أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، مارس 19، 2025

العمارة: الفن الذي يجمع بين الجمال والعلم والهوية

المسكن الغدامسي

جمال الهمالي اللافي

     العمارة ليست الابنة العاقة للفنون الجميلة، ولا هي المرأة الناشز كما يصفها البعض. إنها الأم الحاضنة التي تمتد ذراعيها لتحتضن كل الفنون الجميلة والحرفية، بل وتمتزج مع العلوم الإنسانية والتطبيقية لتخلق كياناً فريداً من نوعه. العمارة هي المجال الإبداعي الوحيد الذي أذن به الخالق سبحانه وتعالى للإنسان أن يشابهه فيه من حيث الإبداع والخلق، دون المساس بقدسية الخلق الإلهي.

     كما نتأمل جمال خلق الإنسان وننبهر بملامحه الخارجية البديعة، دون أن ندرك ما يكمن خلفها من تعقيدات مذهلة كتفاعلاته الكيميائية ونبضات خلاياه الكهربائية، كذلك الحال مع العمارة. عندما ننظر إلى المباني، ننبهر بجمال واجهاتها وتفاصيلها الخارجية دون أن نرى المواد التي صُنعت منها، أو الهيكل الخرساني الذي يدعمها، أو الأسلاك التي تمدها بالكهرباء، أو أنابيب المياه التي تدعم حياتنا اليومية. العمارة، مثل الجسد البشري، تخفي خلف جمالها الكثير من العلوم والوظائف.

     ولكن الأمر لا يتوقف عند الجمال الظاهري؛ فالعمارة تحمل أيضاً رسالة عميقة تعبر عن تاريخ الشعوب وهويتها الثقافية. تماماً كما تميزنا ألوان البشر وأجناسهم، تُعرّفنا التفاصيل والأنماط المعمارية بأصالتنا وانتمائنا. إنها ليست مجرد بناء صامت، بل هي كتاب مفتوح يحكي قصص الأجداد ويرسم ملامح المستقبل.

     العمارة ليست سجينة في قفص الغيرة مع الفنون الجميلة، بل هي تاج الفنون الملكي. إنها تخلق حواراً بين الخطوط والألوان، وتمزج بين التقاليد والابتكار، وتجمع بين الجمال والوظيفة. على سبيل المثال، تحكي العظمة الكامنة في مسجد قرطبة في إسبانيا قصة التاريخ الإسلامي، بينما يجسد تاج محل في الهند مزيجاً من الجمال والحب والهوية الثقافية.

     وفي هذا الإطار، لا يجب أن نغفل أهمية الجانب التقني والعلمي للعمارة. فالخرسانة المسلحة، ونظم التهوية الذكية، وتقنيات التصميم المستدام كلها تبرز كيف تسهم الهندسة في إحياء العمارة وجعلها قابلة للعيش والدوام.

     كما قال المعماري لويس سوليفان" : الشكل يتبع الوظيفة."  هذا المبدأ يجسد دور العمارة ليس فقط كفن، بل كعلم يخدم الإنسان والمجتمع. وعليه، عندما نعشق جمال الواجهة، يجب أن نتأمل أيضاً العمق الذي يقف وراء هذا الجمال.

     لذلك، دعوة لكل قارئ: انظر من حولك. تأمل المباني التي تعيش فيها وتراها يومياً. خلف كل واجهة قصة، خلف كل جمال كمال. العمارة ليست مجرد مشهد بصري، بل هي حياة تنبض بالفن والعلم معاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية