أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، أغسطس 10، 2025

العمارة كفلسفة: حين يلتقي المسكن بالمعنى

 


جمال الهمالي اللافي

في عالم تتسارع فيه وتيرة التشييد، وتتزايد فيه المطالب بفخامة المنازل واتساعها، تبرز تساؤلات جوهرية حول الغاية الحقيقية للمسكن. هل هو مجرد هيكل مادي يتباهى به الأفراد، أم أنه وعاء يحتضن أرواحهم ويعكس فلسفتهم في الحياة؟ هذه المفارقة تتجلى بوضوح في المقولة الشهيرة: "نحن نعيش لنبني، ولا نبني لنعيش، ولهذا بيوتنا فارهة وحياتنا فارغة".

إنها دعوة للتأمل في العلاقة بين الفضاء المعماري والراحة النفسية. في هذا السياق، تبرز تجربة فنان سعودي يملك من الثراء ما يمكنه من امتلاك قصور، لكنه اختار أن يعيش في منزل متواضع. عندما سُئل عن سبب هذا الاختيار، كانت إجابته تحمل في طياتها حكمة عميقة: "أحتاج إلى بيت يحتويني ويريحني، وليس لأتوه في غرفه وممراته".

هذه الإجابة ليست مجرد رأي شخصي، بل هي بيان معماري بحد ذاته. إنها تؤكد أن قيمة المسكن لا تكمن في حجمه أو فخامة مواده، بل في قدرته على توفير شعور بالانتماء، والهدوء، والاحتواء. هذه الفلسفة تتعارض مع النظرة التقليدية التي ترى أن العمارة هي تعبير عن الثروة والمكانة الاجتماعية. وبدلاً من ذلك، تدعو إلى فهم أعمق لوظيفة المسكن كفضاء حميمي يتناغم مع احتياجات الإنسان الروحية والنفسية، وليس فقط المادية.

إن العمارة الرصينة اليوم هي تلك التي لا تكتفي بتقديم حلول جمالية ووظيفية، بل تتجاوز ذلك لتقديم حلول إنسانية. هي العمارة التي تجعل من المنزل ملاذاً من صخب الحياة الخارجية، ومصدراً للسكينة، وتثبت أن الأناقة الحقيقية تكمن في البساطة الهادفة، وأن أغنى الأماكن قد تكون تلك التي تبدو أكثر تواضعاً من الخارج، لكنها تحتضن حياة غنية وذات معنى من الداخل.

السبت، أغسطس 09، 2025

فقه العمارة والبيئة الاسلامية

 تقديم الطالب/ خميس محمود الحوتى


المــــــــــــــــــقدمة:

 لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن بالحكمة والبيان، وضَمـَّنه المبادئ العامة والقواعد الكلية للأحكام الشرعية، ولم يتطرق فيه إلى جزئيات المسائل التي يمكن أن تختلف باختلاف الزمان والمكان، وذلك ليتيح للمسلمين الاجتهاد في مجال المعرفة والفهم الديني، واستنباط الأحكام لما يستجد من وقائع وفقا لبيئاتهم وللعصر الذي يعيشون فيه. ,, وعندما انتشر الإسلام خلال العصور التالية للعهد النبوي ظهرت مسائل جديدة، احتاج المسلمون إلى معرفة حكم الشرع فيها، فماذا صنعوا؟ لجؤا إلى الاجتهاد واستنبطوا الأحكام المناسبة، وكان من نتيجة ذلك هذا التراث الفقهي الثري المتنوع، الذي نفخر به اليوم لقد أثبتوا أن الشريعة قادرة على مواجهة مختلف الظروف في مختلف البيئات,, (1).
فهناك الكثير من الامور الفقهية لتبين العلاقة بين العمارة الإسلامية، والتراث الإسلامي عموما وتحديدا العلاقة بين المدن العتيقة، والتراث الفقهي. ومن ثم توضيح ذلك الأثر لتعاليم الإسلام على العمارة وتخطيط المدن(2).
فالدارس للتهيئة العمرانية القديمة للمدن العريقة كالمدينة المنورة وبغداد وفاس والقيروان ومراكش وحتى للآثار الإسلامية في غرناطة... يجد أنه كانت هناك منظومة قانونية مؤطرة لها، واكبت تطورات المجتمعات الحضرية الإسلامية على مدى التاريخ بالتقنين والتنظيم، والمتفحص للتراث الفقهي المالكي في مجال البنيان يتأكد من أن الفقه الإسلامي ذو طابع حضري . (3)

الفــــــــقة .
الفقه لغة : ,,الفهم وهو إدراك الشيء والعلم به,,. (1)
واصطلاحا: ,,هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية ,,. (2)
العــــــــــمارة .
العمارة هى التى تسخر وحى الفنان المعمارى لبناء مطالب الشعب الذى عاصرها وبذلك جمعت العمارة بين ثقافة العصر وعلومه واحتياجاته ومطالبة وبين وحى المهندس المعماري وطبعها بطابع الجمال فجمعت العمارة تحت سيطرتها مجموعة من نواحى الفن المكملة  كالنقش والحفر والزخرفة والالوان والاضاءة والاثاث الى غير ذلك من الفنون الاخري (3)
البيــــــــــــــــئة .
البيئة لغة :يعود الاصل اللغوي لكلمة البيئة إلى الجذر " بوأ " قال ابن منظور : "باء إلى شئ رجع إليه " وذكر أيضا معنيين قريبين من بعضهما البعض لكلمة "تبوا ", الاول : إصلاح المكان وتهيئة للمبيت ,ولثاني :بمعنى الترول والاقامة (4).
البيئة اصطلاحا :عرف المسملون مصطلح البيئة مبكرا واستخدموه فى وصفهم للطبيعة من حولهم ,وممن اشتهر عنه استخدام لهذا المصطلح القاضي ابن عبدربه الأندلسي, ,حيث أشار إلى ان البيئة هى الوسط (الجغرافي والمكاني والاحيائي )الذي يكتنف مخلوقات الله تعالى  حية وغير حيه ,وقد ورد اشتقاق مصطلح البيئة فى عدة سور من القران الكريم منها قوله تعالى﴿٧3وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّـهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿٧٤  الاعراف 74 ,ومعنى بوأكم فى الارض :أنزلكم بها وأسكنكم إياها(5)  

فقة العـمــــــــــــــــارة والبيـــئة:
            جاء الإسلام الحنيف شرعا متكاملا شاملا مختلف جوانب الحياة, فقد تناول بأحكامه شتى الأمور التي تنظم علاقة الإنسان بخالقه وعلاقته ببني جنسه وعلاقته بمحيطه الذي يحيا فيه بجميع مكوناته من حيوان وشجر ومدر, وقد أرسى الشرع الحنيف القواعد التي تحقق مصالح الجميع بحيث تمضي قافلة الوجود متسقة متجانسة لا تضارب بين مكوناتها ولا نشاز بل تسير القافلة نحو النهوض الحضاري الذي تتحقق به السعادة المنشودة.(1)
فقد ألف فقهاء المالكية كتبا مستقلة في الارتفاق وأحكام العمارة، ذات قيمة قانونية جديرة بالدراسة ,ونذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر .
كتاب الإعلان بأحكام البنيان, لمحمد بن إبراهيم المشهور بابن الرامي التونسي,المتوفى سنة 734ه .
كتاب القضاء في البنيان، للفقيه المالكي عبد الله بن عبد الحكم 271هـ ,وهو من أقدم الكتب المؤلفة في أحكام البنيان.
كتابالقضاء بالمرفق في المباني ونفي الضرر " للإمام عيسى بن موسى التطيلي ( ت 386هـ) .
كتاب "القسمة وأصول الارضين "فى فقه العمارة الاسلامية تأليف أبي العباس احمد الفرسطاني النفوسي المتوفى عام 504ه / 1110م .فى هذا الكتاب كيف تكون الشركة بين الناس ,وفيم يشتركون ,وكيف يقتسمون الحقوق والواجبات بمنتهى النزاهةفيما قل منها اوكثر,وستجد ايضا ابوابا وفصولا عن الحريم فى مختلف المجالات: حريم الاغصان والعروق,حريم السواقي والمماصل والعيون والابار والانهار والبحار والدور والاسوار والمساجد والمقابر (2).
كتاب "فقة العمارة الاسلامية " ل (خالد عزب ) سنة 1997 م -1417هـ .
إن التعامل مع البيئة والحفاظ عليها يتصل بعدد من علوم الشريعة وهى علم أصول الدين وعلم السلوك والتعامل مع البيئة.
ه لم يسمع من مالك ما يخص هذه الحالات ولكنه يعتبره ضررا بسيطا (2).
وقد حدد الفقهاء مسببات الضرر ثلاثة اناوع هى: الدخان والرائحة الكريهة والاصوات المزعجة ,وكان لذلك اثره المباشر فى دفع نوعيات المنشأت الصناعية التى تتسبب فى هذا الضرر الى اطراف المدينة الاسلامية . وفى حال اتفاق سكان حارة م على بناء فرن يعيشون من ارباحه مما يسبب الدخان او غيره , فالقاضي والمحتسب يتركان هؤلاء وشغلهم ماداموا متفقين وموقنين بالضرر الذي يسببه الدخان لانه بالنسبة اليهم ضرر الدخان اقل من ضررالاحتياج الى مصارف المعاش فهم يفضلون اقل الضررين,,فتدخل القاضي لايكون الا بعد ان تقدم له شكاية من احد السكان يعاني من ضرر الدخان فى هذه الحال ولا يستجيب له القاضي بغلق الفرن  إلا اذا كان هذا الاخير حديث الإنشاء, وهذا هو الاعتماد على مصدر الشريعة المسمى "بالاستصحاب" أي بقاء الحال كما هو عليه ما لم يرد فيه حكم . (3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الهذلول , صالح(1984م) :التحكم فى استعمالات الاراضي فى المدينة العربية الاسلامية , سجل ابحاث ندوة "الاسكان فى المدينة الاسلامية ", منظمة العواصم والمدن الاسلامية جدة, ص 285:292.
(2) وزيري,يحي حسن(2008) :عناية الفقه والقضاء الإسلامي بأحكام العمران والبنيان _الفنون الاسلامية تنوع حضاري فريد , وزارة الاوقاف والشئون الاسلامية قطاع الشؤن الثقافية, (الاصدار الثامن ), الكويت  ,1429 (164 صفحة ) ,  ص129.
(3) وزيري,يحي حسن(2008) : المرجع السابق , ص129.
أما الضرر الناتج من الاصوات والذبذبات فينقسم الى قسمين :النوع الاول وهو الذبذبات التى قد تؤثر على سلامة المباني وتعتبر خطرا يجب درؤه(1) , فيروي (ابن الرامي ) فى كتابة الاعلان بأحكام البنيان ان مجموعة من الناس اقاموا بوابة لحارتهم , فقاضاهم هذا الرجل بدعوى ان فتح الباب وغلقة المستمر قد أضر به وأقلق راحته ,فتحرى ( ابن الرامي)  الأمرووجد الحائط يتذبذب  جراء فتح الباب وغلقه ,فأمر القاضي بهدم البوابة وإزالة بابها .(2)
أما النوع الآخر من الضرر فينتج من الاصوات التى تسبب الضيق دون الضرر , وقد اختلف الفقهاء فى حكمهم عليه فلم يعتبره الفقهاء الاوائل ضررا يجب درؤه .
اعرب القاضي ((ابن الرافع )) فى تونس عن تفضيلة منع بناء الإسطبلات والحظائر المتاخمة للمباني لما تسببه حركة الحيوانات الدائمة فى اثناء الليل والنهار من ازعاج قد يمنع الجيران من النوم . (3)
وقد اولت التشريعات والقوانين عناية كبيرة اهتماما بحماية البيئة ونظافة المدن الاسلامية , ويظهر ذلك فى وجود شروط ومواصفات بنائية معينة يجب توافرها ببعض الحوانيت ,فيشترط  فى حانوت القصاب (الجزار) أن يتسع لوجود مذبح حتى لا يضر بالطريق وبالعامة ,كما اشترط فى حانوت الخباز ارتفاع السقف والتهوية اللازمة لاخراج الدخان (4), كما اشترط فى حانوت الخباز ارتفاع السقف والتهوية. ونظرا لانه جرت العادة على استغلال اسطح المنازل فى معظم البلاد الاسلامية فى الاغراض المعيشية وخصوصا فى فصل الصيف الذى جرت العادة على ان يتحول السطح ليلا الى مكان للنوم هربا من ارتفاع درجة الحرارة ,وكامكان للنسوة اللواتى كن يستخدمنه للاستمتاع بالهواء الطلق والشمس نهارا والتحدث الى النساء الاخريات فى البيوت المجاورة. (5)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وزيري,يحي حسن(2008) :عناية الفقه والقضاء الإسلامي بأحكام العمران والبنيان _الفنون الاسلامية تنوع حضاري فريد , وزارة الاوقاف والشئون الاسلامية قطاع الشؤن الثقافية, (الاصدار الثامن ), الكويت  ,1429 (164 صفحة ) , ص129.

 (2)ابن الرامي ,ابى عبدالله عبدالله بن إبراهيم اللخمي عرف :الإعلان بأحكام البنيان ,تحقيق ,فريد بن سليمان ,مركز النشر الجامعى ,1999,الطبعة الرسمية للجمهورية التونسية ,ص.
(3) وزيري,يحي حسن(2008) :المرجع السابق, ص132.
(4) عثمان ,عبدالستار ,وعيد عبدالسميع (1988) :المدينة الاسلامية (سلسلة عالم المعرفة ),المجلس الثقافي والفنون والاداب ,الكويت ,ص113.
(5) وزيري,يحي حسن(2008) :المرجع السابق, 132.

,ومع هذا الاستغلال المكثف للاسطح نتيجة للظروف المناخية وعوامل تحقيق الخصوصية تضمنت الاحكام الفقهية ما يوجه المطالع المؤذية الى السطح او من يكون فوقه البيوت المجاورة هذا السطح , وفى قياس محدد (ابن الرامي ) ان سبعة أشبار ارتفاع مناسب للسترة " الدورة " يكفي لان يمنع الشخص من الرؤية اذا لم يكن محبا لفضول الاستطلاع . (1)
نستطيع ان نقسم طرق وشوارع المدن الاسلامية الى ثلاث مستويات
المستوى الاول :الطرق العامة ,وقد عرف المقدسي هذا النوع من الطرق بأنه الشارع المنفك عن الاختصاص ,فالناس كلهم فيه سواء يستحقون المرور فيه .
المستوى الثاني :هو الطريق العام الخاص ,وهو اقل درجة من الطريق العام ,اذ الارتفاق به من قبل جماعة المسلمين ,يقل عن ستبقة وبالتالى تزداد سيطرة القاطنين بهذا المستوى من الطرق عليه .
المستوى الثالث : الطريق الخاص,وافضل امثلة هذا النوع من الطرق هو الطريق غير النافذ ,وهذا النوع من الطرق ملك لساكنيه فقط ,ولذا سمي خاصا ,بخلاف المستوى الثاني من الطرق ,فأنه مشترك بين جميع اهل الطريق وفيه ايضا حق للعامة . (2)
ومما يشير الى التمسك بالاحكام الفقهية  ما كان فى مدينة القاهرة ومصر حيث كان فيهما اربعة مساجد جامعة هى : جامع عمرو ,وجامع ابن طولون ,والجامع الازهر و جامع الحاكم ,وكان تناوب الصلاة فيها قائما حتى افتى الفقهاء بجواز إقامة اكثر من صلاة جامعة فى المدينة فتعددت الخطبة وكثرت المساجد الجامعة كثرة واضحة مع بداية العصر المملوكى(3) 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وزيري,يحي حسن(2008) :عناية الفقه والقضاء الإسلامي بأحكام العمران والبنيان _الفنون الاسلامية تنوع حضاري فريد , وزارة الاوقاف والشئون الاسلامية قطاع الشؤن الثقافية, (الاصدار الثامن ), الكويت  ,1429 (164 صفحة ) , ص133
(2) عزب , خالد (1417-1997), فقة العمارة الاسلامية ,دار النشر للجامعات , .الطبعة الاولى , القاهرة, ص95.
(3) وزيري,يحي حسن(2008) :المرجع السابق, ص133


.وكان لهذه الكثرة اثرها فى انفكاك تأثير المسجد الجامع فى تخطيط شوارع امتداد المدينة بعد ذلك . اى ان توسط المسجد الجامع بالمدينة  الاسلامية كان فى الوقت الذي اقتصرت فيه المدينة على خطبة واحدة. لقد تعدى اهتمام الفقهاء والقضاء الجوانب المادية او التنظيمية للعمران الاسلامي الى الجوانب الاخلاقية والدينية ايضا ,فمن المهام التى كانت تندرج تحت مسؤوليات المحتسب إزالة وهدم مبانى الفساد بالمدن الاسلامية  (1)  , وهو يدخل تحت باب إزالة المنكر,ومن تطبيقات ذلك ما فعله "على اغا " فى مصر , فقد ازال خمارات و بوظ بيوت الخواطي فى مناطق بولاق والصيبية ومصر القديمة , وكان السيوطي احد فقهاء مصر المعروفين فى العصر المملوكي قد استفتي فى هدم هذا النوع من المنشأت فافتى بهدمها لازالة المنكر. (2) كذلك سجلت قواعد فقه العمارة من الفقيه ابن عبد الحكمٍ الفقيه المصري المتوفى سنة 214 ه/829م في كتابه " البنيان "وقد قسم الفقهاء احكام البنايات إلى أربعة اقسام رئيسية هي:
 
1- البناء الواجب: مثل بناء المساجد لتقام فيها الصلوات، وبناء الحصون والاربطة للدفاع عن ديارالمسلمين.
2- البناء المندوب: كبناء المنائر والتي تندب للأذان وبناء الاسواق، حيث يحتاج الناس للسلع. ولكي لا يتكلفوا عناء البحث عنها، فندب الشرع لذلك بناء الاسواق لكي يستقر بها اصحاب السلع، ويسهل للناس شراؤها منهم.
3- البناء المباح: مثل بناء المساكن التي تبنى بهدف الاستغلال، فمن المعروف ان الشريعة جاءت لحفظ المقاصد الخمس: الدين، النفس، المال، العرض والنسل، والله جعل اسباباً مادية يقوم بها البشر، كي يحققوا تلك المقاصد، ومن هذه الاسباب بناء المساكن والدور ليحفظ فيها الناس انفسهم واموالهم واعراضهم، وتقوم فيها الأسر.
4- البناء المحظور: كبناء دور السكر ودور البغاء والبناء على المقابر وفي أرض الغير(3).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عزب , خالد , فقة العمارة الاسلامية ,دار النشر للجامعات , .الطبعة الاولى , القاهرة, 1417-1997 , ص95.
(2) وزيري,يحي حسن(2008) :عناية الفقه والقضاء الإسلامي بأحكام العمران والبنيان _مجلة :الفنون الاسلامية تنوع حضاري فريد , وزارة الاوقاف والشئون الاسلامية قطاع الشؤن الثقافية, (الاصدار الثامن ), الكويت  ,1429 (164 صفحة ) , ص:134,133.
(3) ملتقى المهندسين مقالة بعنوان الاعلان بأحكام البنيان -لابن الرامي
 http://www.arab-eng.org/vb/t279156.html


الخلاصـــــــــــــــــــــــــة :
 إن المتتبع لأحكام الشريعة الغراء يجد أن الفقه الإسلامي فقه حضاري يتسم بالشمول، فهو إلى جانب عنايته بالتنمية البشرية روحيا وعلميا وخلقيا يعنى أيضا بالعمران المدني بمفهومه الواسع الشامل،   فالعمران إن لم يحكمه نظام رباني عم فساده جميع جوانب الحياة اجتماعيا واقتصاديا وعلميا بل يتعدى فساده ليصل إلى البيئة التي هي وعاء النعم ومهد الخيرات المسخرة لصالح الإنسان؛ من أجل ذلك وجب الأخذ بتوجيهات الشرع الحنيف؛ لأنه جاء من خالق الإنسان فهو أعلم بمصالحه .
هذا وقد عني علماء المسلمين سلفا وخلفا بإبراز الجانب الحضاري المدني في الشريعة الإسلامية؛ وذلك لتطبيق الشريعة الإسلامية في شتى مجالات الحياة، وتبيين هدي الشريعة الذي يحمل في طياته الحلول الربانية لكل معضلات البشرية التي ينتجها تفاعل الإنسان وتعايشه في هذه البسيطة، ويتجلى ذلك في الإسهامات الفعالة للفقهاء في التنظير الفقهي والتأطير الشرعي للجوانب المدنية؛ فقد حوت مؤلفاتهم وموسوعاتهم الفقهية كثيرا من المواضيع التي تتناول الأحكام الشرعية المنظمة لسير العمران المدني ، بل أفرد بعضهم مؤلفات تتناول العمران ومختلف مؤسساته.وفي كتب فقه العمران نجد القواعد الشرعية تتحرك في مجالات عديدة، إما عن طريق  الاية ﴿١٩٨ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴿١٩٩الاعراف  أو الحديث الشريف "لا ضرر ولا ضرار"، وما يتفرع عنه من قواعد مثل: الضرر لا يكون قديما، والضرر الأشد يدفع بالضرر الأقلّ، والضرر العام يقدم على الضرر الخاص إلى آخــــــــره.


 الهوامش:

(1) فقه العمران  : ندوة تطور العلوم الفقهية في عُمان الفقه الحضاري , لندوة التاسعة 2010م http://www.mara.gov.om/nadwa_new/?page_id=239
 (2).يحيى وزيري ، العمارة الإسلامية و البيئة ،، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب , سلسلة كتب عالم المعرفة ، عدد يونيو 2004, الكويت، ص: 27 .
(3) - Juan Martos Quesada , El mundo jurídico en AL-ANDALUS , Delta Publicaciones Universitarias, Primera edición ,2005 ,Madrid , P.17.


(1) ابن فارس , أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مادة [فقه] ، بيروت: دار الفكر 1399هـ - 1979م, ج4 ص442 .
(2)الشوكاني، محمد بن علي بن محمد: إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول، تحقيق الشيخ أحمد عزو عناية،  بيروت: دار الكتاب العربي، 1419هـ - 1999م, ج1 ص17 .
(3) عبد الجواد, توفيق احمد: تاريخ العمارة والفنون الاسلامية, مكتبة الانجلو, ج3 , القاهرة , 2009م , ص 3.
(4)أبو الفضل ,محمد بن مكرم ,ابن المنظور (711 ه / 1311م ) ,لسان العرب , بيروت ,دار صادر ,ط 3 ,1414ه / 1993م ,مادة "بوأ", 38-39.
(5)أبو حيان ,محمد بن يوسف الاندلسي (745ه -/1344م),البحر المحيط فى التفسير ,تحقيق صدقى محمد جميل ,بيروت ,دار الفكر 1420ه/1998م ,4/329 .


المصــــــــــــــــــــــــــــادر المراجـــــــــــــــــــع :

المراجع العربية
1.      القران الكريم .
2.      الحديث الشريف .
3.      ابن فارس , أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا(1399هـ - 1979م): معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مادة [فقه] ، بيروت: دار الفكر.
4.      أبو الفضل ,محمد بن مكرم ,ابن المنظور (711 ه / 1311م ) ,لسان العرب , بيروت ,دار صادر ,ط 3 ,1414ه / 1993م ,مادة "بوأ",.
5.      الهذلول , صالح (1984):التحكم فى استعمالات الاراضي فى المدينة العربية الاسلامية , سجل ابحاث ندوة "الاسكان فى المدينة الاسلامية ", منظمة العواصم والمدن الاسلامية جدة
6.      النفوسي ,أبى العباس أحمد بن محمد بن بكر الفرسطاني (1418 هـ / 1997 ):القسمة واصول الارضين  كتاب فى فقه العمارة الاسلامية ,ط2 نشر جمعية التراث ,القرارة ,غرداية ,الجزائر.
7.      الشوكاني، محمد بن علي بن محمد(1419هـ - 1999م): إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول، تحقيق الشيخ أحمد عزو عناية،  بيروت: دار الكتاب العربي،.
8.      أبو حيان ,محمد بن يوسف الاندلسي (745ه -/1344م),البحر المحيط فى التفسير ,تحقيق صدقى محمد جميل ,بيروت ,دار الفكر 1420ه/1998م ,4/329 .
9.      عزب , خالد (1417-1997): فقة العمارة الاسلامية ,دار النشر للجامعات , .الطبعة الاولى , القاهرة,.
10.  عبدالرحمن بن ابي بكر ,جلال الدين السيوطي (911هـ/1506م), الاشباه والنظائر , لبنان ,بيروت دار الكتب العلمية ط1 ,1411هـ/1990م
11.  عبد الجواد, توفيق احمد(2009): تاريخ العمارة والفنون الاسلامية, مكتبة الانجلو, ج3 , مصر,القاهرة .
12.  عثمان ,عبدالستار ,وعيد عبدالسميع (1988) :المدينة الاسلامية (سلسلة عالم المعرفة ),المجلس الثقافي والفنون والاداب ,الكويت.
13.  وزيري ، يحيى (2004):  العمارة الإسلامية و البيئة ، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب , سلسلة كتب عالم المعرفة ، عدد يونيو, الكويت.

المجلات العلمية .
1- وزيري,يحي حسن(2008) :عناية الفقه والقضاء الإسلامي بأحكام العمران والبنيان _مجلة :الفنون الاسلامية تنوع حضاري فريد , وزارة الاوقاف والشئون الاسلامية قطاع الشؤن الثقافية, (الاصدار الثامن ), الكويت  .
 2- حسن , عبدالمالك (1986م): تأثير الشريعة الاسلامية على المظهر العمراني للمدينة ,مجلة البناء ,عدد (71) القاهرة.
رسائل علمية ( ماجستير )
1- ضاهر,عبدالوهاب مصطفى(1435-2014م) :العمارة وحل مشاكل البيئة فى الاسلام , لبنان ,بيروت كلية الامام الاوزاعي للدراسات الاسلامية. 

الانــــــــــــترنت
مقالات
1- فقه العمران(2010)  : ندوة تطور العلوم الفقهية في عُمان الفقه الحضاري , الندوة التاسعة.http://www.mara.gov.om/nadwa_new/?page_id=239
2- ملتقى المهندسين مقالة بعنوان " الاعلان بأحكام البنيان"  -لابن الرامي
 http://www.arab-eng.org/vb/t279156.html
الكتب الاجنبية
1 - juan Martos Quesada , El mundo jurídico en:  AL-ANDALUS , Delta Publicaciones Universitarias, Primera edición ,2005 ,Madrid , P.17.


 *بحث مقدم لجامعة العلوم الإسلامية العالمية- كلية العمارة والفنون الاسلامية

تناغم العناصر المعمارية: عندما تروي العمارة قصةً ترابط نسيج خيوطها


جمال الهمالي اللافي

المقدمة

العمارة ليست مجرد جدران وحجارة؛ إنها قصة متكاملة ترويها التفاصيل. التصميم المعماري ليس بناءً فحسب، بل هو روح تنبض من خلال كل عنصر مكمل له. من الأثاث إلى الألوان، ومن الزخارف إلى عادات السكان اليومية، كل مكون يلعب دورًا في الحفاظ على هوية المكان وتناغمه.

في عالم التصميم، التوافق بين العناصر ليس خيارًا بل ضرورة. التنافر بين العناصر قد يؤدي إلى نشاز بصري يؤثر على تجربة العيش، تمامًا كما تكون النوتة الموسيقية الجميلة بلا قيمة إذا أُضيفت إلى مقطوعة لا تنتمي إليها. في هذا السياق، يمكننا أن نستلهم من العمارة الإسلامية، المتوسطية، والغربية التي تقدم لنا نماذج ملهمة لفلسفات التصميم المتكامل.

العناصر المكملة كجزء من الهوية المعمارية

ليست العناصر المكملة مجرد إضافات، بل هي أساس تعزز هوية التصميم. المواد المستخدمة، الألوان، الزخارف، وحتى النباتات في الحدائق، كلها تلعب دورًا رئيسيًا في خلق تجربة متكاملة. هذه التفاصيل تمتد لتشمل حتى الملابس التي يرتديها السكان، مما يعكس روح التصميم ويُضيف بعدًا إنسانيًا وتجريبيًا للمكان.

جوهر التكامل في التصميم: فلسفة أكثر من مجرد فن

الطراز المعماري هو الإطار الذي يجمع كل العناصر في وحدة متناغمة. إنه ليس مجرد شكل خارجي، بل يمتد ليشمل التفاصيل الدقيقة كالأثاث، الفرش، وحتى أدوات الاستعمال اليومي. لتحقيق انسجام بصري ونفسي، يجب أن تكون العناصر المكملة امتدادًا طبيعيًا لهذا الطراز.

العمارة الأندلسية، على سبيل المثال، تُعتبر نموذجًا فريدًا للتوازن بين جمال المعمار وتفاصيله الدقيقة. في قصر الحمراء، نجد أن الزخارف الجصية والمقرنصات تتناغم مع المواد مثل الرخام والخشب، لتعكس أناقة الطراز. حدائق الماء في قصر الحمراء تُضيف بعدًا جماليًا وروحيًا، حيث تُستخدم المياه لتغذية الروح وتبريد المكان.

الألوان في العمارة الأندلسية تُبرز الطراز بشكل مذهل، حيث الأبيض يعبر عن النقاء، والأزرق والأخضر يجسدان ارتباط المكان بالطبيعة. الأثاث والزخارف الهندسية التقليدية تُكمل الصورة، مما يُضيف أبعادًا جمالية وتجريبية مبهرة.

العمارة المغربية تحمل تداخلًا فريدًا بين الألوان، الزخارف، والمواد. بلاط الزليج على الجدران والأرضيات يخلق تناغمًا بصريًا يمزج الهندسة الدقيقة بالفن. قصر الباهية في مراكش يُظهر هذا الاهتمام من خلال الأقواس، الزخارف الجصية، والألوان الغنية التي تُبرز جمال التصميم.

العمارة الغربية: فلسفة التكامل في التفاصيل

  • فرانك لويد رايت: العمارة العضوية

فرانك لويد رايت كان يؤمن بأن العمارة يجب أن تنبثق من الأرض وتتناغم مع الطبيعة المحيطة. في مشروع "Fallingwater"، ركز رايت على تناغم الأثاث الداخلي والمستعملات اليومية مع البيئة المحيطة. استخدام الحجر المحلي والخشب مع ألوان مستوحاة من الطبيعة كان جزءًا من رؤيته للكل العضوي.

  • لو كوربوزييه: الوظيفة والجمال

لو كوربوزييه سعى لتحقيق تصميم يجمع بين الجمال والوظيفة. في "فيلا سافوي"، ركز على البساطة من خلال ألوان محايدة مثل الأبيض واستخدام مواد حديثة مثل الخرسانة والزجاج. كل قطعة أثاث كانت امتدادًا لفلسفته الحداثية والبسيطة، مما يخلق بيئة متناغمة ومريحة.

  • مدرسة باوهاوس: الشكل يتبع الوظيفة

مدرسة باوهاوس قدمت فلسفة ثورية تُركز على الوظيفة والجمال معًا. في مبنى المدرسة في ديساو، نرى أن كل تفصيلة من الأثاث إلى الزخارف تمت مراعاتها لتكون وظيفية وجمالية في الوقت ذاته. استخدام الزجاج والصلب والألوان الأساسية مثل الأحمر والأبيض والأسود يُعبر عن الانسجام بين الفن والحياة اليومية.

التحدي الأكبر: مواجهة التنافر

عندما تفقد العمارة التوازن، يحدث نشاز يُشبه منزلًا يتحدث بلغات متباينة؛ كل غرفة تعكس طرازًا مختلفًا. إدخال عناصر غير متوافقة، مثل أثاث معاصر داخل منزل بطراز أندلسي، يؤدي إلى فقدان الانسجام ويؤثر على راحة السكان.

دعوة للتفكير: كيف نُحقق الانسجام؟

  • البدء برؤية شاملة تجمع كل العناصر في وحدة متكاملة.
  • اختيار المواد والألوان بعناية لتعزيز الطراز الأساسي.
  • التركيز على التفاصيل الدقيقة مثل الأثاث، الزخارف، والنباتات.
  • احترام ثقافة السكان وربط التصميم بعاداتهم اليومية.

الخاتمة: العمارة كتجربة حياة

العمارة الناجحة ليست مجرد هياكل، بل تجربة تعتمد على تناغم العناصر وتكاملها. من العمارة الأندلسية والمغربية إلى فلسفات رواد العمارة الغربية ومدرسة باوهاوس، يظهر أن التفاصيل هي مفتاح الانسجام. لنتأمل دائمًا في كل تفصيلة باعتبارها جزءًا من القصة الكبرى التي تُبرز جمال العمارة.

المسكن الطرابلسي المعاصر: النية المعمارية في إحياء الذاكرة المكانية

 


جمال الهمالي اللافي

منذ بدايات دراستي بقسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة طرابلس، انصب اهتمامي على تجاوز التلقين النظري نحو تعميق فهمي للمصطلحات المعمارية وتأصيلها في سياقنا العربي. كان البحث عن مرادفات عربية لمصطلحات مثل "Intention" "النية المعمارية: هو شغف حقيقي، لأجد في النهاية أن "النية المعمارية" هي التعبير الأدق الذي يلخص جوهر فكرة التصميم. هذه "النية" ليست مجرد خطة وظيفية أو جمالية، بل هي الروح التي تسكن المشروع، القصة التي يرويها المعماري، والهدف الأعمق الذي يسعى لتحقيقه.

النية المعمارية: ترجمة للفكر إلى واقع ملموس

مصطلح "النية المعمارية" (Architectural Intention) هو مصطلح جوهري في عملية التصميم، ويعكس بعمق العلاقة بين فكرة المعماري وتجسيدها في المشروع.

ما هي النية المعمارية؟

النية المعمارية هي الهدف الأساسي أو الفكرة المحورية التي يسعى المعماري لتحقيقها من خلال تصميمه. إنها ليست مجرد وظيفة أو جمالية سطحية، بل هي الجوهر الفلسفي والتعبيري الذي يقف وراء كل قرار تصميمي. يمكن اعتبارها بمثابة "روح" المشروع أو "القصة" التي يرويها المعماري من خلال عمله.

تتضمن النية المعمارية جوانب متعددة، منها:

·     المفهوم التصميمي (Concept): الفكرة التجريدية التي ينطلق منها التصميم، والتي يمكن أن تكون مستوحاة من البيئة، التاريخ، الثقافة، أو حتى احتياجات المستخدمين.

·         الرسالة المراد إيصالها: ما الذي يريد المعماري أن يشعر به الناس أو يفهموه عند تفاعلهم مع المبنى؟ هل هي السكينة، القوة، الترحيب، أم شيء آخر؟

·         القيم الأساسية: المبادئ التي يلتزم بها المعماري في تصميمه، مثل الاستدامة، المرونة، الشمولية، أو التكيف مع السياق.

·         حل المشكلات: الطريقة التي يعالج بها التصميم تحديات معينة، سواء كانت وظيفية، بيئية، أو اجتماعية.

النية المعمارية هي التي تمنح المشروع تفرده وهويته، وهي التي تميزه عن غيره من المباني.

كيف يحقق المعماري النية المعمارية في مشاريعه؟

تحقيق النية المعمارية يتطلب عملية تصميم شاملة ومتكاملة، يترجم فيها المعماري أفكاره المجردة إلى تفاصيل ملموسة. إليك بعض الطرق التي يمكن للمعمار أن يحقق بها نيته:

1.      الفهم العميق للسياق والمتطلبات:

·         دراسة الموقع: فهم خصائص الموقع، مثل التضاريس، المناخ، الإضاءة الطبيعية، والعناصر المحيطة.

·         تحليل احتياجات المستخدمين: التعرف على متطلبات ووظائف المشروع من وجهة نظر المستخدمين المستقبليين.

·         البحث الثقافي والاجتماعي: استيعاب القيم الثقافية والاجتماعية التي قد تؤثر على التصميم وتلقيه.

2.      تطوير المفهوم التصميمي:

·         تحديد الفكرة الأساسية: بلورة الفكرة المركزية التي ستوجه عملية التصميم بأكملها.

·         رسم المخططات الأولية (Sketches): ترجمة الأفكار الأولية إلى رسومات سريعة تعبر عن التكوين العام والمساحات.

·         بناء النماذج الأولية (Models): استخدام النماذج المادية أو الرقمية لتصور الحجم، الشكل، والتوزيع المكاني.

3.      اتخاذ القرارات التصميمية الواعية:

·     اختيار المواد (Materiality): استخدام مواد تتناسب مع النية المعمارية، فالمواد الخشنة قد تعبر عن القوة، بينما المواد الشفافة قد تعبر عن الانفتاح.

·         التلاعب بالضوء والظل (Light and Shadow): استخدام الإضاءة الطبيعية والصناعية لخلق أجواء معينة وتحديد مسارات الحركة والتركيز.

·         تشكيل الفراغات (Spatial Organization): تصميم الفراغات الداخلية والخارجية بطريقة تدعم الوظيفة وتعزز الشعور المطلوب (مثل الانفتاح، الخصوصية، التجمع).

·         التفاصيل المعمارية (Architectural Details): حتى أصغر التفاصيل يمكن أن تساهم في تعزيز النية المعمارية وتعبيرها.

4.      التواصل الفعال:

·         شرح النية: يجب على المعماري أن يكون قادرًا على التعبير بوضوح عن نيته التصميمية للعملاء، المهندسين، والجمهور.

·         التحقق المستمر: مراجعة التصميم بشكل دوري للتأكد من أنه لا يزال يتماشى مع النية الأصلية، وتعديله عند الضرورة.

النية المعمارية ليست ثابتة دائمًا، بل يمكن أن تتطور وتتعمق مع تقدم المشروع، ولكنها تظل بوصلة توجه المعماري نحو تحقيق رؤيته. إنها ما يميز المعماري المبدع الذي لا يكتفي ببناء المساحات، بل يخلق تجارب ومعاني.

النية المعمارية في "المسكن الطرابلسي المعاصر": من المخطط إلى الكتلة

في سياق مشاريعي التصميمية، تجسدت "النية المعمارية" في محاولة جادة لتقديم رؤية تصميمية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي. فالمنزل الطرابلسي العريق، بكل تفاصيله وخصائصه، يمثل كنزًا معماريًا وفلسفيًا يستحق الإحياء والتأصيل في عصرنا الحالي. لم تكن النية مجرد محاكاة للشكل، بل هي فهم عميق لجوهر هذا المسكن وكيف يمكن ترجمة قيمه وخصائصه إلى حلول معمارية تلبي احتياجات الحياة المعاصرة، مع الحفاظ على الهوية الثقافية والتراثية.

من خلال الصور المرفقة لمشروع "المسكن الطرابلسي المعاصر"، تتضح ملامح النية المعمارية التي توجه هذا التصميم:

1.      إحياء الفناء المركزي (الحوش) كجوهر تنظيم الفراغات:

·     في المسقط الأفقي: يُظهر المسقط الأفقي الأهمية المحورية للفناء الداخلي "الحوش". هذا الفناء ليس مجرد مساحة مفتوحة، بل هو النية الأساسية في التصميم. إنه قلب المسكن الطرابلسي التقليدي الذي يوفر الخصوصية التامة للعائلة ويسمح بدخول الضوء والهواء الطبيعيين. في هذا التصميم، تم إبراز الفناء كقلب نابض بالحياة للمنزل، يتجلى في التشجير المحيط والنافورة التي تضفي عنصر الصوت الهادئ والبرودة. النية هنا هي إعادة تعريف الوظيفة الاجتماعية والثقافية للحوش كفضاء عائلي يجمع بين الألفة والطمأنينة.

·     في الكتلة الخارجية: تُبرز الكتلة الحوش كفراغ داخلي محاط بالكتل الصلبة للمبنى، مما يعزز فكرة الحماية والخصوصية من الخارج. هذا الترتيب الكتلوي يعكس بوضوح فلسفة المسكن الطرابلسي التقليدي الذي ينغلق على نفسه ويفتح داخليًا.

2.      التأكيد على التسلسل الهرمي للخصوصية:

·     في المسقط الأفقي: يمكن رؤية النية في خلق تسلسل هرمي للخصوصية. فالدخول من الباب المدخل الرئيسي يؤدي إلى فراغات شبه عامة مثل استقبال ضيوف الرجال وجناح الضيافة، ثم تتدرج الفراغات لتصبح أكثر خصوصية كلما توغلنا داخل المنزل، وصولاً إلى غرف النوم والمساحات العائلية الخاصة. هذا التسلسل يعكس القيم الاجتماعية والثقافية في تنظيم المساكن التقليدية.

·     في الواجهة والكتلة: تعبر الواجهة الأمامية والكتلة الخارجية عن هذه النية بشكل فعال. الواجهة تبدو متماسكة وذات فتحات قليلة ومحمية (مثل الشباك الأخضر البارز)، وارتفاعها عن الشارع بما يتجاوز 2 متر، مما يقلل من الرؤية المباشرة من الشارع ويحافظ على خصوصية الفناء الداخلي والفراغات الخاصة. هذه الكتلة الصلبة هي تعبير عن "النية" في حماية العالم الداخلي للمنزل.

3.      الاستلهام من التفاصيل التقليدية بلمسة معاصرة:

يمكن ملاحظة استخدام عناصر معمارية مستوحاة من التراث الطرابلسي، مثل الأقواس والزخارف. ومع ذلك، فإن النية لم تكن الاستنساخ الحرفي، بل هي التأويل المعاصر. فالأقواس تظهر بشكل مبسط وأكثر حداثة، والنقوش تستلهم من الزخارف التقليدية لكنها تتسم بالبساطة في التعبير. الألوان الخضراء المستخدمة في الشبابيك والمشربيات تعكس نية إضفاء لمسة من الحيوية والتجديد مع الحفاظ على الهوية اللونية للمباني التقليدية.

4.      دمج العناصر الطبيعية والمستدامة والإضاءة الطبيعية:

·     في المسقط الأفقي: يُشير وجود الحديقة (في الدور الأرضي) إلى نية دمج الطبيعة داخل المشروع، بالإضافة إلى الفناء الرئيسي. هذا يعزز التهوية الطبيعية ويوفر مساحات خضراء داخلية تزيد من جودة الحياة.

·     في الكتلة: تظهر المساحات الخضراء في الفناء وعلى الشرفات، مع وجود المظلات الخضراء "التعريشات" التي تسمح بمرور الضوء مع توفير الظل. هذه العناصر تؤكد على النية في خلق بيئة مريحة ومستدامة، تعتمد على التبريد والتهوية الطبيعية، وهو ما كان جوهريًا في العمارة التقليدية.

·     تأثير الضوء: تُظهر الظلال التي تسقط على أرضية الفناء نية واضحة في استخدام الإضاءة الطبيعية كعنصر تصميمي. فالضوء ليس مجرد وسيلة للإضاءة، بل هو أداة لخلق الأجواء والتعبير عن الزمن والتغيير خلال اليوم. النية هنا هي استغلال الشمس لخلق تأثيرات بصرية جذابة تزيد من حيوية الفناء وتفاعله مع البيئة.

5.      التعبير عن الهوية الثقافية المعاصرة والمرونة الوظيفية:

·     في المسقط الأفقي والكتلة: يعكس التصميم ككل نية في تجاوز مجرد "التقليد" إلى "التأصيل". إنه لا يقدم منزلًا طرابلسيًا قديمًا، بل يقدم نموذجًا معاصرًا يعبر عن هوية طرابلسية متجددة. الكتل الواضحة والمناطق المفتوحة والمغلقة، والتفاصيل المستوحاة، كلها تعمل معًا لتحقيق هذه النية.

·     المرونة الوظيفية: على الرغم من التمسك بالجوهر التقليدي، تظهر النية في هذا التصميم أيضًا بتوفير مرونة وظيفية تناسب الحياة العصرية. تقسيم الفراغات الداخلية يسمح بتنظيم مختلف للوظائف المعيشية الحديثة. النية هنا هي خلق مسكن لا يعيش في الماضي، بل يستفيد من قيمه العميقة ليقدم حلولًا عملية ومريحة لحاضرنا.

6.      العلاقة بين الداخل والخارج والخصوصية:

تُبرز التصميم العلاقة بين الفراغات الداخلية والفناء، حيث تطل الغرف عليه لتستمد منه الإضاءة والتهوية. في ذات الوقت، يُظهر التصميم اهتمامًا كبيرًا بالخصوصية، وهي نية أساسية في المسكن التقليدي، حيث لا توجد فتحات كبيرة مباشرة على الشارع. حتى الواجهة الخارجية للمبنى تعكس عادةً انغلاقًا نسبيًا لحماية الفناء الداخلي. المساحات الخارجية المفتوحة مثل الشرفات المزروعة تبرز نية توسيع نطاق الفراغات الترفيهية مع الحفاظ على درجة من العزلة.

في الختام، المسقط الأفقي والكتلة الأولية لمشروع "المسكن الطرابلسي المعاصر" يؤكدان أن النية المعمارية وراءه هي أكثر من مجرد تصميم وظيفي. إنها محاولة حقيقية لخلق تجربة معيشية تستوحي من ثراء المسكن الطرابلسي التقليدي وتراثه، مع إعادة تفسيره وتكييفه ليناسب متطلبات الحياة الحديثة. هذا المزيج بين الأصالة والمعاصرة هو جوهر "النية المعمارية" التي يسعى هذا المشروع لتحقيقها، ليصبح "المسكن الطرابلسي المعاصر" ليس مجرد مبنى، بل هو سرد معماري لهوية متجددة.

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية