التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فقدان هوية المكان

 


المعماري/ صالح بشير المزوغي

 

الإحساس بالمكان والزمان: أساس الهوية المعمارية 

إن الإحساس بالمكان هو جوهر ارتباط الإنسان ببيئته، فهو العنصر الذي يمنح العمارة هويتها وأصالتها. المكان والزمان يشكلان ثنائية مترابطة تؤثر على الطريقة التي نصمم بها مدننا ونعيش فيها. وإذا فقدنا أحدهما، فإننا نخسر جزءًا جوهريًا من هويتنا المعمارية. 

أما فقدان الإحساس بالزمان، فعادةً ما يكون تجربة ممتعة تُثري الروح، تأخذ الإنسان في رحلة فكرية تعيده إلى التاريخ عبر المدن القديمة والمعالم الأثرية. هذه التجربة تخلق نوعًا من الاندماج بين الإنسان والماضي، حيث تعبر المباني والأسواق والشوارع عن روح زمن مضى. 

لكن على النقيض تمامًا، فإن فقدان الإحساس بالمكان يترك أثرًا سلبيًا عميقًا. عندما تُفقد علاقة العمارة بالمكان، يتحول النسيج العمراني إلى صورة جامدة تعبر عن الحاضر فقط دون أن تحمل روح البيئة والمجتمع.

التحولات التاريخية: صراع بين القديم والجديد 

كانت العمارة دائمًا انعكاسًا للبيئة الثقافية والجغرافية، إذ أن كل شعب وأمة شكلوا عبر العصور طرزًا معمارية تعكس خصوصياتهم المحلية. لكن هذا التنوع لم يكن دائمًا موضع اتفاق. تاريخيًا، كان كل تجديد معماري يواجه مقاومة من المتمسكين بالطرز التقليدية، ومع ذلك كان لكل زمن إضافاته التي تعزز هوية المكان. 

ولكن ما يحدث في عصرنا الحالي يختلف تمامًا. اليوم، لم يعد العالم مجرد مجموعة من المدن المتنوعة، بل تحول إلى "قرية صغيرة" بفعل ثورة الاتصالات. ومع هذا التغير، ظهر الطراز العالمي الجديد الذي ألغى تقريبًا الهوية المكانية، لصالح عمارة موحدة تلغي الخصوصيات المحلية.

سيطرة الطراز العالمي الجديد: تأثيرات واسعة على العمارة والمجتمع 

إن الطراز العالمي الجديد لم يقتصر تأثيره على العمارة فقط، بل امتد ليشمل كافة جوانب الحياة. ففي المدن الحديثة، اندثرت الأسواق الشعبية واستُبدلت بالسوبر ماركت والمولات الضخمة. اختفت الأزياء التقليدية لتحل محلها ملابس عالمية موحدة. حتى الأطعمة الشعبية، التي كانت تعبر عن الثقافة المحلية، أصبحت تُستبدل بوجبات سريعة تحمل مسميات عالمية مثل "ماكدونالدز" و"كنتاكي". 

المساحات العامة التي كانت تجسد هوية المدن، كالساحات الشعبية والمجتمعات التقليدية، حلت محلها البلازا والمسارح ذات الطابع الغربي. وهكذا، أصبحت المدن الحديثة مجرد نسخ مكررة لبعضها، تفقد فيها الهوية المكانية لصالح عمارة تعبر عن زمانٍ اقتصادي عالمي أكثر من مكان محلي.

التجارة العالمية: السبب الرئيس لتآكل الهوية المكانية

لقد لعبت التجارة العالمية دورًا كبيرًا في هذا التحول. فبفضل الثورة في النقل والاتصالات، أصبح الوصول إلى منتجات وعناصر البناء العالمية أمرًا سهلاً ومتاحًا للجميع. ومع هذا الانفتاح، اختفت تدريجيًا الطرز المحلية. لم تعد البيئة الجغرافية أو الثقافية تؤثر على العمارة كما كان الحال في الماضي، بل أصبحت التجارة هي المحرك الرئيسي للهوية الجديدة. 

حتى المدن القديمة، التي تمثل آخر ما تبقى من الهوية المكانية، أصبحت تُسوق كمواقع سياحية، حيث يدفع الزائر المال لمشاهدة معالم أصبحت مجرد سلعة تجارية. وهكذا، أصبحت المدن القديمة متاحف مفتوحة، تفقد تدريجيًا صلتها بحياتها الطبيعية.

الإنسان وهوية المكان: فقدان الانتماء 

إن فقدان الهوية المكانية لا يُمكن عزوه فقط إلى التجارة أو العمارة. المشكلة الحقيقية تكمن في هوية الإنسان نفسه. فقد تغيرت طموحات الإنسان المعاصر، ولم يعد يفتخر بهويته كما كان في الماضي. أصبح يسعى لتقليد الطراز العالمي الجديد، سواء في لباسه أو طريقة حديثه أو حتى تصاميم منازله. 

الإنسان الذي كان يومًا يُعرف من لباسه وحركاته ولهجته أصبح الآن يحتاج إلى بطاقة تعريف ليُثبت من هو. هذه التحولات انعكست شكل مباشر على العمارة، حيث فقدت المدن قدرتها على التعبير عن هويتها المحلية وأصبحت مرآة للزمان العالمي الموحد.

رسالة أمل: استعادة الهوية من خلال العمارة 

رغم كل هذه التحديات، فإن الأمل ما زال قائمًا. فالمدن القديمة تحتفظ بجاذبيتها لأنها تعبر عن هوية مكانية وزمانية متميزة. ويمكن للعمارة أن تلعب دورًا محوريًا في استعادة هذا الإحساس بالمكان، إذا ما تمسكت بالخصوصيات الثقافية والبيئية. 

إن العمارة ليست مجرد مبانٍ، بل هي انعكاس لماهية الإنسان وقيمه. ولكي ننقذ هوية مدننا، علينا أن نعيد التفكير في العمارة كوسيلة لإعادة الاتصال بين الإنسان ومكانه.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...