محاضرته التي ألقاها في جمعية المهندسين العلمية حول مدينة غدامس بتاريخ 4/9/1989م ( الشوارع هي تلك الأنفاق السحرية من الضوء والظل حنى تسمعنا حديث متناغم بين الإنسان والطبيعة بين الشمس والظل بين الحر ونقضيه.


الشوارع الطويلة المسقوفة والملتوية أزقة ضيقة تفضي إلى أزقة ضيقة هكذا تبدوا للوهلة الأولى متاهة غرائبية من الطلاسم المعمارية في الغموض ) ونمر خلال تلك الشوارع المغطاة التي تعطينا الإحساس بإنسانيتنا حيث نتأكد بأن هذه المدينة خلقت لتكون ملجأ للإنسان من الطبيعة القاسية فالشعور بالأمان والمقياس الإنساني يعطينا الدفاع داخلها دون خوف رغم الظلمة التي قد تبدوا للوهلة الأولى والتي يبددها مرة بعد الأخرى ضوء يأتي من السماء يؤكد مرة أخرى ارتباط الإنسان بمحيطه وبالروح المتدفقة مع الضوء الإلهي لتعطي للمكان روجه الخاصة به. وتشاهد الأبواب الصغيرة المصنوعة من خشب السنور عن ذات اليمين وذات الشمال في إيقاع مستمر وترابط بين المواد العضوية المختلفة. ونمر إلى الساحات وهي مراكز للنشاطات الاجتماعية والاقتصادية تستعمل للجلوس خلال فترات العشية وفي المناسبات حيث يلتقي الجميع ويمارسون طقوس الاحتفالات معاً في كل هدوء والتزام بالإضافة للمجالس الموجودة بالشوارع وهي مجالس منتديات الشيوخ الملاصقة أما مجالس النساء فهي فوق الأسطح أما النوافذ المفتوحة على الخارج فهي صغيرة وأشكالها متنوعة فمنها النصف دائرية والمستطيل والمثلث وأغلبها بها حليات جبسية ذات مثلثات في الأعلى في حالة النوافذ المستطيلة ونرى في أعلى المباني تلك المثلثات التي تفكرنا بالعمارة الإفريقية وهذه المثلثات والتي تعرف بالتشرفت لا يعرف أحداً على وجه التحديد معناها فمنهم من يعتقد أنها من مخلفات عبادة الأوثان وترمز للقرن الذي يرتبط بعبادة الكبش آبيس وعلى كل حال فهي مرتبطة في ذاكرة أهل غدامس بطرد الجن والشيطان وقد يلبسونها قدراً قد استعمل لفترة طويلة حتى يكاد لا ير منه سوى سواده المتفحم وذلك لزيادة التأكيد على طرد الأرواح الشريرة.
وخلال مرورنا بالمدينة نمر على مجموعة من المساجد التي تؤكد التزام هذه المدينة بالإسلام فمن أهمها :-

1. الجامع العتيق
أسس سنة 45 هجرية وهو يتوسط محلتي بني وليد وبنو وازيت وله باب على السوق لا يفتح إلا في الأعياد وأيام الجمعة وبه جزء مخصص لاغتسال النساء وصلاتهم وقد تعرض لغارة جوية فرنسية سنة 1942م.

2. جامع يونس : مساحته أصغر من الجامع العتيق ويقابله ساحة السوق ويقال أنه عندما حدث خلاف بين بني وليد وبن وازيت وبابه الرئيسي يفتح على شارع تنفزين يختلف عن العتيق في أن سقفه مبنى من الأحجار الجيرية يعكس الجامع العتيق المبنى سقفه من السنور وقد أسس في القرن الثامن الهجري.

3. جامع تندرين :
ويقال له ايضا جامع الخطبة ويقع في شارع مازيغ.
وهناك أيضاً جامع عمران الفقيه ويقع بشارع جرسان بجوار ساحة جرسان وجميع المساجد تتوفر فيها مواصفات المساجد الإسلامية من حيث المغاسل وأماكن الوضوء بالإضافة إلى مجموعة أخرى من المساجد نذكر منها جامع أولاد بالليل وجامع الظهرة وجامع عقبة.

البيت الغدامسي/
وبعد هذا الوصف الموجز للمدينة نصل إلى أهم عنصر بها وهو البيت الغدامسي الغريب التكوين ويستعان في هذا الموضوع بالخرائط المعمارية لفهم ذلك التكوين المعقد. فمتوسط ارتفاع المساكن الغدامسية حوالي 10 أمتار والجدران لونها لون التربة التي تنبت بها أي اللون الاشهب ونهاية المبنى تطلى بالجبس وتزين بالأشكال المثلثية والمنازل هناك متضامنة أي لا يمكن تمييز واجهة واضحة مثل واجهات المدن الحديثة وذلك تمشيا مع قواعد البناء البيئية بالمنطقة وغالبا ما يكون الدور العلوي أكبر من الدور السفلي وذلك حتى يمكن تغطية الشوارع والمباني لها حوائط مشتركة.
أما الفتحات فهي صغيرة تكفي لدخول الهواء والإضاءة وذلك نظراً لشدة الحرارة وشدة السطوع الشمسي بالمنطقة.

ندخل المسكن عن طريق الواجهة ( أ ) ثم إلى الطريق المار بالقرب من الواجهة (ب) لنصل إلى المدخل عند زاوية الواجهة ( ب ، ج ) وبعد أن نمر من عتبة الباب الرئيسي ( تافورت ) ندخل إلى ممر( أدجيرد ) ليس له أية فتحة سوى فتحة المدخل ومن ثم نجد إلى اليمين باب يؤدي إلى غرفة تسمى غرفة الممر ( تالي – آن – أدجيرد ) ليس لها أية فتحات على الخارج وهي ابرد الحجرات من حيث درجة الحرارة لذا تستعمل للنوم اثناء الحر الشديد وهي تستعمل أساسا لتخزين الغذاء أو خشب الطبخ والأدوات الزراعية إلى غيرها من لوازم المسكن وقبل أن نصعد السلم المؤدي للدور الأول على امتداد الواجهة ( د ) نلاحظ فراغا محصورا بين حجرة الممر والشارع الملاصق للواجهة ( أ ) على مستوى الدور الأرضي وهي البئر السوداء ( تدجيمي ) الموجودة تحت دورة المياه وهذا البئر يمكن تفريغه عن طريق ثقب الجدار الملاصق للشارع وتستعمل المواد العضوية كسماد عضوي وعندما نصعد على السلم الملاصق للحائط ( د ) ويحمل اسم السلم الكبير ( سلونين ماكوران ) وسقفه على شكل قبو مزين بقطع من الفخار والزجاج وعلى عتبة الدور الأول نجد كوة تستعمل لوضع الأدوات المخصصة للشرب أو ربما فتحة بئر ماء. وفي نهاية السلم نجد في المقابل دورة المياه ( الكنيف ) ولها فتحة على الواجهة ( أ ) وعندما ندور إلى اليمين في العتبة التي في أعلى السلم ندخل إلى قاعة وسط البيت المسماة ( تمانحت ) وتستعمل للمعيشة واستقبال الضيوف ونجد على يميننا سلما يؤدي إلى السطح وعلى يسارنا سلم يؤدي إلى حجرة ( تالى – آن . اسرير ) وتستعمل كحجرة نوم ولها فتحة على الواجهة (ب) وتحتها وعلى مستوى التمانحت توجد حجرة تسمى حجرة التعليق ( تالي أن اسادجل ) الاحتفاظ فيها بادوات الزينة عند الغياب الطويل لصاحب المنزل أو عند اعمال التنظيف والصيانة وعل الواجهة (جـ) نجد ما يعرف حجرة الزواج (القباه) وتستعمل في مناسبات الأعراس وتضع فيها المرأة أطفالها الصغار أثناء انشغالها بأعمال البيت وتقضي فيها فترة العدة في حالة وفاة زوجها وبجانب القباه توجد حجرة الوليدات أما السلم الذي على يميننا في التمانحت فيؤدي إلى حجرة ذات ثلاثة مستويات ( تالى – آن – تردجانيي ) نظرا لوقوعها بين السلم المؤدي من الدور الأرضي إلى الأول بين المستوى الأعلى من الأول إلى السطح ولها فتحة على الواجهة ( أ ) وتستعمل لنوم الأطفال أحيانا حتى يتم الفصل بينهم. وهذه الحجرة غير موجودة في مساكن حي جرسان وخاصة في مساكن الأعيان لأن محاولات بناء القبوة قد باءت بالفشل حيث تشاءموا منها وربطوها بمعتقدات الحسد والعين واستغنوا عن بنائها وعند الاستمرار في السلم المذكور نصل إلى فراغ يسمى حجرة السلم ( تالى – آن – سلومن ) أو ( داف ) وتستعمل لوضع الرحى أو النوم إذا كانت العائلة كبيرة وباستمرار في الصعود نصل إلى السطح( ايندج) أو أرض النساء وعلى السطح يوجد فراغ بدون سقف تسمى ( تالى أن أيندج ) أو ( ترفر ) وهو يستعمل للنوم أثناء الصيف وعلى امتداد الواجهة ( ج ) نجد المطبخ ( أدجورير ) وبجواره توجد حجرة تستعمل كمخزن ( تغارفت ) والمستخدم في تخزين وتجفيف خشب الطبخ ( أزغير ).

وتتم حركة النساء من فوق الأسطح وتقضي المرأة أغلب وقتها فوق الأسطح أو في الحجرة التي بها الرحى ويتم الاتصال بين النساء عن طريق السطح المرتبطة معا بكل رشاقة فتحدث الزيارات وتتم عمليات البيع والشراء (سطوح المدينة مدينة) على رأي الأستاذ فؤاد الكعبازي.

مواد البناء وطرق الإنشاء/المسكن الذي تم وصفه هو المنزل الموجود في الأحياء الستة الأصلية من غدامس أما حي أولاد بالليل فله عمارة تختلف ويعود تاريخ بناء المسكن المذكور سالفا إلى القرن 15 وطريقة بناؤه تكون كالآتي فالأحجار تستخدم في القواعد وحتى ارتفاع متر ونصف تقريباً وذلك رغم وفرة الأحجار في المناطق القريبة والطوب الطيني هو الأكثر شيوعاً ويرجع ذلك لعدم إمكانية ربط الأحجار معاً باستخدام الطين المحلي ويستخدم الطوب الطيني في بناء الجدران والمادة الأساسية لصناعة الطوب هي الطين التي تخلط مع الماء وبعض المواد العضوية (التبن أو روث البهائم) وتوضع داخل قوالب طولية تتكون من أربع قطع من الخشب ويستخدم الطين في ربط قوالب الطوب معاً ، وعند خلط الطين مع بعض الكسار يستعمل في عمل الأقبية والقباب والسلالم أما خشب النخيل فتستخدم الأجزاء العريضة منه في الأسقف والأبواب والخزائن الحائطية ويتم إعداده للاستعمال بأن يخلط بالملح والجير ويدفن في الأرض إلى أن يمر عليه فصل الصيف وهذه الطريقة تستعمل لغرض عزله ضد التسوس المستقبلي. ويستعمل سعف النخيل للأرضيات وبعض الأبواب أما الأوراق فتستخدم لمنع تسرب الطين والجبس إلى الطوابق السفلى من المبنى.
· ويستخرج الجبس من مناطق قريبة من المدينة ويستخدم في الأرضيات وتبييض الجدران وبناء القباه.
· أما الجير المنتج محلياً فيستعمل في تبييض الجدران ومن المواد المستوردة. يمكن ذكر الألواح الخشبية من الأشجار المتنوعة وتستعمل للأبواب السفلية والداخلية والحديد يستعمل لعمل المفاتيح والأقفال والمساند وقضبان الشبابيك.

العناصر الزخرفية الداخلية/
الكوات :- وهي فراغات تحفر في الجدران وتستعمل لوضع أدوات ذات منفعة ولها شكل المربع والنصف الدائري وغالبا ما تحاط بإطار من الجبس وغالباً ما يكون الغرض منها الزينة.
الأعمال الجبسية :- وهي بروزات جبسية الغرض منها الزينة فمنها ماهو إطار مربع أو ماهو مشقوق بالسكين وطريقة تنفيذها إحدى الأسلوبين أما عن طريق تجهيزه بعيداً عن الحائط ثم توضع على الجدار وأخرى تصنع مباشرة على الجدران.
تزيين القبو :- عند صب القبو على التراب يتم الرسم على التراب أولا ومن ثم تظهر النتوءات على القبو وعليها الرسم الذي تم إعداده سابقاً وهي عبارة على أشكال هندسية وأيضاً كتابات وقد تزين بقطع من الزجاج والفخار.
الرسومات الحائطية :- ويتم استعمال صبغات على شكل دقيق يأتي من الشمال وتذاب في مادة لاصقة مصنعة محليا من الصمغ العربي الذي يضاف إليه صفار البيض ويسمى الخليط (زند جافور) والألوان المستعملة هي الأحمر والأصفر والأخضر ويستعمل ريشة الدجاج أوالغراب وأحيانا شر الحصان ووبر الجمل كفرشة للطلاء. والرسومات عبارة عن خطوط هندسية مائلة متقاطعة وتقوم بها النساء بعد أن يبني الرجال البيت. وأماكن هذه الرسومات حول الكوات والأعمال الجبسية والدواليب ومنها ما هي منفردة وهي قليلة وهذه الرسومات يعتقد ان لها مؤثرات من الوثنية والفنون البيزنطية كما يتم أحيانا رسم خاتم سليمان والأوان المستعملة تعبير عن الفراغ اللوني الذي يعيش فيه الغدامسي في الصحراء المحيطة.
الأبواب :- يتم تزيين الأبواب الداخلية فقط وهذه الأبواب مصنوعة عادة من خشب السنور أو خشب بعض الأشجار الأخرى كشجرة الزيتون وكذلك أبواب الدواليب والخزائن مصنوعة من خشب الزيتون وهي متصلة بالإطار بواسطة مفصلات حديدية ومن الجهة الخارجية يتم تزيين الباب بواسطة رسومات نباتية بألوان زاهية.



أدوات الزينة والمفروشات/
1- المرايا :- وهي تستعمل بكثرة لأن الفراغات صغيرة ومظلمة فتعطي الإحساس بالاتساع وعكس الإضاءة مما يزيد من شدتها داخل الفراغ والمرايا منها ما هو موجود مباشرة بالحائط ومنها ماهو معلق.
2- الطور الحائطية :- والتي تمثل معتقدات دينية إسلامية أو روايات شعبية وتستجلب من الخارج.
3- الأطباق النحاسية :- وهي متنوعة وكلما كان عددها كبير في الفراغ كان ذلك دليلاً عل الحالة المادية الحسنة لصاحب البيت وهذه الأطباق ليس لها أي استعمال وتستعمل للزينة فقط ومنها ماهو عمقه 20سم ويزن حوالي (1كجم) والنوع الصغير عمقه 12سم ويزن حوالي (250جم).
4- المشيربات :- وهي مواد من الخشب المزين وتستعمل أساساً للزينة وشكلها مخروطي ومنها الأسطواني لوضع العطور والروائح.
5- الصحون النحاسية :- وهي متعددة الأحجام فمنها الكبير والصغير والمتوسط.
الأطباق:- وهي مصنوعة من سعف النخيل ولها أحجام كبيرة وكذلك أعماق كبيرة في كثير من الأحيان وبعضها نجده مزيناً بأصداف ملونة بألوان زاهية ومواد أخرى ، ويمكن تسميتها بالأطباق الغدامسية نظراً لأن هذه الطريقة غير معروفة في المناطق المحيطة.

يأتي بعد ذلك المفروشات مثل الحصائر التي تستجلب من المدن المجاورة نظراً لرداءة الأنواع الغدامسية الخشنة وتستعمل للفرش ووضعها على الجزء الأسفل من حائط التمانحت كذلك البسط المحلية وهي تصنع في حي بني وازويت وهي غير متقنة ويفضل الأثرياء في حي بني وليد بسط القيروان أو بلاد فارس. ثم تأتي المساند المصنعة من النسيج والنسيج مستورد من الشمال والمساند الجلدية الدائرية ورسوماتها نباتية بألوان مختلفة ثم المساند المستطيلة وتزين بأشكال مربعة وأشكال ثمانية الحواف وتصنع في بلاد السودان ومن المواد المستعملة في التأثيث المراوح المزينة بألوان زاهية من الصوف.

ويجب ألا ننسى الفخار بأشكاله وأنواعه المختلفة ويستعمل في الشرب او لإيقاد النار أو كمصباح زيتي.
وأغلب ما ذكر من عناصر للزينة وأدوات الزينة توضع في صدر البيت وهي حجرة التمانحت فتصبح كالمعرض ليري الزائر جمال البيت من خلال زيارته للتمانحت.

غدامس وموقعها الجغرافي والبيئي/
تقع على خط عرض 8 30 شمالا ويتراوح ارتفاعها 340-370م فوق سطح البحر ويحيط بها حمادة صحراوية واسعة وفي منطقة المناخ الصحراوي ويبلغ المتوسط السنوي للأمطار (3.30 ملم).
ويمتد الفصل الجاف من شهر هانيبال إلى شهر الفاتح وتسقط الأمطار بقية الأشهر بشكل غير منتظم وقد سجل أعلى معدل لسقوط الأمطار الشهري في شهر النوار 1976م فقد بلغ (59.2ملم) بينما سجل اقل معدل سنوي وهو (0.4 ملم) في سنة 1974م وتصل أعلى درجات حرارة الجو في شهر ناصر حيث يبلغ المتوسط الشهري للحرارة (39.94+مo) بينما يسجل شهر يناير أقل معدل لدرجات الحرارة وهو (+10.3مo) وتهب الرياح من الاتجاه الشمالي والشمالي.

ولما كانت " العمارة هي الفن العلمي لإقامة مبان تقنية تفي بالاحتياج المادي والنفسي والروحي للإنسان " د. حسن وهبي ن وجب الاستفادة من القصة الأولى لتستمر القصة وتصبح قصة غدامس بدلا من قصة مدينتين قديمة وجديدة وفي النهاية لا أتمنى لأهل غدامس سوى أن يحتفظوا بتراثهم الأصلي في العمارة وفنون الزينة.

كما يقول م. محمد الباهي ( هي ناتج للإنشاءات المعمارية المعبرة على مستوى ثقافي ونظام اجتماعي لمجتمع تواجد أثناء فترة زمنية من التاريخ).

وكما يقول كريستيان توربوغ– شولتز في مقالته المنشورة بمجلة العمارة والفن سنة 1986م تحت عنوان لغة العمارة المعاصرة ( أن العمارة لغة لأنها أداة مساعدة لحل مشاكل عملية لكن هدفها أن تساعد الإنسان أن يعيش بيئته كمعنى).

المراجع/
1- بشير قاسم يوشع – غدامس ملامح وصور بيروت : دار لبنان 1973.
2- كاتب ج أيمو البيت الغدامسي أعمال معهد الأبحاث الصحراوية باريس 1956.
3- علي مصطفى المصراتي مؤرخون من ليبيا جزء مصطفى خوجه ودفتر غدامس ص127-143.
4- منشورات مركز دراسات الطاقة الشمسية طرابلس.
5- اللجنة الشعبية العامة للإسكان. مشروع تنفيذ 616 وحدة سكنية بمدينة غدامس الحرث 1982.
6- الدليل التجاري لطرابلس الغرب – غرفة التجارة والصناعة بطرابلس الغرب (غدامس بلد السياحة) الصادر عام 1964.
7- مجلة شهرزاد الجديدة العدد الثاني ناصر 1988.
8- مجموعة دوريات ومحاضرات أشير إليها ضمن الدراسة.


الجمعة، سبتمبر 05، 2008

خزف وفخاريات غريان





أ. علي سعيد قانة


يوم الثلاثاء هو يوم السوق بطرابلس، وعنده يتواصل الوافد بماضي وتقاليد المدينة بالمنشية وسكره بآخر تقاليد تسويق الإنتاج رغماً عن وجود الموزع الفرد التاجر وأسواق" السوبر ماركت". لازال سوق الثلاثاء سوقاً لبعض المنتجات الحرفية المكابدة لواقعها.
كنت برفقة أخ في حديث بيئي حول النباتات والزهور والألوان وعلاقتها بالحياة وتجددها وبالعلفة وما يضاف إليها وباللحم وجنون البقر "وبورزات" النايلون وعادم السيارات، عزلتنا خضرة النباتات عما حولنا وانطلقنا في الحديث وتناسينا وجودنا في سوق يعج بالناس والحركة.
توقفنا أمام مجموعة من الأواني الفخارية المعروضة و" المفروشة" على الأرض، وكانت عبارة عن صحون و" معاجن" مشكّلة بالضغط على القوالب أو الدولاب أو بسكب الطين السائل المنزلقات" في قوالب من الجبس، رسمت على أغلبها باقات أو أكاليل من الزهور تتخذ شكل الإناء الدائري، وزخارف أخرى من تكوينات تحوي فروعاً مزهرة متشابكة بأشجار نخيل وثالثة عبارة عن زخارف خطية متعاقدة تحصر فيما بينها مساحات هندسية مزخرفة وقد نفذت هذه الرسومات في أغلبها باستعمال الفرش اللينة طويلة الشعر وباستغلال خصائص وتأثير وضعها وحركتها المختلفة على سطح الأواني الفخارية وهي محملة بالألوان الخزفية.
لاحظ زميلي متسائلاً أو مُصدراً لحُكمه بأن ما هو معروض ما هو إلاّ خزف سوقي، وقد وافقته على قصاصه هذا لأنه حقيقة مؤسفة صبغت أكثر أو غالبية إن لم نقل كل إنتاج غريان من الخزف.
وصل إلى أسماعنا وبشيء من الغضب والاحتجاج المصبوغ بأدب التعامل وخبرة السوق، احتجاج أو تساؤل في محاولة للالتفاف والدفاع ولتحديد المشكلة التي لم تكن واضحة لديه أو لم تكن أصلاً مطروحة في علاقته مع ما جلبه من إنتاج خزفي.
لقد احتج بأدب وبشيء من الترفع قائلاً بأن ما لديه من الخزف ممتاز وأنه معالج في أفران ألمانية تصل درجة حرارتها إلى1300 درجة وأنه غير الفخار العربي المنتج في الأفران المستوردة من مصر وأن الورنيش" الطلاء الزجاجي" الذي يغطي الإناء والرسومات والألوان، ورنيش حراري وليس طلاءً زيتياً أو مائياً.
أخبرناه أن رأينا غير موجه إلى نوعية المنتَج كخامة أو معالجتها التقنية، ولكنه موجه إلى هيئة الإناء وبالتحديد زخرفته وألوانه أي إلى الجانب الإنساني والحسي. عندئذ لاحت نظرة مسيطرة ومتشفية وأجاب باستخفاف:
" آه، عرفت إنكم تبحثون عن التحف المزخرفة" ثم استمر محاولاً لجم الحوار: سأحضر لكم الثلاثاء القادم ما تبحثون عنه".وهو بهذا حاول أمام من تجمّع من رواد السوق والفضوليين تحديد الشريحة الاجتماعية التي ننتمي إليها بتحديد اهتماماتنا، وهي هواجس لا علاقة لها بالواقع العملي للحياة، أي أنه لا علاقة لنا بالحياة الحقيقية، حياة الاستعمال. وأن اهتماماتنا هامشية مترفة، الباحثين عن تحف الزينة، البرجوازيين. إنه السوق وقد اجتهد في الدفاع عن بضاعته بالتهجم.
إن المغالطة الغير مقصودة هنا تمس اتجاهين مهمين في عملية الإنتاج الفني والحرفي وهذه المغالطة أو الثقافة السائدة لدى الحرفيين والتي تمتد إلى غيرهم ممن لهم علاقة بالإنتاج هي التي حددت هذا المسار وأكدت عليه باستمرارية التقليد في الإنتاج بدون الوقوف لتحديد ماهية العلاقة التي بينهما وبالتالي أهميتها.
الاتجاهان اللذان عرض لهما البائع المتجول وحدد موقفه منهما هما:
1- إنتاج التحف أو النماذج الفنية والجمالية، مجال البحث والريادة" الإبداع".
2- إنتاج أواني الاستعمال اليومي على اختلافها للإيفاء بمتطلبات المستعملين على اختلاف مشاربهم.
وهو ما يتطلب تكرار المُنتَج يدوياً أو آلياً مما يؤدي إلى ذبول وهجه وحيويته، وفي الجانب الآخر نجد اهتماماً مرّكزاً بهذا الوهج والحيوية في الإنتاج الفني والجمالي والعزوف عن التكرار والاتجاه إلى العمل الإبداعي المتفرد في البحث عن هيئة الشكل واللون" التحفة الفنية"، هنا تكمن أهمية وضرورة الاهتمام بهذا المجال في البحث الحدسي المجرد من الاستعمال المباشر كرافد ومحفّز ضروري للإنتاج الحرفي والصناعي.
وكما هو معروف تاريخياً فإن إنتاج المستعملات الحرفية الإسلامية اتحدت أو توحدت فيها صفة الاستعمال والجمال وعندما نحاول تحليل هذه العلاقة نجد أنها تتجدر في علاقة الحرفي الماهر والمتفنن بعمله وارتباطه به وتشبعه بجماليات حسية وإيحاءات ذات علاقة بإيقاع الحياة اليومية الروحية منها والمادية، فالفنون والحرف الإسلامية لم تفصل ما بين الحياة الروحية والمادية مثلما لم تفصل ما بين الاستعمال والجمال وهنا الربكة كما يقول الأخ الزويك أي هنا المشكلة أو المعضلة كما أفصح عنها تاجر سوق الثلاثاء المتجول وطرحها كما هي بواقعيتها وعلى حقيقتها. فصل ما بين الإناء وهيئته وما يحمله من زخارف وألوان. أي فصل ما بين الاستعمال والجمال.

الفصل ما بين الإناء وهيئته وما يحمله من زخارف وألوان" أي الفصل ما بين الاستعمال والجمال/
‏ نلاحظ في النتيجة التي توصلنا إليها في حوارنا مع الموزع المتجول وجود ثلاثة عناصر شكلت العلاقة بينها ‏الحكم الذي أصدرناه وهذه العناصر هي:
‏1- الاستعمال.
‏2- هيئة الإناء" الشكل".
‏3- الزخرفة والتجميل" اللون".‏‏
هذه العناصر مجتمعة ومترابطة هي التي تعطي للمستعملات شخصية متميزة تعكس الإنسان والمكان والزمان، ‏فالسيارة التي صممت في بداية القرن تختلف عن سيارة اليوم وسيارة المعسكر الشرقي غير سيارة المعسكر ‏الغربي وسيارة اليابان غير سيارة ألمانيا أو فرنسا بالرغم من روح الفترة التي تسبغ الجميع.‏‏ وتصميم المستعملات" ‏Design‏ " أصبح من أكثر النشاطات فاعلية في الحياة المعاصرة لصلته بالصناعة ‏والتسويق وما من أمة توجهت نحو الإنتاج إلاّ واهتمت بهذا التخصص، ولنا مثال في اليابان التي أرسلت أعداداً ‏غير معهودة من طلابها إلى أوربا قبيل الحرب العالمية الثانية للتخصص في هذا المجال الحديث الظهور الأمر ‏الذي أثار كثيرا من التساؤلات في حينه إلاّ أن النتيجة وضحت بعد نصف قرن ببروز المدرسة اليابانية في ‏التصميم الحديث والمعاصر مواكباً للإنتاج الصناعي.‏‏
هنالك الكثير من الكتابات تحمل آراءً ونظريات ومدارس في مجال التصميم ولكن لنجعل الأمر أكثر يسراً ‏وسهولة ونتتبع سيرة إحدى الحرفيات الشعبيات لنجد في سلوكها منهجاً نظرياً لا يبتعد في أساسياته عن مناهج ‏وآراء مصممي المستعملات" ‏Designers‏ ".‏
ففي زيارة عائلية لإحدى حرفيات الفخار الشعبي بنالوت وحول " عالة الشاي والكانون استمرت هدرزة" كنت ‏أسعى خلالها لسبر علاقتها بإنتاجها ومنطلقاتها في التعامل معه، بدأتُ بإثارة أسئلة فيها شيء من التحرش بقولي ‏إن الكانون الذي أمامنا غريب الشكل وغير معهود،
أجابت قد أكون مصيباً ذلك لأنني أفكر واستحضر " ‏الكوانين" التي أعرفها من مخزون الذاكرة، واستمرت قائلة بأن هذا "الكانون من صنعي" وقد عملت على تغيير ‏هيئته تبعاً للحاجة، ثم أحضرت كانوناً ثانياً وثالثاً ورابعاً وأحضرت مبخرتين استعداداً للمواجهة.
‏لكنني تماديت قائلاً بأنها أواني مختلفة. فأجابت بأنه لا اختلاف جوهري بينها فكلها " أواني نار".‏
أعدتُ الكرّة مرة أخرى متسائلاً: إذاً هذه النتوءات واختلافها وتباينها هل هي " ديكور" للزينة والتجميل؟
‏أجابت: لا، لا علاقة لها بالزينة بل سبب وجودها واختلافها فرضها عليّ الاستعمال. ثم قسمت إنتاجها من " ‏الكوانين" أو أواني النار إلى قسمين حسب نوع الوقود:‏‏1.‏ كوانين الحطب.‏‏2.‏ كوانين الفحم.
1-‏ كوانين الحطب/ تتميز بجوانبها الثلاثة المرتفعة مقارنة بكوانين الفحم، وهذه الجوانب المرتفعة تؤّمن وضع ‏‏" السخان" أو " البرمة أو الطنجرة" مع إمكانية إضافة حطب الوقود كلما استدعى الأمر ذلك وهذه الجوانب ‏مدعومة من الخارج وفي الوسط بسمك إضافي من الطين عليه ندبات مميزة عبارة عن أثر لضغط الأصابع ‏على الطين لتثبيتها تحولت إلى عناصر زخرفية وفي نفس الوقت فإن هذه الإضافة تعمل على دعم هذا ‏الجدار ليتحمل ثقل الأواني التي توضع فوقه وتحضير ثلاثة فطائر صغيرة من الشعير.‏
كانون آخر/ نتوءاته أقل بروزاً وقوده الحطب يستعمل في الغالب لتحضير " فطيرة" القمح على سطح من الفخار ‏أو الألمونيوم " الحمّاس" يوضع فوقه بعد إيقاد نار الحطب وعندما " يحمى" تشكل عليه فطيرة القمح ثم يوضع ‏فوق الكانون ثانية إلى أن ينضج ولهذا السبب وكما شرحت السيدة فإن ارتفاع النتوءات والفراغات التي بينها ‏يجب أن تكون " محسوبة" حتى لا تنطفئ النار أو يحترق الخبز الذي يحتاج إلى تهوية وإلى نار " لطيفة" وهذا ‏الكانون غير صالح لتحضير خبز الشعير.

2-‏ ‏" كانون الفحم"/ نتوءاته محدودة الارتفاع يتميز بالعمق ليحوي رماد الفحم الذي يضاف إليه تباعاً طوال فترة ‏الجلسة ويستعمل في الغالب لتحضير الشاي وللطبخ أو تسخين الأكل وهو غير صالح لتحضير أي نوع من ‏الفطائر أو خبز الشعير أو القمح.

3-‏ وأما المبخرة/ فقد أحدثت فيها تغييرات مع الاحتفاظ بهيئتها التراثية وما قدمته كانا نموذجين:
‏I‏-‏ بالنسبة لاستعمال المبخرة فعادة ما يؤخذ " الجمر" جاهزاً من كانون آخر ثم يبدأ في البحث عن علبة ‏البخور وقد اختصرت في هذه المبخرة عملية البحث عن البخور بإضافة جزء حاوي له في النهاية العليا ‏للمبخرة وبحكم تجربتها في استعمال المبخرة ومواجهتها للمشكلة سعت ضمن التقاليد إلى إيجاد حل أدى ‏إلى تغيير في هيئة المبخرة واستحداث نموذج جديد.

2-‏ وبدلاً من استعمال الكانون في تجهيز الشاي. عمل البعض على استبداله بموقد الغاز وهنا واجهت السيدة ‏غياب " الجمر" فصنعت مبخرة جديدة اختصرت فيها الجزء الحاوي للجمر وشكلت القاع من مسطح ‏دائري قليل العمق ليوضع مباشرة على " رأس الغاز" وهذا أدى إلى تغيير حجم قاع المبخرة ووزنها ‏وبالتالي هيئتها. وكانت تسعى إلى إيجاد حل لوضع أو حالة واجهتها.‏‏
ورثت هذه السيدة هوايتها عن والدتها واستمرت ممارستها لها كجزء من نشاطها اليومي والمنزلي، تدافع ‏عن ارتباطها واستمرارها في ممارسة هوايتها بالرغم من معارضة بعض أفراد أسرتها لضآلة " العائد" ‏الذي تجنيه من تعبها هذا ولكنها ترد: إنها صدقة العمل وأجري من عند الله.مما سبق نلاحظ/
*أن هنالك ارتباط جدري ووطيد ما بين الإناء والاستعمال.
* أن تغيير طريقة أو أسلوب الاستعمال يتطلب تغيير في هيئته.
*وأن تغيير الاستعمال يستدعي هيئة أخرى مناسبة:
وهذه المعالجة قد نطلق عليها الجانب التقني في ‏التصميم والذي يحدد فيه المصمم الغرض من تصميم المنتوج وأفضل وأنسب هيئة له للاستعمال وقد ‏نحصل في بعض الحالات على منتوج مثالي للاستعمال ولكنه مجرد أي أنه لا يحمل هوية، أي أن الجانب ‏التقني لا يفي في هذه الحالة لإبراز الهوية. وفي الحقيقة فإنه لا يمكن الفصل ما بين الهوية وتقنية التنفيذ في ‏الإنتاج ولكن قد يحدث هذا في حالات منها:
1- استعارة حرفيين أو تقنيين لا علاقة لهم بالإرثالمحلي.
2- انفصام أو استلاب في شخصية الحرفي.
‏3- بُعد الممارس للحرفة عن المجال وتقاليده.
‏4- استعارة لنماذج للإنتاج لا علاقة لها بتراث الإنتاج المحلي.
‏5- استعمال الآلة وسيطرتها على الإنسان.
‏‏
والملاحظ بأن هذه الإشكالية أوضح ما تكون في إنتاج غريان من الخزف والفخار، فإنتاج الفخار ضعيف وهزيل ‏وغريب إذا ما قورن بالإنتاج المماثل لحرفيات الزنتان وزليطن ووادي كعام.‏ومن هذا نستنتج أن الإنتاج الجيد يتطلب تقنية ذات هوية. وعند الكلام عن الهوية نجد أنها تتضمن زخماً ‏يحدد جماليات المنتوج أو الإنتاج، وعندما يتحول الإنتاج إلى التصنيع حينئذ يتطلب الأمر مجابهة علمية ‏وفنية. فهل أخذنا بهذا التوجه؟ ‏

التجميل‎…‎‏ الزخرفة واللون‏/
وحول بائع الفخار والخزف المتجول بسوق الثلاثاء ، أشارت سيدة ممن حضرن الحوار إلى إناء وقالت ‏لرفيقتها" يا سلام عليها، هذي للعصيدة روعة!" وبحكم ألفة الحوار الذي جرى تدخلتُ قائلاً بأن هنالك أواني أكثر ‏زخرفة، أجابت: لا إنه لون مناسب للعصيدة. والسيدة محقة فيما قالت فاللون مغري وحسي ولطيف وموحي، ‏ومما لا شك فيه فإنه سيخلق علاقة توافق مع " العصيدة" خصوصاً إذا كانت بالعسل والسمن، ‏‎…‎‏.فهل التجمل ‏والزخرفة واللون حاجة ضرورية بالنسبة للفخار والخزف أم هو مظهر اعتراضي في الإمكان إسقاطه.‏فالزخرفة واللون ارتبطا بالخزف حتى أصبحا هما الدلالة المميزة له، فإننا لا نتصور الخزف كإناء وهيئه بقدر ما ‏تتجسد أمامنا الزخرفة واللون والسطح المصقول اللماع، إضافة إلى هذا فإن هنالك دواعي أخرى تؤكد أهمية هذا ‏الارتباط منها:‏‏
1.‏ إن " الكساء" الخزفي بما فيه البطانة واللون والطلاء الزجاجي ضرورية للإناء ذلك لأنها تكسبه خواص ‏تخدم الاستعمال وهي عزل خامة الفخار المسامي لمنع امتصاص السوائل كما يكسب الإناء نوع من ‏الصلابة.
‏‏2.‏ إن الزخرفة واللون أحد المظاهر التي تؤكد الهوية.
‏‏3.‏ إنه عامل مهم في التأثير الحسي والنفسي.
‏‏4.‏ مؤثر في عملية الاختيار والتسويق.‏وتتجلى ظاهرة علاقة التزيين بالإنتاج في حالتين:
الحالة الأولى/ الخزف الذي يستعمل للزينة والتجمل- ويقصد به الأعمال التي صممت وأنتجت لتكون ‏جزءاً من وسائل تجميل الفراغ أو المكان بما تشعه من بهجة وسرور وراحة للنظر والنفس، ويدخل في هذا ‏التصنيف " التحف" والأعمال الفنية الصرفة بتأثير ومفعول أكثر ديمومة وعمقاً.‏


الحالة الثانية/ تجميل أو تزيين الأواني أو الأعمال الخزفية- وهذا يعني إضفاء صفة الجمال على الإنتاج ‏بوسائل التعبير الفني المختلفة استكمالاً للعملية الإنتاجية ورفعا من مستواها الحسي لتلاقي قبولاً من المتلقي ‏أو المقتني المستعمل ونعني هنا بأن التجميل ما هو إلاّ وسيلة وليس غاية كما هو الحال بالنسبة لخزف الزينة ‏ويتوصل الخزاف إلى تحقيق هذه الصفات بعدة مداخلات أهمها:‏
• معالجات ترتكز على الخامة كهيئة وملمس باستعمال تقنيات الحفر والكشط والإضافة- وعادة ‏ما تحدث هذه عند بداية صياغة العمل وعندما يكون الطين قابل للتشكيل، والإنتاج هنا عولج بأسلوب ‏أقرب ما يكون للنحت.‏

• معالجات جمالية يكون اللون وسيلتها وهي أقرب لتقنية التصوير، تستعمل الألوان الخزفية عادة ‏بعد عملية الفخر أي حرق الطين ولكن في بعض الأحيان تعالج الأعمال لونياً قبل الفخر أو بعد الفخر ‏مباشرة كما يحدث في الفخار الشعبي باستعمال الطين الملون في الحالة الأولى أو العصارات النباتية في ‏الحالة الثانية.‏• المزاوجة في معالجة الإنتاج ما بين الأسلوبين أي معالجة ملمس السطوح وفخرها ثم تلوينها، ‏ومن التقنيات التي تستعمل للتجميل اللوني:
‏‏1.‏ الغمر- حيث يغمر كل أو جزء من الإناء أو العمل في محلول اللون الخزفي.‏
‏2.‏ الطرطشة- تقنية قديمة جداً تستعمل بتجهيزات وعُدد حديثة.
3.‏ التلوين باستعمال الفرش. أداة استعملت بشكل مكثف لإمكاناتها وملاءمتها إذ كان هم الإنسان ‏منذ البداية البحث عن وسيلة تمكنه من نقل اللون من إناء التحضير إلى السطح الذي يريد تلوينه فاستعمل ‏في البدء إصبعه" الأستراليون" ثم أغصان الأشجار ذات الألياف " القبائل الأفريقية"، أو ربط الخرق ‏حول عيدان واستعمالها كفرش " اليابانيون قديماً"، أما الفرشة بمفهومها المعروف فقد ظهرت لدى ‏الصينيين منذ القرن الثالث الميلادي على الأقل واستعملت للكتابة والرسم على الأقمشة الحريرية قبل ‏اختراع الورق، وتصنع الفرش من وبر وشعر الحيوانات الأليفة والبرية مثل الجمل، البقر، ‏السنجاب‎…‎‏.، ونوع الشعر وكميته يعتمد على الاستعمال الذي يحدده الخزاف فالفرش الطويلة والرفيعة ‏تصنع من شوارب الأرانب وتستعمل للتحديد والفرش الأكثر احتواء للشعر تستعمل لرسم الخطوط ‏السميكة والفرش الممتلئة الشعر والمقطوعة بميل تستعمل لرسم أشكال أوراق النباتات.‏
ولكيفية استعمال الفرشة تأثيرات أهمها /

أولاً: الأسلوب الوصفي أو التمثيلي- وتستعمل فيه الفرشة كوسيلة وأداة لنقل اللون إلى السطح وتتّبع الأشكال ‏المرسومة مسبقاً على سطح الأعمال أو على الورق وذلك:
‏1- لرسم الخطوط الرفيعة والسميكة المستقيمة أو المنحنية، مفردة أو متقاطعة... الخ.
‏2- تحديد للمساحات أو للفراغات على سطح المنتجات والتي قد تكون هندسية أو نباتية.
‏3- نقل اللون وبسطه في الفراغات المحددة.‏
ثانياً: الأسلوب التعبيري- تتحرر فيه الفرشة من التبعية كأداة أو وسيلة وتتوحد مع يد الحرفي لتتصل بانفعالاته ‏وتستجيب لإيحاءاته معبرة عن القوة والعنف أو الضعف والليونة وبطء الحركة وسرعتها ودلالات أخرى تتركها ‏الفرشاة كأثر على السطح. ويعتبر الصينيون واليابانيون أساتذة في استعمال الفرشة.

ثالثاً: الأسلوب الوصفي التعبيري- وهو ما استعمل لتمثيل الخطوط في حركتها وأنواعها وتتبع الأشكال المختلفة ‏هندسية أو نباتية والتعبير عنها " بضربات" أو بأثر الفرشة على السطوح وغالباً ما يحدث هذا عند تمثيل أو رسم ‏الأوراق والزهور وبتيلاتها وما شابهها. ‏ويستعمل كل من الأسلوب الوصفي والتعبيري بتلقائية فطرية في فخار زليطن ووادي كعام. أما الإنتاج الحديث ‏في غريان فيغلب عليه الأسلوب الوصفي والوصفي التعبيري في عملية تجميله. ‏وأخيراً وليس بآخر يبقى السؤال المؤلم هل إنتاج غريان المعاصر من الخزف إنتاج بدون هوية؟ ‏


للتعرف على كاتب المقال قم بزيارة هذا الرابط: http://mirathlibya.blogspot.com/2008/07/blog-post_6836.html

الاثنين، أغسطس 25، 2008

قراءة في مشوار...




جمال الهمالي اللافي


  1. الزيارة الأخيرة إلى طلميسة بمدينة جادو[1]، التي كانت بتاريخ 17/11/2006 م، هي امتداد طبيعي لسلسلة الرحلات إلى الداخل، التي بدأت انطلاقتها مع أول رحلة تمت إلى مدينة درنة وضواحيها" المخيلي والعزيات" وما على امتداد الطريق إليها من مدن وجبال وسهول ووديان، أعقبتها رحلة أخرى إلى مدن ودان وهون وسوكنة في نفس الفترة وذلك في شهر أكتوبر من صيف 1985م[2]. ضمن فريق" جماعة التراث" التي أسستها مجموعة من طلبة قسم العمارة والتخطيط العمراني بكلية الهندسة/ جامعة طرابلس" جامعة الفاتح في ذلك الوقت" سنة 1983 م. وكانوا حين ذاك خمسة طلبة، دافعهم إلى تنظيم هذه الرحلة، الرغبة في توقيع مصالحة مع الذات والبحث عن الجذور. ومحاولة جادة لإدارة الحوار مع النفس عبر بوابة العقل... وفي حوار العقل للنفس هذا، تكبر الدائرة لتتجاوز قوقعتها الضيقة، إلى طرح العلاقة بين المعماري كذات ومحيطه الاجتماعي والحضاري كموضوع يعتمل في النفس وتتحرك مع حراكه.

  1. في إحدى محاضراته[3] التي اعتدنا على أن نتفاعل معها بإنصات، اختزل أستاذنا الفاضل/ علي سعيد قانة[4]، رحمه الله"- بخبرة العارف، وهو يشير بيديه إلى الداخل- تشخيصه لحالة التخلف التي يعيشها المجتمع، في عبارة موجزة ولكنها أصابت مكمن الداء، قائلاً:" الإنسان عدو ما يجهله".

ولكن ما الذي جهلناه حتى تخلفنا عن الركب وتجاوزتنا قوافل المجتهدين ولحقت بنا ركبان الطامحين حتى سبقتنا، وبتنا نتخبط في ظلام، خيّل إلينا من امتداد سواده الحالك أنه سرمدي؟

  1. قرأنا في مدارسنا وجامعاتنا مقررات التاريخ وتعمقنا في سيرة الحضارة الإنسانية على مر العصور وتعرفنا على ثقافات الشعوب، لكن تاريخنا ظل غائبا أو مغيبا عنّا في زحمة ما قراناه... غائبا بإهمالنا إياه ومغيبا بتجاهلنا له.

  1. زرنا معه وبعد رحيله مدنا في الساحل والجبل والصحراء، فوجدنا أن بعض أركانها قد تصدعت وبعض أحجارها قد تكسرت وتناثرت تفاصيلها هنا وهناك. إلاّ أنها لا تزال باقية صامدة، شاهدة على صفحة ناصعة من حضارة الأجداد... تنفسنا الصعداء ونحن نلحق بأثر قبل أن يزول وبتاريخ قبل أن يعتريه النسيان أو تتخطفه يد المنون من بين أظهرنا ونحن عنه غافلون... فآثرنا أن ننهل من معينه العذب، على أن نسير في ركب المغتربين أو ننزوي في جحر المقلدين.


الثلاثاء 12/12/2006 م.


[1] - تمت هذه الرحلة بالتنسيق بين المدرسة الليبية للعمارة والفنون- مهندسون استشاريون و شركة بلخير للخدمات السياحية، بمشاركة جميع أعضاء المدرسة، إضافة إلى م. رشيد كعكول، م.عزت خيرى، م. عادل أبو قرين.
[2] - في هذه الرحلة الطلابية والتي جاءت بمبادرة فردية من المجموعة- وبدعم معنوي ومادي من أستاذ مادة الرسم الحر، المرحوم. علي سعيد قانة- شارك فيها كل من / جمال الهمالي اللافي، نوري سالم عويطي، عزت علي خيري، عبد المنعم عبد السلام السوكني وأنظم إليها في مدينة درنة مفتاح الزايدي.
[3] - كانت محاضرة في مادة تنسيق المواقع حول الحديقة في المدن الليبية التقليدية، ربيع 1984 م. وذلك بناء على دعوة وجهها له أستاذ المادة أ. مصطفى المزوغي.
[4] - نحات وفنان تشكيلي واقعي. وأستاذ مادة الرسم الحر بقسم العمارة والتخطيط العمراني.

الاثنين، أغسطس 04، 2008

ميراث المدن القديمة... إلى أين ؟!



جمال اللافي

مقدمة:
مع منتصف الثمانينات من القرن الماضي وبعد عقود من القطيعة، بدأ الحديث في بلادنا حول مستقبل المدن القديمة وطرق المحافظة عليها يأخذ حيزا كبيرا من اهتمام المختصين والمهتمين وتعالت الأصوات التي تطالب بحمايتها من عوامل التشويه والاندثار باعتبارها إرث إنساني لا يجب الاستهانة به أو التعرض له وهو شاهد على عصره. وعلى هذا الأساس قامت مؤسسات ترعى هذه المدن من خلال إعادة الترميم والإحياء والارتقاء، وسنّت القوانين التي تنظم أساليب التعامل مع المباني الأثرية والتاريخية داخل وخارج هذه المدن، وأصبح المساس بمعالمها المعمارية جرم يعاقب عليه القانون!. ومصيرها المحتوم أضحى هاجسا يقّض المضاجع كلما لمسنا تقصيرا بحقها.

استدراك:إلاّ أن الملفت للنظر أن جلّ البحث والاهتمام تناول المدن القديمة كنسيج عمراني ومعماري في شكله الذي يرتبط بزمن مضي ويقف عنده ولا يتجاوزه، متجاهلا في الوقت نفسه البحث في إمكانيات إعادة توظيف المضمون الذي أفرز هذا الشكل من بين عدة مؤثرات، تشّكل البيئة المناخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية أهم عناصرها ويعيد طرحه في صيغ جديدة تتعامل مع المتطلبات الإنسانية المعاصرة.
لهذا ستركز هذه المقالة بشكل كبير على البحث في ميراث المدن القديمة و مصيره إلى أين؟ يدفع إلى ذلك ما نجده من تجاهل صريح لهذا الميراث في مدننا المعاصرة. حيث تحول ميراث المدن القديمة إلى متحف للآثار يزوره السواح ونأت المدينة المعاصرة بنفسها عن الأخذ بمقومات هذا الميراث وارتأت لنفسها طريقا آخر، طرح أمامنا جملة من الإشكاليات التي يدفع ثمنها كل يوم سكان هذه المدن.

إشكالية العمارة المحلية المعاصرة: إذا أمعنّا النظر إلى أحدى مدننا المحلية المعاصرة علّنا نجد رؤية تستفزالعقل للتدبر في القيم الفكرية والروحية والجمالية التي إنطلق منها مخططوا هذه المدن، تقف جميع حواسنا عاجزة عن تلمس ملامح واضحة المعالم لصورة هذه المدن التي تلفها المخططات العشوائية والعمارة الهجينة المشوهة. وبذلك أضحت العمارة المحلية المعاصرة تعاني بوضوح من حالة فصام في الشخصية وهي نتيجة طبيعية لعدم القدرة على التوفيق بين النماذج المستعارة من العمارة الغربية والقيم الثقافية والاجتماعية للمستعملين ومدى ملائمة الحلول الإنشائية والمعالجات المعمارية لظروف البيئة المناخية، فجاءت عمارتنا المحلية المعاصرة تفتقر للمضمون ويغيب عنها المعنى.
خصائص المدن القديمة:يمثل الجانب الروحي الأساس الأول الذي بني عليه مخطط المدن القديمة وهي إسلامية في صورتها العامة، كما يمثل المسجد مركز القوى الروحية الذي يتمتع به مخطط هذه المدينة، حيث يؤدي دوره كعنصر ضابط لأخلاقيات المجتمع، مثلما يساهم كفراغ معماري في استيعاب النشاطات الاجتماعية والثقافية. كما عكست هذه المدن مقدرة الاجداد على التعامل مع الظروف البيئية من خلال منهجية التخطيط وتطويع العمارة لخدمة المحيط الإنساني، حيث احترم مخططها الثوابت وتفاعل مع المتغيرات، مثلما عكست العمارة التقليدية بجلاء العلاقة المتوازنة بين الساكن أو المستعمل لكل مرافق المدينة والبيئة المحيطة. وتوافق المقصد الثقافي في العمارة التقليدية والمعالجات الإنشائية لمبانيها مع الرؤية الجمالية للمدينة.

ورغم تحفظ البعض حول صلاحية المخطط التقليدي لمتطلبات العصر- إلا أن غالبية المختصين بهذا المجال والمهتمين به اتفقوا على عجز المخططات الحديثة التي اعتمدت على استعارة النموذج الغربي وعمارة الحداثة عن التفاعل مع ظروف بيئتنا المناخية وتعارضه مع قيمنا الاجتماعية والدينية. وقد انحصرت جل الاتهامات الموجهة للمخطط التقليدي والتي لم تكن محددة في جوانبها بشكل واضح، في كونه لم يعد قادرا على التوائم مع متطلبات المجتمع الإسلامي المعاصر وهي الاتهامات نفسها التي بررت لرجال التخطيط لجوءهم عند إعادة تخطيط المدن المعاصرة إلى استعارة النموذج الغربي.

وهو ما يدفع إلى طرح سؤال ملّح، حول ماهية هذه المتطلبات التي عجز المخطط التقليدي عن استيعابها حتى تم إهماله كحل تخطيطي ينسجم- من منطلق الثوابت والمتغيرات- مع ظروف البيئة المناخية والمعتقدات الدينية والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز ثباتها إلا في حالات حدوث خلل ما في ظروف البيئة الطبيعية أو في معتقدات المجتمع مما يستدعي بطبيعة الحالة تغييرا صريحا في النسيج العمراني والمعماري يتوافق مع الظروف والمفاهيم المستجدة؟!. خصوصا إذا ما سلّمنا بقدرة المخطط التقليدي على استيعاب التطور الحاصل في وسائل التقنية المتعلقة بإمدادات الكهرباء والغاز والمياه وعناصر التأثيث ووسائل التبريد وحفظ المواد والمواصلات ووسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية، بل إن التقنية التي لا زالت تتجه بخطى حثيثة نحو الاستغناء عن إمدادات الخطوط السلكية إلى التعامل مع الأنظمة اللاسلكية والرقمية والتوصيلات الأرضية ساهمت في زيادة كفاءة المخطط التقليدي وحماية عناصره المعمارية والفنية من التشويه الذي تحدثه إمدادات الأسلاك الكهربائية وخطوط الهواتف.

وهذا بدوره يدفعنا إلى طرح تساؤل آخر أكثر إلحاحا وهو: لماذا لا تتجه الرؤية التخطيطية لتأخذ منحاها العلمي الجاد والمتمثل في منهج التطوير ليكون بديلا عن الرؤية التخطيطية السائدة والتي تعتمد مبدأ الهدم والإحلال لقيم ونظريات ومخططات مدن وقوانين مباني أثبت الزمن والتجربة أنها تتعارض مع الناموس الطبيعي للحياة المبني على التوازن الطبيعي في العلاقة بين المكان والإنسان والعمارة؟

نماذج وأمثلة للمعالجات والحلول التي تطرحها المدن القديمة:اعتمدت العمارة التقليدية على التعامل مع المنتوج المعماري من حيث الشكل والوظيفة:
فالشكل: كتعبير جمالي جاء كنتاج للمؤثرات البيئة المناخية على منطقتنا التي تتميز بدرجة سطوع عالية للشمس والارتفاع في درجات الحرارة، من حيث اعتماد النسيج المتضام في تخطيط المدن والاتجاه إلى الداخل والانفتاح على الأفنية لتلافي الارتفاع في درجات الحرارة والاستفادة من العلاقة الجمالية التي تتوالد بين الظل والضوء وانعكاساتهما المتبادلة على سطوح المباني.

والوظيفة: الناتجة عن حاجة المجتمع للتعبير عن قيمه الثقافية والدينية التي تحث على احترام خصوصية الفرد والأسرة وبالتالي جاءت الحلول التخطيطية والمعمارية واضحة وجلية في هذا الشأن من خلال الاتجاه إلى الداخل والانفتاح على فناء وتحقيق عوامل الخصوصية والترابط الاجتماعي في آن واحد، وتوظيف الحوائط المصمته السميكة والفتحات الصغيرة كمعالجات للواجهات لمنع أعين المتطفلين من النظر إلى حرمات البيت أو الاستماع إلى مايدور ورائها من أحاديث. كذلك اعتمد النظام الاجتماعي المترابط أيضا فكرة النسيج المتضام. وبذلك توحدت الوظيفة مع المطلب الاجتماعي والمناخي وأثمرت رؤية تخطيطية هي مزيج بين المنفعة والجمال.

توصيات:أن الواقع الراهن للمدينة المحلية المعاصرة يستوجب توحيد جهود المعماريين والمخططين والمنظّرين وكافة التخصصات ذات العلاقة لوضع رؤية جديدة ومعاصرة توّفق بيت الثوابت والمتغيرات فيما يتعلق بمسألة المدينة المعاصرة وتخرج بعمارتنا المحلية المعاصرة من قيود الشكل- الذي تفرضه علينا قوانين المباني المأخوذة عن الغرب دون مراجعة أو تمحيص- إلى حرية التعبير وفق منظور يحترم الخصوصية الإجتماعية والثقافية ويتعاطى مع المؤثرات البيئية من منطلق الإثراء والإغناء للمعنى الذي تحمله العمارة بين طياتها بإعتبارها نتاج للتعبير عن القيم الثقافية والعادات الاجتماعية السائدة في المجتمع.

ومن المنطلقات السابقة يمكن تحديد بعض الجوانب التي قد تسهم في وضع رؤية للمدينة الإسلامية المعاصرة وصورتها العمرانية والمعمارية، ممثلة في النواحي التالية/
1. احتفاظ المسجد الجامع والساحة العامة المحيطة به بمركزيته على مستوى مخططات مدننا المعاصرة.
2. إعادة ارتباط مؤسسات الدولة" أو المؤسسات الشعبية" بالمسجد الجامع على مستوى التصميم الحضري.
3. استمرارية انتشار الأسواق الرئيسية والتخصصية والمباني التجارية حول المسجد الجامع ومؤسسات الدولة والمرافق الخدمية مع الأخذ في الاعتبار نوعية الخدمات ومواقعها بالنسبة إلى موقع المسجد.
4. تقسيم أطراف المدينة إلى مناطق أو مجاورات سكنية، تصل بينها طرقات فرعية يخطط عرض شوارعها بما يسمح بمرور سيارتين متقابلتين
[1] يفصل بينها رصيف يصمم عرضه بما يسمح بغرس الأشجار و توزيع بعض الأكشاك التي توفر المطبوعات والخردوات وما شابهها على طرفيه. كما تتوفر بهذه المناطق المساجد المحلية التي تحتل مركزها في وسط هذه المجاورات، وترتبط بها المراكز الثقافية والاجتماعية والرياضية والمرافق الخدمية الفرعية كالمستوصفات ومراكز الأمن والمباني التجارية والمؤسسات التعليمية الأساسية والمتوسطة والحدائق العامة. على أن ترتبط جميع المناطق السكنية بطرق رئيسية متفرعة عن طرق سريعة تربط باقي المدن ببعضها البعض.
5. تطبيق نظام الكتل المتضامة والتي تحقق الاستغلال الأمثل للأراضي إلى جانب الحماية البيئية والتي يترتب عليها التقليل من استهلاك الطاقة الصناعية. كما يضمن أيضا فرصة تجميع مياه الأمطار الساقطة على سطوح المدينة وإحالتها إلى المواجن التي تنشأ بالخصوص بدلا من ضياعها هدرا عبر شوارع المدينة ذات المخطط غير المتضام.
6. مراعاة الاختلاف المناخي والتضاريسي والثقافي بين المدن الساحلية والصحراوية والجبلية والأرياف وما يترتب عنه من تنوع في الخصائص العمرانية والمعمارية، عند وضع المخططات الجديدة.
7. إحاطة المدينة بحزام أخضر من الحدائق والمنتزهات، تستغل كمتنفس لقاطني المدن و لتوفير تنقية طبيعية للهواء.
8. وضع المصانع والمطارات ومحطات الحافلات الرئيسية والقطارات خارج نطاق هذه المدن لحمايتها من التلوث والضجيج.



الخلاصة:وخلاصة القول أن مخططات وعمائر المدن القديمة لم تأتِ من فراغ، فبين ثناياها تنغرس قيم المجتمع وعقائده وفيها تتحقق متطلباته المادية وحاجاته الروحية وتتكشف معضلات البيئة بين أروقة مبانيها وألتواءات شورارعها وأزقتها عن تراكمات من الحلول المناخية والاقتصادية.

فهل أتت المدن المحلية المعاصرة وعمارة الحداثة وما بعدها من بين هذه الثنايا؟... قطعا ستكون الإجابة، بلا النافية


إذا لهذا السبب... ولهذا فقط نحن نخاف على إرث الماضي أن يبتلعه إنحدار الحاضر... فلا يجد أبنائنا في المستقبل ما يسترشدون به.

والمقارنة أكبر شاهد... وللحديث بقية



[1] - تجرى حاليا في أوربا دراسة تخطيطية لنقل حركة السيارات إلى أنفاق تحت الأرض أسوة بقطارات الأنفاق وتحويل سطح الأرض إلى ممرات للمشاة وذلك في إطار الجهود المبذولة لحماية البيئة.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...