أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الثلاثاء، أبريل 15، 2025

الرائحة المفقودة: ارتباط الحواس بهوية العمران

 

طريق الحلقة- مدينة طرابلس القديمة

جمال الهمالي اللافي

في سنوات الستينات والسبعينات، كانت الحياة تحمل طابعاً مميزاً يرتبط برائحة الأماكن التي عايشتها. سواءً في شارع طارق حيث المنزل، أو شارع ميزران حيث منزل الجد، أو حتى في الرحلات إلى مدن ومناطق ليبية مثل ترهونة موطن الأجداد، كانت لكل مكان رائحة تفوح بالانتعاش وتعكس جماليات العمارة فيه وتنوعها. تلك الروائح، بمزيجها الساحر، كانت تنسج علاقة عميقة بين البيئة المحلية وحواس الإنسان.

ومع منتصف السبعينات وما تبعها من عقود، بدأت هذه الروائح بالاختفاء تدريجياً، لتحل محلها رائحة واحدة مبهمة تشبه الاحتراق تنتشر في الجو، وهي ليست نتاج الشمس الحارقة. هذا التغير اللافت أثار تساؤلاتي حول طبيعة العلاقة بين حاسة الشم والتغيرات العمرانية، وحول العوامل التي قد تؤثر في قدرة الإنسان على استشعار خصوصية المكان عبر حواسه.

كيف تؤثر العمارة على الحواس؟

العمارة ليست مجرد تصميمات هندسية، بل هي انعكاس للبيئة والثقافة المحلية. المواد المستخدمة في البناء، مثل الطين أو الحجر، كانت تعكس طبيعة المكان وتساهم في خلق روائح مميزة تسكن الذاكرة. هذه الروائح ترتبط بالحياة اليومية وبهوية المكان، مما يجعل كل تجربة حسية مرتبطة بجوهر المنطقة وسكانها.

التحولات العمرانية وانعكاساتها على الحواس

التحولات التي شهدتها العقود الأخيرة، من اعتماد مواد البناء الحديثة إلى انتشار النمط العمراني العالمي، ربما ساهمت في تغييب تلك الروائح الأصيلة. هذا التوحيد في العمارة الحديثة قد أدى إلى فصل الحواس عن روح المكان، مما جعل المدن تفقد جزءاً من هويتها التي كانت تتميز بها.

الذاكرة الحسية الجماعية

لا يمكن فصل اختفاء الروائح عن فقدان جزء من "الذاكرة الحسية الجماعية". كانت هذه الروائح تجمع بين سكان الأماكن وتنقل إحساساً مشتركاً بالهوية المحلية، وعندما تتلاشى تلك الروائح، يصبح فقدانها جزءاً من فقدان الهوية الجماعية التي تربط الإنسان بمحيطه.

الأبعاد البيئية وتأثيرها على الحواس

التغيرات البيئية، مثل اختفاء النباتات المحلية أو التعديلات على طبيعة استخدام الأراضي، قد أثرت أيضاً على الجو الحسي للمناطق. الروائح كانت تعكس طابع البيئة الطبيعية، ومع اختفائها، افتقدت المجتمعات جزءاً من العلاقة العضوية مع بيئتها.

استعادة التواصل بين الحواس والعمران

لإعادة إحياء هذه العلاقة بين الحواس والبيئة العمرانية، ينبغي أن نعيد النظر في كيفية تصميم المباني واختيار موادها. يمكن التركيز على استخدام عناصر تقليدية تناسب السياق المحلي، وتحاكي التراث الثقافي والطبيعي للمنطقة، مما يعيد إحياء الاتصال العاطفي بين السكان ومحيطهم.

النظرة المستقبلية: المدن المتفاعلة مع الحواس

المستقبل يحمل فرصة لتعزيز هذا الترابط بين الحواس والبيئة من خلال تصميم المدن بطريقة تراعي التجارب الحسية للسكان. استخدام تصاميم تراعي البيئة المحلية وتوظيف مواد طبيعية قد يساهم في خلق أماكن تعزز من جودة الحياة وترتقي بتجربة الإنسان الحسية.

خاتمة: الدعوة إلى الحفاظ على الهوية

الارتباط الحسي بالمكان ليس مجرد رفاهية؛ إنه جزء أساسي من الهوية الثقافية التي ينبغي الحفاظ عليها. العمارة ليست فقط خطوطاً وهياكل، بل هي دعوة للعيش بوعي كامل، حيث تتفاعل الحواس مع البيئة لتعكس جماليات وروح المكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية