الاثنين، أبريل 06، 2020

منطلقات في التوجه الفكري والمعماري



  
تمهيد/

* التقليد، الاقتباس أو المحاكاة للموروث المعماري ليس بالضرورة عيباً أو قصوراً في المنهج الفكري للمعماري، فقد يكون حفاظاً على ما تحقق في الماضي من معالجات بيئية أو متطلبات اجتماعية لا تزال تؤدي وظيفتها المعمارية بكل كفاءة إلى يومنا هذا.

* الحداثة أو التجديد، لا يعني بالضرورة أمراً جيداً أو مقبولاً، حين يأتي معه بمعاول الهدم لكل ما هو متوارث، دون أن يستند على مبررات منطقية ومنهجية مدروسة العواقب ومضمونة النتائج، بحيث لا تترك آثارها السلبية على سلوك المجتمع واستقراره المادي والمعنوي.


من هذا المنطلق على المعماري الليبي- الذي يسعى للتواصل مع عمارته المحلية- أن يدرك هذه الجوانب وينطلق منها في مسيرة التأصيل للعمارة الليبية المعاصرة:
        أن ما وصل إليه الأجداد هو نتاج خبرة متواصلة ومتوارثة لأسطوات البناء التقليديين للتوفيق بين قيم ومعتقدات المجتمع ومتطلباته الحياتية اليومية والإمكانات المتاحة من مواد البناء والتشطيب وطرق الإنشاء وعناصر التأثيث.
        أن اسطى البناء التقليدي حينما تعاطى مع عمارته المحلية بكل تلك الكفاءة والاقتدار، إنما هو نابعٌ من إخلاصه وتفانيه في معالجة الإشكاليات وطرح الحلول الناجعة، التي أثبتت كفاءتها البيئية والوظيفية والاقتصادية، وملاءمتها لمتطلبات المجتمع. وقدرتها على استيعاب المتغيرات والمستجدات إلى يومنا هذا.
        العمارة المحلية تستمد مقوماتها، من قدرتها على المواءمة بين المتطلبات المادية والعاطفية للمجتمع من جهة، والمعطيات البيئية والاقتصادية من جهة أخرى.
        أن العمارة المحلية ليست نمطاً معمارياً واحدا، يقبل التعميم على باقي المدن، بقدر ما هي علاقة مترابطة بين الشكل والمضمون من جهة، والمحيط الاجتماعي والبيئي الذي أنتجها من جهة أخرى.
        أن العلاقة بين المفردات وتفاصيلها المعمارية والزخرفية من جهة والتوزيع الفراغي للعمارة المحلية من جهة أخرى، هي علاقة متينة الصلة ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض،بل هي كل متكامل يعكس أساليب التعبير المتنوعة للتعريف بهوية المكان والمجتمع الذي يقطنه.
        أن العمارة المحلية التقليدية تتنوع من حيث انتشارها الأفقي والعمودي. حيث تنتشر أفقيا في عمارة مساكن الريف وضواحي المدن الساحلية وبعض المدن الصحراوية، وتنتشر رأسيا للأعلى في عمارة مساكن غدامس، مثلما هناك عمارة تنحت في الأرض مساكنها كعمارة بيوت الحفر في غريان. وهناك عمارة تتدرح مع مناسيب الجبال وأخرى تخترق تلك الجبال وتحفر فيها عمقاً كعمارة الدواميس في الجبل الغربي. لهذا لن تكون هناك تصاميم لمباني سكنية بمفردات معمارية وزخرفية، بعيداً عن طبيعة التوزيع الفراغي المرتبط بها في بيئتها التي نشأت فيها.
        أن ما حصل من انقلاب جذري على هذا الموروث كان مرجعه بالدرجة الأولى إلى تفسخ المجتمع عن قيمه ومعتقداته وفقدانه لبوصلة التوجيه التي كان يستعين بها على معرفة ما يحتاجه فعلاً، حتى يمكن تحويله إلى شكل معماري وتوزيع فراغي يعكس هويته ويحقق له متطلباته المادية والعاطفية في رؤية معاصرة. (للإعلام دور كبير فيما حصل ويحصل).
        إضافة إلى أنصراف مؤسسات التعليم المعما ري والاتجاه بها فكراً ومنهجاً وتطبيقاً وتشريعاً عن التواصل مع هذا الموروث والانحراف بها إلى تبني مناهج وتشريعات بناء غربية، دون أن تحظى ولو بالقليل من المراجعة للتوفيق بينها وبين المعطيات البيئية والخصوصية الاجتماعية والظروف الاقتصادية لكل بيئة محلية.
                    أن الإبداع لا يكمن في البحث عن كل ما هو جديد وغير مألوف، في مقابل القطيعة مع الموروث المعماري.
        أن المنهج التصميمي للمشاريع المعمارية يعتمد بالدرجة الأولى على تلمس تلك الملامح الأصيلة لكل عمارة محلية من واقع الزيارات الميدانية لمعالم المدن التاريخية، والبحث في إمكانيات الحفاظ على أصالة التوزيع الفراغي وفرادة التفاصيل والمفردات المعمارية والزخرفية، التي تميز كل عمارة محلية عن الأخريات.
        أن المحاولات التصميمة الجادة في إعادة الاعتبار للعمارة المحلية، تنطلق في حقيقتها من احترام خصوصية كل نمط معماري منها واقتصار تصاميمه وتنفيذها على البيئة التي نشأ فيها كل نمط معماري منها، دون سواها من المدن، التي تمتلك بدورها نمطا معماريا يميزها.

        أن البحث في مسألة الابتكار في تصميم المشاريع المعمارية والتفاصيل والمفردات المعمارية والزخرفية، أو تطوير التقليدي منها، يستوجب من المعماري أن يستند في ذلك على دراسة واعية لمستدعيات هذا التجديد وضرورات الإلغاء أو التعديل.
        البحث عن تلك القواسم المشتركة التي تصنع (حقيقةً وليس وهماً) صورة العمارة المحلية التي تستحق أن توصم بالمعاصرة، من حيث قدرتها على التوفيق بين التوابث التي لا يمكن الخروج عنها بأي حال من الأحوال (ممثلة في الظروف البيئية وقيم المجتمع ومعتقداته)، والمتغيرات التي تشكل مساحة واسعة للمعماري للتعبير والتجديد من خلالها (كمواد البناء والعزل الحراري ومصادر توفير الطاقة الكهربائية وتقنيات الإنشاء التي لم تكن متاحة في الماضي، وأيضا الظروف الاقتصادية للمستعملين، التي تتحكم في حجم المبنى وثراء تفاصيله المعمارية والزخرفية).
        محاولة فهم أبعاد ومنطلقات ودوافع هذا التوزيع الفراغي ووظائفه، ومن تم الإبقاء على شكل وتوزيع كل فراغ وظيفي أثبت ملاءمته لمتطلبات العصر، والتعديل فيما يحتاج للتعديل من حيث الشكل والمساحة ليتلاءم الفراغ مع متطلبات العصر والتجديد في عناصر التأثيث (التي لا مناص من تعديلها لتكون أكثر فاعلية). ونقل فراغ من مكان إلى آخر حتى يواصل أداء وظيفته على أكمل وجه وتنتفي عنه أوجه القصور. وأخيرا إلغاء أي فراغ أو توزيع فراغي لم يكن في حقيقته ملائماً حتى في عصره، وإنما فرضته ظروف الواقع فرضا على مستعمليه بتلك الصورة لدواعي عادات اجتماعية تتعارض مع العقيدة الصحيحة، أو لتأثيرات اقتصادية أو إنشائية صِرفة.
        أن يحصر مساره المهني والبحثي، في التأصيل للعمارة الليبية المعاصرة، متجاوزاً بذلك كل دعوات التشكيك والتثبيط التي ترى في هذا المنهج تقليدا يتنافي مع مستدعيات الإبداع والتجديد من منظوري التغريب والتسطيح لرسالة المعماري وفهمه لأدواره في المجتمع الذي يعايشه.
        أن يحصر مناقشة مشاريعه وإدارة الحوار حولها ضمن دائرة مدى توفيقه في حل معضلة التأصيل من عدمها. وأن غير ذلك هو سعي للنأي به عن منهجه في العمارة الذي اختاره عن قناعة بجدواه كدرب في مسيرته المهنية لتحقيق رسالته السامية في الارتقاء بمجتمعه عمرانيا وحضاريا.


وما التوفيق من قبل ومن بعد إلاّ من عند الله سبحانه وتعالى.

المعماري/ جمال اللافي
الأحد 12 شعبان 1441 هـ.
5 إبريل 2020



الأربعاء، أبريل 01، 2020

المسكن الغدامسي المعاصر



جمال اللافي

      هذه واحدة من المحاولات المتكررة لتلمس ملامح لمساكن مدينة غدامس المعاصرة من وحي المسكن الغدامسي التقليدي، حيث كانت البداية في العام 1993 م. ، عندما جاء إلى مكتبنا الهندسي (الميراث) مواطن من مدينة غدامس وطلب من الزميل المعماري عزت خيري تصميم بيت له على قطعة أرض بمدينة غدامس، فتشاركنا معا المحاولة الأولى.

      في بداية هذا الشهر(مارس 2020)، بدأت معاودة المحاولة في تصميم آخر بعيدا كل البعد عن التصميم السابق، وأفلحت النتيجة بعض الشيء، مع وجود قصور يتعلق بعدد بالنقص في حجرات النوم. وقبل نهاية الشهر والذي يوافق هذا اليوم الثلاثاء 31 مارس 2020 م. وفقني الله سبحانه وتعالى إلى الوصول إلى محاولة جديدة وثالثة، أراها تقترب أكثر من مرحلة التأصيل للبيت الغدامسي المعاصر.

  

      المتمعن في المسكن الغدامسي التقليدي سيجد عدة ملامح تميزه عن مثيلاته في المدن والمناطق الأخرى، يمكن تلخيصها في النقاط التالية، مع التذكير أن هذه النقاط ستكون سبيلنا لوضع تصور لهذا المسكن المعاصر.
        يتكون المسكن الغدامسي التقليدي من ثلاث طبقات رئيسية وهي:
1.                 الطابق الأرضي ويضم: مدخل وسقيفة البيت/ مخزن الغلال/ السلالم المؤدية للطابق الأول.
2.       الطابق الأول ويضم عدة مستويات: المستوى الأول فراغ المعيشة. المستوى الثاني يتوزع على جهتين أحدهما يضم غرفة النوم الرئيسية والآخر غرفة نوم الأبناء.
3.       الطابق الثالث: يتم الوصول إليه عبر غرفة المعيشة من خلال سلالم يقسم على مرحلتين الأولى تؤدي إلى إحدى غرفتي النوم، ثم يتواصل السلالم في ارتفاعه ليصل إلى السطح.
4.       الطابق الأخير وهو سطح البيت ويضم المطبخ ومساحة مفتوحة لاستقبال النساء الضيوف من الجارات واللاتي يصلن إليه عبر ممرات تربط أسطح البيوت بعضها ببعض.

يلاحظ في المسكن الغدامسي التقليدي أن المعيشة تتوسط غرف النوم وتأخذ إضاءتها غير المباشرة من كوّة في السقف لا تزيد ابعادها عن 60 سم.× 60 سم.
كما يلاحظ أن المطبخ في جميع البيوت الغدامسية موجود في سطح البيت، مشكّلاً معه فراغا لاستقبال النساء اللاتي يصلن إليه كما أسلفت عبر ممرات ناتجة عن (دروة البيوت المتلاصقة). حيث كانت النساء تتواصل بهذه الطريقة ولا تواصل عبر شوارع وأزقة المدينة، المخصصة جميعها لحركة الرجال والجلوس للتسامر على ركاباتها.

بالنظر إلى تغير النسيج الاجتماعي للمجتمع الغدامسي المعاصر في بعض جوانبه بعد انتقالهم للعيش خارج المدينة القديمة إلى أحياء ذات مخططات معاصرة وبيوت منفصلة وشوارع واسعة لا تصلح إلاّ لحركة السيارات والمارة وعابري السبيل من جهة إلى أخرى مشكّلة بذلك انعداما للخصوصية ولكل مقومات الحياة التقليدية المتعارف عليها عبر أجيال سابقة، منها خروج المرأة إلى الشوارع وانتفاء حركتها وتنقلاتها إلى بيوت عائلتها وجاراتها عبر دروب سطوح المنازل. وبذلك ينتهي النموذج التقليدي للبيت الغدامسي، ليحل بدلا عنه نموذجا متكررا معاصرا لا يختلف في شيئ عن مثيلاته في جميع المدن الليبية الأخرى. مع الفارث المتعلق بوضع تلك المثلثات في دروات سطوح المنازل أو طلاء البيوت باللون الترابي.

عليه اتجه نمط التفكير إلى منحى آخر في التعاطي مع البيت الغدامسي المعاصرة، بحيث يأخذ في اعتباره شيئين متلازمين دائما في تصميم أي مسكن وهو التوفيق بين الشكل والمضمون، فللبيت الغدامسي خصوصيتين متلازمتين عن نظيراتهما في البيوت التقليدية في باقي المدن الليبية وهما الطراز المعماري والتوزيع الفراغي المعتمد على الارتفاع الرأسي وتقسيم فراغات البيت على أكثر من منسوب تتفاوت في الارتفاعات. حيث تم تقسيم البيت الغدامسي على هذا الأساس:
1.                 الطابق الأرضي ويضم:
                     مدخل وبهو البيت.
                     سلالم يؤدي إلى الطابق الأول.
                     صالة استقبال الرجال+ حمام للضيوف+ ميضأة.
                     مخزن للغلال وحضيرة للمواشي.
                     بستان.



2.                 الطابق الأول ويضم:
                     المستوى الأول: فراغ المعيشة.
         المستوى الثاني: بفارق 5 درجات عن المعيشة نجد حجرة النوم الرئيسية + حمام. يلاصقها حجرتي نوم الأبناء + حمام مشترك.
         المستوى الثالث يمثل امتدادا للسلالم بفرق منسوب درجتين ويضم المطبخ + شرفة (كتعويض عن العلاقة بين المطبخ وسطح البيت).




ستبقى هذه مجرد محاولة أخرى قابلة للتعديل من خلال مشاركة أصدقاء الصفحة من أبناء مدينة غدامس في إثراء التصميم بآرائهم القيّمة.


الخميس، فبراير 27، 2020

فقر العمارة





جمال اللافي

العمارة الفقيرة، هي تلك التي تخلو من الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة المتجانسة، التي تضفي على المكان حيويته، فتبعث في النفس شعوراً بالبهجة، لا يُعرف سره ولا مصدره. وكلما تكرر وجودنا في هذا المكان راودتنا تلك المشاعر من جديد، حتى نُقر بأنه مصدرها الوحيد ولا شيء آخر.

والمعماري القادر على إثراء المكان بتلك التفاصيل المُبهجة، لابد أنه عايشها يوماً ما في طفولته، فهي لا تأتي من مطالعة الكتب ولا من كثرة الترحال بين البلدان والمدن. إنما تنبع من الأعماق، من مخزون الذاكرة، من بيت الجد.

ما نخشاه اليوم، هو خلو عمارتنا المعاصرة من هذه التفاصيل الباعثة على البهجة، التي تستدعي العين للتأمل فيها، فتُمكّن للذاكرة أن تستوعبها وبالتالي تختزنها. وما نراه فقط هو مصفوفة من الحوائط الصماء مختلطة الألوان، الباعثة على الملل. والمثقلة بالحاجيات المستوردة من هناك وهناك، المتنافرة والمبتذلة رغم غلو أثمان بعضها.

بيت الجد في العمارة المعاصرة، غير قابل للترحيل إلى الأجيال القادمة، لأنه اصبح مثالاً حيّاً على العمارة الفقيرة.

السبت، فبراير 22، 2020

ماهية المدينة



ما هي المدينة، غير كونها مجموع الأنشطة التي تدور فيها بتنوعها، فتجعل من بعضها مدناً ريفية وأخرى حضرية، ومدناً صناعية وأخرى تجارية، ومدناً زراعية وأخرى رعوية. ومدناً تستوعب كل هذا التنوع، فتكون حاضرة كل تلك المدن. وما هي المدينة التي هنا وليست هناك، غير تلك الخصوصية التي تميز طبيعة هذه الأنشطة عن تلك.

صورة المدينة لا تتشكل وفق رغبة فرد أو اعتراض دولة، بل هي تتشكل بخيارات مجموع سكانها، عندما تجمعهم رؤية مشتركة يؤطرها احترام الجميع للمكان الذي يتشاركون العيش فيه، فلا قمامة ترمى في الشوارع ولا سلوكاً يؤدي الآخرين، وفي المقابل لا تحجر على أي نشاط يشكل مصدر عيشٍ للبعض من سكانها أو من تضطرهم الظروف لقضاء بعض مصالحهم المؤقتة فيها.

ومهمة مخطط المدن والمعماري تنحصر فقط في استثمار هذا التنوع في الأنشطة الحياتية للمجتمع، ليصنع منها تلك البيئة العمرانية التي تثري المحيط ولا تخلق تنافرا معه.

التحضر بمفهومه الأخلاقي، ليس نظاماً تخطيطياً أو شكلاً معمارياً يُغلّف المدينة بغلافٍ أنيق لا يحتمل الاتساخ أو لا يستوعب المتغيرات الطارئة، يسعى مخطط المدن والمعماري لفرضه أو تأطيره بقوة قوانين كيّفها لتتوافق مع مستوى إدراكه القاصر. بقدر ما هو سلوكاً يومياً عفوياً يمارسه أفراد المجتمع داخل محيطهم العمراني، من خلال علاقاتهم الإجتماعية أو النشاطات الاقتصادي التي يمارسونها والقيم التي يعتنقونها ويلتزمون باحترامها في إدراكهم الجمعي.


بعضاً من المعماريين حتى هذه اللحظة غير قادر على استيعاب هذه الحقيقة... أو هو لا يريد.


لهذا لا زالت المدن القديمة، التي خط مساراتها العقل الجمعي لسكانها، تضج بعفوية الحياة، بينما تقف المدن المعاصرة عاجزة عن خلق حياة طبيعية لسكانها والمحافظة على استدامة مبانيها.

ماهية العمارة



جمال اللافي


العمارة، هي النقطة التي يلتقي فيها حاضر الأمة بماضيها وهي في طريقها إلى أن تصنع مستقبلها.

لهذا فالعمارة التي تنفصم عن واقعها وتنغمس في الماضي، هي في حقيقتها ليست بعمارة معاصرة، بقدر ما هي لوحة كرنفالية تمجد الماضي.

كذلك العمارة التي تنفصم عن ماضيها، بحجة البحث عن الجديد والهروب من التقليد، هي أيضا ليست بعمارة بقدر ما هي لوحة ساخرة لسلوك أحمق.

والمحصلة لن يكون هناك وجود لعمارة في المستقبل، إذا ما انغمست في الماضي، أو انفصمت عنه.

فالعمارة، روح تتجدد في أعماقها ومن دواخلها، ولا تبحث عن التغيير خارج كيانها الذي انبنت أركانها على اساساته.

الثلاثاء، فبراير 11، 2020

حوش القلعة... بين ثقافتي الهدم وإعادة التأصيل.

حوش القلعة بمنطقة تاجوراء- بضواحي طرابلس

جمال اللافي


يقع هذا البيت بمنطقة النعاعسة بتاجوراء بضواحي طرابلس، ويمثل نموذجا متميزا لبيوت المزارع بحجمه الكبير، زرته في أحدى أمسيات العام 2006 ، وكانت حالته الإنشائية جيدة جداً، صحبة مجموعة المعماريين بمكتب المدرسة الليبية للعمارة والفنون، بدعوة من فؤاد النعاس (رحمه الله وغفر له) أحد أبناء العائلة، في موعد لم يتم الترتيب له مسبقاً، بقدر ما كان وليد لحظة الالتقاء به والحديث عن العمارة وشجونها المحلية واهتمام مجموعة المكتب بكل ما يرتبط بها من شواهد لازالت قائمة تتحدى الإهمال والتشويه.


تكررت الزيارة في العام 2016 بموعد تم الترتيب له مسبقاً من طرف المهندس بشير بريكة مع الأخ جمال النعاس أحد أبناء العائلة، صحبة مجموعة من الزملاء المعماريين والمهندسين وأساتذة كلية الفنون الجميلة المهتمين بالعمارة المحلية. ولم يفت المجموعة في نفس اليوم فرصة زيارة بيت آخر لهذه العائلة يقع بالقرب منه ويقطن الأخ فتحي النعاس بيت حديث النشأة ملاصق له ومتصل به عبر ممر مشترك، وما ميز هذا البيت أنه بحالة جيدة، مقارنة بحوش القلعة الذي تهدمت حوائط وأسقف أجزاء كبيرة منه. وتم الاتفاق على العودة للقيام بأعمال رفع مساحي لحوش القلعة.



       وهذا ما تم بالتعاون مع المهندس خالد سالم المبروك والمهندس رشيد كعكول. حيث توليت أعمال توثيق تفاصيل المفردات المعمارية من أبواب ونوافذ وأقواس وأعمال خشبية وزخرفية أخرى، وتولى المهندس خالد المبروك أعمال الرفع المساحي بمساعدة من المهندس رشيد كعكول. وتكفل المهندس خالد بإنجاز رسم الخريطة المعمارية للحوش بأكمله في ظرف أسبوع واحد. ولم تتح الفرصة بعدها لتصحيح بعض الأخطاء في أعمال الرفع المساحي واستكمال النواقص نظراً لتعارض مواعيد عمل صاحب البيت مع مواعيدنا.

المهندس خالد سالم المبروك، أثناء أعمال الرفع المساحي للبيت
      وكلما نظرت إلى خريطة هذا البيت راودني شعور بالأسى على عدم التمكن من استكمال أعمال الرفع المساحي له، قبل أن يتم هدم البيت حسب ما افاد به صاحبه. إلاّ أنه في أحد الأيام كانت هذه النظرة إلى خريطة هذا البيت مختلفة عن سابقاتها، حيث تبادر إلى ذهني تساؤل مفاده، لماذا لا أقوم بإعادة تصحيح الأخطاء واستكمال النواقص من واقع معرفتي بتفاصيل البيت. ثم انتقل التفكير إلى منحى آخر وهو، لماذا لا أعيد رسم الخريطة المعمارية لهذا البيت وكأنه بُني حديثا وبزوايا قائمة مع الحفاظ على سمك الحوائط (60 سم) على حالها. على أن يتم في فترة لاحقة تقليص هذا السمك إلى (40 سم) للحوائط الخارجية، و (20 سم) للحوائط الداخلية، و(10 سم) لبعض الفواصل.


وهذا ما تم العمل عليه بفرضية أن البيت القديم لم يعد صالحاً للسكن بحكم تهدم أجزاء كبيرة منه. وأن إعادة ترميمه وصيانته ستكون مكلفة جداً، ولا تتوفر عوامل نجاحه بالصورة الصحيحة، وخصوصا فيما يتعلق بإعادة بناء حوائطه وأسقفه المتهدمة بنفس المواد والتقنيات السابقة.


وبالتالي في حالة أصبح أمر هدم مثل هذه البيوت أمرا واقعا ولا مفر منه، فهذا لا يعني أن هذا النمط من البيوت غير قابل لإعادة بعث الحياة فيه في بيوت جديدة ومتوافقة مع هذا العصر بكل متطلباته ومواد بنائه ونظم إنشائه المتاحة محليا، وخصوصا عندما نقف قليلا لنتدبر في حقيقة أن هذه البيوت لا يخالطها أي عيب أو قصور في قدرتها على التواؤم مع متطلبات الليبيين واحتياجاتهم المعاصرة. ولا تقف أيضاً حائلا أمام استيعاب التقنيات المعاصرة بضروراتها وكمالياتها. بقدر ما يحفظ لهذا النمط المعماري المحلي تواصله مع التاريخ وحفاظه على هويته المعمارية المتميزة، سواء في توزيعه الفراغي أو في تفاصيله ومفرداته المعمارية والزخرفية.



رابط المقالة على صفحتي بالفيسبوك لمزيد من الصور:


أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...