أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، أكتوبر 05، 2025

العمارة بين الاستيراد والتعبير عن الذات


جمال الهمالي اللافي

التنوع هو ذاك الذي ينشأ بين الحضارات والشعوب، وقد يتجلّى بين مدينة وأخرى داخل القطر الواحد. وهو انعكاسٌ لقناعاتٍ تحترم قيم المجتمع واحتياجاته ومتطلباته، وثقافته ومؤثراته البيئية وظروفه الاقتصادية. لا تلك العمارة المستوردة من وراء الحدود والبحار والمحيطات، التي لا تأتي عن قناعة بجدواها، بل نتيجة تبعية وانقيادٍ أعمى.

يمكن لأي شعب أو أمة أن يستورد ما يشاء بالمال. وبالمال يمكنه أن يناطح السحاب، ويغوص في أعماق البحار، ويجوب القارات بحثًا عن كل ما يمكن استهلاكه من منتجات الآخرين. لكن المال، مهما بلغ، لا يصنع حضارة. فالحضارة تولد من رحم المكان، ومن ظروفه ومعطياته، ومن الإبداع الأصيل لأبنائه في طرح الحلول ومعالجة الإشكاليات التي تعترضهم في مختلف جوانب الحياة. وهي تعكس آليات تفاعلهم مع المؤثرات البيئية، وتعبّر عن قناعاتهم وأفكارهم ورؤيتهم للحياة، وتُجسَّد في شواهد معمارية ورموز فنية لا تُستورد، بل تنبع من ذواتهم بكل تلقائية وعفوية.

أما الثورة في مجال العمارة، فلا تتحقق إلا إذا صاحبتها ثورة محلية في عالم البناء والتشييد، من حيث مواد البناء وطرق الإنشاء وتقنياتها. ونحن في ليبيا لا نزال نراوح في زمن الخرسانة المسلّحة، ونظام الهيكل الإنشائي، والبومشي، والبلوك، والعمالة الأجنبية غير الفنية. ولا تكتمل الثورة دون استعادة الحرفة المحلية، التي كانت يومًا مرآةً للمعرفة العملية، قبل أن تُقصى لصالح عمالة لا تنتمي للمكان ولا تدرك خصوصيته.

فأين نحن من تلك الثورات التي تجتاح العالم؟

الوعي المعماري: من التعليم إلى الإعلام

  


جمال الهمالي اللافي

الاتجاه الذي يتبناه المعماري- سواء نحو تأصيل العمارة المحلية أو مواكبة الاتجاهات العالمية المتجددة- ليس خياراً مهنياً قابلاً للتفاوض، بل هو قناعة راسخة تنبع من خلفية عقائدية وثقافية متجذرة في وجدان كل معماري. والتغيير، إن حدث، لا يأتي إلا من داخل الذات، نتيجة تراكم الاطلاع، وتوسع الحوار، وتعدد المشاهدات. إنه تأثير ذاتي صرف، قد يخلخل تلك القناعات أو يقتلعها في لحظة انفعال، حين يشعر المعماري بخواء ما كان يسير في ركابه وينصاع لتوجيهاته.

العمارة، قبل أن تكون شكلاً أو وظيفة، هي بناء فكري له قواعد وأساسات، وله بنيان وتفاصيل تتشكل من خليط من المواد والتقنيات، شأنه شأن أي منشأة مادية. وكما أن بناءه يستغرق زمناً ليكتمل، فإن هدمه لا يتم إلا بقرار داخلي من ساكنه، لا يُنتزع من الخارج إلا في حال امتلاك ذلك الآخر لسلطة القهر والتنفيذ. حينها يكون التغيير جبراً لا اقتناعاً، ولا ينتج عنه إلا خفوت الصوت، إلى أن تتغير الظروف وتُتاح الفرصة لمعاودة الإعلان عن الذات، بصوت أعلى، وعبر كل وسائل الإعلام ومواقع التشييد والإعمار.

ولكي لا نُضطر يوماً إلى هدم شواهد معمارية بُنيت وفق رؤى أصحابها، فقط لأنها أساءت للمحيط وشوهت صورته وأفسدت على الناس حياتهم، فإن من الضروري مراجعة البناء الفكري لطلبة العمارة في ليبيا. مراجعة دقيقة تضمن سلامة الأسس، وجودة المواد، ومتانة التقنيات، وفاعليتها على المدى البعيد، بما يضمن أن تكون نتائجها في صالح المجتمع والبيئة، دون أن تلحق بها أضرار يصعب معالجتها أو تعويضها، وقد يمتد أثرها لعقود، وربما قرون، تبعاً لعمق الضرر واتساعه.

وحين نتحدث عن البناء الفكري للمعماري الليبي، فإننا نشير بالضرورة إلى المؤسسات التعليمية التي تتولى صياغة هذا الفكر، ممثلة أولاً في أساتذتها، ثم في مناهجها ومرافقها. ومراقبة هذه المؤسسات لا تقتصر على الدولة، بل تتعداها إلى المجتمع المدني، لأنه المتضرر الأول من نتائجها، على بيئته، واحتياجاته، ومتطلباته، وتأثيراتها النفسية.

وهنا يبرز دور الإعلام، لا بوصفه ناقلاً للأحداث فحسب، بل كأداة توعية وتوجيه، تسهم في تنبيه المجتمع إلى الجوانب التي تمسه في حياته اليومية، وتبتعد عن إفراغ المحتوى الإعلامي من قيمته التربوية والإرشادية، بإغراقه في مواضيع سطحية لا تنفع الأمة، بل تشتتها عن همومها الحقيقية، وتُقصيها عن مناقشة عوامل نهضتها ورقيها.

الجمعة، أكتوبر 03، 2025

العمارة الفقيرة

 حين تفقد العمارة ذاكرتها

 


جمال الهمالي اللافي

تُعرَّف "العمارة الفقيرة" بأنها تلك التي تفتقد البُعد الجمالي، لا بسبب غياب الموارد، بل لغياب التفاصيل الصغيرة والمتجانسة التي تُضفي الحياة على الفضاءات، وتُثير مشاعر يصعب تفسيرها. وعندما نُعيد زيارة تلك الأماكن، تستمر الأحاسيس في العودة، حتى ندرك أنها تنبع منها، لا من أي مكان آخر.

المعماري الذي يُجيد إغناء المكان بتلك التفاصيل المُبهجة غالبًا ما يكون قد عاشها في طفولته. فالإبداع لا يُستمد من كثرة السفر أو قراءة الكتب فقط، بل من عمق التجربة الشخصية، من بيت الجد، ومن كل ما يُشبهه في الروح والتكوين.

ما يُقلقنا اليوم هو أن عماراتنا المعاصرة تفتقر إلى تلك التفاصيل التي تُدهش العين وتُحفّز الذهن للتأمل، مما يُضعف من قدرة الذاكرة على الاحتفاظ بالتجربة. عوضًا عن ذلك، نُشاهد تركيبًا غير متناسق من الحوائط الصماء، المختلطة الألوان، المثقلة بالحاجيات المستوردة، التي تجعل المكان يبدو متنافراً ومبتذلاً، رغم ارتفاع ثمن بعضها.

أما بيت الجد، الذي كان يُمثّل رمزًا للعمارة الأصيلة، فقد تحوّل في ظل العمارة المعاصرة إلى مثال على الفقر المعماري. لم يعد يُثير الإعجاب أو يُنقل للأجيال، بل أصبح رمزًا لعمارة فقدت روحها، مما يترك أثرًا عميقًا في ثقافتنا وهويتنا البصرية.

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا:

كيف يمكننا إعادة إحياء العمارة الليبية المعاصرة من خلال التفاصيل التي تُعزز الانتماء للمكان والهوية؟
إنه التحدي الحقيقي الذي يُوجّهنا نحو مستقبل معماري أكثر صدقًا وابتكارًا
.

جدلية الانتماء المعماري في الفضاء المتوسطي

 


جمال الهمالي اللافي

تميد

في فضاءٍ معماري تتقاطع فيه الأزمنة والتأثيرات، تبرز جدلية الانتماء بوصفها سؤالًا يتجاوز الشكل إلى الجوهر: هل العمارة تعبيرٌ عن الذات أم انعكاسٌ للمحيط؟

في المدن المطلة على المتوسط، حيث المناخ واحد والتاريخ متشابك، تتداخل المفردات المعمارية بين الأصالة والتأثر، بين الفخر المحلي والتنازع الرمزي. لكن في ليبيا، يغيب هذا الاعتزاز، ويحل محله إنكارٌ يطال حتى ما تشكّل بفعل التجربة والبيئة. هذا النص لا يبحث عن إجابة جاهزة، بل يعيد طرح السؤال من زاوية أكثر إنصافًا: كيف نُعرّف الأصالة حين تكون العمارة مرآةً للهوية، لا مجرد أثرٍ منسي؟

غياب الإعلام التوعوي وتكرار السؤال

نعود إلى معضلة تبدو بلا حل في المستقبل القريب، في ظل غياب الإعلام التوعوي في مقابل دور الإعلام الهدام الذي يؤثر سلبًا على مقومات المجتمع الأخلاقية والحضارية والثقافية. لذا، نجد دائمًا السؤال الذي يحمل معه إجابةً ضمنية يُطرح مرارًا وتكرارًا على لسان مختلف فئات المجتمع الليبي:

هل يوجد عمارة ليبية يمكننا تلمس ملامحها في تصميم البيوت والمساجد والمباني العامة والخاصة؟
هذا السؤال لا يبحث عن إجابة بقدر ما يُقر بعدم وجود أي ملمح للعمارة الليبية التقليدية، حيث يُنسب كل ما هو موجود إلى تأثيرات خارجية.

تفكيك النفي الضمني عبر نماذج متوسطية

لن أكرر ما طرحته سابقًا بشأن هذا الموضوع، بل سألتفت إلى منظور آخر للرد على هذا النفي الضمني:

·     في عمارة البحر المتوسط، يبرز نظام التسقيف بالقبو والقبة بصورة واضحة في البيوت، كما هو الحال في العمارة اليونانية والتونسية. وإذا سألت أي تونسي أو يوناني عن مصدر هذا النظام، فلن تجد إجابةً شافية من أي من الطرفين، فكلاهما سيؤكد أن هذه العمارة تمثل أصالتهم، ولا يُعيرون اهتمامًا للتشابه أو الاختلاف. إنما يُعتبر مجرد صدفة محضة، يظهر ذلك أيضًا في استخدام الطلاء الأبيض للحوائط والأزرق لتفاصيل ومفردات البناء في كلا البلدين.

·     في عمارة البحر المتوسط، نجد انتشاراً لأعمال القيشاني والجص في تلبيس الحوائط بشكل يُعتبر من سمات العمارة المغربية والتونسية. وإذا ناقشت تونسيًا أو مغربيًا حول من تأثر بالآخر في هذا السياق، فلن تحصل على إجابة واضحة، حيث سيصر كلاهما على أن هذه العناصر جزءٌ من هويتهما الثقافية. ولعل التباين بينهما مجرد تزامن طبيعي بعيدًا عن الأسباب التقليدية.

·     إضافة إلى ذلك، يتجلى وجود الأبراج الخشبية في واجهات البيوت بشكل أكبر في العمارة المالطية، بينما يظهر في العمارة التونسية بنسبة أقل. وفي حالة سؤال أي منهما عن مصدر هذه المفردة المعمارية، ستحصل على ذات النتيجة، مع التأكيد على الأصالة والفخر المحلي.

دعوة للإنصاف في تقييم العمارة الليبية

في سياق النقاش حول خصوصية العمارة الليبية، كثيرًا ما يُستشهد بنماذج من عمارات دول الجوار بوصفها أكثر أصالة أو استقلالًا، دون الالتفات إلى أن كل عمارة، مهما تأثرت أو أثّرت، تحمل ملامحها الخاصة التي صاغتها التجربة المحلية والجذور الثقافية على مدار الزمن. فمن غير المنصف أن يُرفض على سبيل القطع وجود خصوصية ليبية، بينما يُحتفى في المقابل بعمارات أخرى دون مساءلة تأثيراتها الخارجية. وفي زمنٍ بات فيه البعض يفاخر بما لا يملكه، فإن الأجدر بنا أن نفخر بما نملك، وأن نحافظ عليه ونستلهِم منه. فمن لا ماضي له، لا حاضر له ولا مستقبل.

الروح الإسلامية المشتركة في مدن المتوسط

نستطيع القول إن هذه المدن تجمعها روح واحدة مبعثها تشابه البيئة المناخية.
والأهم أن جميع المدن الواقعة على البحر الأبيض المتوسط (والاستثناء إن وجد قليل) كانت تحت الحكم الإسلامي لعدة قرون، لهذا نجد ملامح مشتركة بينها في إطارها العام وليس في تفاصيلها. وإن كان لتعايش بعض الديانات الأخرى مع المسلمين، ولفترة الاحتلال الغربي لهذه البلاد العربية، تأثيرات في بعض التفاصيل المعمارية في البيوت والمعابد الخاصة بهم، فإنها لا تخرج بأي صورة عن الروح العامة لهذه المدن باعتبارها إسلامية.

خاتمة

وهذا يدعونا إلى إعادة تعريف الأصالة، لا باعتبارها انغلاقًا على الذات، بل قدرة على التفاعل مع المحيط دون فقدان الخصوصية.

الخميس، أكتوبر 02، 2025

من التراث إلى المعاصرة: رؤى فكرية في العمارة المحلية

زاوية عمورة بجنزور

جمال الهمالي اللافي

تمهيد

تمثل العلاقة بين التراث والمعاصرة في العمارة موضوعًا غنيًا يستدعي فهمًا عميقًا وتوجهًا فكريًا واضحًا. فالتقليد أو الاقتباس من الموروث المعماري لا يُعدّ بالضرورة قصورًا في المنهج، بل قد يكون وسيلة فعّالة للحفاظ على حلول بيئية واجتماعية أثبتت جدواها. في المقابل، لا يحمل التجديد أو الحداثة قيمة إيجابية مطلقة، خاصة حين يقترن بتدمير عناصر تراثية دون مبررات منهجية، مما يهدد تماسك المجتمع واستقراره.

في هذا السياق، ومن خلال تأملاتي في العمارة الليبية، أرى أن التواصل مع التراث لا يعني الانغلاق، بل يستدعي وعيًا نقديًا يوازن بين الأصالة والتجديد. ومن هنا، تبرز عدة مرتكزات أساسية لتأسيس عمارة معاصرة تعكس الهوية الثقافية للبلاد:

  • الإلهام من الحرفيين التقليديين

يمثل الحرفيون التقليديون نموذجًا للتكامل بين القيم الاجتماعية ومطالب الحياة اليومية. إن خبراتهم في استخدام المواد المحلية وأساليب البناء تشكل مصدرًا غنيًا يمكن للعمارة المعاصرة أن تستفيد منه لتقديم حلول فعالة وملائمة.

  • تنوع العمارة المحلية

لا تنتمي العمارة المحلية إلى نمط واحد، بل هي تجسيد لعلاقة متينة بين الشكل والمضمون والمحيط الاجتماعي والبيئي. إعادة الاعتبار لها يعني احترام خصوصية كل نمط، وتطوير تصاميم تتفاعل مع البيئة المحلية دون تعميم أو اختزال.

  • فهم توزيع الفراغات

يتطلب تصميم الفراغات المعمارية فهمًا وظيفيًا وثقافيًا دقيقًا. يجب أن تتلاءم هذه التوزيعات مع احتياجات العصر، مما يستدعي تعديل الأشكال والمساحات، وتجاوز التوزيع التقليدي غير الملائم.

  • ترابط العناصر المعمارية

العلاقة بين العناصر الزخرفية وتوزيع الفراغات ليست تجميلية فحسب، بل تعكس أساليب التعبير التي تشكل هوية المكان وخصوصية سكانه، وهي بذلك جزء حيوي من العمارة المحلية.

  • استلهام الأصالة من التاريخ

ينبغي للمعماريين الجدد أن يستكشفوا الملامح الأصيلة للعمارة المحلية عبر الزيارات الميدانية والبحث في المعالم التاريخية، حفاظًا على تفرد التفاصيل المعمارية والزخرفية، وعلى منطق التوزيع الفراغي.

  • دور المعماري في المجتمع

لا ينبغي النظر إلى التأصيل المعماري كعائق للإبداع، بل كمسار نقدي يعيد تقييم المشاريع وفق فعاليتها في سياق الهوية. فالمعماري الليبي مطالب بأن يدمج رسالته المهنية ضمن مشروع حضاري يوازن بين الجذور والتطور.

من التأصيل إلى التطبيق: ملامح العمارة المحلية المعاصرة

إذا كانت العمارة المحلية المعاصرة تمثل جسرًا بين القيم الثقافية الثابتة والتغيرات المجتمعية المتسارعة، فإن ترجمة هذه الرؤية إلى ممارسة معمارية تتطلب وعيًا نقديًا ومنهجًا تطبيقيًا متكاملًا. فالمعماري لا يكتفي بإرسال إشارات رمزية إلى الهوية، بل يُفترض به أن يطوّر أدوات تصميمية تستوعب الخصائص الاجتماعية والثقافية، وتُجسّد في الوقت ذاته عناصر الحياة الحديثة.

في هذا القسم، أستعرض مجموعة من المحاور التطبيقية التي يمكن أن تشكّل أساسًا لتصور مستقبل مستدام للعمارة المحلية، حيث لا يكون التأصيل مجرد استدعاء للماضي، بل نقطة انطلاق نحو ابتكار معماري نابع من السياق، وممتد إلى التحول:

  • التوازن بين الثوابت والمتغيرات

§         الثوابت: الحفاظ على القيم المجتمعية والمعتقدات والبيئة يشكّل الجذور الثقافية التي ترسّخ الهوية، ويجب أن يُحترم في كل تصميم.

§     المتغيرات: التطورات التكنولوجية في مواد البناء، مثل العزل الحراري والطاقة المتجددة، تمثل نقطة انطلاق مهمة. ينبغي دمج هذه الابتكارات بما يعكس احتياجات المجتمع المعاصر دون التفريط بالأصالة.

  • المنهج التصميمي

يتطلب المنهج التصميمي إجراء دراسات ميدانية وزيارات للمعالم التاريخية لفهم المفردات المعمارية والزخرفية التي تتسم بها الهوية المحلية. هذا الفهم العميق يمكّن المعماري من الحفاظ على أصالة التوزيع الفراغي والتفاصيل المعمارية.

  • الإبداع والابتكار

يجب أن يرتكز الإبداع على استغلال العناصر الموجودة، لا على السعي الدائم وراء الجديد. الابتكار الحقيقي هو تطوير للممارسات التقليدية، وتكييفها بما يلائم العصر، مع وعي نقدي لما يجب إلغاؤه أو تعديله.

  • التأصيل للعمارة الليبية المعاصرة

ينبغي أن يركز المسار المهني للمعماريين على التأصيل للعمارة المحلية، بما يمثل جوهر العمارة الليبية. الانفتاح على التعبيرات الثقافية الخاصة بالمجتمع يساعد في تخطي الانتقادات المتعلقة بالتقليد، ويمنح العمارة قوة نابعة من السياق.

  • الدور الاجتماعي والإعلامي

يتحمل الإعلام ومؤسسات التعليم المعمارية مسؤولية توجيه المجتمع نحو قيمه وهويته. تثقيف المجتمع حول أهمية الحفاظ على التراث يسهم في تشكيل وعي معماري يعيد بوصلة العمارة المحلية نحو جذورها.

  • تحديث المناهج التعليمية

يجب على مؤسسات التعليم المعماري مراجعة المناهج لتدمج بين المعطيات الغربية والتقاليد المحلية، وتزويد الطلاب بالأدوات اللازمة لفهم الخصوصيات البيئية والاجتماعية، مما يهيئهم للابتكار ضمن سياقهم الثقافي.

 

خاتمة

إن النظرة إلى العمارة المحلية المعاصرة ليست مجرد إحياء للماضي، بل هي عملية ديناميكية تتطلب الحوار المستمر بين التراث والحداثة. يجب على المعماريين العمل على التعبير عن أدوارهم كحلقة وصل بين التاريخ والابتكار، متجهين نحو بناء بيئات تعكس هويات مجتمعاتهم وتلبي احتياجات العصر. من خلال تحقيق التوازن بين التراث والتجديد، يمكن للعمارة أن تعزز من استدامة المجتمعات وتساهم في تعزيز الهوية الثقافية في مواجهة التحديات المستقبلية.

الأربعاء، أكتوبر 01، 2025

المدينة كوعي معماري

  حوار تأملي بين المفكر والحكيم



جمال الهمالي اللافي

في زمنٍ تتكاثر فيه المباني وتقلّ فيه المعاني، يصبح الحديث عن المدينة حديثًا عن الذات، وعن العمارة حديثًا عن الوعي. هذا الحوار لا يُقدّم إجابات جاهزة، بل يُعيد فتح الأسئلة التي تُهمّش عادةً خلف زخرفة الواجهات. بين المفكر الذي يرى بعينٍ تحليلية، والحكيم الذي ينفذ ببصيرته إلى جوهر الأشياء، تتكشّف المدينة ككائن حيّ، لا كخريطة، وكخطابٍ بصريّ، لا كزينة.

المفكر:

أنظر إلى المدينة، فأراها تتبدل كل يوم. الخرائط تتغير، المباني تتكاثر، لكن شيئًا ما يظل غائبًا. كأنها تبصر، لكنها لا ترى نفسها.

الحكيم:

لأنها لم تُصغِ بعد لصوتها الداخلي. المدينة لا تُعرّف بجدرانها، بل بما تحتضنه من معنى. وحين تُبنى بلا وعي، تُعيد إنتاج الغربة.

المفكر:

هل العمارة تُعبّر عنّا؟ أم أننا نُسقط عليها ما نريد أن نقوله؟

هل يمكن للمدينة أن تحمل هوية، لا مجرد وظيفة؟

الحكيم:

العمارة ليست حيادية. هي موقف، وهي ذاكرة، وهي أحيانًا صرخة مكتومة. حين نبني بلا معنى، نُكرّس الغفلة. وحين نُرمّم بلا وعي، نُعيد إنتاج التشويه.

المفكر:  

طرابلس القديمة، مثلاً، هل ما زالت تتكلم؟

أم أن صمتها هو صمت من لم يُصغِ لها؟

الحكيم:

هي لا تصمت، لكنها تُهمّش. كل قوسٍ مهمل، كل نافذة مطموسة، تحمل سردية لم تُكتب بعد. المدينة تُقاوم النسيان، لكنها تحتاج من يُنصت، لا من يُراقب فقط.

المفكر:  

أرى فراغات بلا وظيفة، زخرفة بلا معنى، تصميمًا بلا كرامة. هل هذا هو التقدم؟ أم تكرارٌ بلا وعي؟

الحكيم:

التقدم لا يُقاس بالارتفاع، بل بالاتساق. العمارة التي تنسى الإنسان، تُنتج ما لا يُسكن. والمعماري حين يُصمّم للعرض، يُقصي الوظيفة، ويُهين الكرامة.

المفكر:  

هل يمكن للمعماري أن يُعيد تشكيل المدينة؟

أم أنه مجرد منفّذ لما يُطلب منه؟

الحكيم:  

المعماري الحقيقي لا يُصمّم مبنى، بل يُصمّم معنى. هو من يربط الإنسان بالمكان، ويعيد للفراغ روحه. وإن غاب وعيه، تحوّل إلى أداة في يد الغفلة، لا في يد الوعي.

المفكر:

إذاً، نحن لا نُصمّم المدينة فقط، بل نُصمّم علاقتنا بها. هل يمكن للمدينة أن تُشفى؟ أن تستعيد خطابها، صدقها، هويتها؟

الحكيم:

نعم، حين نكفّ عن التعامل معها كسلعة، ونبدأ في رؤيتها ككائن حيّ. حين نُعيد الاعتبار للبساطة، للصدق، للوظيفة التي تحترم الإنسان. وحين نُدرك أن كل حجرٍ فيها إما أن يكون شاهدًا على وعي، أو أثرًا لغفلة.

بالطبع يا جمال، إليك خاتمة متزنة تُلخّص جوهر الحوار، وتُعبّر عن رؤيتك دون استعراض، بل بلغة تأملية واضحة، تُغلق النص دون أن تُغلق التفكير:

المدينة ليست ما نُشيّده، بل ما نُصغي إليه

هذا الحوار لا يُنهي الأسئلة، بل يُعيد ترتيبها. فالمدينة ليست مجرد عمران، بل كائن حيّ يحمل ذاكرة، ويختبر وعينا، ويُطالبنا بالصدق في علاقتنا بها. العمارة ليست زينة، بل خطابٌ بصريٌّ يحمل موقفًا، والفراغ ليس حيادًا، بل إمّا أن يحتضن الإنسان أو يُقصيه.

حين يرى المفكر التناقض، ويُسائل المعنى، وحين ينفذ الحكيم إلى جوهر الوظيفة والكرامة، تتكشّف المدينة كمرآة للوعي، لا كخلفية للعيش. والمعماري، إن أدرك مسؤوليته، لا يُصمّم مبنى، بل يُعيد بناء العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الزمن والذاكرة، بين البصر والبصيرة.

فالمدينة لا تُشفى بالخرائط، بل بالوعي. ولا تُبنى لتُعرض، بل لتُسكن بكرامة.

الثلاثاء، سبتمبر 30، 2025

نحو مشروع إبداعي ليبي: من التفكيك إلى البناء

قراءة تأسيسية في سؤال الانطلاقة الثقافية ومسؤولية الفعل الإبداعي

 


جمال الهمالي اللافي

في لحظة صامتة من مساء ليبي متقلب، وبين جدران لا تزال تحتفظ بصدى الحكايات القديمة، يتوقف المعماري، أو الكاتب، أو الفنان، أمام مشروعه القادم. لا يسأل: "كيف أُبهر؟" بل "لماذا أبدأ؟"
تتراكم حوله أدوات العصر، وتُغريه المنصات، وتُلح عليه الجوائز وتستهويه المعارض الخارجية المشتركة مع أقرانه، لكنه يعرف أن المشروع الذي لا ينبثق من حاجة محلية، يظل زخرفًا، مهما بدا متقنًا. في تلك اللحظة، لا يعود الإبداع فعلًا فرديًا، بل موقفًا من العالم. لا يعود التصميم مجرد شكل، بل خطاب. ولا تعود الكتابة وسيلة تعبير، بل وسيلة مقاومة للغفلة. هنا، في هذا المفترق، يبدأ السؤال الحقيقي: كيف نُنجز مشروعًا ليبيًا خالصًا، لا ليُلفت أنظار الآخر، بل ليُعيد بناء الذات؟ كيف نُفكك التشويش، لا لنُدين، بل لنفهم؟ وكيف نُعيد البناء، لا لنُنافس، بل لنُفيد؟

1.   كيف نضمن أن تنطلق مشاريعنا الإبداعية من رغبة صادقة للنهوض بالوطن، لا من مجاراة للموضات العالمية أو انتصار لوجهات نظر شخصية؟

2.      وكيف نجعل هذه المشاريع خالصة للمجتمع الليبي، تتحرى الصدق في الطرح والإخلاص في الغاية، لا لتلفت أنظار الآخر أو تنال اعترافه؟

في زمن تتكاثف فيه الظواهر وتتشابك فيه المرجعيات، لم يعد السؤال عن انطلاقة المشاريع الإبداعية مجرد ترف فكري، بل أصبح ضرورة وجودية تمس جوهر الفعل الثقافي في ليبيا. فالمشروع الذي لا ينبثق من رغبة صادقة للنهوض بالوطن، يظل عرضة للتشويش، مهما بدا متماسكًا أو متقنًا.

إن مجالات العمارة، والتصميم، والفنون التشكيلية، والإبداع الأدبي، والخطاب الفكري والسياسي، لا يمكن أن تُنجز من موقع المجاراة أو الانبهار، أو التبعية العمياء، بل من موقع المسؤولية. فكل مشروع يُصاغ من رغبة في الظهور أو انتصار لوجهة نظر شخصية، هو مشروع هش، يفتقر إلى الجذر، ويعيد إنتاج التشويش الذي يدّعي مقاومته.

التفكيك كمرحلة تأسيسية لا عدميّة

التفكيك هنا لا يُستعار من النظرية التفكيكية لجاك دريدا، بكل ما حمله معه من مضامين التمرد على والقواعد المنضبطة بالقيم الدينية والأخلاقية، بل يُعاد توظيفه في سياق ليبي خاص، بوصفه فعلًا نقديًا يهدف إلى فهم الواقع لا زعزعة المعنى. نحن لا نمارسه على النصوص المجردة، بل على الخطابات والممارسات الثقافية التي تشكل الوعي الجمعي.

التفكيك لا يعني الهدم، بل إعادة ترتيب المفاهيم، وتحريرها من التزييف أو التكرار. وهو لا يُنجز دفعة واحدة، بل عبر تراكم النصوص التي تفضح الغفلة وتدعو للوعي، وتُعيد الاعتبار للسياق المحلي بوصفه مرجعية لا بوصفه عائقًا.

كل شيء قابل للتفكيك، مهما تعقدت تقنياته وكثرت تفاصيله. ذلك ممكن متى توفرت الإرادة، لا الرغبة فقط. فالبنية الثقافية المشوشة تحمل في داخلها تناقضاتها، وكثرة التفاصيل لا تعني صلابة، بل قد تكون دليلًا على ارتباكها. والالتحام الظاهري يخفي هشاشة داخلية، حين يُبنى على مجاراة لا على قناعة.

البناء كفعل مسؤول يتلو الفهم

لكن التفكيك وحده لا يكفي. إن توقفنا عنده، نكون قد شخّصنا المرض دون أن نُقدّم العلاج. لذلك، لا بد أن يتلوه بناءٌ موازٍ، لا يُستعجل، بل يُنجز على مهل، بعد أن تتضح الغايات وتُصاغ الأهداف من داخل السياق الليبي، لا من خارجه.

البناء الذي يُنجز دون فهم مسبق، هو إعادة إنتاج للتشويش، ولو بدا متماسكًا. وهو غالبًا ما يُستدرج إلى مجاراة الآخر، أو إلى استعراض داخلي لا يملك مرجعية واضحة. لذلك، لا بد أن يتأخر البناء قليلًا، لا لضعف في الإرادة، بل لحكمة في التوقيت.

إعادة تعريف المشروع الإبداعي الليبي

لهذا، فإننا ندعو إلى منهج نقدي ليبي مستقل، يبدأ بالتفكيك لفهم الواقع، ويتلوه بناء مسؤول يعيد الاعتبار للبساطة والصدق. لا نطلب اعترافًا خارجيًا، بل نُراهن على الزمن كحكم أخير. فما ينتفع به الناس يبقى، وما يُحبس في الأدراج يختفي.

إن العمارة التي لا تُصمم من حاجة محلية، تظل زخرفًا. والتصميم الذي لا يُراعي السياق، يصبح تكرارًا. والفن الذي لا يُنصت للوجدان الليبي، يتحول إلى استعراض. والأدب الذي لا يُكتب من موقع التماسك، يُقرأ من موقع الشفقة. والخطاب السياسي الذي لا يُبنى على فهم الواقع، يُعيد إنتاج أزماته.

نحن نكتب ونصمم ونفكر، لا لنُنافس، بل لنُعيد بناء الوعي. لا لنُبهر، بل لنُفيد. لا لننال الاعتراف، بل لنستحقه.

هذا النص ليس إعلانًا نظريًا، بل خطة طريق لكل من يكتب أو يصمم أو يفكر من موقع الالتزام، لا من موقع الاستعراض. وهو دعوة مفتوحة لإعادة تعريف المشروع الإبداعي الليبي، لا بوصفه منتجًا، بل بوصفه موقفًا.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...