جمال الهمالي اللافي
العمارة:
علمٌ تطبيقي لا يُختزل في الفن
التصميم
الداخلي، تنسيق المواقع، عناصر التأثيث، وحتى التصميم الصناعي، جميعها ولدت من رحم
العمارة، وهي تمثل امتداداً وظيفياً وجمالياً لها، لا يمكن فصله عنها دون الإخلال
بجوهر العملية التصميمية. فهذه المجالات ليست تخصصات مستقلة بالمعنى المهني، بل هي
مراحل متلازمة ومتداخلة تجري في عقل المصمم، وتتم بسرعة وتكامل، منطلقة من فهمه
العميق لمتطلبات التصميم واعتباراته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية.
وفي هذا
السياق، فإن الدعوة إلى إنشاء كلية مستقلة للعمارة وتخطيط المدن لا تنطلق من رغبة
في الفصل الإداري عن كلية الهندسة، بل من قناعة بأن العمارة علم تطبيقي متكامل،
يجمع بين الحس الفني والدراية العلمية الدقيقة. فالمعماري لا يصمم شكلاً جمالياً
فحسب، بل يضع تصوراً وظيفياً متكاملاً لمبنى يجب أن يؤدي دوره بكفاءة عالية،
ويستجيب لحاجات الإنسان والبيئة.
لذلك،
فإن المواد المرتبطة بعلم الإنشاءات، وعلوم المواد، وأنظمة التكييف، والإضاءة،
والصحية، وغيرها من العناصر التقنية، ليست إضافات ثانوية، بل هي جزء أصيل من تكوين
المعماري. ويجب أن تُدرّس ضمن منهج كلية العمارة، لا أن تُترك لاختصاصات أخرى تفصل
بين الشكل والوظيفة، وتُضعف من قدرة المعماري على اتخاذ قرارات تصميمية واعية
وشاملة. فالمعماري الذي يُلم بهذه العلوم، يستطيع أن يدمجها ضمن رؤيته التصميمية،
ويحقق بذلك التكامل المنشود بين الشكل والمضمون، بين الفكرة والتنفيذ، وبين
الإنسان والمكان.
التشطيبات:
مرحلة لا يُكتمل المبنى بدونها
إن نجاح
أي مبنى لا يُقاس فقط بسلامة هيكله، بل بقدرته على تحقيق الانسجام بين الداخل
والخارج، وبين الشكل والوظيفة، وبين الجمال والتأثير النفسي على مستخدميه. وهذا لا
يتحقق إلا من خلال تكامل هذه التخصصات، التي تمثل جميعها المرحلة التالية لتنفيذ
الهيكل، فيما يُعرف بمرحلة "التشطيبات". فالمبنى غير المكتمل تشطيباً،
هو مبنى غير قابل للاستعمال الإنساني.
إشكالية
الفصل الأكاديمي
لكن
التعليم الأكاديمي المعاصر، بدلاً من أن يعزز هذا التكامل، عمد إلى تفكيك هذه
المراحل وتحويلها إلى تخصصات دقيقة، بحجة تحسين الأداء والكفاءة. فصارت العمارة جزءاً
من كليات الهندسة، والتصميم الداخلي من الفنون الجميلة، وتنسيق المواقع من الهندسة
الزراعية، بينما غُيّب التصميم الصناعي تماماً عن خارطة التعليم العالي في بلادنا.
هذا
الفصل انعكس سلباً على الممارسة المهنية، حيث خلق تضارباً في الاتجاهات التصميمية،
واختلافاً في طرق التفكير، وأدى إلى قصور واضح في المنتج المعماري. فكم من مبنى
يتحدث بلغات متعددة، يفتقر للهوية والانسجام، ويدفع ثمنه مالك المشروع والمجتمع
معاً.
البعد
التاريخي: حين كان المعماري مسؤولاً عن الكل
في مراحل
تاريخية سابقة، لم يكن المعماري مجرد مصمم للكتلة، بل كان مسؤولاً عن كل تفاصيل
المبنى، من توزيع الفراغات إلى اختيار المواد، ومن تنسيق الموقع إلى التأثيث
الداخلي. العمارة الإسلامية، على سبيل المثال، لم تعرف الفصل بين التخصصات، بل
كانت تعبيراً متكاملاً عن رؤية ثقافية ووظيفية وجمالية واحدة. وكان المعماري يُلم
بالهندسة والبيئة والحرفة، ويُنتج مباني تنطق بلغة واحدة، مهما تعددت عناصرها.
أثر
الفصل على الهوية البصرية للمدن
الفصل
الأكاديمي لا يُنتج فقط مصممين متباينين، بل يُنتج مدناً بلا ملامح. حين يُصمم
المعماري الكتلة دون أن يعي تفاصيل التأثيث أو تنسيق الموقع، وحين يُنفذ المصمم
الداخلي رؤيته بمعزل عن السياق الخارجي، ينشأ التناقض. فتغيب الهوية، ويتحول
المبنى إلى كيان مشوّش، لا يُعبّر عن بيئته ولا عن ساكنيه. وهذا ما نراه اليوم في
كثير من المدن العربية: واجهات مستوردة، فراغات داخلية مغتربة، ومباني تتحدث بلغات
لا يفهمها أحد.
نقد
فلسفة التخصص الدقيق
الفلسفة
التي دفعت نحو التخصص الدقيق في التعليم، وإن بدت عقلانية من حيث التنظيم، إلا
أنها عزلت المعرفة عن سياقها، وحوّلت المصمم إلى منفّذ تقني. فالمعماري الذي لا
يعي أثر الإضاءة أو التكييف على تجربة المستخدم، يفقد قدرته على اتخاذ قرارات
تصميمية واعية. والمصمم الداخلي الذي لا يعي منطق الكتلة المعمارية، يُنتج فراغاً
لا ينسجم مع المبنى. وهكذا، يتحول التعليم إلى تفكيك للعقل التصميمي، لا إلى بنائه.
اقتراحات
منهجية للتكامل
لإعادة
بناء هذا العقل، لا يكفي الدمج الإداري، بل يجب إعادة صياغة المنهج. يمكن أن يشمل
ذلك:
- مقررات
مشتركة بين التخصصات، تُدرّس من منظور تكاملي.
- مشاريع
تصميمية جماعية، تجمع طلاب العمارة والتصميم الداخلي وتنسيق المواقع في فريق
واحد.
- آليات
تقييم تعتمد على الانسجام التصميمي للمبنى ككل، لا على كفاءة كل تخصص بمعزل.
- تدريب
ميداني يُشرف عليه معماريون ومصممون يعملون ضمن فرق متكاملة، لا منفصلة.
مبنى
واحد... أربع لغات، بلا هوية
حين
يُنفّذ كل تخصص تصميمه بمعزل عن التخصصات الأخرى، يتحول المبنى الواحد إلى ساحة
تضارب بين رؤى غير منسجمة. فالمعماري يرسم الكتلة وفق منطق هندسي أو رمزي، دون أن
يعي كيف ستُستخدم داخلياً. والمصمم الداخلي يُعيد تشكيل الفراغات وفق اعتبارات
جمالية أو وظيفية لا تتوافق مع منطق الكتلة. ومصمم الموقع الخارجي يضع عناصره دون
إدراك العلاقة البصرية أو الحركية مع الداخل. أما التأثيث، فيأتي كطبقة مستقلة، لا
تنتمي لأي منطق تصميمي سابق.
النتيجة:
مبنى واحد يتحدث بأربع لغات متنافرة. لا يحمل هوية واضحة، ولا يُعبّر عن رؤية
موحدة. تتضارب فيه المواد والألوان والفراغات، وتغيب عنه العلاقة العضوية بين
الداخل والخارج، بين الإنسان والمكان، وبين الوظيفة والشكل. وهو ما نراه اليوم في
كثير من المشاريع المعاصرة: مبانٍ تفتقر للوضوح، تُربك المستخدم، وتُضعف من أثرها
الثقافي والجمالي.
هذا التنافر
ليس خللاً شكلياً فحسب، بل هو انعكاس لفشل المنظومة التعليمية والمهنية في بناء
عقل تصميمي قادر على التفكير التكاملي. وما لم يُعاد الاعتبار لهذا العقل، ستظل
المباني تُنتج كجزر معزولة، لا ككائنات حية تنبض بلغة واحدة.
دعوة
لإعادة الدمج
إن
الحاجة ملحة لإعادة التوفيق بين هذه التخصصات، من خلال دمجها تحت مظلة واحدة: كلية
العمارة وتخطيط المدن. لا بوصفها تجميعاً إدارياً، بل كمنهج تعليمي يجمع بين
التنظير والتطبيق، وبين البحث العلمي والممارسة الميدانية.
هذا
الدمج لا يلغي التخصص، بل يمنح الطالب فرصة لاكتشاف ميوله الطبيعية، سواء في تخطيط
المدن أو التصميم الداخلي أو تنسيق المواقع، مع احتفاظه بقدر كافٍ من الاستيعاب
لباقي العمليات التصميمية. وهكذا، يعمل المصمم منفرداً أو ضمن فريق بلغة مشتركة،
تنعكس نتائجها إيجاباً على مرافق المدينة وتفاصيلها.
نحو
مدارس معمارية تُراعي خصوصية المكان
ولا يعني
هذا الدمج بالضرورة تكدّس الطلاب داخل كلية واحدة، بل هو دعوة لتعدد المدارس
المعمارية وانتشارها في ربوع المدن، على أسس علمية ومنهجية وفكرية، تُراعي خصوصية
كل بيئة جغرافية واجتماعية وعمرانية ومعمارية. فالتكامل لا يُطلب بوصفه وحدة
إدارية، بل بوصفه وحدة معرفية تُعيد الاعتبار للعقل التصميمي، وتمنحه أدواته
الكاملة لفهم المكان وتشكيله بوعي.
إن
استيعاب الطاقات المبدعة لا يكون بتوحيد المناهج، بل بتعددها وفقاً لاحتياجات
السياق المحلي، وبناء مدارس معمارية تُعبّر عن روح المكان لا عن نماذج مستوردة.
فكل مدينة تحمل في طياتها ذاكرة عمرانية خاصة، لا تُستعاد إلا عبر خطاب معماري
يُنصت لها، ويُعيد تشكيلها دون تنميط أو اجتثاث.
وهكذا،
يتحول التعليم المعماري من مجرد تلقين تقني إلى فعل ثقافي، يُنتج مصممين قادرين
على تحويل أفكارهم إلى عناصر فاعلة ومؤثرة في رسم صورة مدننا العربية المعاصرة.
كما فعلت الأجيال السابقة حين جمعت بين الأصالة والإبداع، وخلّدت منجزاتها في سجل
التاريخ، لا بوصفها نماذج شكلية، بل بوصفها تعبيراً صادقاً عن هوية المكان وزمنه.