التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المدن الليبية بين الحفاظ على التراث والوقوع في فخ العشوائية: قراءة معمارية للواقع


جمال الهمالي اللافي

في ظل التحولات العمرانية التي شهدتها ليبيا عبر العقود الأخيرة، يمكن تقسيم المشهد المعماري إلى نماذج متعددة، تعكس حالة من التباين بين الحفاظ على التراث والانجراف نحو الفوضى.

غدامس: تراث محفوظ ولكنه معزول 

مدينة غدامس تمثل حالة فريدة، فهي نجحت في حماية مدينتها التاريخية من العبث، حيث تبقى شوارعها وأزقتها الطينية شاهدة على انسجام الإنسان مع بيئته الصحراوية. إلا أن هذا النجاح لم يُترجم إلى تكيف مع متطلبات العصر في المدينة الحديثة، مما يجعل التراث هناك أقرب إلى متحف مفتوح، بدلاً من أن يكون جزءاً من الحياة اليومية للسكان.

طرابلس: عاصمة أضاعت مرآة تاريخها

في طرابلس، العاصمة والمركز الحضري الأكبر، نجد مثالاً صارخاً على إهمال التراث. التوسع السكاني السريع وموجات التحديث العشوائي أدت إلى إهدار جزء كبير من الهوية البصرية للمدينة. ما يزال السؤال المفتوح: كيف يمكن للعاصمة أن تستعيد عمقها التاريخي بينما تلبي احتياجات العصر الحديث؟

بقية المدن الليبية: فوضى بلا هوية

سواء في بنغازي الحضرية، أو ترهونة الريفية، أو يفرن الجبلية، أو غات الصحراوية، نجد نمطاً مشتركاً يتمثل في انتشار العشوائيات على حساب الموروث المعماري. هذه الفوضى ليست ناتجاً عشوائياً بحتاً، بل هي انعكاس لغياب التخطيط الحضري المتكامل، وضعف الوعي المجتمعي بأهمية التراث كعنصر أساسي في بناء الهوية.

تجربة ميدانية وشهادة حية

من خلال تجوالي كمعماري وباحث في معظم المدن الليبية، أستطيع القول بأن الأمر ينطبق على كل المدن، بدرجات متفاوتة من السوء. الجميع يشترك في التوسع العشوائي وتشويه المدن التاريخية، في مشهد يعكس أزمة ثقافية ومجتمعية، وليس مجرد مشكلة تخطيط.

الأسباب الجذرية

  1. غياب التخطيط الحضري المتكامل: اعتماد استراتيجيات ارتجالية أدى إلى تدمير الهوية المعمارية.
  2. الإهمال المؤسسي: عدم رؤية التراث كرافد اقتصادي واجتماعي للتنمية.
  3. الصراعات السياسية والاقتصادية: هذه الأزمات ساهمت في تهميش دور التخطيط العمراني.
  4. التقليد العشوائي للأنماط العالمية: مما أدى إلى إضعاف الطابع المحلي.

الحلول الممكنة

  1. التخطيط الحضري المتكامل: وضع سياسات شاملة تحترم التراث وتدمجه في المشاريع المستقبلية.
  2. إعادة تأهيل المدن التاريخية: تحويل التراث إلى عنصر اقتصادي من خلال الترويج للسياحة الثقافية.
  3. التثقيف المجتمعي: نشر الوعي بأهمية التراث كقيمة مستدامة.
  4. الشراكة بين التخصصات: تضافر الجهود بين المعماريين، الاقتصاديين، علماء الاجتماع، والمخططين لتحقيق التوازن.

الخاتمة

المدن الليبية تعيش لحظة تاريخية تتطلب منا أن نتوقف عن النظر إلى التراث كعبء، وأن نبدأ في رؤيته كفرصة. كل مدينة تحمل في طياتها روحاً وهوية لا يمكن استعادتها بمجرد التقليد. علينا أن نعيد صياغة علاقة مدننا بالتراث، بحيث تصبح مرآةً لجذورنا ومنصة لإلهام مستقبل أفضل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...