![]() |
الفناء في المسكن الطرابلسي المعاصر، في محاكاة للبيت التقليدي الذي تجتمع فيه عائلة ممتدة. |
جمال الهمالي اللافي
المعنى في جوهره
يتجاوز الوظيفة المادية للمبنى ليلامس قيمنا الثقافية والاجتماعية والروحية، وهو
القيمة الكامنة التي تجعل من الحيز مجرد مكان، ومن المكان وطناً. وفي عالم
العمارة، يتجلى هذا المعنى في مدى تجذر المبنى في بيئته، واستجابته لثقافة سكانه،
وتعبيره عن هويتهم.
وقد أدرك الشاعر
الإنجليزي ألكسندر بوب في القرن الثامن عشر هذه العلاقة العميقة بين المكان وروح
ساكنيه، حين دعا إلى استشارة "عبقرية المكان" في كل تصميم. لم يكن بوب
يتحدث عن مجرد التكيف مع التضاريس أو المناخ، بل كان يشير إلى جوهر أعمق، إلى
الروح الكامنة في كل موقع، والتي تتشكل عبر التاريخ والجغرافيا وثقافة الناس.
فالتصميم الذي يستلهم هذه "العبقرية" لا يكون مجرد إضافة غريبة على
المشهد، بل يصبح جزءاً أصيلاً منه، يحمل في طياته معنى متجذراً.
هذا المفهوم
العميق لـ "عبقرية المكان" هو ما استوعبه المعماري حسن فتحي بعمق، والذي
رأى في البيت التقليدي تجسيداً لهذه الروح. فحين قال: "في بيت جدي كل خطوة
لها معنى"، كان يعبر عن أن تصميم ذلك البيت لم يكن عشوائياً، بل كان نابعاً
من فهم عميق لاحتياجات الأسرة، وتقاليدها، وظروفها المناخية، واستخدامها للموارد
المحلية. فتصميم الرواشن الذي يسمح بدخول الضوء الطبيعي مع الحفاظ على
الخصوصية، واستخدام الزخارف الجصية التي تحمل رموزاً ثقافية متوارثة،
وتوجيه فناء الدار لاستقبال نسائم البحر وتلطيف الأجواء، كلها أمثلة تجسد
"عبقرية المكان" في البيت الليبي التقليدي.
وعلى النقيض،
فإن غياب المعنى في العديد من البيوت الليبية المعاصرة يعكس في جانب كبير منه
إغفالاً أو تجاهلاً لـ "عبقرية المكان". فالمشاريع الإسكانية التي تعتمد
على تصاميم نمطية مستوردة أو جاهزة، والتي لا تأخذ في الحسبان التنوع المناخي
والجغرافي والثقافي لليبيا، تفشل في التعبير عن أي معنى محلي أصيل. فتصميم قد يكون
مناسباً لمناخ بارد قد يصبح عبئاً حرارياً في مناطق ليبيا الصحراوية، وتصميم يغفل
عن أهمية الفناء الداخلي (الحوش)
في توفير
الخصوصية والتهوية والتفاعل الاجتماعي يفقد عنصراً جوهرياً من "عبقرية"
البيت الليبي التقليدي.
إن هذا الانفصال
عن "عبقرية المكان" يؤدي حتماً إلى ضمور "المعنى" في بيوتنا
المعاصرة. فعندما يصبح البيت مجرد وعاء إسمنتي مكرر، يفقد قدرته على التواصل مع
هويتنا وذاكرتنا الجماعية. يصبح مجرد مساحة وظيفية خالية من الروح، لا يروي قصة
المكان ولا يعكس قيم سكانه. وفي ظل التوجهات المعمارية العالمية السريعة، يزداد
التحدي في الحفاظ على هذه "العبقرية" المحلية وتضمينها في تصاميمنا
المعاصرة.
إن استعادة
المعنى في البيت الليبي المعاصر تبدأ بالعودة إلى فهم وتقدير "عبقرية
المكان". إنها دعوة إلى تبني مقاربة معمارية حساسة للسياق، تستلهم من التراث
المحلي مع تبني الحلول الحديثة بوعي. إنها ضرورة لإنشاء بيئات سكنية لا تلبي فقط
الحاجات المادية، بل تغذي أيضاً أرواحنا وتعزز ارتباطنا بهويتنا ومكاننا. فالمبنى
الذي يتناغم مع "عبقرية المكان" هو وحده القادر على أن يحمل معنى حقيقياً
ودائماً.
ختاماً، تدعونا
هذه المقالة إلى التفكير ملياً:
- كيف يمكننا كمعماريين ومخططين
وصناع قرار استعادة "عبقرية المكان" في تصاميمنا المعاصرة، ومواجهة
تحديات العولمة المعمارية؟
- ما هي العناصر الجوهرية في
بيوتنا التقليدية التي تحمل معنى عميقاً وتعكس هويتنا، وكيف يمكننا إعادة
إحيائها في سياقاتنا المعاصرة؟
- ما هي العلاقة التي تربطنا
ببيوتنا ومحيطنا الحضري، وكيف يمكننا تعزيز هذا الارتباط لخلق مساحات معيشية
أكثر معنى وأصالة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق