أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، أبريل 16، 2025

رحلتي مع الكتابة: من المدرسة إلى العمارة



جمال الهمالي اللافي

لطالما كانت الكتابة جزءًا لا يتجزأ من رحلتي الشخصية والمهنية، نمت وتطورت معي لتصبح أداة للتعبير عن أفكاري ومشاعري. بدأت علاقتي بالكتابة كمهارة بسيطة في المدرسة الابتدائية عندما شجعني أستاذي جمعة ميلود القذافي بحفاوة كبيرة. أذكر جيدًا كيف كنت أتلقى جائزة عينية تتألف من كراسات وأقلام ومساطر بعد كل موضوع إنشاء أكتبه، وكانت تلك اللحظات تثير بداخلي سعادة طفولية عميقة. ومع ذلك، لم تكن تلك الجوائز هي الوقود الحقيقي لشغفي، بل كانت الكتابة بالنسبة لي نافذة أطل منها على أفكاري وأحلامي، وسبيلاً لأبث ما يجول بخاطري للعالم من حولي.

مع انتقالي إلى الدراسة الجامعية في قسم العمارة والتخطيط العمراني، وجدت في الكتابة وسيلة فريدة تعبر عن رؤيتي المعمارية. كنتُ أشارك في إعداد التقارير والبحوث والمقالات التي نُشرت في المجلة الحائطية بالقسم، والتي أصبحت منصة أولى لعرض أفكاري ومناقشتها.

خطوات نحو التخصص والإبداع

في بداية مسيرتي المهنية مع مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس عام 1990، كان لأسلوبي الكتابي دور بارز في قبولي بالمشروع. فبالإضافة إلى التقارير والمراسلات التي أعددتها، كنت أقدم مقترحات وأفكارًا ابتكارية تُبرز شغفي بموروث طرابلس الثقافي، وهو ما أتاح لي لاحقًا الانخراط في مجلة "آثار العرب". عبر هذه المنصة، بدأت أكتب عن رؤى معمارية تحاكي التراث وتحاول استقراء المستقبل. كانت هذه الكتابات بداية التحول نحو تخصص أعمق وإبداع أوضح.

لاحقًا، كانت رغبتي في توسيع دائرة الكتابة دافعًا لإطلاق صفحة أسبوعية بعنوان "الصفحة الرابعة" في جريدة الشط، حيث جعلتها صوت العمارة الليبية. ورغم مخاوفي من الالتزام بمحتوى غني يغطي صفحة أسبوعية، إلا أن التعاون المثمر مع الزملاء أثمر عن تجربة مميزة.

الكتابة كنافذة على المدن القديمة

لم تكن كتاباتي محصورة في الجانب المهني فقط، بل امتدت إلى عالم الأدب حيث وجدت في القصص القصيرة وسيلة مثالية لاستلهام روح المدن القديمة وسحرها المتأصل. من بين تلك الأعمال "روح المدينة" و"تأملات في مرآة غدامس"، حيث حاولت من خلالها التقاط جوهر الأماكن وتحويلها إلى مشاهد حية تنبض في أذهان القراء. هذه القصص لم تكن مجرد سرد، بل امتزجت فيها التجربة الشخصية والرؤية الفنية، مما أضفى عليها أبعاداً أكثر عمقاً وتأثيراً.

خلال عملي في مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة، استوحيت العديد من السيناريوهات من تجربتي مع طلبة المشاريع والدراسات العليا، ما أدى إلى إنتاج أشرطة وثائقية تحوّلت إلى أعمال سينمائية بارزة. كان من بينها الفيلم السينمائي "روح المدينة"، الذي عُدّ صياغة مبتكرة مختلفة عن قصتي القصيرة التي تحمل الاسم ذاته، وقد تم إنتاجه بالتعاون مع كاتب السيناريو المبدع محمد الغرياني ضمن جهود مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بالشراكة مع مؤسسة الخيالة. كما شهدت قصتي الأولى "بيت جدي"، التي كانت باكورة نصوصي الأدبية، تحولها إلى شريط فيديو وثائقي يحمل الاسم نفسه، مما فتح أمامي مجالاً جديداً لتوسيع التعبير عن التراث وإحيائه بطرق مبتكرة ومتعددة.

لاحقاً، جاءت مجلة "مربعات" كتعاون مع زملاء يشتركون معي في الاهتمام بالعمارة والتراث، ثم أطلقت مدونة "الميراث"، التي أصبحت منصة مميزة للنقاش حول مستقبل العمارة والحرف الفنية في ليبيا، جامعةً بين كتاباتي ومساهمات نخبة من الخبراء.

التحول نحو التأثير الأوسع

مع تطور التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي، بدأت كتاباتي تأخذ أبعادًا جديدة. عبر منتدى المهندسين العرب ومنصات مثل الفيسبوك وإنستغرام، تمكنت من إيصال أفكاري إلى جمهور أوسع ومشاركة رؤاي بشكل تفاعلي. كما تجاوزت الكتابة إلى تقديم محاضرات معمارية تلخص فيها تلك الأفكار، مما أضاف بُعدًا حيويًا لتجربتي.

الكتابة كرحلة مستمرة

تجربتي مع الكتابة ليست مجرد هواية، بل هي مسار مستمر يحمل بداخله رسالة للحفاظ على التراث وتعزيز الهوية الثقافية عبر العمارة. إنها دعوة لكل من يحمل قلمًا أن يجرؤ على استخدامه أداة للتغيير، وألا يتوقف عن التعبير عن رؤيته للمستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية