أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، نوفمبر 09، 2025

العمارة بين الانبهار والوعي: نحو مشروع ليبي معاصر

 من التبعية إلى التأسيس: العمارة كخطاب ثقافي


جمال الهمالي اللافي

ليست العمارة مجرد بناء، بل خطابٌ ينطق بما وراءه من فلسفات وقيم، ويُجسّد موقعنا من العالم ومن أنفسنا. في السياق الليبي، لم تعد الإشكالية في الشكل أو التقنية، بل في المرجعية: هل نُنتج عمارة تنتمي إلينا؟ أم نُعيد إنتاج نماذج لا تُشبهنا؟ هذا النص لا يسعى إلى المفاضلة بين التقليد والحداثة، بل إلى تفكيك التبعية، وتأسيس وعي معماري يعيد وصل الإنسان بالمكان، ويمنح العمارة دورها كشاهد على التحول، لا مجرد استعراض بصري.

1.      سؤال اللحظة: الحداثة أم الأصالة؟

في مفترق طرق تاريخي، يواجه المعمار الليبي سؤالًا مصيريًا: هل نندفع نحو الحداثة الغربية بكل خلفياتها الفلسفية والتقنية؟ أم نعيد تأصيل عمارتنا المحلية دون أن نغلق الباب أمام التطوير؟
هذا السؤال لا يُطرح كمفاضلة بين التقليد والتجديد، بل كدعوة للوعي بماهية العمارة كخطاب ثقافي واجتماعي، لا كمجرد منتج بصري أو هندسي.

هذا السؤال لا يُطرح من باب المفاضلة بين التقليد والتجديد، بل من باب الوعي بماهية العمارة كخطاب ثقافي واجتماعي، لا كمجرد منتج بصري أو هندسي. فالعمارة ليست حيادية، بل تنطق بما وراءها من فلسفات وقيم، وتُجسّد موقعنا من العالم، ومن أنفسنا.

الحداثة ليست قشرة

الحداثة الغربية لم تكن مجرد انتقال إلى الزجاج والخرسانة، بل تجسيد لتحولات اجتماعية واقتصادية عميقة. تجاهل هذه الخلفيات يحوّلها إلى قشرة بلا مضمون. وهنا تبرز الحاجة إلى "الحداثة الحرجة" التي لا تُستورد جاهزة، بل تُعاد صياغتها محليًا، لتصبح أداة لا غاية، وموقفًا لا تبعية.

الأصالة ليست انغلاقًا

تأصيل العمارة المحلية لا يعني رفض الحداثة، بل إعادة صياغتها بما يتناسب مع السياق الليبي: مناخًا، ثقافةً، واقتصادًا. الأصالة ليست ماضوية، بل قدرة على استيعاب التحولات دون فقدان المرجعية، مما يفتح الباب أمام "الحداثة المتصالحة" بدل الحداثة المتصادمة.

2.      أزمة التعليم المعماري: غياب التأسيس واحتفاء بالشكل

على مستوى التعليم المعماري، يغيب التأسيس الفلسفي والاجتماعي والاقتصادي الذي قامت عليه مدارس الحداثة الغربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. يُكتفى بعرضها كأشكال هندسية لافتة، مصنوعة بمواد متطورة وتقنيات عالية الجودة، ويُدفع الطالب نحوها دون أن يُسأل: لماذا؟ وكيف؟ وما الذي تعنيه؟

غياب التأسيس الفلسفي

المدارس الغربية نشأت من خلفيات فكرية واضحة، بينما يُقدَّم النموذج في التعليم الليبي كأشكال هندسية لافتة دون مساءلة: لماذا؟ وكيف؟ وما الذي تعنيه؟ المنهج الأكاديمي يفصل الشكل عن المعنى، ويُغيب السياق المحلي، مما يُنتج معماريًا بلا جذور.

نتائج التجاهل

هذا التجاهل يُنتج معماريًا مقلدًا مأخوذًا بالبريق، عاجزًا عن النقد أو إعادة الصياغة، ويحوّل التعليم إلى قناة عبور للانبهار بدل أن يكون منصة تأسيس للوعي.

مظاهر الأزمة

  • التركيز على الشكل دون المضمون.
  • غياب أدوات النقد والتحليل.

دفع الطالب نحو الحداثة دون فهم خلفياتها أو علاقتها بالإنسان والمجتمع. اقتراح تأسيس مادة "فلسفة العمارة الليبية" كمقرر مستقل يعيد ربط الطالب بمحيطه الثقافي والمناخي.

3.      الفكر المعماري الليبي: غياب المشروع وتفكك الرؤية

لا مشروع جماعي

على المستوى الفكري، لا توجد رؤية ليبية معاصرة توازي نظيراتها في الغرب، ولا مشروع جماعي يسعى إلى منجز يحمل قيمة معمارية تعبّر عن روح العصر. ما نراه هو تماهٍ فردي مع الآخر، وانبهار يسدّ منافذ العقل عن التقييم السليم، ويغيب معه السؤال عن مدى توافق هذه النماذج مع قيمنا، أو مع بيئتنا المناخية والاقتصادية.

عزلة المعماري

غياب الحوار المهني وتفكك الجهود يجعل كل معماري يعيش تجربته في عزلة، وكأن العمارة فعل فردي لا جماعي، وكأنها ترف بصري لا مسؤولية ثقافية.

نحو خطاب جمعي

العمارة كخطاب جمعي لا كإنتاج فردي، تستدعي تأسيس منتديات مهنية تُراكم التجربة وتُنتج سردية ليبية متماسكة. غياب المشروع لا يعني غياب الإمكان، بل غياب التنسيق.

4.      ممارسة المهنة: فجوة التقنية وغياب التمكّن

مفارقة السياق

في السياق الغربي، ترتبط كل مدرسة معمارية بفكرها وتقنياتها وموادها، وتُعبّر عن نفسها من خلال تكامل الشكل والإنشاء. أما في الحالة الليبية، فلا تزال الممارسة تعتمد على الخرسانة المسلحة بتقنية الهيكل الإنشائي، ما يعكس تخلفًا تقنيًا، بينما العالم يتجه نحو مواد أكثر استدامة ومرونة.

مظاهر الفقر المهني

نعاني من فقر شديد في التقنية، وفي مواد البناء والتشطيب، وفي العمالة الفنية الماهرة، مما يجعل أي منجز محلي عاجزًا عن التعبير الحقيقي عن ذاته، خلافًا لما نراه في السياقات الغربية. هذا الفقر لا يُعالج بالاستيراد، بل بإعادة بناء منظومة مهنية متكاملة، تبدأ من التعليم ولا تنتهي عند التنفيذ.

نحو منظومة محلية

نقد للمركزية التقنية التي تربط التقدم بالاستيراد، والدعوة إلى تأسيس "مختبر تقني ليبي" يُعيد إنتاج المواد محليًا ويُراكم المعرفة التطبيقية.


الواقع المعماري الليبي: تشوّه بصري وانفصال عن العصر

مخرجات بلا روح

الحالة المعمارية الليبية اليوم المباني الليبية لا تعكس روح العصر، بل تعكس حالة من التخبط والتنافر، وكأنها نتاج صراع بين التقليد والحداثة دون حسم، حطّم الموجود، دون أن يطرح بدائل تعبّر عن العصر الذي نعيشه. ومع ذلك، يتباهى المعماري بمخرجاته، رغم ما تحمله من بؤس بصري وتنافر حاد، تنسب نفسها زورًا إلى مشروع الحداثة، وهو منها براء.

تباهٍ زائف

هذا التباهي لا يعكس ثقة، بل غيابًا للمعايير، وانفصالًا عن النقد، وتواطؤًا مع الرداءة. المدن الليبية لا تنطق بروحها، بل بتشوهاتها، ولا تعبّر عن أهلها، بل عن غياب الرؤية في تصميمها.

غياب المعايير

التشوّه البصري ليس خللًا شكليًا فقط، بل خلل في القيم، حيث يُستبدل الانتماء بالبهرجة، والوظيفة بالاستعراض. المدينة مرآة للوعي، ونضج المجتمع يُقاس بنضج فضاءاته.

طريق الإنقاذ: وعي ومسؤولية لا تُؤجّل

الإنقاذ يبدأ حين يقتنع المعماري الليبي بأن هذه مسؤوليته الوطنية والتاريخية، فلا يرمي بتقصيره على المواطن أو على الجهات الرسمية وحدها، بل يبدأ من ذاته، ويعيد تعريف دوره بوصفه شاهدًا ومشاركًا في صناعة الوعي، لا مجرد منفّذٍ لأوامر أو مقلّدٍ لنماذج مستوردة.

المعماري كفاعل ثقافي

المعماري ليس مجرد منفّذ أو مهندس، بل صاحب قرار فني وأخلاقي، وحامل لخطاب، وصانع لفضاء، ومؤتمن على ذاكرة المكان. حين يستعيد هذا الدور، يمكن للعمارة الليبية أن تنهض، لا بتكرار الماضي، ولا بانبهار بالآخر، بل بصياغة مشروعها الخاص، الذي ينتمي إلى الأرض، ويخاطب العالم.

حين يستعيد هذا الدور، يمكن للعمارة الليبية أن تنهض بمشروعها الخاص، الذي ينتمي إلى الأرض ويخاطب العالم.

نحو ميثاق مهني

دعوة لتأسيس "ميثاق المعماري الليبي" يُعيد تعريف الدور المهني بوصفه مسؤولية أخلاقية تجاه المكان والناس، لا مجرد وظيفة تنفيذية.

المبادئ الأساسية في الرؤية المعمارية الليبية المعاصرة

المبدأ

التوجه

الهوية الثقافية

استلهام عناصر العمارة التقليدية دون تكرار أو تجميل سطحي. الهوية ليست تكرارًا للماضي، بل إعادة تأويله في ضوء الحاضر، حيث يتحوّل الرمز إلى وظيفة، والتراث إلى أفق.

الاستجابة المناخية

تصميم يتفاعل مع المناخ الليبي ويستخدم مواد مستدامة. المناخ ليس تحديًا هندسيًا فقط، بل اختبار للانتماء، حيث يُقاس وعي المعماري بقدرته على تحويل البيئة إلى حليف.

الحداثة كأداة

توظيف التقنيات الحديثة بما يخدم السياق المحلي. الحداثة لا تُقاس بالتقنيات، بل بقدرتها على خدمة الإنسان، حين تُوظَّف لا تُعبَد، وتُعاد صياغتها لا تُستنسَخ.

الوظيفة الاجتماعية

فضاءات تعزز التفاعل وتحترم الخصوصية وتخدم المجتمع. المبنى ليس جدارًا، بل نسيجًا حيًا يُعيد تشكيل العلاقات، ويُعيد للمدينة روحها، وللإنسان مكانه.


نحو رؤية معمارية ليبية معاصرة

أولًا: المبادئ الأساسية في الرؤية المعمارية الليبية المعاصرة

1.      الهوية الثقافية: استلهام لا استنساخ

الهوية المعمارية ليست قالبًا جاهزًا يُعاد إنتاجه، بل هي عملية استنطاق للذاكرة، وتحويل للرمز إلى وظيفة.
استلهام عناصر العمارة التقليدية الليبية—كالأقواس، الأفنية، الظلال، المواد المحلية—يجب أن يتم بوصفها أدوات للتعبير عن الذات، لا مجرد زينة فولكلورية.

  • الهوية لا تُستعار، بل تُستعاد من سياقها الحي.
  • العمارة التقليدية ليست مرجعًا شكليًا، بل منظومة معرفية تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان.
  • كل عنصر مستلهم يجب أن يُعاد تأويله بما يخدم الحاضر، لا أن يُجمَّل ليُرضي الحنين.

2.      الاستجابة المناخية: مناخ كحليف لا كعائق

المناخ الليبي ليس عائقًا يجب التغلب عليه، بل حليفٌ يجب فهمه والتفاعل معه. العمارة التي تتجاهل المناخ تُنتج فضاءات منفصلة عن الواقع، وتُكرّس التبعية التقنية بدل الاستقلال البيئي.

  • التفاعل مع المناخ يعني احترام الضوء، والظل، والتهوية، والكتلة، لا مجرد إضافة أنظمة تكييف.
  • استخدام المواد المحلية أو المستدامة ليس خيارًا بيئيًا فقط، بل موقفٌ اقتصادي وثقافي.
  • الاستجابة المناخية هي شكل من أشكال الانتماء، حيث يصبح المبنى امتدادًا للبيئة لا جسمًا غريبًا فيها.

3.      الحداثة كأداة: التقنية في خدمة المعنى

الحداثة ليست غاية تُسعى إليها، بل أداة تُوظَّف بوعي. التقنيات الحديثة- من الذكاء الصناعي إلى التصميم الرقمي وأنظمة البناء الذكية- لا تُستخدم للإبهار، بل لتكثيف المعنى، وتحقيق الوظيفة، وتعزيز الانسجام مع السياق المحلي.

  • التقنية بلا وعي تُنتج مباني مبهرة لكنها خاوية.
  • الحداثة لا تُقاس بكمية الزجاج أو تعقيد الشكل، بل بقدرتها على خدمة الإنسان والمكان.
  • المعماري الواعي لا يرفض الحداثة، بل يُعيد توجيهها لتخدم مشروعه لا أن تبتلعه.

4.      الوظيفة الاجتماعية: المبنى كنسيج حي

العمارة ليست مجرد مأوى، بل فضاء اجتماعي يُعيد تشكيل العلاقات، ويكسر عزلة الفرد، ويعزز الانتماء.
المبنى لا يعيش في فراغ، بل في حي، وشارع، ومدينة، وكل قرار تصميمي يجب أن يُسائل أثره على النسيج الاجتماعي.

  • الخصوصية لا تعني الانغلاق، بل احترام الفروق دون إلغاء التفاعل.
  • الفضاء العام ليس ترفًا، بل ضرورة حضرية تُعيد للمدينة روحها.
  • الوظيفة الاجتماعية هي معيار أخلاقي، حيث يُقاس نجاح المبنى بقدرته على خدمة الإنسان، لا فقط بإرضاء المستثمر.

التصور الفكري والفلسفي للعمارة الليبية المعاصرة

1.      العمارة كمرآة للوعي الجمعي

العمارة ليست انعكاسًا لذوق فردي، بل تجسيد لطموحات مجتمع بأكمله. هي مرآة للوعي الجمعي، بما يحمله من تطلعات، مخاوف، وتناقضات.

في السياق الليبي، يجب أن تتجاوز العمارة دورها الوظيفي لتصبح تعبيرًا عن التحولات الاجتماعية، عن الحنين والقطيعة، عن التوق إلى الاستقرار والانفتاح في آنٍ واحد.

  • يجب أن تُصمَّم المباني بوصفها شهادات على المرحلة، لا مجرد حلول تقنية.
  • كل مبنى هو وثيقة ثقافية، تُسائل اللحظة، وتُراكم الذاكرة، وتُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان.

2.      العمارة كأداة مواجهة

في ظل التهميش الثقافي، والتغريب البصري، والفوضى العمرانية، تصبح العمارة أداة مقاومة لا ترفًا جماليًا.

  • مقاومة التهميش: عبر إعادة الاعتبار للمكان الليبي، وتأكيد خصوصيته في وجه الاستنساخ العالمي.
  • مقاومة التغريب: عبر تفكيك النموذج المستورد، لا رفضه، وإعادة تركيبه بما يخدم السياق المحلي.
  • مقاومة الفوضى البصرية: عبر استعادة المعايير، وتكريس الانسجام، وتحرير الفضاء من العشوائية.

العمارة هنا ليست رد فعل، بل فعلٌ نقدي واعٍ، يواجه لا ينسحب، ويعيد ترتيب العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الذاكرة والطموح.

3.      العمارة كحوار

العمارة ليست خطابًا مغلقًا، بل حوارًا مفتوحًا بين:

  • الماضي والمستقبل: لا قطيعة مع التراث، ولا انبهار بالمستقبل، بل جدل مستمر بين الجذور والرؤية.
  • الداخل والخارج: لا عزلة ولا انكشاف، بل توازن بين الخصوصية والانفتاح، بين الذات والآخر.
  • الإنسان والمكان: لا هيمنة للمبنى على الإنسان، ولا تذويب للإنسان في المبنى، بل علاقة تكاملية تُراعي الحاجات النفسية والاجتماعية والثقافية.

هذا الحوار لا يُدار بلغة الشكل فقط، بل بلغة القيم، والوظيفة، والدلالة، حيث يصبح كل عنصر معماري حاملًا لمعنى، لا مجرد تفصيل إنشائي.

نحو تأسيس الخطاب المعماري الليبي المعاصر

في ظل التحديات المتراكمة التي تواجه العمارة الليبية—من غياب المشروع الجماعي، إلى التشوّه البصري، إلى الانبهار غير الواعي بالحداثة الغربية—تبرز الحاجة إلى تأسيس خطاب معماري ليبي معاصر، لا بوصفه رد فعل، بل بوصفه فعلًا نقديًا واعيًا، يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان، بين المعماري والمجتمع، وبين العمارة والهوية.

1.      من الانبهار إلى الوعي

الخطاب المعماري الليبي لا يمكن أن يُبنى على الانبهار بالنموذج الغربي، ولا على اجترار التراث المحلي، بل على وعي نقدي يُعيد مساءلة كل نموذج، ويُعيد تأويل كل مرجعية. الحداثة لا تُرفض، بل تُفكك وتُعاد صياغتها. والأصالة لا تُستنسخ، بل تُستعاد من سياقها الحي، وتُوظف في خدمة الحاضر.

2.      من الفردية إلى المشروع الجماعي

العمارة ليست فعلًا فرديًا، بل خطابًا جماعيًا يُراكم التجربة، ويُنتج سردية ليبية معمارية متماسكة.
غياب المشروع لا يعني غياب الإمكان، بل غياب التنسيق، مما يستدعي تأسيس منتديات مهنية، ومختبرات فكرية، تُعيد بناء المرجعية، وتُنتج رؤية تتجاوز الذوق الشخصي إلى الوعي الجمعي.

3.      من التقنية إلى المعنى

التقنية ليست غاية، بل وسيلة. والحداثة لا تُقاس بكمية الزجاج أو تعقيد الشكل، بل بقدرتها على خدمة الإنسان والمكان.
المعماري الليبي مطالب بإعادة تعريف علاقته بالتقنية، لا بوصفها أداة إبهار، بل بوصفها أداة تكثيف للمعنى، وتحقيق للوظيفة، وتعزيز للانسجام مع السياق المحلي.

4.      من الشكل إلى الوظيفة الاجتماعية

المبنى ليس جدارًا، بل نسيجًا حيًا يُعيد تشكيل العلاقات، ويكسر عزلة الفرد، ويعزز الانتماء.
الوظيفة الاجتماعية ليست تفصيلًا، بل معيارًا أخلاقيًا، يُقاس به نجاح المبنى، ويُحدد من خلاله دور المعماري بوصفه فاعلًا ثقافيًا، لا منفذًا تقنيًا.

5.      من الفوضى إلى المعايير

التشوّه البصري الذي يطبع المدن الليبية ليس خللًا شكليًا فقط، بل خلل في القيم، حيث يُستبدل الانتماء بالبهرجة، والوظيفة بالاستعراض. استعادة المعايير لا تعني فرض نمط واحد، بل استعادة الانسجام، وتحرير الفضاء من العشوائية، وتكريس الجمال بوصفه تعبيرًا عن التوازن لا عن الترف.

6.      من التبعية إلى الاستقلال المعرفي

الخطاب المعماري الليبي لا يُبنى على التبعية، بل على الاستقلال المعرفي، حيث يُعاد إنتاج المفاهيم، وتُستعاد المرجعيات، ويُعاد بناء العلاقة بين العمارة والهوية، بين التقنية والبيئة، بين الشكل والوظيفة.

هذا الخطاب ليس تنظيرًا، بل دعوة لتأسيس وعي مهني وثقافي، يُعيد للعمارة الليبية دورها كشاهد على تحولات المجتمع، ومرآة لوعيه، وفاعلٍ في تشكيل مستقبله. عمارة لا تكتفي بأن تُبنى، بل تبني بدورها ذاكرة المكان، وتُعيد وصل الإنسان بأرضه، وتُعبّر عن انتمائه لا اغترابه.

الأربعاء، نوفمبر 05، 2025

مدن تنهض ومدن تنتكس

 تأملات في المعمار حين تهتز الأرض تحت أقدام الشعوب


جمال الهمالي اللافي

حين تتعرض الشعوب لتحولات جسام- ثورات، انقلابات، حروب أهلية-لا تتغير الأنظمة فقط، بل تتغير المدن. فبعضها ينهض من ركامه، يبني نفسه بسواعد أبنائه، ويستعيد توازنه رغم العصف. وبعضها ينقلب على ذاته، يقتتل أهله فيما بينهم، فيتحول الفضاء العام إلى ساحة خصام لا ساحة بناء. وبعضها ينمّي مقوماته على حساب غيره، يحتكر الموارد، ويُضعف الأطراف ليقوى المركز. وبعضها ينفلت من كل قيد، فينهب، ويعتدي، ويحوّل المعمار إلى غنيمة. وبعضها يجعل من الفوضى غاية لا وسيلة، ويُبقي الحاضر معلقًا كي لا يُبنى المستقبل. وبعضها يتغطرس على غيره دون أن يملك ما يتغطرس به، متمسكًا بماضٍ لم ينفعه، ورافضًا أن يكون جزءًا من التحول. وبعضها ينتظر من الدولة ما تدّعي فقدانه، رغم أنها تملك أدوات النهوض، لكنها تؤثر الغياب، لا العجز.

    هذه ليست أوصافًا لمدن بعينها، بل أنماط تتكرر في كل مكان، كلما اهتزت الأرض تحت أقدام الشعوب. وما يُقرأ في السياسة والاجتماع، يُرى بوضوح في المعمار، حيث يصبح البناء مرآة للوعي، لا مجرد جدران.

(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) – الرعد: 11

مدن تنهش ذاتها

حين يتحول الفضاء العمراني إلى ساحة اقتتال داخلي، لا يبقى للمعمار سوى أن يتراجع. لا تُبنى الساحات، بل تُغلق. لا تُرسم المخططات، بل تُلغى. المعمار هنا لا يُنتج، بل يُعاقب.

مدن تبني على إضعاف غيرها

ثمة مدن تطوّر مقوماتها، لكنها تفعل ذلك عبر احتكار الموارد، أو سحب الكفاءات، أو تعطيل إمكانات غيرها. المعمار فيها يبدو مزدهرًا، لكنه قائم على اختلال التوازن، لا على عدالة التوزيع.

مدن تنهب لا تبني

حين يتحول المعمار إلى غنيمة، يُفقد معناه. البناء العشوائي، التعدي على الأملاك، تحويل الفضاءات إلى مناطق مغلقة... كلها صور لمعمار لا يُبنى من حاجة، بل من طمع.

مدن تُبقي الفوضى قائمة

بعض المدن لا تسعى إلى الاستقرار، بل إلى تعطيله. المعمار فيها لا يُستخدم لتأمين الحياة، بل لتشويشها. مشاريع متوقفة، تغييرات متكررة، غياب للهوية البصرية... وكأن المعمار صار أداة تعطيل لا بناء.

مدن تتغطرس بلا أساس

التمسك بالمظاهر لا يمنح المدينة قوة، بل يُبقيها خارج الزمن. المعمار هنا يُستخدم كقناع، لا كهوية. رموز تُعاد إنتاجها دون وعي، ورفض لأي مشروع لا يُشبه الماضي، حتى لو لم يكن الماضي نافعًا.

مدن تنتظر ولا تبادر

المدن التي تنتظر التفاتة من مؤسسات غائبة، لا تبني نفسها. المعمار فيها معلّق، ينتظر قرارًا أو ميزانية أو وعدًا. لا مبادرة، لا تخطيط، لا فعل... فقط انتظار.

خاتمة: المعمار لا يُبنى بالخرسانة وحدها

المدن لا تنهض بالمباني، بل بالأفكار التي تُنتجها. وما لم يتغير ما بالنفوس، سيبقى المعمار شاهدًا على التكرار، لا على التقدم. النهوض المعماري يبدأ من الوعي، من المصالحة، من الاعتراف بأن المعمار ليس زينة، بل شهادة على من نحن.

ولعل القارئ يرى في مدينته، أو في ذاكرة شعبه، ما يشبه هذه الصور، أو ما يناقضها. فالمعمار لا يكذب، لكنه لا يتكلم إلا حين يُصغى إليه.

في إدارة الحفاظ على المدن والمعالم التاريخية

تجربة ميدانية في إدارة التراث العمراني

 

جمال الهمالي اللافي


المقدمة

في سياق عملي الطويل في مجال الحفاظ على المدن والمعالم التاريخية، ومن خلال تجربتي العملية التي اكتسبتها خلال فترة عملي بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس بين عامي 1990 و2001، وجدت أن التحديات لا تكمن فقط في تقنيات الترميم أو في فهم القيمة التاريخية للمكان، بل في طريقة إدارة المؤسسات المعنية بهذا الشأن، وفي كيفية اتخاذ القرار، وتوزيع المسؤوليات، وتفعيل الحوار. ما أطرحه هنا ليس توصيات جاهزة، بل تأملات نابعة من تجربة ميدانية، ومن احتكاك مباشر مع الواقع، ومع ما يعتريه من تعقيدات وتداخلات. أكتبها على أمل أن تفتح بابًا للنقاش، لا أن تغلقه.

عند التعامل مع مسألة الحفاظ على المدن والمعالم التاريخية، ينبغي لمن يتحمّل هذه المسؤولية أن يراعي عددًا من الجوانب المرتبطة بكيفية إدارة المؤسسات المعنية، وطرق التدخل في أعمال الترميم والصيانة. أستعرض هنا بعض النقاط التي لمستها خلال تجربتي العملية، لتعميم الفائدة وتوضيح الرؤية:

1.      الإنصات قبل اتخاذ القرار

من المفترض أن يبادر المعنيون بمجال الحفاظ، ممن يقودون مؤسساته، إلى التواصل أولًا مع المختصين والمنتفعين بالمكان، بهدف التعرف على وجهات نظر مختلفة أو متفقة، وتوسيع مداركهم المعرفية قبل وضع أي تصور عام لإدارة هذه المؤسسات.

2.      أولوية التخطيط على الترميم

من المهم تنظيم عروض ومحاضرات متخصصة ترتكز أولًا على الدراسات التخطيطية، التي ينبغي أن تسبق الدراسات الهندسية والتاريخية والاجتماعية. هذا الترتيب يساعد على فهم احتياجات كل منطقة داخل المدينة التاريخية، ويضمن توزيعًا عادلًا للأنشطة، مما يسهم في إحياء المدينة بالكامل ويعزز فرص نجاح المشاريع في كل منطقة منها.

3.      الحذر من الانغلاق المؤسسي والمحاباة

ينبغي تجنب الاعتداد بالرأي الشخصي من طرف المسؤولين، أو التعاطي مع مجموعة منتقاة على أساس المحاباة، دون النظر إلى خبرتهم أو كفاءتهم المهنية. مثل هذا السلوك يضر بمصلحة المؤسسة، ويؤدي إلى اتخاذ قرارات ارتجالية لا تستند إلى منهجية علمية في التعامل مع المدن التاريخية ومعالمها المعمارية والعمرانية.

4.      الحضور المؤسسي الكامل في الفعاليات المعرفية

من الضروري أن يحضر المدير العام واللجنة الإدارية وكافة العاملين من مختلف التخصصات هذه العروض، لما لذلك من أثر في نشر الوعي وتبادل الأفكار. كما يُستحسن استضافة أصحاب الخبرة والاختصاص ممن لا تسمح لهم ظروفهم بالالتحاق بالعمل داخل المؤسسة، لكنهم لا يمانعون تقديم استشاراتهم عند الحاجة.

5.      الحوار الدوري كأداة للتصحيح

إجراء حلقات نقاش دورية بين الإدارة والعاملين يساهم في تذليل الصعوبات، وتفهم وجهات النظر المختلفة، وتلافي الأخطاء، وتدارك ما فات، مما ينعكس إيجابًا على أداء المؤسسة.

6.      التكامل المؤسسي في اتخاذ القرار

من المهم إشراك المؤسسات الأخرى ذات العلاقة المباشرة أو غير المباشرة بمجال الحفاظ على المدن التاريخية في اتخاذ القرارات التي تمس اختصاصها، لضمان التنسيق وتكامل الرؤية.

7.      إشراك السكان وتحفيزهم

ينبغي إشراك سكان المدن التاريخية في كل إجراء يمس مدينتهم وحياتهم، وإعلامهم وتوعيتهم به قبل الشروع في تنفيذه. كما يُستحسن تحفيزهم بالحوافز التشجيعية، بما يعزز التزامهم بآليات صيانة المعالم المعمارية التي يشغلونها، ويساعد في الحفاظ على قيمتها التاريخية.

الخاتمة

الحفاظ على المدن التاريخية ليس فعلًا تقنيًا فحسب، بل هو موقف معرفي وأخلاقي ومجتمعي. وما لم تُدار المؤسسات المعنية بهذا الملف بوعي شامل، وبانفتاح على الخبرة والتعدد، فإن الجهود ستظل مجزأة، والنتائج محدودة.
ما كتبته هنا هو محاولة لتوثيق ما رأيته ولمسته، لا من باب التنظير، بل من باب المسؤولية تجاه المكان، وتجاه من سيواصلون العمل فيه بعدنا
.

الثلاثاء، نوفمبر 04، 2025

نحو مدرسة معمارية ليبية

 استلهام الباوهاوس واستعادة الاختصاصات المسلوبة



 جمال الهمالي اللافي

تمهيد

في زمنٍ باتت فيه العمارة تُختزل في برامج التصميم ومخرجات العروض البصرية، يتوارى المعماري كممارس شامل خلف جدران التخصصات المجزأة. هذه المقالة لا تسعى إلى تقديم نموذج جاهز، بل إلى فتح أفق للنقاش حول إعادة تشكيل التعليم المعماري في ليبيا، بما يستجيب للسياق المحلي ويستحضر الهوية الثقافية والمكانية.

نقد الواقع الأكاديمي المعماري

كيف ساهم التعليم الأكاديمي في تجزئة المعماري؟

  • منذ استحداث التعليم الأكاديمي المعماري في ليبيا، وخصوصًا مع انتشار الجامعات الخاصة، بات التكوين المهني يعتمد على التخصصات النظرية، مع إضعاف واضح للتدريب الميداني.
  • يتم تدريس التصميم المعماري بمعزل عن التنفيذ، دون إلمام حقيقي بمراحل البناء أو تقنيات الحرفة التقليدية.
  • يغيب عن الطالب التدريب على التصميم الداخلي، تنسيق المواقع، والتخطيط الحضري، رغم أنها كانت جزءًا من الممارسة المعمارية التقليدية.
  • هذا الفصل يُنتج مصممًا يعتمد على فرق خارجية، مما يُفقده سلطته المهنية ورؤيته الشاملة.
  • في المقابل، تُظهر تجارب مثل الباوهاوس وورش الـ Design-Build أن دمج الحرفة بالتعليم يُنتج معماريًا واعيًا بالمادة، والموقع، والإنسان.

إن نقد الواقع الأكاديمي لا يهدف إلى تقويضه، بل إلى مساءلته. فاستعادة المعماري كممارس شامل تعني إعادة بناء المنهج بما يستوعب الحرفة، والميدان، والهوية، في آنٍ واحد.

نماذج عالمية ملهمة

بين النظرية والميدان: كيف تجاوزت بعض المدارس الفصل الأكاديمي؟

  • الباوهاوس: جمعت بين الفن، الحرفة، والتعليم. اعتمدت على مبدأ "التصميم عبر الصنع"، مما منح الطالب وعيًا ماديًا ومكانيًا لا يتحقق في القاعات النظرية.
  • مدرسة AA في لندن: ربطت التعليم بالممارسة من خلال مشاريع واقعية ونقد حي، وقيّمت الطلاب على التفكير النقدي والتفاعل مع السياق.
  • Rural Studio في أمريكا: نفذت مشاريع حقيقية في المجتمعات الريفية، مما عزز فهم الطالب للمواد والبيئة الاجتماعية، وأعاد للمعماري سلطته المهنية.

هذه النماذج لا تُقدّم وصفة جاهزة، لكنها تُظهر أن التعليم المعماري يمكن أن يُعاد تشكيله ليصبح أكثر التصاقًا بالحرفة والسياق.

نحو تصور مدرسي ليبي

استعادة الاختصاصات لا استنساخ النماذج

يقترح هذا التصور ملامح فكرية لمنهج تعليمي ومهني يعيد للمعماري سلطته، ويستحضر "أسطى البناء" كمصدر معرفي، لا كرمز تراثي. يقوم على أربعة أعمدة:

  1. دمج الحرفة بالتعليم: عبر ورش ميدانية وتدريب على المواد وتقنيات البناء التقليدية.
  2. إعادة تعريف التخصصات: تدريس التصميم الداخلي، تنسيق المواقع، والتخطيط الحضري كمجالات متداخلة.
  3. الوعي بالمكان والهوية: دراسة العمارة المحلية وتحليل السياقات الاجتماعية والثقافية.
  4. المعماري كممارس متعدد: قائد مشروع، مفكر مكاني، ومشارك في التنفيذ.

المدرسة المقترحة ليست مؤسسة، بل فكرة يمكن أن تتجسد حين تتوفر الإرادة، ويُعاد الاعتبار للمعماري كممارس، لا كمصمم فقط.

خاتمة

المعماري كممارس متعدد: استعادة الدور لا استعادة الماضي

إن ما طُرح لا يسعى إلى تأسيس مدرسة جديدة، بل إلى تأسيس وعي جديد حول مهنة المعماري، ودوره الذي تآكل بفعل الفصل الأكاديمي والتخصص المفرط. النماذج العالمية تُظهر أن التعليم يمكن أن يُعاد تشكيله بما يناسب السياق المحلي، لا عبر استنساخ التجارب، بل عبر استلهامها.

تبقى الأسئلة مفتوحة: كيف يمكن للمعماري أن يستعيد سلطته المهنية دون أن يفقد روحه التأملية؟ وكيف يمكن للتعليم أن يُعيد تشكيل نفسه ليصبح أكثر التصاقًا بالحرفة، والسياق، والإنسان؟ هذه الأسئلة تستحق أن تُناقش في فضاءات أكاديمية ومهنية جادة.

الاثنين، نوفمبر 03، 2025

المدرسة الليبية للعمارة والفنون

تجربة شخصية في مقاومة التبسيط، واستعادة العمارة كفعل ثقافي في زمن التهافت

 

جمال الهمالي اللافي

لماذا أكتب هذه التجربة؟ وما الذي أطمح إليه من عرضها؟

لا أكتب لأوثّق سيرة مهنية، ولا لأعرض محطات شخصية. أكتب لأن هذه التجربة هي كل ما تبقّى من مسار امتد لأربعة عقود، لم يُثمر مشاريع ضخمة، ولم يُدر أرباحًا، لكنه بقي وفيًا لفكرته، ومخلصًا لهويته، ومستمراً رغم الإقصاء والتهميش. أطمح من عرضها إلى إعادة فتح النقاش حول معنى العمارة في السياق الليبي: هل هي خدمة؟ أم خطاب؟ هل هي منتج؟ أم موقف؟ وهل يمكن للمعماري أن يظل فاعلًا، حتى حين يُقصى من التنفيذ؟

لماذا بدأت من الحديث عن النشأة؟ وما الذي أردت الإشارة إليه؟

لأن النشأة ليست خلفية زمنية، بل محددٌ جوهريٌ لمسار التجربة. ولدت في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، في لحظة كانت الدولة الليبية تتشكّل، وتبحث عن ملامحها. النشأة كانت في بيتٍ لا يُفرّق بين الدين والسياسة والثقافة، بل يتعامل معها كقضايا يومية تُناقش وتُمارس. أردت أن أُظهر أن العمارة، كما فهمتها لاحقًا، لم تكن تخصصًا منفصلًا، بل امتدادًا لتلك البيئة الفكرية المتعددة، التي ربطت بين الفكرة والممارسة، وبين الجمال والمسؤولية.

لماذا توقفت عند لحظة الصدمة البصرية؟ وما الذي دفعني لدراسة العمارة؟

لأن تلك اللحظة كانت نقطة التحول من الملاحظة إلى الالتزام. في أواخر الستينيات، بدأت الأسر الليبية تهاجر من "حوش العيلة" إلى مساكن شعبية وعمارات مستردة. ثم جاءت لحظة الوقوف أمام دوبلكس حديث في مدينة الحدائق، ليكتمل الإدراك بأن ما يُبنى لا يُراعي الذاكرة، ولا البيئة، ولا الذائقة. أردت من دراسة العمارة أن أُعيد التفكير في ما يُبنى، لا أن أُعيد إنتاجه. أن أُقاوم التبسيط، لا أن أُجمّله. أن أبحث عن صيغة تصميمية تُعيد الاعتبار للمكان، لا أن تُقصيه.

لماذا اخترت قسم العمارة؟ وما الذي سعيت لتحقيقه خلال الدراسة؟

لأن القسم كان بوابة لاكتساب الأدوات، لكنني أردته مختبرًا لتشكيل خطاب مغاير. منذ اللحظة الأولى عام 1980، كان هدفي أن أُنتج مشاريع تنتمي للبيئة المحلية، لا أن أُحاكي نماذج مستوردة. نظّمت معارض، وشاركت في رحلات علمية، وأجريت حوارات مطوّلة مع الزملاء، لأنني كنت أبحث عن تكوين فكري جماعي، لا عن تفوق فردي. أردت أن أُعيد تعريف الطالب، لا كمُتلقي، بل كمُنتج للمعرفة المعمارية.

لماذا أسست جماعة التراث؟ وما الذي كنت أطمح إليه منها؟

لأن الأنشطة الطلابية كانت فرصة لطرح رؤية، لا مجرد مشاركة. أسست جماعة التراث داخل القسم، لأُعيد الاعتبار للعمارة المحلية، ولأُظهر أن التصميم يمكن أن يكون موقفًا ثقافيًا. أردت أن أخلق تيارًا داخل القسم يُعيد وصل الطالب بموروثه، ويُعيد التفكير في العلاقة بين العمارة والهوية.

لماذا اخترت العمل في المدينة القديمة؟ وما الذي كنت أبحث عنه هناك؟

لأن المدينة القديمة كانت بالنسبة لي فضاءً حيًا، لا موضوعًا للترميم. التحاقي بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة عام 1990 لم يكن قرارًا وظيفيًا، بل عودة إلى المنبع. كنت أبحث عن مكان لا تزال فيه العمارة تحتفظ بعلاقتها بالناس، حيث الجدران تحكي، والأزقة تُعلّم، والحرفيون يُنتجون دون وساطة. أردت أن أتعلم من المكان، لا أن أُعيد تشكيله. أن أُعيد اكتشاف ما تم تهميشه، لا أن أُضيف إليه من خارج السياق.

لماذا نظّمت برنامج التدريب الصيفي؟ وما الذي كنت أطمح إليه منه؟

لأن التعليم الرسمي كان منفصلًا عن الممارسة، وعن المكان. نظّمت برنامج التدريب الصيفي لطلبة قسم العمارة، واستمر لست دورات. أردت أن أُعيد ربط الطالب بموروثه، وأن أُعيد تعريف التعليم بوصفه تجربة ميدانية، لا نظرية.
كان البرنامج محاولة لتأسيس تجربة تربوية بديلة، تُعيد للطالب علاقته بالمدينة، وبالناس، وبالعمارة كذاكرة.

لماذا بدأت بالطرح الفكري؟ وما الذي أردت تحقيقه من خلاله؟

لأن العمارة لا تُصحّح بالتصميم فقط، بل بالفكر أيضًا. في أول محاضرة عام 1993 بعنوان "نحو رؤية جديدة ومعاصرة لمفهوم البيت الاقتصادي"، أردت أن أفتح باب التفكير في نموذج سكني يُراعي الخصوصية المحلية، ويُوازن بين الجمال والاقتصاد. كانت المحاضرة بداية لسلسلة لقاءات امتدت حتى 2010، نُظّمت في فضاءات المدينة القديمة، التي كانت تُرمّم وتُصان في ذات الوقت. أردت أن يكون النقاش داخل المكان، لا خارجه. وأن يكون الفكر جزءًا من الممارسة، لا منفصلًا عنها.

لماذا أسست المكاتب؟ وما الذي كنت أبحث عنه في كل منها؟

لأنني كنت أبحث عن صيغة عمل تسمح للفكرة أن تعيش، وتجد لها حيزًا في واقعٍ لا يعترف بها.

·         مكتب الميراث – 1993

أسسته مع مجموعة من المعماريين، لأُعيد الاعتبار للعمارة المحلية، ولأُمارس التصميم بوصفه فعلًا ثقافيًا.
لكن اصطدمنا بواقع مهني لا يُشجّع العمل الجماعي، ولا يُعطي للفكرة وقتًا لتنضج.

·         أبعاد – 2001

أضفت إليه برنامجًا لتأهيل خريجي قسم العمارة للإشراف على التنفيذ . كنت أبحث عن طريقة لربط التعليم بالموقع، وعن وسيلة لتجاوز الفجوة بين المعماري والميدان.

لماذا أسست المدرسة الليبية للعمارة والفنون؟ وما الذي أردت تحقيقه منها؟

لأن المكاتب الهندسية كانت محصورة في تقديم خرائط، في زمن تم فيه إقصاء المعماري الليبي عن المشاركة في البناء. أسست المدرسة عام 2004، وضممت إليها مجموعة من الخريجين الذين رأيت فيهم استعدادًا لتجاوز النمط، لا لتكراره. أردت أن أُعيد تعريف دور المعماري، لا كمصمم، بل كمُنتج للخطاب، وكفاعل ثقافي.
خرجت بها من الهندسة إلى الاستشارة، ومن التصميم إلى التكوين، ومن تقديم الخدمة إلى بناء الرؤية.

لماذا نظّمت البرامج والرحلات؟ وما الذي كنت أطمح إليه منها؟

لأنني أردت أن أُعيد لمجموعة المعماريين بالمكتب علاقتهم بالمكان، لا بالمخطط. نظّمت برامج تدريبية، لأن التعليم الرسمي لا يكفي. نظّمت رحلات إلى المدن القديمة، لأن العمارة لا تُفهم من الكتب فقط، بل من الأزقة، والبيوت، والحرفيين. كنت أبحث عن طريقة لتوثيق ما يُنسى، ولإعادة وصل المعماري بالذاكرة الحية.

لماذا ساهمت في مجلة مربعات؟ ولماذا أسست مدونة الميراث؟

لأن الخطاب المعماري يحتاج إلى أدوات نشر، لا أن يبقى حبيس الورش والمكاتب.
ساهمت في تأسيس مجلة "مربعات"، لأُنتج خطابًا بصريًا يُعيد الاعتبار للجمال المحلي، وللرمزية المعمارية.
أسست مدونة "الميراث"، لأنني أدركت أن العمل الجماعي ليس من ثقافة المعماري الليبي، وأن الفكرة تحتاج إلى فضاء مستقل، يُنشر فيه ما يُنتفع به، ويُحفظ فيه ما قد يضيع.

ما الذي تبقّى من التجربة؟ وما الذي أطمح إليه الآن؟

ما تبقّى من هذه التجربة ليس عدد المشاريع، ولا حجم الإنجازات، بل وضوح الفكرة، وثبات الموقف، واستمرار السعي رغم تبدّل السياقات. لقد كانت المدرسة الليبية للعمارة والفنون، والمكاتب التي سبقتها، محاولات متتالية للبحث عن صيغة عمل تُمكّن المعماري من أن يكون فاعلًا ثقافيًا، لا مجرد مقدم خدمة. وما أطمح إليه الآن، ليس استعادة ما فُقد، بل البناء على ما ثبت: أن العمارة في ليبيا لا يمكن أن تُفهم أو تُمارس خارج سياقها الثقافي، وأن إعادة وصل المعماري بالمكان، وبالناس، وبالذاكرة، هو المدخل الحقيقي لأي مشروع إصلاحي في هذا المجال.

عرض هذه التجربة ليس استعراضًا لمسار شخصي، بل دعوة لإعادة التفكير في بنية الخطاب المعماري الليبي، وفي أدواته، وفي فضاءاته. وإذا كان من أثر يمكن أن يتحقق مستقبلاً، فهو أن تُقرأ هذه التجربة بوصفها نواةً لفهمٍ مختلف، يُعيد الاعتبار للعمارة كفعلٍ مسؤول، ويمنح الجيل الجديد من المعماريين أدوات للتفكير، لا وصفات للتنفيذ.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...