أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، أبريل 18، 2025

المدن الليبية بين الحفاظ على التراث والوقوع في فخ العشوائية: قراءة معمارية للواقع


جمال الهمالي اللافي

في ظل التحولات العمرانية التي شهدتها ليبيا عبر العقود الأخيرة، يمكن تقسيم المشهد المعماري إلى نماذج متعددة، تعكس حالة من التباين بين الحفاظ على التراث والانجراف نحو الفوضى.

غدامس: تراث محفوظ ولكنه معزول 

مدينة غدامس تمثل حالة فريدة، فهي نجحت في حماية مدينتها التاريخية من العبث، حيث تبقى شوارعها وأزقتها الطينية شاهدة على انسجام الإنسان مع بيئته الصحراوية. إلا أن هذا النجاح لم يُترجم إلى تكيف مع متطلبات العصر في المدينة الحديثة، مما يجعل التراث هناك أقرب إلى متحف مفتوح، بدلاً من أن يكون جزءاً من الحياة اليومية للسكان.

طرابلس: عاصمة أضاعت مرآة تاريخها

في طرابلس، العاصمة والمركز الحضري الأكبر، نجد مثالاً صارخاً على إهمال التراث. التوسع السكاني السريع وموجات التحديث العشوائي أدت إلى إهدار جزء كبير من الهوية البصرية للمدينة. ما يزال السؤال المفتوح: كيف يمكن للعاصمة أن تستعيد عمقها التاريخي بينما تلبي احتياجات العصر الحديث؟

بقية المدن الليبية: فوضى بلا هوية

سواء في بنغازي الحضرية، أو ترهونة الريفية، أو يفرن الجبلية، أو غات الصحراوية، نجد نمطاً مشتركاً يتمثل في انتشار العشوائيات على حساب الموروث المعماري. هذه الفوضى ليست ناتجاً عشوائياً بحتاً، بل هي انعكاس لغياب التخطيط الحضري المتكامل، وضعف الوعي المجتمعي بأهمية التراث كعنصر أساسي في بناء الهوية.

تجربة ميدانية وشهادة حية

من خلال تجوالي كمعماري وباحث في معظم المدن الليبية، أستطيع القول بأن الأمر ينطبق على كل المدن، بدرجات متفاوتة من السوء. الجميع يشترك في التوسع العشوائي وتشويه المدن التاريخية، في مشهد يعكس أزمة ثقافية ومجتمعية، وليس مجرد مشكلة تخطيط.

الأسباب الجذرية

  1. غياب التخطيط الحضري المتكامل: اعتماد استراتيجيات ارتجالية أدى إلى تدمير الهوية المعمارية.
  2. الإهمال المؤسسي: عدم رؤية التراث كرافد اقتصادي واجتماعي للتنمية.
  3. الصراعات السياسية والاقتصادية: هذه الأزمات ساهمت في تهميش دور التخطيط العمراني.
  4. التقليد العشوائي للأنماط العالمية: مما أدى إلى إضعاف الطابع المحلي.

الحلول الممكنة

  1. التخطيط الحضري المتكامل: وضع سياسات شاملة تحترم التراث وتدمجه في المشاريع المستقبلية.
  2. إعادة تأهيل المدن التاريخية: تحويل التراث إلى عنصر اقتصادي من خلال الترويج للسياحة الثقافية.
  3. التثقيف المجتمعي: نشر الوعي بأهمية التراث كقيمة مستدامة.
  4. الشراكة بين التخصصات: تضافر الجهود بين المعماريين، الاقتصاديين، علماء الاجتماع، والمخططين لتحقيق التوازن.

الخاتمة

المدن الليبية تعيش لحظة تاريخية تتطلب منا أن نتوقف عن النظر إلى التراث كعبء، وأن نبدأ في رؤيته كفرصة. كل مدينة تحمل في طياتها روحاً وهوية لا يمكن استعادتها بمجرد التقليد. علينا أن نعيد صياغة علاقة مدننا بالتراث، بحيث تصبح مرآةً لجذورنا ومنصة لإلهام مستقبل أفضل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية