دار القبول بحوش يوسف باشا القره مانللي |
جمال الهمالي اللافي
في زمنٍ
تتسارع فيه وتيرة الاستنساخ المعماري، وتُختزل فيه العمارة إلى مفردات وظيفية
مجردة، تبرز التفاصيل المعمارية كعنصر مقاوم، لا بوصفها ترفًا زخرفيًا، بل باعتبارها
جوهرًا ثقافيًا يعكس رؤية المجتمع للحياة والفن. هذه التفاصيل، التي يبدعها الحرفي
المحلي، هي ما يمنح العمارة خصوصيتها، ويُخرجها من عباءة التكرار إلى فضاء التمايز.
التفاصيل:
بطاقة هوية لا زخرفة
ليست
القبة ولا القوس ولا الباب هي ما يميز عمارة منطقة عن أخرى، بل هي المعالجات
الدقيقة لهذه العناصر، وتوظيفها ضمن سياق ثقافي بصري متكامل. في العمارة المتوسطية
مثلًا، تتشابه المفردات، لكن التفاصيل هي التي تصنع الفارق، وتمنح كل منطقة نكهتها
الخاصة. هذه التفاصيل ليست انعكاسًا لثراء مادي، بل لثراء فكري وروحي، وهي التعبير
الأصدق عن فلسفة الحياة في كل بيئة.
الإنسان
والاختلاف: العمارة كمرآة للذات
يميل
الإنسان بطبعه إلى التمايز، ويبحث عن الاختلاف في محيطه ليشعر بفرادته. حين تغيب
التفاصيل، يغيب التمايز، ويحل الملل محل الانبهار، مما يفضي إلى خواء نفسي يدفع
البعض إلى التمرد، وربما إلى العنف، فقط ليقول "أنا مختلف". العمارة،
حين تفقد خصوصيتها، تفقد قدرتها على التعبير عن الإنسان، وتتحول إلى قطيع بصري لا
يثير فضولًا ولا يحرك وجدانًا.
العمارة
الليبية المعاصرة: قطيعة مع الذات
منذ
بدايات القرن العشرين وحتى عام 2025، شهدت العمارة الليبية انحسارًا شبه تام في
التفاصيل المعمارية، نتيجة تبني رؤية تعليمية متأثرة بعمارة الحداثة الغربية، التي
أقامت قطيعة مع الموروث المحلي. هذه الرؤية، التي اعتبرت التفاصيل تغطية لعيوب،
تجاهلت أن العمارة الليبية سبقت الحداثة في صراحتها الكتلية ورفضها للإطناب الزخرفي.
لكن المعماري الليبي، بدلًا من أن يطرح بديلًا يمنح العمارة الليبية خصوصيتها،
استنسخ مفردات وتقنيات مغتربة، تجاوزها مبتكروها منذ قرن.
الحرفي
الليبي: حامل الهوية المنسية
في
المقابل، أبدع الحرفي الليبي في التعبير عن الذات الجمعية، وابتكر تفاصيل أصيلة
دمجها بذكاء مع المفردات المعمارية، ليصنع عمارة ناطقة بالهوية. لكن هذا الإبداع
لم يجد صداه في منجزات المعماريين المعاصرين، الذين تجاهلوا التفاصيل، لا لقصور في
الإمكانات، بل لقصور في الرؤية.
خاتمة
إن استعادة التفاصيل في العمارة الليبية ليست مجرد استرجاع للماضي، بل هي فعل مقاومة ضد التبعية البصرية والوظيفية، ومحاولة جادة لإعادة بناء خطاب معماري نقدي يعيد الاعتبار للبساطة والصدق، ويمنح للبيت الليبي المعاصر خصوصيته المتفردة. فالتفاصيل ليست ترفًا، بل هي جوهر التمايز، وهي ما يجعل العمارة فعلًا ثقافيًا لا مجرد بناء.