تُعد العمارة المحلية في طرابلس، كغيرها من المدن العريقة في حوض المتوسط وشمال إفريقيا، تجسيداً عميقاً لفلسفة اجتماعية وثقافية متجذرة. تظهر هذه الفلسفة بوضوح في العلاقة المترابطة بين "الظاهر" و"الباطن"، في هذه المقالة تناولت هذه العلاقة بين الظاهر والباطن في العمارة المحلية الطرابلسية، مستنداً إلى تصميمي لمشروع المسكن الطرابلسي المعاصر- النموذج الرابع:
1.
الظاهر: الحماية، الهوية، والاندماج الحضري
يتمثل
"الظاهر" في العمارة الطرابلسية التقليدية، وفي تصميمك المعاصر، في
الكتلة الخارجية للمبنى. تتميز هذه الواجهة بخصائص تعكس أولويات المجتمع والقيم
المناخية:
·
الكتلة المصمتة والفتحات المحدودة: تُبرز الصورة
الخارجية لتصميمك الجدران البيضاء السميكة والفتحات الصغيرة نسبياً، خاصة في
المستويات السفلية. هذا الجمود الظاهري ليس مجرد اختيار جمالي، بل هو استجابة
عملية لعدة عوامل:
· الحماية والخصوصية: توفر الواجهات
المصمتة حاجزاً بصرياً وصوتياً، يحمي حياة الأسرة الخاصة داخل المسكن من أعين
المتطفلين ومن صخب الشارع. هذا المفهوم متأصل بعمق في الثقافة الإسلامية، التي
تؤكد على قيمة الحجاب والستر.
· التحكم المناخي: في بيئة طرابلس
الحارة والمشمسة، تقلل الفتحات الصغيرة من اكتساب الحرارة الشمسية المباشرة، مما
يساعد في الحفاظ على برودة داخلية نسبية. هذه الاستراتيجية الذكية تظهر بوضوح في
تصميمك من خلال النوافذ الخضراء المحمية.
· الهوية المحلية: على الرغم من
التطور المعاصر، يحتفظ تصميمك بملامح أساسية من العمارة التقليدية، مثل استخدام
الألوان الفاتحة (الأبيض غالباً) والأشكال الهندسية البسيطة. هذا يحافظ على انسجام
المبنى مع النسيج الحضري للمدينة ويعكس هويتها الثقافية.
· التفاصيل الزخرفية المحدودة: غالبًا ما تكون
الزخارف على الواجهات الخارجية للمنازل الطرابلسية محتشمة ومتركزة حول المداخل أو
النوافذ العلوية (المشربيات أو الشبابيك المحمية بالخشب). في تصميمك، تظهر اللمسات
الخضراء على الأبواب والنوافذ كعناصر زخرفية تكسر بساطة الكتلة وتضيف لمسة من
الحيوية، مع الحفاظ على الرصانة العامة.
2.
الباطن: الانفتاح، النور، والحياة الأسرية
بمجرد تجاوز
الكتلة الخارجية، ينكشف "الباطن" في العمارة الطرابلسية، وهو الفناء
الداخلي (الحوش). هذه المساحة هي قلب المسكن، وتجسد مفاهيم الانفتاح والضوء
والحياة الاجتماعية للأسر:
· الفناء المركزي (الحوش): كما يتضح من
الصورة الداخلية لتصميمك، يعتبر الفناء المركزي هو العنصر المحوري. هو مصدر
الإضاءة الطبيعية والتهوية للمسكن، حيث تطل عليه جميع الغرف تقريباً. في تصميمك،
يظهر الفناء مضاءً جيداً، وتنعكس الإضاءة على أرضية الفناء المربعة باللونين
الأبيض والأسود.
· الانفتاح البصري والوظيفي: على عكس
الواجهات الخارجية، تتسم واجهات الفناء الداخلي بالانفتاح. تظهر الأقواس والنوافذ
الكبيرة ذات الزجاج الملون، والتي تسمح بدخول الضوء وتوفر إطلالات على الفناء، مما
يخلق إحساساً بالاتصال بين مختلف أجزاء المنزل. في تصميمك، تُظهر الأقواس والنوافذ
الواسعة (خاصة الزجاجية الملونة في الأعلى) هذا الانفتاح.
· الحديقة المائية والعناصر
الطبيعية: تقليدياً،
غالبًا ما يضم الحوش عناصر طبيعية مثل الأشجار والنباتات والنوافير المائية. في
تصميمك، تبرز النافورة المائية في وسط الفناء، مضيفة عنصراً جمالياً وصوتياً
مهدئاً، وتساهم في تلطيف الجو. النباتات في الزاوية اليمنى العليا تضيف لمسة من
الطبيعة والحياة.
· الخصوصية الداخلية: على الرغم من
انفتاحه على الفناء، فإن الحوش يحافظ على خصوصية الأسرة داخله. فهو مكان محجوب عن
أعين الغرباء، يسمح لأفراد الأسرة بالاسترخاء والتجمع بحرية.
3.
التناغم بين الظاهر والباطن في تصميمك المعاصر:
· لغة معمارية موحدة: على الرغم من
التباين في الانفتاح، هناك لغة معمارية موحدة تربط بين الجزأين. الخطوط النظيفة،
استخدام الألوان المشابهة (مثل الأبيض والأخضر البارز في النوافذ)، تظهر تناغماً
بين الكتلة الخارجية والفناء الداخلي.
· التشجيع على التكيف: تصميمك يبرهن
على أن العمارة المحلية ليست جامدة، بل يمكنها التكيف مع المتطلبات المعاصرة مع الحفاظ
على روحها وجوهرها.
· إعادة تعريف الجماليات: لقد أظهرت كيف
يمكن للجماليات التقليدية (مثل الأقواس والزجاج الملون) أن تظهر بشكل جديد وعصري
ضمن سياق معماري حديث.
خاتمة:
رحلة نحو تأصيل المسكن الطرابلسي المعاصر
لقد كانت رحلتي في تصميم "المسكن الطرابلسي المعاصر"
سعيًا حثيثًا نحو فهم وتجسيد جوهر العمارة المحلية، ودمجها بمتطلبات عصرنا الحديث.
في هذا المسعى، أدركتُ بعمق أن العلاقة بين "الظاهر"
و"الباطن" في العمارة الطرابلسية ليست مجرد سمة تصميمية، بل
هي انعكاس أصيل لفلسفة حياة متجذرة في ثقافتنا وهويتنا. إنها فلسفة تؤكد على
القيمة العميقة للخصوصية والأمن من الخارج، لتوفير ملاذ آمن وهادئ، بينما تحتفي في
ذات الوقت بالانفتاح، والضوء، وثراء الحياة الاجتماعية داخل الأسوار المحمية
للفناء.
لقد سعيتُ جاهداً في هذا التصميم، وعبر المساقط الأفقية التي
طورتها، إلى تحقيق توازن دقيق بين هذه القيم التقليدية والاحتياجات الجمالية
والوظيفية المعاصرة. من خلال التركيز على النقاء في الأشكال،
وتوحيد ارتفاعات الكتل الرئيسية، واستخدام الطوب الرملي الأبيض بسمك 40 سم
كعنصر مادي أصيل وصادق، حاولتُ أن أقدم تجسيدًا ملموسًا لهذه الفلسفة. الواجهة
الخارجية، بكتلتها الصماء ولونها النقي، لا تمثل حاجزاً مادياً فحسب، بل هي تعبير
عن الحماية والتحفظ الذي يميز ثقافتنا. وفي المقابل، ينبثق الفناء الداخلي -
"الحوش" - كقلب نابض بالضوء والهواء النقي، مزوداً بعناصر بسيطة وذات
معنى كالنافورة المائية والنباتات المنتقاة بعناية، ليصبح مساحة شفافة تحتضن الدفء
العائلي وتتيح انفتاحاً بصرياً ووظيفياً يغذي الروح.
إن
كل تعديل أُجري على المساحات، وكل تفصيل إنشائي تم تبسيطه، وكل عنصر تأثيث تم
اختياره وتوزيعه فراغيًا، لم يكن مجرد خيار تصميمي عابر، بل كان جزءاً من محاولة
متجددة ومستمرة، هي امتداد لمحاولات سابقة على مدى عقود مضت، للوصول إلى النموذج
الأكثر مثالية للمسكن الطرابلسي المعاصر. في هذا النموذج، لم أهدف إلى
"تغريب" عمارة بلادي، بل إلى "تأصيلها"؛ تجريدها من كل ما هو
زائف، وإبراز جوهرها النقي بأسلوب يتحدث لغة العصر دون أن يتنكر لتاريخه العريق.
أعتقد
أنني بهذا التصميم قد اقتربتُ إلى حدٍ كبير من تقديم نموذج مُلهم للعمارة المحلية
التي لا تكتفي باحترام ماضيها العريق فحسب، بل وتتطلع بثقة ووعي نحو مستقبلها،
حاملةً في طدراتها روح الأصالة ومعاصرة الرؤية. هذا المشروع، بكل تفاصيله، هو لبنة
أساسية في كتاب أطمح أن يكون شهادة على هذه الرحلة، ومساهمة متواضعة في إثراء
الفكر المعماري لمدينتنا الحبيبة.