التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرائحة المفقودة: ارتباط الحواس بهوية العمران

 

طريق الحلقة- مدينة طرابلس القديمة

جمال الهمالي اللافي

في سنوات الستينات والسبعينات، كانت الحياة تحمل طابعاً مميزاً يرتبط برائحة الأماكن التي عايشتها. سواءً في شارع طارق حيث المنزل، أو شارع ميزران حيث منزل الجد، أو حتى في الرحلات إلى مدن ومناطق ليبية مثل ترهونة موطن الأجداد، كانت لكل مكان رائحة تفوح بالانتعاش وتعكس جماليات العمارة فيه وتنوعها. تلك الروائح، بمزيجها الساحر، كانت تنسج علاقة عميقة بين البيئة المحلية وحواس الإنسان.

ومع منتصف السبعينات وما تبعها من عقود، بدأت هذه الروائح بالاختفاء تدريجياً، لتحل محلها رائحة واحدة مبهمة تشبه الاحتراق تنتشر في الجو، وهي ليست نتاج الشمس الحارقة. هذا التغير اللافت أثار تساؤلاتي حول طبيعة العلاقة بين حاسة الشم والتغيرات العمرانية، وحول العوامل التي قد تؤثر في قدرة الإنسان على استشعار خصوصية المكان عبر حواسه.

كيف تؤثر العمارة على الحواس؟

العمارة ليست مجرد تصميمات هندسية، بل هي انعكاس للبيئة والثقافة المحلية. المواد المستخدمة في البناء، مثل الطين أو الحجر، كانت تعكس طبيعة المكان وتساهم في خلق روائح مميزة تسكن الذاكرة. هذه الروائح ترتبط بالحياة اليومية وبهوية المكان، مما يجعل كل تجربة حسية مرتبطة بجوهر المنطقة وسكانها.

التحولات العمرانية وانعكاساتها على الحواس

التحولات التي شهدتها العقود الأخيرة، من اعتماد مواد البناء الحديثة إلى انتشار النمط العمراني العالمي، ربما ساهمت في تغييب تلك الروائح الأصيلة. هذا التوحيد في العمارة الحديثة قد أدى إلى فصل الحواس عن روح المكان، مما جعل المدن تفقد جزءاً من هويتها التي كانت تتميز بها.

الذاكرة الحسية الجماعية

لا يمكن فصل اختفاء الروائح عن فقدان جزء من "الذاكرة الحسية الجماعية". كانت هذه الروائح تجمع بين سكان الأماكن وتنقل إحساساً مشتركاً بالهوية المحلية، وعندما تتلاشى تلك الروائح، يصبح فقدانها جزءاً من فقدان الهوية الجماعية التي تربط الإنسان بمحيطه.

الأبعاد البيئية وتأثيرها على الحواس

التغيرات البيئية، مثل اختفاء النباتات المحلية أو التعديلات على طبيعة استخدام الأراضي، قد أثرت أيضاً على الجو الحسي للمناطق. الروائح كانت تعكس طابع البيئة الطبيعية، ومع اختفائها، افتقدت المجتمعات جزءاً من العلاقة العضوية مع بيئتها.

استعادة التواصل بين الحواس والعمران

لإعادة إحياء هذه العلاقة بين الحواس والبيئة العمرانية، ينبغي أن نعيد النظر في كيفية تصميم المباني واختيار موادها. يمكن التركيز على استخدام عناصر تقليدية تناسب السياق المحلي، وتحاكي التراث الثقافي والطبيعي للمنطقة، مما يعيد إحياء الاتصال العاطفي بين السكان ومحيطهم.

النظرة المستقبلية: المدن المتفاعلة مع الحواس

المستقبل يحمل فرصة لتعزيز هذا الترابط بين الحواس والبيئة من خلال تصميم المدن بطريقة تراعي التجارب الحسية للسكان. استخدام تصاميم تراعي البيئة المحلية وتوظيف مواد طبيعية قد يساهم في خلق أماكن تعزز من جودة الحياة وترتقي بتجربة الإنسان الحسية.

خاتمة: الدعوة إلى الحفاظ على الهوية

الارتباط الحسي بالمكان ليس مجرد رفاهية؛ إنه جزء أساسي من الهوية الثقافية التي ينبغي الحفاظ عليها. العمارة ليست فقط خطوطاً وهياكل، بل هي دعوة للعيش بوعي كامل، حيث تتفاعل الحواس مع البيئة لتعكس جماليات وروح المكان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...