أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الخميس، سبتمبر 20، 2012

نحو استراتيجية وطنية للحفاظ على المدن الليبية التاريخية






د.جلال رمضان البلعزي*

مقدمة/
على الرغم من الاهمال لسنوات طويلة مازالت مدننا القديمة تحتفظ بجانب هام من التراث الثمين الذي تعرض لخطر الزوال في مرحلة الحكم أو الإدارة الدكتاتورية السابقة التي استخدمت مصطلح ثورة التحديث والارتقاء والخلاص من ظاهرة التأخر والجمود. ونتيجة لهذه السياسة نجد في معظم مدننا مدينتين إحداهما قديمة (مستودع التاريخ والتراث) والأخرى حديثة (وظيفتها، أساليب التنظيم العمراني الحديث).ولهذا السبب كان لابد إن تطهر مشكلة المدن القديمة والتاريخية وكيفية انقاد تراثها ومعالمها الأصلية.

تعريف الاستراتيجية/
هي مجموعة السياسات والإجراءات التي تتخذها الإدارة لتحقيق فلسفتها وأهدافها للمحافظة وصيانة المدن التاريخية في شكل وطني متكامل. المقصود هنا بالاستراتيجية الوطنية لحماية والمحافظة على المدن التاريخية وتقديم الخطط المتكاملة للحفاظ على المدن التاريخية من جميع النواحي، التطور الحضري الذي يرسمه المجتمع الليبي وتوجهاته العامة بما ينسجم مع معطيات الثقافة العربية الإسلامية والمجتمع الدولي.


مبررات الاستراتيجية/
المبرر الرئيسي الذي تهتم به هذه الاستراتيجية الوطنية هو تناول قضية المحافظة على المدن القديمة والتاريخية من زاوية شمولية وطنية تهم جميع الليبيين باختلاف أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. أحد أهم المبررات لوضع هذه الاستراتيجية تأتى من حقيقة أن المجتمع الليبي بمختلف أوضاعه يعيش في الوقت الحالي في زمن ملئ بتحديات إعادة البناء والتعمير الذى له انعكاساته وآثاره على المدن التاريخية والقديمة.

مسلمات الاستراتيجية/
·        العمل على مرعاة خصوصية وتنوع المدن القديمة المختلفة.
·       هذه الاستراتيجية المفروض إن تعمل في إطار تشريعي وطني موحد.
·    معالجة مشاكل وقضايا المدن التاريخية والقديمة بطريقة علمية وعصرية منفتحة على العالم والتكنولوجيا الحديثة للمحافظة على المدن القديمة.
·    تعمل هذه الاستراتيجية في إطار المحافظة على الجوانب( الاجتماعية\ الاقتصادية\ الثقافية\ السياسية\ الحضرية) المشتركة لجميع المدن الليبية القديمة والتاريخية.
·     تعمل هذه الاستراتيجية لتأكيد الهوية الليبية الإسلامية لهذه المدن .


المدى الزمني للاستراتيجية/
·        لكل استراتيجية في العادة مدة زمنية تطبق فيها أهدافها وبرامجها.
·        اقترح إن تكون المدة الزمنية لهذه الاستراتيجية عشرة سنوات من تاريخ اعتمادها من الجهات المسئولة.
·        على إن تحدد وتصمم مجموعة من البرامج والنشاطات لكل ثلاث سنوات.
·        عند انتهاء كل فترة ثلاث سنوات يخضع ما أنجز للتقييم والمراجعة لاستخراج مؤشرات وأولويات وحاجات تبنى عليها خطة العمل اللاحقة.
·        في نهاية المدة يتم تقيم كامل الاستراتيجية وتستخلص مؤشرات وأولويات لإستراتجية وطنية جديدة.

تمويل الاستراتيجية/
يمكن تمويل الاستراتيجية بالأساليب التالية:
·        ما يخصص من ميزانية الدولة.
·        التبرعات والهبات الفردية أو المؤسسية التي تتفق وأهداف الاستراتيجية والتزاماتها.
·        تأسيس صندوق لتنمية والمحافظة على المدن القديمة وتستمر أمواله في مشروعات موجهة لصيانة وإعادة تأهيل المدن القديمة والتاريخية.
·        عوائد الاستثمارات التي يشارك بها الإدارة.
·      منح المؤسسات الدولية التي تتفق وأهداف الاستراتيجية والتزاماتها مثل UNSCO  أو أي مصادر أخرى يسمح بقبولها طبقا للقوانين والتشريعات الليبية بالخصوص.

صلة الإدارة بالمؤسسات الأخرى/
لا تصلح أن تعمل هذه الاستراتيجية بمعزل عن المؤسسات الأخرى الرسمية وغير الرسمية، بل تكون عاملة في سياقها وعلى صلة وثيقة بها. ويمكن اقتراح إنشاء مجلس أو هيئة استشارية لهذه الاستراتيجية تمثل في كل الوزارات والجهات ذات العلاقة بالمدن التاريخية والأثرية لرسم السياسات وتطويرها واقتراح أساليب تنفيذها.

منطلقات وأهداف الاستراتيجية/
هذه الاستراتيجية وطنية كاملة وليست نوعية فهي تهتم فقط بالمعطيات المشتركة لجميع المدن الليبية التاريخية والقديمة, وعلى ذلك يمكن تحديد الأهداف الوطنية لهذه الاستراتيجية في الإبعاد التالية:
1.     وضع فلسفة عامة للمحافظة وصيانة المدن التاريخية .
2.     حصر جميع المدن التاريخية والقديمة باستخدام نظام .GIS
3.     تقيم جميع المدن الليبية القديمة فنيا مع توفير كافة المعلومات التاريخية والفنية الخاصة لكل مدينة.
4.     حماية المدن القديمة من قيام مشاريع التوسع العمراني الحديثة وتوجيه كل الاهتمام إليها.
5.     خلق إلية واضحة لعمليات الصيانة العامة والدورية لكافة المدن القديمة.
6.     إعداد خطة لإبراز معالم المباني التاريخية عن طريق إبراز معالم مبانيها التراثية مثل الأسواق.
7.     ربط هذه المدن القديمة بالمدن المتواجدة بها.
8.     إيجاد حلول لمشكلة تضخم حركة النقل وتوغل الوسائط الإلية داخل أزقتها الضيقة.
9.     تطوير السكن والمساكن لأن الوظيفة السكنية كانت وستظل هي الوظيفة الأساسية في المدن القديمة.

ميادين ومجالات الاستراتيجية/
تشمل هذه الاستراتيجية بشكل مبدئي المجالات والميادين التالية:
أولا- التسجيل:
أحد الخطوات التي يجب إتباعها هي حصر وتسجيل وتوثيق المدن القديمة وفق الآتي:
( المكان\ الأهمية\ القيمة النوعية\ الترميمات المطلوبة\ الزمن الافتراضي لعملية الصيانة\ الصيانة والعناية المتطلبة).
ثانيا- التقويم:
تقويم شامل لكافة المباني بجميع المدن القديمة وفق الإتى:
الأهمية التوثيقية التاريخية\ الأهمية الجمالية (الفنية والتاريخية)\ الأهمية الوظيفية\ القيم الاستخدامية للمباني المباشرة وغير مباشرة.

ثالثاً- انجاز التحضيرات الأولية لعمليات الحفاظ والصيانة:
الدراسات المعمارية والتخطيطية:
التحليل الإنشائي التاريخي(العقود ,الأقواس...الخ)\ تحليل فني إبداعي تاريخي(التناظر, الإيقاع, التناسب...الخ)\ التحليل الإنشائي التقني(مادة البناء, إلية وأداة البناء....الخ)\ طبيعة النسيج العمراني( الوظائف الخدمية, ارتفاعات المباني...الخ)\ تقديم المقترحات المعمارية والإنشائية العلمية.

رابعاً- في مجال التوعية والتثقيف:
-         القيام بحملة إعلامية وطنية (تثقيفية لشرح أهمية الحفاظ على المدن القديمة).
-     القيام بحملة توعية للسكان المحليين لهذه المدن كل على حدا توضح الدور الذي يقع عليهم في عملية الحفاظ على هذه المدن.
-       إقامة تعاون ثقافي بين جهات الاختصاص مثل كلية الهندسة, كلية الآداب والهيئة العامة للآثار.
-       دعوة المؤسسات العالمية والرسمية والمحلية المتخصصة بتشجيع السياحة لإصدار ونشر كل ما يتعلق بهذه المدن كمعالم سياحية.
-         تشكيل النوادي والجمعيات مثل جمعية أصدقاء التراث.
-         إقامة المعارض تشمل صور ورسومات ونماذج لمعالم المدن.

خامساً- في مجال التشريع:
-         إصدار القوانين والتشريعات واللوائح التي من شانها العمل على تنظيم عمليات الحفاظ والصيانة.
-         إصدار القوانين والتشريعات واللوائح التي من شانها العمل على تنظيم عمليات البناء الحديثة دون المساس والتغير السلبي على عمران وعمارة هذه المدن.
-         إصدار القوانين والتشريعات واللوائح التي من شأنها العمل على تنظيم عمليات العمل الاستثماري وخاصة في مجال السياحة.
-         إصدار القوانين والتشريعات واللوائح التي من شانها تعميم وتطوير الأنماط المعمارية المتواجدة بهذه المدن والارتقاء بها.

سادساً- في مجال الإدارة والتأهيل:
-         القيام بتأهيل وتدريب كافة الكوادر العاملة في مجال الحفاظ والصيانة واستقطاب الخبرات في هدا المجال.
-      عمل ورش عمل وندوات ومحاضرات لشرح أهداف وسياسات وخطط عمل برامج الحفاظ والصيانة والحماية لتوجيه وتوضيح دور العاملين في هدا المجالات.
-      إحياء الحرف اليدوية في مجال التراث العامة والتراث المعماري لهذه المدن وربط هذه الحرف بمركز الدراسات الخاصة بالحفاظ والحماية للمدن.

سابعاً- في رد المخاطر( الإخطار الطبيعية والكوارث):
-         وضع خطة عملية لدرء مخاطر الحرائق واحتوائها.
-         دراسة الوضع الجيولوجي للمدن تناول حالة التربة ومستوى سطح المياه الجوفية ووضع المباني وحالتها وما يجب عملة تفادياً لأية مضعفات قد تنجم في هذا الشأن.
-         دراسة توزيع وتركيب الشبكات الهندسية كالكهرباء والمياه والمجاري والارتقاء بما يجنب مباني هذه المدن وساكنيها ومستخدميها من إخطارها.

الخلاصة/
للعمارة ولحيز المدن القديمة والتاريخية جذوراً في تاريخ وواقع وتطلع كل شعب وكل أمّة من حيُ مفهومها. لهذا يجب إن نواجه مشكلاتنا وواقعنا ونبلور توجهاتنا ونصغ أهدافنا بروح علمية ولنعمل بجد على قبول التحدي الذي تفرضه علينا هذه المدن القديمة لتكون خطواتنا سليمة على طريق وضع سياسة واضحة للحفاظ وترسيخ تراث هذه المدن وتقاليدها للرقى بسكانها ولترتفع مع ذلك وتيرة الحفاظ على مدننا القديمة.



* مستشار جهاز إدارة المدن التاريخية لتأهيل المدن التاريخية.


الاثنين، يوليو 30، 2012

الظل والتناغم اللوني*



من تاريخ طرابلس
:


                                                                                   

الأستاذ/ سعيد علــي حـامد

تغطي الأراضي الليبية رقعة من اليابس تمتد فيما بين خطي طول 25 , 9 درجة شرقا، وبين دائرتي عرض 45 - 14،  33 درجة شمالا، وتبلغ مساحتها نحو 1.750.000 كليو متر مربع. يحدها من الشمال البحر الأبيض المتوسط ومن الجنوب جمهوريتي تشاد والنيجر ومن الشرق جمهورية مصر العربية ومن الجنوب الشرقي جمهورية السودان ومن الغرب جمهوريتي تونس والجزائر.

لقد أهل هذا الموقع المميز ليبيا بأن تشارك وتمتزج فيها حضارات البحر الأبيض المتوسط مع حضارات عصور ما قبل التاريخ التي شهدتها الصحراء الكبرى.

وردت تسمية ليبيا لأول مرة في نقيشة ترجع إلى الألف الثانية ق.م. في عهد الدولة القديمة في مصر. ويبدو أن الاسم أشتق من اسم احدى القبائل ( الليبو) التي كانت تسكن غرب نهر النيل. ولقد استخدم اليونانيون القدماء كلمة ليبيا لتشمل المنطقة الممتدة من غرب نهر النيل حتى المحيط الأطلسي. وفي العهد الروماني أصبح مدلول (أرض اللوبيين) ينحصر في ولاية أفريقيا الرومانية وكان اقليم المدن الثلاث ( لبدة ، أويا ، صبراته ) جزءا منها، والذي أطلق عليه خلال القرن الثالث الميلادي مصطلح اقليم طرابلس.

تأسيس المدن الثلاث:-
من المعلوم أن الكنعانيين ــ وهم سكان بلاد الشام والذين عرفوا باسم الفينيقيين وقد أطلقه عليهم الاغريق وتعني اللون الارجواني لاشتهارهم بصناعة الأصباغ والملابس الأرجوانية ــ اشتهروا بركوب البحر بغرض التجارة مع شعوب البحر الأبيض المتوسط منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد. فأنشأوا مجموعة من المراكز التجارية من أهمها قادش (اسبانيا) نحو عام 1100 ق.م. وبعدها مدينة عتيقة( أوتيك)  في العام 1101 ق.م.  ثم مدينة قرطاج في تونس سنة 814 ق.م.

لقد عرف الفينيقيون الشواطئ الليبية منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد ثم قاموا بإنشاء مجموعة من المدن التجارية به اشتهرت من بينها (لبدة) التي يحتمل أنها انشأت في القرن السابع ق.م. وأويا وصبراته اللتان يحتمل أنهما انشأتا في القرن السادس ق.م. كما تدل المخلفات الأثرية المكتشفة فيهما.

لقد ارتبطت المدن الثلاث بقرطاج التي فرضت هيمنتها عليها اقتصاديا، وتأثرت تلك المدن بتيار الحضارة القرطاجية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ودينيا، وان تمتعت باستقلال ذاتي شأنها شأن المدن الأخرى الخاضعة لقرطاج في حوض البحر الأبيض المتوسط الغربي.

     بعد قضاء الرومان على مدينة قرطاج سنة 146ق.م . خضع إقليم المدن الثلاث لمملكة نوميديا وفي عام 46 ق.م. فرض الرومان سيطرتهم على الأقليم الذي أصبح جزءا  من الإمبراطورية الرومانية.


مدينة طرابلس:-
تردد الفينيقيون على موقع مدينة طرابلس منذ الألف الأول قبل الميلاد، إذ كان يتمتع بمرفأ آمن وهو ما يحتاجونه لسفنهم وللتزود بالمؤن والماء والتعامل مع سكان المنطقة، ان تأسيس مدينة أويا (طرابلس فيما بعد) يعود لموقعها المميز، وقد نمت وتطورت حتى أصبحت من أهم مدن حوض البحر الأبيض المتوسط. ظلت أويا تابعة للمدينة الفينيقية قرطاج منذ القرن الخامس ق.م. إلى سنة 146ق.م  حيث حكمها النوميديون ومع نهاية القرن الثاني ق.م. بدأ النفوذ الروماني يمتد إليها إلى أن تم احتلالها من قبلهم سنة 46 ق.م. وخضعت لحكمهم  إلى أن سقطت بين الوندال سنة 439م، وفي سنة 543 تمكن القائد البيزنطي بليزاريوس من الاستيلاء عليها فخضعت للحكم البيزنطي حتى سنة 23هـ / 643 م عندما تمكن القائد العربي عمرو بن العاص من فتحها، وتعتبر هذه السنة نقطة تحول حاسمة في تاريخ مدينة طرابلس إذ أقبل أهلها على اعتناق الاسلام وتعلم اللغة العربية وأصبحت احد الرباطات التي انطلق منها العرب المسلمون لفتح باقي الشمال الافريقي.

تنفرد مدينة طرابلس عن شقيقتيها لبدة وصبراته بأنها مدينة مأهولة تواصلت الحياة فيها مما لم يمكنها من الاحتفاظ بكثير من المعالم الأثرية التي تعود للحضارات الفينيقية والرومانية والبيزنطية.

منظر عام لميناء ومدينة طرابلس


ولقد احتفظت طرابلس بآثر روماني وحيد هو قوس ماركوس اوريليوس بمنطقة باب البحر، وهو قوس نصر ذا أربع واجهات زخرف بمجموعة من النقوش التي تمثل بعض الآلهة الرومانية (ابوللو، منيزفا، فيكتوريا) وبعض الاسرى والاسلاب. وقد شيد سنة 163م تكريما للامبراطوريين الرومانيين ماركوس اوريليوس ولوكيوس فيروس. فى حين أنها تزخر بالمعالم العربية الاسلامية التي تعود لفترات تاريخية مختلفة.

   

قوس ماركوس اوريليوس وجزء من ميناء طرابلس
زار الكثير من الجغرافيين والرحالة مدينة طرابلس وتركوا مدوناتهم عنها . ونشير هنا أن المدينة عرفت منذ الفتح العربي باسم ( أطرابلس ) سنة 23 هـ / 643 م بزيادة ألف ، اذ ورد هذا الاسم في الكتاب الذى أرسله القائد عمرو بن العاص الى الخليفة عمر بن الخطاب بالمدينة المنورة يخبره بفتح مدينة شروس عاصمة جبل نفوسة ويستأذنه في فتح أفريقية ومما جاء فيه  " ان الله قد فتح علينا أطرابلس ، وليس بينها وبين أفريقية الا تسعة أيام ، فان رأي أمير المؤمنين أن يغزوها ويفتحها على يديه فعل". وقد ذكرها الكثير من المؤرخين والرحالة العرب باسم أطرابلس الا أنه مع استمرار الزمن حذفت الألف للتخفيف واشتهرت باسم طرابلس الغرب قبل العهد العثماني (1551 م.) بقرنين من الزمن الا أنه التصق بها أكثر في ذلك العهد تميزا لها عن طرابلس لبنان .

وصف المؤرخ اليعقوبي في كتابه البلدان مدينة طرابلس في القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي بقوله :- " أطرابلس مدينة قديمة جليلة على ساحل  والبحر عامرة آهلة ".وفى القرن الرابع الهجري /العاشر الميلادي نجد لها وصفا في كتاب أبن حوقل ( صورة الأرض ) جاء فيه :- " فأما أطرابلس فكانت قديما من عمل أفريقية ... وهى مدينة بيضاء من الصخر الأبيض على ساحل البحر خصبة حصينة كبيرة ذات ربض صالحة الأسواق...".

منظر عام لمدينة طرابلس

أما الرحالة البكري صاحب كتاب المسالك والممالك فيصف المدينة وأهلها فى أواخر القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي بقوله :-" فان أهل طرابلس أحسن خلق الله معاشرة وأجودهم معاملة وأبرهم بغريب ... وتسمي مدينة أطرابلس مدينة أناس ...".
     وزار بعد تلك الفترة العديد من الرحالة مدينة طرابلس وأثنواعليها ووصفوا أوضاعها الاقتصادية والعمرانية واشادوا بحسن معاملة أهلها وكرمهم وبنظافة أعراضهم وثيابهم.

ولقد عرفت مدينة طرابلس بالمدينة البيضاء فالرحالة التجاني الذي زارها في سنة 706 هـ/ 1307 م. يذكر في كتابه ( تقييد الرحلة ) :- " ولما توجهنا الى طرابلس وأشرفنا عليها كاد بياضها مع شعاع الشمس يغشي الأبصار فعرفت صدق تسميتهم لها بالمدينة البيضاء...". وترك لنا التجاني وصفا وافيا لمعالم المدينة ؛ مساجدها  ، مدارسها ، قصبتها وأسوارها ، حماماتها ،أسواقها ،شوارعها ، القوس الروماني والحياة العلمية والثقافية بها .

وقعت طرابلس في سنة 1510 تحت الاحتلال الاسباني اذ تمكن قائد الاسطول الاسباني بيدرو دى نفارو((Pedro di Navarro  من احتلال طرابلس وقلعتها يوم 25 يوليو 1510 وتعود أسباب الاحتلال الى الصراع الديني الاسلامي المسيحي في تلك الفترة ورغبة ملك اسبانيا فرديناند Ferdinand  في جعل طرابلس نقطة انطلاق وتموين للأساطيل الاسبانية لضرب المسلمين في المشرق وتعميرها برمتها بالنصارى. كما أن طرابلس حظت بموقع استراتيجي مهم جعل منها مركزا تجاريا وحلقة وصل بين أوربا ومدن ما وراء الصحراء الكبرى، فكانت تنعم برفاهية العيش وقوة الاقتصاد واستقرار وامن في الحياة مع فراغ سياسي وعدم وجود سلطة قوية قادرة على الدفاع عنها.

لم يتجاوز احتلال الاسبان أسوار مدينة طرابلس وقلعتها، واقتصر تواجدهم بهما ونظم الاهالي مقاومة شعبية اتخذت من تاجوراء مركزا لها، وأمام تلك المقاومة والظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بهما اسبانيا قرر ملكها التنازل عن طرابلس وقلعتها لمنظمة فرسان مالطا سنة 1530 الذين استمر احتلالهم لها الى سنة 1551 عندما تمكن الاهالي بمساندة الاسطول العثماني من طرد فرسان مالطا وخضعت ليبيا للسيادة العثمانية.
             
طرابلس خلال العهود العثمانية والقرمانلية:-
تميز منتصف القرن السادس عشر الميلادي بسيطرة العثمانيين على طرابلس  من عام 1551 – 1711 وعرفت هذه الفترة بالعهد العثماني الأول ثم حكمت طرابلس الاسرة القره مانللية من 1711- 1835 عادت طرابلس وخضعت للحكم العثماني من 1835-1911 . وقد حظيت طرابلس خلال تلك العهود بإقامة مجموعة من المنشآت الدينية والمدنية والحربية ، شيدها الولاة والمتنفّدون والموسرون من أهل البلاد.
رسم لمدينة طرابلس سنة 1559

شيدت مجموعة من المساجد من أهمها ؛ جامع درغوت باشا (1560) جامع الناقة (اعادة بناء 1610) جامع شايب العين (1699) جامع أحمد باشا (1738) جامع قرجي (1834) . وشيدت مجموعة من المدارس ؛ مدرسة عثمان باشا (1654) مدرسة جامع ميزران (خارج المدينة 1880) مدرسة الفنون والصنائع (1898).


وفي مجال العمارة المدنية أقيمت مجموعة من المنشآت ؛ فنادق ، أسواق ، حمامات ، مدارس ، مستشفيات ، قصور وبيوت مميزة، واستحدثت شوارع خارج أسوار المدينة وزودت طرابلس بالمياه العذبة وأقيمت الأسبلة.

وأهتم الولاة بتحصين المدينة فأنشاوا الحصون والقلاع والأبراج ودعموا الأسوار ،وأولوا عناية كبيرة بقلعة طرابلس ( السرايا الحمراء) التي كانت مقرا لهم ومنها يديرون شؤون الولاية.

وفى أواخر القرن التاسع عشر استحدثت خارج أسوار المدينة بعض الشوارع والأحياء (بلخير ، ميزران .

طرابلس في ظل الاحتلال الايطالي:-
في اليوم السابع من شهر أكتوبر 1911وطأت أقدام الجنود الايطاليون مدينة طرابلس ووقعت تحت الاحتلال الايطالي الذي استمر حتى سنة 1943 . واثر الاحتلال قام الايطاليون بتهديم معظم أسوار المدينة ، وأنشأوا سورا عرف باسم ( الكردون ) حول المنطقة المحيطة بمدينة طرابلس ، يمتد من باب قرقارش ( الحمامجى سابقا ) الى باب العزيزية ثم باب عكارة فباب بن غشير ثم باب تاجوراء لينتهي عند أبي ستة لحماية أنفسهم ضد هجمات المجاهدين الليبيين . وأزال الايطاليون عددا من المعالم العربية التي كانت تحيط بالقوس الروماني ليعطوا له حرما ويبرزوا التواجد الروماني بالمدينة . وفتحوا طريقا عبر القلعة بعد ازالة جزءا من مبانيها ليربط بين الميناء بالمنطقة المحيطة بأسوار المدينة، وقاموا باستحداث بعض الشوارع والمباني وأجروا تحويرات بدار البارود والتي هيئات بتصميم وضعه المعماري دي فاوستو لتكون سوقا للصناعات التقليدية المحلية.

عاش أهل طرابلس داخل أسوار المدينة القديمة ، ومارسوا كافة الأنشطة الاقتصادية خاصة التجارة ، اذ تمتعت بموقع جغرافي متميز وبمرفأ مكنها من أن تكون من أهم المدن التجارية في البحر الابيض المتوسط وحلقة وصل مع مدن ما وراء الصحراء ، وارتبطت مع الكثير من مراكز التجارة كغدامس ،غات ، مرزق وغيرها بطرق سهل لها الوصول الى المدن التجارية فيما وراء الصحراء . وحفلت طرابلس بمجموعة من المنشآت التي ساهمت في إثراء التجارة كالأسواق والفنادق والوكالات التجارية وأماكن للحرف والصناعات المتنوعة ، فكانت طرابلس تجمع تحف البر والبحور. وأمتلك أهلها البساتين التي كانت تحيط بالمدينة والمعروفة باسم المنشية، وكانت تزود المدينة بمختلف الخضروات والفواكه ، كما كانت متنفسا لهم وأماكن ترفيه تدخل البهجة الى النفوس.

كانت تعقد خارج المدينة سوقان أسبوعيان ، هما سوق الثلاثاء وسوق الجمعة وهما من أهم الاسواق التجارية في ليبيا .يعقد السوق الأول يوم الثلاثاء من كل أسبوع وكان في العهد العثماني يعقد في المنطقة المعروفة الآن بمنطقة الغزالة، وهو سوق متنوع يأتي اليه الناس من المدن والقرى القريبة من طرابلس  ولم ينعقد هذا السوق في مكانه في فترة الاحتلال الإيطالي اذ أستغل الموقع في تنفيذ مشاريع لصالح المستعمرين . وبعد سنة 1920 دبت الحياة في الأسواق وأمام ذلك اضطرت السلطات البلدية بتخصيص أماكن غير دائمة لإقامة الأسواق ، فكان سوق الخضروات ينعقد تحت أسوار المدينة والى جانبها سوق في العراء لبيع الطيور والأرانب وغيرها. وكانت الأسواق تنقل من مكان الى أخر دون استقرار أو نظام حتى في فترة الانتداب البريطاني وما بعده . ومن أهم الاماكن التي شغلها سوق الثلاثاء في ستينيات القرن العشرين كانت منطقة العيون (برج طرابلس وما حوله الآن ) ونظرا للتطور العمراني لطرابلس فقد نقل السوق مرة أخرى الى المنطقة المعروفة بسوق الثلاثاء الجديد في المنطقة المحصورة بين المنصورة وجامع التوغار والتي كان يمر بها جزء من السور الذي بناه الإيطاليون 0 الكردون ) واستمر يؤدى وظيفته إلى أن شملت المنطقة أعمال التطوير فأزيلت مبانيه السنة الماضية لتكون منطقته جزءا من الحزام الأخضر الذى سيطوق مدينة طرابلس .

المخطط التاريخي لطرابلس :-
أشار الكثير من المؤرخين والأثريين أن مخطط مدينة طرابلس يعود الى الفترة الرومانية  ، وأن قوس ماركوس أوريليوس هو ملتقى الشارعين الرئيسيين بها ( الكاردو والديكومانوس ). ان المتمعن في المخطط التاريخي للمدينة يلاحظ اختفاء سيمات التخطيط الروماني فيها  وبوضوح الملامح العربية الاسلامية في مخططها فتوزعت المساجد الجامعة بها والتي بالقرب من كل واد منها مسجدين أو ثلاثة لأداء صلاة الأوقات . في حين تعددت المساجد الجامعة في منطقة الأسواق لاكتظاظها بالناس.

تميز مخطط طرابلس بوجود طريقين عرضين وطريقين طوليين وتتداخل معهم شبكة من الطرق الفرعية لتربط أطراف المدينة بعضها ببعض . وقد وصف الكثير من الرحالة شوارع مدينة طرابلس ومنهم التجاني (1308م.) الذى قال :- "فلم أر أكثر منها نظافة ولا أحسن اتساعا واستقامة ، وذلك أن أكثرها تخترق المدينة طولا وعرضا من أولها الى أخرها على هيئة شطرنجية". ومما يلاحظ على المخطط أن منطقة الأسواق بالمدينة تخلو أو تكاد من البيوت ، وان وجدت فإنها تنزوي في الأزقة المتفرعة من الأسواق.

إن المخطط العام للمدينة ساهم في اكساب شوارعها الظل الذى يحتاجه أهلها في فترات فصل الصيف القائضة ، فيمكنهم اختراق العديد من شوارعها دون أن تلفحهم حرارة الشمس ويعود ذلك إلى ازورار الشمس عنها كما أن معظم مبانيها تتكون من طابقين فتنكسر ظلالها لتغطى الشوارع اضافة الى ما تميزت به المدينة من كثرة العقود التي دعمت المباني وألقت الظل بالشوارع .
وساهمت الساباطات فى توفير الظلال ووفرت مساحة للبيوت ونسمات تنساب من خلال الشبابيك التي تفتح على جهتي الشارع.
سوق الترك في فترة الاحتلال الايطالي

ساباط في مدينة طرابلس

كما غطيت بعض الشوارع والمحلات بأنواع من المظلات ، وكانت بعض الأسواق مسقوفة كسوقي الربع واللفة

أعطى أهل طرابلس لمدينتهم نوعا من الاخضرار ليكون مع جدران المباني  البيضاء تناغما محببا للنفوس فأقاموا العرائش التي ترتكز عليها الكروم مع تناثر في أرجاء المدينة لأشجار الفل والياسمين فأعطـت للشوارع شكلا ومنظرا أخاذا ورائحة فواحة.
إحدى العرائش بطرابلس

عريشة بطرابلس


أما خارج المدينة في البساتين فقد استظل اهلها بالنخيل والتي بجريدها الأخضر المقوس وبعراجينها في فترة نضوج ثمارها مع خليفة لأشجار الزيتون والبرتقال والليمون والرمان وغيرها  وأرضية صفراء ممزوجة باحمرار والتي تخترقها جداول المياه الرقراقة التي تنساب من حوض بئر تقليدي ( أبو جناحين) لتشكل هذه المناظر لوحة تشكيلية أبدعتها الأيدي السمراء

أقواس ومظلات بطرابلس

باب بمدينة طرابلس

لقد فضل أهل طرابلس لطلاء واجهات بيوتهم ومحلاتهم اللون الأبيض الذى كان مع شعاع الشمس يغشى الأبصار فعرفت طرابلس في العصور الوسطى بالمدينة البيضاء . أمتا اللون المحبب لهم لطلاء الأبواب والنوافذ والمشغولات الخشبية والحديدية فكان اللون الأخضر الداكن ولتكتمل اللوحة فينبهر زوارها مع نظافة ثياب أهلها وأعراضهم وكرم ضيافتهم وفى ذلك يقول الشاعر:-
لأهــل طرابلس عــادة        من البر تنسي الغريب الحميما
حللت بها مكرها ثم اذا        أقمت بـهـا أبدلوا الـهـاء ميـما




*نشر بمجلة تراث الشعب/المؤسسة العامة للثقافة/ليبيا العدد61 ،62 لسنة 2009





الخميس، يوليو 12، 2012

كتب ومراجع


كتاب (عشر سنوات في بلاط طرابلس(




تأليف/ ريتشارد توللي
نقله للعربية/ عمر الديراوي أبو حجلة

في الكتاب وصف شامل لذكريات البلاط الملكي لولاية طرابلس، وعادات وتقاليد الطرابلسية واليهود والاتراك.

هذا الكتاب وما يحويه من رسائل نشر بعد 23 عام من كتابة الرسائل ابان حكم يوسف القره مانللي وترجم إلى الفرنسية سنة 1819 ثم الهولندية والعربية .

إن ثبوت هذه الرسائل أمر مفروغ منه لا يقبل الجدل. لقد كتبتها شقيقة المرحوم المستر ريتشارد توللي، القنصل البريطاني لدى بلاط طرابلس، إلى شخص مجهول في بريطانيا طوال العشرة سنوات التي أقامتها في طرابلس من سنة 1783 الى 1793م وكان بين عائلتها وعائلة باشا البلاد، كما تُظهر الرسائل ذاتها، صداقة حميمة استمرت طيلة عدّة سنوات.

يحتوي الكتاب على وصف دقيق وحيد لم يسبق ان عرفه الناس لعادات عائلة القره مانللي، كما أنه يفصّل من المناظر والأحداث ما لم يوصف مثله. فلقد عاصرت مس توللي فترة المجاعة سنة 1784 م. ثم انتشار وباء الطاعون سنة 1785 م. ومقتل حسن بك وريث العرش الابن الأكبر للباشا على يد أخيه الأصغر يوسف باشا سنة 1790 م. وسقوط طرابلس في يد المغامر علي برغل سنة 1793م. وغيره من الأحداث التاريخية.

وكشاهد على الصداقة الحميمة التي جمعت بين عائلة المؤلفة وعائلة الباشا علي القره مانللي، أنه حينَ رأى القنصل ضرورة عودته إلى بريطانيا هو والسيدة زوجته، رجاه الباشا وللا حلومة (التي يسميها أفراد الرعية ملكة طرابلس) أن يتركا طفلتيهما في رعايتهما بطرابلس أثناء غياب الأبوين، وطمأناهما أن ما من شيء موجود في طرابلس إلاّ وسيقدمانه للطفلتين إذا كان يسعدهما ذلك.

وإلى الظروف العجيبة الخاصة، يعزي ذلك الأسلوب المفصّل الذي آثرته مس توللي في كتابها، حيث لا تورد أخبار ونوادر القلعة فحسب، وإنما قصص وحكايات الشخصيات البارزة في البلاد أيضًا.





الخميس، يوليو 05، 2012

الأستاذ فؤاد الكعبازي كما عرفته*




الأستاذ/ سعيد علي حامد**


الأستاذ/ فؤاد الكعبازي
ولد الأستاذ فؤاد مصطفي الكعبازي بمدينة طرابلس القديمة في 20 / 8 / 1920م ، التحق في بداية حياته التعليمية بكتاب حورية داخل مدينة طرابلس، ثم التحق بمدرسة الفرير ( أخوان يوحنا ) بباب البحر وتخرج منها سنة 1936م، وواصل دراسته بالمدارس الثانوية الإيطالية، ثم درس في بريطانيا وتحصل على دبلوم الهندسة المدينة.

تعددت مواهب الأستاذ فؤاد الكعبازي، فكان مغرما بفنون الرسم والنحت ، وبرز في فن الكاريكاتير، ساهم في أنشطة النادي الأدبي سنة 1943م، وله اهتمامات في مجال المسرح والكشافة والسينما والرياضة والصحافة ومن أهم أعماله المتعلقة بالصحافة إصدار مجلة المرآة وهي مجلة رياضية فكاهية نصف شهرية، مديرها المسئول مصطفي العجيلي ورئيس تحريرها فؤاد الكعبازي ، صدر العدد الأول منها في 15 يوليو 1946م، وثمن النسخة 12 ليرة عسكرية،  منحت له شهادة الدكتوراه في الأدب الإيطالي المقارن من جامعة ( تيبيرينا ) الايطالية عام 1961 م.

وهو يعد من أبرز من يجيدون اللغة الإيطالية في العالم العربي. وله عدة مؤلفات منها كتاب ألحان عربية على أوتار من الغرب وكتاب مختارات من الشعر العالمي المعاصر وكتاب قراءات في الشعر العالمي وله ديوان شعر باللغة الإيطالية بعنوان ليبيتكو فمنحت له جائزة مدينة ريجيو كالابريا للشعر المؤلف من غير الإيطاليين سنة 1981م.

ومن ضمن أنشطته العلمية الترجمة فقد ترجم العديد من الأعمال إلى اللغة العربية أو إلى اللغة الإيطالية ومن ذلك ترجمته لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الإيطالية ، كما ترجم كتاب فابريتسو موري عن الرسوم والنقوش الصخرية بجبال أكاكوس إلى اللغة العربية. 


خلال عملي بمصلحة الآثار كان على اتصال بى عندما عكف على ترجمة كتاب ديلافيتا الذي يعنى باللغات وقد قطع شوطاً كبيرا في ترجمته ولعل الترجمة الكاملة موجودة بين مخطوطاته.

أما في مجال العمارة والتصميم فقد كانت له مجموعة من الأعمال التي نفذت في طرابلس وغيرها ولعل من أهم التصاميم التي لم تنفذ تصميم خزان المياه بمنطقة وسعاية البولاقي التي تعرف باسم وسعاية القبة التي أنشأ بها المستعمرون الإيطاليون في عشرينات القرن العشرين مقبرة أطلقوا عليها اسم مقبرة النصر شيدت في مكان برج التراب  وعرفت لدى الأهالي باسم القبة لأن قبة ضخمة تغطي المقبرة . أزيلت المقبرة في عام 1958م، فقد طلب منه الطاهر القره مانللي عميد بلدية طرابلس في أواسط خمسينات القرن الماضي إعداد تصميم لذلك الخزان  وصمم الأستاذ فؤاد  ذلك ليحل في موقع المقبرة استوحاه من نافورة في جنيف ليضفى على المنطقة مسحة جمالية إلا أن الموازنة المخصصة للتنفيذ لم تكن تغطي نفقات تنفيذ تصميمه فنفذ التصميم الذي لا يزال قائما إلى الآن.  
منطقة القبة بمدينة طرابلس القديمة، حيث يظهر النصب التذكاري للجندي المجهول الإيطالي الذي استبدل بالخزان

توطدت علاقتي بالمرحوم فؤاد الكعبازي عندما كنا ضمن لجنة المستشارين لمشروع إدارة وتنظيم المدينة القديمة ، فكنا نلتقي مع مجموعة من الدكاترة والأستاذة لمناقشة بعض الموضوعات  التي تتعلق بالنواحي التاريخية والمعمارية والهندسية والفنية لبعض معالم مدينة طرابلس القديمة وإبداء الرأي أو التوصية باتخاذ قرار بشأن معلم تاريخي أو دراسة المخطط التاريخي للمدينة إلى غير ذلك.

درج مشروع إدارة وتنظيم المدينة القديمة بإطرابلس على عقد عروض أسبوعية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي لدراسة معلم من معالم المدينة ( مسجد ، مدرسة دينية ، فندق تاريخي ، حوش تاريخي ، أسوار ، قلاع وحصون ... الخ ) ويبدأ العرض عادة بدراسة تاريخية يعدها باحث تاريخي عن المعلم ثم الدراسة المعمارية ويعدها مهندس ، بحضور أعضاء لجنة المستشارين ( مصطفي حقيه، فؤاد الكعبازي، د . محمود الفلاح، سعيد حامد، د. علي البلوشي، المرحوم علي قانه، المهندس أحمد أمبيص، د . محمود دازه، د.لطفي القروي، عمر زايد، علي الصادق حسنين، مختار دريرة، جمال اللافي وسالم شلابي  وغيرهم )، واللجنة التنفيذية لإدارة المشروع وباحثيه ومهندسيه والعديد من أستاذة كلية الهندسة بطرابلس ومجموعة من الباحثين والمهتمين بتاريخ مدينة طرابلس القديمة.

وما أن يطرح موضوع العرض للنقاش حتى يطلب الأستاذ فؤاد الكلمة فيسترسل في الحديث متنقلاً بين الدراسة التاريخية والدراسة المعمارية، ففي كل منها له سهم مصيب، معلقاً ومضيفاً ومثرياً لكليهما، ولا عجب في ذلك فهو متنوع المعرفة ومثقف موسوعي يعزف على أوتار التاريخ والهندسة والاجتماع والأديان والفن إضافة إلى عشقه للمدينة القديمة التي ولد وعاش في حوماتها وشوارعها، و فهو يقول" ولدنا وكبرنا في المدينة لم نحبها حبنا لها اليوم وعوامل الانهيار تسابق الساهرين على إنقاذها كالعجوز المودعة في دار العناية المكثفة المعوزة للأكسجين" ([1]) .

 كانت لجنة المستشارين تضم مجموعة ممن تربطهم علاقة حميمة بالمدينة القديمة ممن ولد أو عاش فيها أو أرتبط بها عاطفيا من خلال اهتمامه أو مجال عمله، فتدرس الموضوعات المعروضة عليها، وتقوم بزيارات ميدانية إلى المعالم التاريخية داخلها للمعاينة والدراسة.

وهناك دائما فسحة من الوقت لأعضاء اللجنة لتجاذب أطراف الحديث عن أوضاع طرابلس وليبيا عامة سياسياً واقتصادياً واجتماعيا وعن تاريخها القديم والحديث، عادة ما نحاول استدراج الأستاذ فؤاد إلى الحديث عن الفترة الملكية 1951 ـ 1969 م فقد عاصرها مسؤولا عن إدارة الأشغال العامة ووزيراً للبترول ولكنه كان مقلا في الحديث عن تلك الفترة، وكان يلمح ولا يصرح، وفي حديث له عن شؤون البترول في ليبيا في بداية الستينات من القرن الماضي أشار إلى معلومة أود أن أذكرها في هذا السياق وهي تتعلق بمشروع إدريس للإسكان.

قال: " أُجريت دراسة بعد تجهيز ميناء الحريقة لتصدير البترول بطبرق أوضحت أن هناك خط أنابيب لتصدير البترول سيصل إلى ميناء الحريقة والدراسة وضعت مقترحين :
أولا : أن يمر الخط بعيداً عن قصر الملك .
الثاني : أن يمر الخط بالقرب من قصر الملك .

وعرضت الدراسة على الملك فاستدعاني لكوني وزيراً للبترول واستفسر عن الدراسة وعن الطريق الذي ستسلكه الأنابيب، فأوضحت له أن الخطين كليهما سيصلان إلى الميناء وإنما الفرق في التكلفة فالخط الذي يمر بالقرب من القصر أقله تكلفة، فأمر الملك بتنفيذه على أن يوضع الفرق في التكلفة بينهما في حساب الملك الخاص  ومن هذا المبلغ كانت بداية مشروع إدريس للإسكان.

كان فؤاد الكعبازي عاشقا لمدينة طرابلس القديمة وكان يطلق عليها المدينة اللغز، باحثا عن معالمهما القديمة  عن ملامحها الاقتصادية والاجتماعية، لذلك نشر مجموعة من المقالات في صحيفة اطرابلس القديمة التي أصدرها مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة في عامي 1987 ـ 1988م، ومن تلك المواضيع: ـ
·     تفرسات أثرية في المدينة اللغز وفيه يبحث عن المعالم الرومانية للمدينة القديمة التي من شانها أن تخدم المشروع من الناحيتين العملية والمعنوية . العدد الثالث 10 مايو 1987م
·     تفرسات أثرية في المدينة اللغز. العدد الرابع ، 11 مايو 1987 وفيها يتناول الحفريات العرضية التي جرت بسوق المشير، وهو في هذه التفرسات يعتقد أن موقع الحفريات عبارة عن أقبية لبناء السفن التجارية والحربية قبل إنزالها إلى البحر عن طريق دفعها وانزلاقها إلى البحر واستشهد ببيت من قصيدة زجلية لأحد الزجاليين القدامى:
الخندق وفم الباب والسرسيبه
                     وجه حبيبي ما يطول غيبه

وقد ثم التعقيب على هذا المقال في صحيفة اطرابلس القديمة، السنة الثانية العدد 2 في 30 / 4 / 1988 م من كاتب مجهول بعنوان: حول حفرية سوق المشير" الكاوش المدفون " ذكر صاحب المقال أن الموقع كان كاوش بمعنى ثكنة لإقامة الجند، ونقل الكاتب ما أورده احمد النائب الأنصاري في كتابه المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب" الجزء الثاني . ص 39 " أنشئ كاوش منتظم للعساكر الشاهانية بهمة حضرة الوالي المشار إليه ( يقصد أحمد راسم ) من الواردات البلدية داخل باب الخندق". كما أورد الكاتب روايـة شفوية لأحـد سكان المدينة القديمة  ( ينظر المقال ).
·     نظرة في تاريخ وتكوين المدينة القديمة بإطرابلس ( الحلقة الأولي ) مع الدراسة اسكتشات من رسمه . العدد السابع . 14 مايو 1987م
·     تفرسات في المدينة اللغز العدد 8 ، 15 مايو 1987 وفيه يطرح سؤالا لماذا لا نرى تكافؤ بين حجم التداول المالي زمن ازدهار تجارتها الأفريقية وجهادها البحري الأسطوري مع ما تبقى من حيثيات الآثار العمرانية المائلة أمامنا التي لا تضاهي روعة وبذخ آثار أية مدينة من مدن الشمال الأفريقي المعاصرة رغم كونها أنشط وأنسب سوق للتبادل التجاري الدولي من حيث الرواج والموقع الجغرافي ، ونشر بقية الحلقات في الإعداد 9 ، 10 ، 11 ، 12 ، 13 الصادرة من 16 مايو إلى 20 مايو 1987م .
·     كلمات وصور من المدينة القديمة : ابن المدينة لا ينساها. على حلقتين في العددين 14 ، 15 ، 21 ، 22 مايو 1987 .
·     نماذج من المدينة القديمة العدد 17 الصادر في 24 مايو 1987م .
·     خواطر عن النشاط المسرحي إبان الإدارة البريطانية بإطرابلس :
" بداية من لا شيء " . ضمنه رسم كاريكاتيري للممثل الكوميدي حمدي و د . مصطفي العجيلي والمؤلف الكوميدي حسن يوسف المصري ، وملامح بشير عريبي العدد 18 الصادر في 25 1987م .
·     كلمات وصور .. من المدينة القديمة العدد 20 ، 27 مايو 1987م
·     1 ـ سي رمضان الأسود " ذو الأيادي البيضاء " .
·     2 ـ بشير عريبي .... " عروسة ليلة واحدة " العدد 21 ، 2 يونيه 1987م .
·     خارج حدود الحارة . ضمنه رسومات عن يهود الحارة السنة الثانية ، العدد الأول 29 ابريل 1988 .
·     قصة وقصيدة من حومتنا ، النعش . السنة الثانية ، العدد الثالث مايو 1988م
·     الجار جار مهما جار . عن يهود طرابلس . مع بعض الرسومات السنة الثانية العدد 6 ، 7 مايو 1988.
·     قصة وقصيدة
1 ـ أسرار فوق السطوح
2 ـ قصيدة سطوح مدينتنا
السنة الثانية العدد 7 ، 8 مايو 1988
·     اللي يأخذ أمي هو بوي
عن يهود طرابلس ـ مع بعض الرسومات  السنة الثانية ، العدد 11 . 13 مايو 1988 داخل حدود الحارة : الود عن أب وجد . السنة الثانية ، العدد الخامس ، 6 مايو 1988
·     وهناك من العديد من الدراسات والمقالات التي كتبها فؤاد الكعبازي في العديد من الصحف والمجلات الليبية منذ أواسط أربعينات القرن الماضي واقتصرت هنا فقط على بعض من نشاطه العلمي مع مشروع وتنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس .
·     أنتقل إلى رحمة الله تعالي يوم الاثنين 14 / 5 / 2012 ، بطرابلس نسأل الله أن يسكنه فسيح جناته .وبوفاته فقدت ليبيا علما من أعلامها ومبدعا وعاشقا لمدينة طرابلس المدينة اللغز ، ومن لا يعشقها فهي العزيزة والكرام بنوها .




* أعدت بمناسبة احتفالية تأبين المرحوم فؤاد الكعبازي التي نظمها مجمع اللغة العربية بطرابلس بتاريخ 1/7/2012م.
** تعريف بكاتب المقالة: http://mirathlibya.blogspot.com/2012/06/blog-post_21.html



[1] ـ فؤاد الكعبازي . قصة وقصيدة من حومتنا : النعش ، صحيفة اطرابلس القديمة ، مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة ، السنة 2 ، العدد 3 ، مايو 1988 


أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...