التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صراع المصطلحات في ساحة العمارة: بين "الأصالة" و "المعاصرة" وتشكيل الهوية

نموذج الحوش الطرابلسي المعاصر- منطقة الحشان/ طرابلس


جمال الهمالي اللافي

كما هو الحال في مختلف جوانب الحياة، تخضع العمارة أيضًا لمعركة ضروس على مستوى المصطلحات والمسميات. فالمجتمعات بفطرتها تميل إلى الاعتزاز بما يمثل هويتها الثقافية المتجذرة، وينعكس ذلك بوضوح في نظرتها إلى عمرانها وبيئتها المبنية. هنا، يبرز كيف يمكن لتوصيفات معينة أن تؤثر على تصورنا للعمارة التراثية والمحلية من جهة، والعمارة الوافدة أو "المغتربة" من جهة أخرى.

تأطير الهوية المعمارية عبر المصطلحات:

غالبًا ما يتم وسم العمارة التي نشأت من صميم المجتمع وتعكس تاريخه وتقاليده بصفات مثل "التراثية"، "الأصيلة"، "المحلية"، وحتى "القديمة". هذه المصطلحات، رغم أنها قد تحمل دلالات إيجابية مرتبطة بالجذور والذاكرة، يمكن أن تُستخدم أيضًا بطريقة توحي بالتخلف وعدم مواكبة العصر. في المقابل، تُوصف العمارة المستوردة أو التي تتبنى نماذج أجنبية بـ "الحديثة"، "المعاصرة"، "المبتكرة"، و "العالمية". هذه الأوصاف تحمل في طياتها إيحاءً بالتقدم والرقي والتطور.

"الحنين إلى الماضي" في مواجهة "الإبداع المعاصر": معركة القيم:

يُستخدم مصطلح "الحنين إلى الماضي" أحيانًا لوصف أولئك الذين ينادون بالحفاظ على العمارة التراثية والنهل من موروثهم الثقافي في التصميم. هذا الوصف قد يحمل ضمنًا تقليلًا من شأن هذا التوجه، وكأنه مجرد تعصب للماضي وعجز عن التطلع إلى المستقبل. في المقابل، يُوصف من يتبنى تقليد العمارة "المغتربة" بـ "المبدع" و "المتجدد"، وكأن الحداثة لا تتحقق إلا من خلال القطيعة مع الماضي وتبني نماذج خارجية.

استغلال القيم الفطرية في توجيه الذائقة المعمارية:

إن الميل الفطري للاعتزاز بالهوية والانجذاب نحو التقدم يمكن استغلاله في هذه المعركة. فربط العمارة المحلية بـ "الأصالة" يستدعي مشاعر الفخر بالهوية والانتماء، بينما ربط العمارة الوافدة بـ "الحداثة" يستثير الرغبة في التطور ومواكبة العالم. هنا يكمن الخطر في إغفال أن الأصالة يمكن أن تتكامل مع الحداثة، وأن التقليد الأعمى للنماذج الخارجية قد يؤدي إلى فقدان الهوية والخصوصية.

تأثير النخب ووسائل الإعلام على التصورات المعمارية:

تلعب النخب (المثقفة، المعمارية، الإعلامية) دورًا كبيرًا في ترويج هذه المصطلحات وتكريسها في الوعي العام. فمن خلال الخطاب الإعلامي والمشاريع التي يتم تسليط الضوء عليها، يتم تعزيز تصورات معينة حول "العمارة الجيدة" و "العمارة المتخلفة". هذا يمكن أن يؤدي إلى تهميش وتقليل قيمة العمارة المحلية وإعلاء شأن النماذج المستوردة دون تقييم مدى ملاءمتها للسياق الثقافي والاجتماعي.

نحو وعي نقدي بالمصطلحات المعمارية:

من الضروري تطوير وعي نقدي تجاه هذه المصطلحات المستخدمة في وصف العمارة. يجب أن نتجاوز الثنائية المصطنعة بين "القديم" و "الحديث"، وأن ننظر إلى العمارة التراثية ليس كبقايا جامدة من الماضي، بل كمصدر إلهام حي يمكن أن يثري العمارة المعاصرة ويمنحها هوية مميزة. وبالمثل، يجب أن نتعامل مع "الحداثة" ليس كتقليد أعمى للنماذج الغربية، بل كتوجه نحو الابتكار والتطور الذي يأخذ في الاعتبار الخصوصية الثقافية والاحتياجات المحلية.

المسؤولية في صياغة الخطاب المعماري:

تقع مسؤولية كبيرة على المعماريين والمثقفين والإعلاميين في صياغة خطاب معماري مسؤول يعزز الوعي بأهمية الحفاظ على الهوية المعمارية وتطويرها بشكل مستدام. يجب تجنب استخدام المصطلحات بطريقة تبسيطية أو تحقيرية لأي من التوجهين، والتركيز على إيجاد تكامل حقيقي بين الأصالة والمعاصرة بما يخدم المجتمع ويعزز هويته.

ختامًا:

إن معركة المصطلحات في مجال العمارة ليست مجرد خلاف حول أذواق أو أساليب، بل هي صراع حول الهوية والانتماء. الوعي بكيفية استخدام هذه المصطلحات وتأثيرها على تصوراتنا هو خطوة أساسية نحو تقدير تراثنا المعماري وتطوير عمارة معاصرة أصيلة تعبر عن هويتنا وتمثل تطلعاتنا.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...