الثلاثاء، أغسطس 26، 2025

من الخبرة إلى الذكاء الصناعي: مسار تشكّل الخطاب المعماري

خطاب يتشكّل من القلق: تأملات في العمارة الليبية بين الممارسة والوعي



جمال الهمالي اللافي

في هذا المنشور، أشارك خلاصة المسارات التي شكّلت خلفية كتاباتي المعمارية، وتفاعلت معها عبر السنوات:

1.      الخبرة الميدانية

سنوات من الاشتباك المعرفي والمهني مع العمارة، خصوصًا في سياقها المحلي الليبي، أفرزت لدي رؤية نقدية للإشكاليات البنيوية التي تعاني منها. هذه الرؤية كانت المنبع الأول لغالبية ما كتبته من مقالات وتأملات معمارية، وقد وجدت طريقها للنشر عبر وسائط متعددة:

  • مقالات دورية في مجلة آثار العرب، ومجلة مربعات، والصفحة الرابعة من جريدة الشط، حيث طرحت قراءاتي وتحليلاتي ضمن سياق ثقافي معماري أوسع.
  • مشاركات فكرية وحوارات معمقة في منتدى المعماريين العرب، رافقتها مقالات نقدية تفاعلية مع ما يُطرح من قضايا وإشكاليات مهنية.
  • سلسلة من المحاضرات التي بدأت منذ عام 1993 واستمرت حتى 2024، شكّلت مساحة لعرض الرؤية وتطويرها عبر التفاعل المباشر مع المهتمين والباحثين.

هذه الوسائل مجتمعة شكّلت البنية الأولى لخطابي المعماري، ووفّرت لي فضاءً لتجريب الأفكار وتطويرها ضمن سياق نقدي متجدد.

2.      الفضاء الرقمي وتفاعلاته

قبل تأسيس مدونة الميراث عام 2008، كانت مشاركتي في ملتقى المهندسين العرب هي المنصة الأولى التي احتضنت مقالاتي المعمارية وحواراتي النقدية. هناك، وجدت فضاءً مهنيًا مفتوحًا للنقاش، طرحت فيه رؤيتي وتفاعلت مع قضايا معمارية وثقافية ضمنية، مما ساهم في بلورة الخطاب وتوسيع مداه.

لاحقًا، جاءت مدونة الميراث لتكون امتدادًا أكثر تركيزًا واستقلالية، حيث بدأت بنشر تأملاتي ومقالاتي بشكل منتظم. ومع اتساع حضور منصة الفيسبوك، ظهرت أمامي كمٌّ من المنشورات العامة التي تستدعي مساءلة المفاهيم المتداولة فيها. دفعني هذا إلى التفاعل معها عبر خواطر ومداخلات سريعة، وأحيانًا مقالات منبثقة عنها، أُوضح فيها وجهة نظري وأُعيد تفكيك ما يُطرح من أفكار.

لم يكن الفضاء الرقمي مجرد وسيلة نشر، بل أصبح حقلًا حيًّا للتفاعل النقدي، يُغذي الخطاب ويختبره في آن.

3.      استدعاء الذاكرة وإعادة القراءة

خاصية الذكريات اليومية التي يعرضها الفيسبوك لما نُشر في السنوات السابقة فتحت لي بابًا لمراجعة تلك النصوص القديمة. أعدت قراءتها وصياغتها برؤية أكثر نضجًا، متكئة على تراكم الخبرة وتطور أدوات التحليل.

4.      الذكاء الصناعي كأداة تحريرية

دخول الذكاء الصناعي على خط التحرير منحني فرصة لتحسين صياغة المقالات، سواء القديمة أو المستجدة. من خلال طرح تساؤلات محددة عليه، حصلت على مراجع ومداخلات ساعدتني في تعميق الطرح وتجويد البنية المعمارية للنص.

خاتمة

وإذا كانت هذه المسارات قد شكّلت بنية خطابي المعماري، فإن غزارة المقالات التي نشرتها عبرها لم تكن تكرارًا، بل استجابة لتعدد الهواجس المرتبطة بالعمارة في ليبيا، وما يحيط بها من إشكاليات مهنية وتعليمية متجذّرة. إشكاليات لا تزال تعاني من قصور بنيوي، دون أن يظهر في الأفق أي بصيص أمل للتعاطي معها بالجدية المستحقة. من هنا، جاءت كتاباتي كمحاولة دائمة لتفكيك هذا الجمود، واستدعاء الأسئلة التي يُفترض أن تكون في صلب أي خطاب معماري مسؤول.

الاثنين، أغسطس 25، 2025

الإنسان كدعامة: نقد رمزي لمعالجات معمارية تستنزف المعنى


جمال الهمالي اللافي

     في زمنٍ باتت فيه العمارة تتسابق نحو الإبهار البصري، تظهر نماذج تصميمية توظّف الجسد البشري كعنصر إنشائي أو زخرفي، دون مساءلة رمزية هذا التوظيف أو أثره النفسي على المتلقي. من بين هذه النماذج، تلك التي تُظهر يدًا بشرية تحمل مبنى، أو جسدًا غائرًا تحت الأرض كجزء من الواجهة. للوهلة الأولى، قد يُقرأ هذا التوظيف كإبداع بصري، لكنه في جوهره يُشيع خطابًا بصريًا مشوشًا، يُفرغ الإنسان من قيمته ويحوّله إلى أداة صامتة.

الاستعراض بدل المعنى

هذه المعالجات لا تنبع من حاجة وظيفية أو سياق رمزي متماسك، بل من رغبة في لفت الانتباه. اليد التي تحمل المبنى لا تُقرأ كرمز للقوة، بل كجسد منهك تحت وطأة الأحمال. الأصابع المنحنية لا توحي بالتماسك، بل بالإجهاد والانهيار الوشيك. وهكذا، يتحوّل التصميم من احتفاء بالإنسان إلى مشهد استنزافه.

الاستلاب الرمزي والاغتراب البصري

في هذا السياق، يمكن قراءة هذه المعالجات ضمن مفهوم الاستلاب الرمزي، حيث يُسلب الإنسان من رمزيته الثقافية ويُعاد إنتاجه كعنصر زخرفي. كما يُكرّس الاغتراب البصري، حين يُقدّم الجسد في وضعية لا تنتمي إلى بيئته أو ثقافته، بل تُستورد من سياقات غريبة، فتخلق فجوة بين الشكل والمضمون، وبين العين والعقل.

التأثير النفسي على المارة والساكنين: حين يتحول المبنى إلى مشهد استنزاف

لا يقتصر الأثر على الانطباع الجمالي، بل يمتد إلى مستويات نفسية دقيقة، تُخزّن في الوجدان وتؤثر في المزاج العام:

  • المارة يمرّون في ظل انكسار رمزي، يشعرون بانقباض داخلي غير مفسّر، وكأن المبنى يئن بصمت. التصميم يُربك الإدراك البصري ويُضعف العلاقة الطبيعية بين الإنسان والمكان.
  • الساكنون أو الشاغلون يعيشون في فضاء يُكرّس فكرة الاستنزاف، مما يؤثر على الشعور بالكرامة والانتماء، ويُضعف الإحساس بالأمان النفسي.
  • البيئة الجمعية تتشكّل من مزاج عام مشحون بالتوتر، حيث يُعاد إنتاج فكرة الانهيار في كل زاوية، حتى لو كانت "جمالية" من منظور تقني.

العمارة كخطاب لا كعرض

العمارة التي تحترم الإنسان لا تُظهره وهو ينهار، بل وهو يتنفس. لا تُجسده كدعامة، بل كقيمة. وهي لا تكتفي بإبهار العين، بل تُخاطب العقل والوجدان. حين تُوظف الرموز دون وعي، يتحوّل التصميم إلى مشهد من التشويش، لا من الإلهام.

الجمعة، أغسطس 22، 2025

بين بيئة تُكرّم الإنسان وأخرى تُهينه



قراءة في التمايز الوظيفي بين "قوقل" ومؤسسات الدولة الليبية

جمال الهمالي اللافي

ليس الحديث عن بيئة العمل في شركة "قوقل" نوعًا من الترف أو الإعجاب الساذج، بل هو ضرورة معرفية وأخلاقية. لأن سرد تفاصيل تلك البيئة يفتح العقول قبل العيون على ما يجب أن يكون، ويكشف حجم البؤس البنيوي الذي يعيشه الموظف الليبي في مؤسسات الدولة، حيث لا يُحترم الإنسان، ولا يُصان جهده، ولا يُحتفى بإبداعه.

بيئة "قوقل": فلسفة تُكرّم الإنسان

في مقرات "قوقل" المنتشرة حول العالم، لا يُنظر إلى المكتب بوصفه مساحة عمل فحسب، بل بوصفه امتدادًا لكرامة الإنسان. هناك، تتنوع عناصر التأثيث لتناسب شخصية كل موظف: مكاتب قابلة للتعديل، كراسي مريحة مصممة هندسيًا، مساحات مفتوحة للتفكير الجماعي، وأخرى مغلقة للتأمل الفردي. الألوان مدروسة، والإضاءة طبيعية قدر الإمكان، والنباتات جزء من التصميم، لا مجرد زينة.

في كل زاوية، هناك دعوة غير مباشرة للإبداع: غرف اجتماعات على هيئة قطارات قديمة، مكتبات بسرٍّ معماري، جدران قابلة للكتابة، وحتى مساحات للعب والتأمل. في بعض الفروع، توجد صالات رياضية، مسابح، ملاعب كرة طائرة، وجدران تسلق. أما الطعام، فهو متاح على مدار اليوم: وجبات صحية، مشروبات متنوعة، وحلويات مدروسة، وكل ذلك مجانًا. بل إن قاعدة "150 قدم من الطعام" تُطبّق حرفيًا، بحيث لا يبتعد الموظف عن مصدر تغذية جسده وعقله.

هذه البيئة ليست عبثًا، بل فلسفة مؤسسية ترى أن الموظف المبدع يحتاج إلى راحة، وإلى مساحة، وإلى احترام. وأن الإبداع لا يُستخرج من الضغط، بل من الطمأنينة. الأهم من ذلك، أن التميز يُكافأ، ويُحتفى به، ويُمنح ما يستحق من دعم وامتيازات.

بيئة المؤسسات الليبية: واقع يُهدر الإنسان

في المقابل، يعيش الموظف الليبي في بيئة وظيفية تُشبه العقوبة. المكاتب ضيقة، الكراسي متهالكة، الإضاءة قاسية، والجدران تئن من الرطوبة. لا وجود لمساحات التفكير، ولا حتى لمساحات الراحة. الطعام؟ إن وُجد، فهو على حساب الموظف، وغالبًا ما يُؤكل على عجل في زاوية مهملة. أما التقدير، فغائب. والترقية، مشروطة بالولاء لا بالكفاءة. التميز هنا لا يُكافأ، بل يُحاصر، ويُنظر إليه بعين الريبة.

الظلم الوظيفي وهضم الحقوق ليسا استثناءً، بل قاعدة. الموظف يُعامل بوصفه عبئًا إداريًا، لا عقلًا منتجًا. يُطلب منه أن يُنجز، دون أن يُمنح الأدوات أو الاحترام أو الأفق. يُراقب، يُحاسب، يُستنزف، ثم يُنسى.

أثر التمايز على النفس والعقل

وعي الموظف الليبي بهذا التمايز لا يُنتج طموحًا، بل يُنتج إنهاكًا. لأنه يرى ما يجب أن يكون، ويُدرك أنه لن يكون. هذا الإدراك، حين يتكرّر يوميًا، يُنهك النفس، ويُطفئ الخيال، ويحوّل العمل إلى عبء وجودي. الموظف لا يطلب امتيازات "قوقل"، بل الحد الأدنى من الكرامة المهنية. لكنه يُحرم حتى من ذلك.

هذا الإدراك لا يحرره، بل يثقل كاهله. يتحول الوعي إلى عبء، والإبداع إلى لعنة. إذ لا البيئة تشجع، ولا التقدير يحضر، ولا الأفق يبدو مفتوحًا. فيعيش المبدع حالة من التآكل التدريجي، حيث تتآكل الصحة مع العمر، ويُستهلك الخيال في مقاومة الرداءة، لا في إنتاج الجمال.

من مصنع الريجية إلى فلسفة قوقل: شهادة على التهميش المؤسسي

ولعل المثال الأوضح على ذلك ما عشته شخصيًا منذ بداية عملي في مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس من العام 1990 إلى 2001، حين كان مقر المشروع في مصنع الريجية، ذلك المكان الذي كان مصنعًا لدخان السجائر، وتحول إلى بيئة عمل تجمع بين قذارة المكان وتلوث المعاملة. هناك، رأيت كيف يُكافأ الفاشلون بالترقيات والمناصب القيادية، بينما يُضايق المتميزون حتى يُدفعوا إلى الخروج، الواحد تلو الآخر. وقد خرجت أنا أيضًا، بعد سنوات من المضايقات، فاقدًا لكامل حقوقي الوظيفية. دخلت هذه المؤسسة وأنا بكامل صحتي وعافيتي، وخرجت منها "لحماً على عظمٍ" نتيجة التوترات النفسية التي تراكمت بفعل الإقصاء والتهميش. وهذه المؤسسة ليست استثناءً، فهي امتداد لجل مؤسسات الدولة، وقصتي تحكي لسان حال غيري.

لماذا نُفصّل في بيئة "قوقل"؟

لأن المقارنة تُعرّي الواقع. تُظهر أن المشكلة ليست في الإمكانيات، بل في الفلسفة. أن الفساد لا يُقاس فقط بالمال المنهوب، بل بالكرامة المهدورة في تفاصيل الحياة اليومية للموظف. أن الإصلاح لا يبدأ من القوانين، بل من إعادة تعريف الإنسان داخل المؤسسة: هل هو عقل؟ أم رقم؟ هل هو شريك؟ أم تابع؟

إن النموذج الذي تقدمه "قوقل" لا يُلهم فقط، بل يفضح. يفضح هشاشة المؤسسات التي لا ترى في الإنسان سوى رقم وظيفي، ويكشف زيف الشعارات التي تتحدث عن التميز بينما تكرّس الرداءة. وهنا، لا يكون الفرق بين "قوقل" وتلك المؤسسات فرقًا في السياسات، بل فرقًا في الفلسفة: فلسفة ترى في الإنسان طاقة خلاقة، وأخرى تراه عبداً للتراتبية.

هذا النص لا يهدف إلى تمجيد "قوقل"، بل إلى مساءلة واقعنا. إلى طرح سؤال مؤلم: ماذا يحدث للمبدع حين يُحاصر بين وعيه بما يستحق، وعجزه عن نيله؟ وهل يمكن للإبداع أن ينجو في بيئة لا تعترف به إلا إذا تنكر لذاته؟

الخميس، أغسطس 21، 2025

فوضى العمران: حين يُشوَّه المكان فيُعاد تشكيل الإنسان

حين يُشوَّه المكان، لا يعود الإنسان كما كان


قراءة نقدية في أثر التشويه البصري على السلوك المجتمعي، ومسؤولية المعماري والمؤسسات في إعادة إنتاج الإنسان.

 

جمال الهمالي اللافي

ليست الفوضى العمرانية مجرد خلل تنظيمي أو غياب للتخطيط، بل هي انعكاس لانهيار منظومة القيم وتفكك الرؤية المجتمعية. حين تُبنى المدن بلا ذاكرة، بلا احترام للهوية، يتحول الفضاء العام إلى بيئة طاردة، تُغذّي العدوان، وتُشرعن الانحراف، وتُعيد تشكيل الإنسان وفقًا لمقاييس التشويه البصري والضيق النفسي.

في غياب الهوية المعمارية، يتلاشى الانتماء، ويُستباح الجمال، ويُهمّش الإنسان. وما نشهده من تصدع أخلاقي وسلوكي ليس إلا انعكاسًا مباشرًا لفضاء عمراني مشوّه، تُهيمن عليه العشوائية، وتغيب عنه المسؤولية والوعي الجمالي. فالمكان لا يكتفي بأن يكون خلفية لحياة الإنسان، بل يُعيد تشكيل ذائقته وسلوكه، ويطبع وعيه بما يراه ويعيشه يوميًا.

المدينة كأداة تطبيع للفوضى

حين تُصبح العشوائية هي القاعدة، يتطبع الناس معها، وتُعاد صياغة مفاهيمهم عن النظام والجمال والانتماء. وهنا تكمن خطورة الفوضى العمرانية: فهي لا تُشوّه المكان فقط، بل تُعيد إنتاج الإنسان على صورتها، وتُكرّس الانحراف كواقع مألوف، لا يُسائل ولا يُستنكر.

المسؤولية الأخلاقية والمهنية

ما يحدث ليس مجرد تقصير مؤسسي، بل تخلي عن المسؤولية الأخلاقية والمهنية تجاه المجتمع. المعماري، كمثقف بصري ومهندس للمعنى، لا يُعفى من المساءلة. فحين يُنتج عمرانًا بلا روح، يُساهم في تعميق الشرخ، وتكريس العدوان، وتغذية الانحراف. وكذلك المؤسسات، حين تُدير الشأن العمراني بمنطق التسيير لا التنوير، تُكرّس الفوضى كواقع لا يُسائل.

كسر الحلقة

السؤال ليس من بدأ أولًا: الفوضى أم العدوان؟ بل كيف نكسر هذه الحلقة؟ كيف نُعيد للمدينة كرامتها، وللإنسان شعوره بالانتماء؟ كيف نُعيد الاعتبار للهوية، وللجمال، وللأخلاق المهنية؟ هذه ليست دعوة للتنظير، بل نداء لإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والمكان، على أسس من المعنى، والاحترام، والذاكرة.

الثلاثاء، أغسطس 19، 2025

العمارة كلغة: نحو استعادة الخطاب الثقافي المفقود

 

جمال الهمالي اللافي

المقدمة

في ظل التحديات التي تواجه العمارة المعاصرة، من فقدان الهوية إلى هيمنة النماذج المستوردة، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف العمارة ليس كمجرد ممارسة تقنية، بل كخطاب ثقافي يحمل في طياته لغةً ناطقة ومشهدًا بصريًا متكاملًا. فالعمارة، كما اللغة، تمتلك مستويات من التعبير؛ من اللفظ إلى النحو إلى المعنى، ومن التخطيط إلى التكوين إلى التفاصيل. وبين هذه المستويات، تتشكل هوية المكان، وتُستعاد ذاكرة الجماعة، ويُعاد وصل ما انقطع من سياق حضاري وروحي.


    هذه المقالة تُقدّم تصورًا تأليفيًا يُفكك مستويات التعبير المعماري إلى بُعدين متكاملين: اللساني والبصري، في محاولة لاستعادة العمارة كفنٍ ناطق، وكحوارٍ حيّ بين الإنسان والمكان، بين المادة والروح، وبين الماضي والمستقبل.

هدف المقالة

تهدف هذه المقالة إلى تقديم تصور تأليفي يُعيد فهم العمارة بوصفها خطابًا لغويًا وبصريًا، يتجاوز الشكل إلى المعنى، ويتجاوز التقنية إلى الهوية. في ظل القطيعة المعرفية التي تُعاني منها الممارسة المعمارية المعاصرة، يسعى هذا الطرح إلى تفكيك مستويات التعبير المعماري، وتقديم مخطط يُعيد للعمارة لغتها، ويُعيد للخطاب المعماري دوره كوسيط ثقافي ووجداني. المقالة موجّهة لكل من يسعى إلى استعادة العمارة كفنٍ ناطق، وكحوارٍ حيّ بين الإنسان والمكان، بين المادة والروح، وبين الجماعة وذاكرتها. وهي دعوة لإعادة بناء الوعي المعماري على أسس ثقافية، تُعيد وصل ما انقطع من السياق الحضاري، وتُعيد للعمارة دورها في تشكيل الذاكرة الجمعية والهوية البصرية.

العمارة كلغة محكية: من المفردة إلى البيان

في هذا القسم، تُقارب العمارة بوصفها لغةً تُشبه اللغة المنطوقة في بنيتها ووظيفتها. فهي تتكوّن من مستويات دلالية تُشكّل الرسالة المعمارية وتُحدّد مدى وضوحها وفعاليتها. هذه المستويات تُساعد على قراءة العمارة كنص حي، له قواعده وموسيقاه الخاصة.

مستويات لغة العمارة

يتضمن العرض مخططًا بصريًا يُقسّم لغة العمارة إلى ستة مستويات، موزعة بين التعبير اللساني (اللفظ، النحو، الدلالة) والتكوين البصري (التخطيط، التكوين، التفاصيل). هذا التقسيم يُقدّم أداة تحليلية لفهم العمارة بوصفها نصًا حيًا، ويُسهم في نقد السطحية السائدة، والدعوة إلى قراءة متعددة الطبقات تُعيد الاعتبار للمعنى والهوية.

اللغة المحكية (اللسانية (

المستوى

الوصف

اللفظ المعماري

مفردات الشكل، المادة، والملمس التي تُعبّر عن هوية المبنى

التركيب النحوي

تنظيم الكتل والعلاقات المكانية كجُمل معمارية تعبّر عن عقلانية التصميم

الدلالة المعنوية

المعاني الرمزية والوجدانية التي تجعل العمارة خطابًا حيًا ومؤثرًا

 

اللغة البصرية (التكوينية)

المستوى

الوصف

التخطيطي

العلاقات الكبرى، اتجاهات الحركة، وفلسفة التنظيم المكاني

المعماري

الكتلة، التكوين، التوازن، والانفتاح والانغلاق كوسائل لتجسيد الهوية

التفصيلي

عناصر مثل الأبواب، النوافذ، الزخارف، والمواد التي تحمل لهجة محلية وثقافية


نحو تكامل لغوي بصري ووجداني

إن التمييز بين اللغة المعمارية بوصفها محكية (دلالية) وبصرية (تكوينية) لا يعني الفصل بينهما، بل يُساعد على فهم العمارة من زوايا متعددة: كيف تُعبّر عن نفسها، وكيف تُقرأ، وكيف تُخاطب الإنسان في وجدانه ووعيه.

غياب أحد هذه المستويات، سواء في البنية اللغوية أو البصرية، يُفضي إلى تشويش في الفهم، أو إلى إنتاج معماري مُسطّح لا يُعبّر عن بيئة ولا يُخاطب وجدانًا، بل يُراكم عناصر دون رسالة.

دعوة لإحياء اللغة المعمارية

في زمنٍ تتكاثر فيه الأبنية وتغيب فيه العمارة، يصبح إحياء اللغة المعمارية ضرورة ثقافية وأخلاقية. إنها دعوة للمعماري أن يكون كاتبًا بصريًا، لا مجرد مُنفّذ، وأن يُعيد للعمارة دورها كأداة للوعي، ووسيلة للمقاومة الثقافية، ومنصة للتعبير عن الذات الجمعية.

الخاتمة

إن تجاهل البنية اللغوية والبصرية للعمارة لا يُنتج فراغًا جماليًا فحسب، بل يُكرّس قطيعة معرفية مع الذات والمكان. فالمخطط المقترح هنا ليس مجرد تصنيف، بل هو دعوة لإعادة بناء الخطاب المعماري على أسس ثقافية ووجدانية، تُعيد للعمارة دورها كفنٍ ناطق، وكوسيطٍ بين الإنسان وتاريخه، بين الجماعة وذاكرتها، وبين المادة والروح. حين تُستعاد اللغة، يُستعاد المعنى، وتُستعاد العمارة بوصفها مرآةً للهوية، لا مجرد واجهة للزمن.

حين يتكلم الحجر بلغة الأمة، تُصبح العمارة مرآةً للهوية، وذاكرةً للمستقبل.

الاثنين، أغسطس 18، 2025

تفتيت المجتمع وتعدد الذائقة: أزمة الهوية في العمارة الإسلامية المعاصرة

 


جمال الهمالي اللافي

مقدمة

في زمنٍ تحولت فيه المجتمعات الإسلامية من كيانٍ واحد إلى فسيفساء متنازعة، لم يعد بالإمكان الحديث عن ذائقة فنية جامعة أو توجه معماري موحد. هذا التفكك لا يعكس فقط أزمة سياسية أو اجتماعية، بل يفضح انهيارًا أعمق في المرجعية الثقافية والدينية التي كانت توحد الذوق، السلوك، والتوجه العام.

من المجتمع إلى المجتمعات: تصحيح المفهوم

الحديث عن "المجتمعات" بدلًا من "المجتمع" ليس مجرد زلة لغوية، بل هو انعكاس لتحول تاريخي خطير. فالمجتمع الإسلامي، الذي كان يومًا ما وحدة متماسكة، أصبح اليوم مجموعة من الكيانات المتصارعة، كل منها يحمل فهمًا خاصًا للدين، للهوية، وللذوق العام. هذا التحول بدأ بانهيار الدولة الإسلامية الجامعة، وتكرّس باتفاقيات التقسيم، وتنصيب وكلاء التفتيت من عسكر وأحزاب ومنظمات مدنية.

أدوات التفتيت: من الرياضة إلى الإعلام

لم يكن التفتيت عشوائيًا، بل تم عبر أدوات مدروسة:

  • الفرق الرياضية التي تحولت إلى هويات بديلة، تُقاتل من أجلها الجماهير.
  • الأحزاب السياسية التي مزقت النسيج الاجتماعي تحت شعار الديمقراطية.
  • حرية التعبير المنفلتة التي شرعنت التطاول على العقيدة والسلوك القويم.
  • الإعلام الفضائي الذي أعاد تشكيل الوعي الجمعي وفق أجندات خارجية، تُعلي من التفكك وتُضعف الانتماء.

العمارة كمرآة للانقسام

في ظل هذا التفكك، لم تعد العمارة تعبيرًا عن هوية جماعية، بل أصبحت انعكاسًا لانقسامات فردية. تنوعت المدارس المعمارية، وتعددت الذائقات، وكلها مستوردة من خارج السياق الإسلامي، حتى فقدت العمارة وظيفتها التوحيدية، وتحولت إلى ساحة صراع بين مؤيد ومعارض ومشكك.

العمارة الإسلامية: وحدة الرؤية وتنوع التطبيق

ما يُميز العمارة الإسلامية ليس نمطًا واحدًا، بل رؤية موحدة تنبثق منها تطبيقات متعددة، تتفاعل مع البيئة دون أن تتخلى عن جوهر العقيدة. لقد كانت منفتحة على الحضارات، تأخذ منها ما لا يتعارض مع الإسلام، وتنبذ ما يخالفه. وهذا الانفتاح لم يكن ضعفًا، بل قوة حضارية واعية.

دعوة لإعادة البناء

إن استعادة الذائقة المعمارية الإسلامية لا تكون بالعودة إلى الماضي حرفيًا، بل بإحياء الفكر الإسلامي المعماري الذي يجمع بين الأصالة والانفتاح، بين العقيدة والإبداع، وبين الوحدة والتنوع. وهذا يتطلب:

  • إصلاح التعليم المعماري.
  • إعادة توجيه الإعلام الثقافي.
  • دعم المشاريع التي تستلهم من التراث دون أن تتقوقع فيه.
  • إعادة الاعتبار للمجتمع كمرجعية ذوقية، لا للفرد المنعزل.

خاتمة

ما نعيشه اليوم من تفتيت في الذائقة والسلوك والهوية هو نتيجة مباشرة لانهيار المرجعية الجامعة. والعمارة، بما تحمله من رمزية، يمكن أن تكون مدخلًا لإعادة بناء هذه المرجعية، شرط أن نعيد لها دورها كأداة وحدة لا تفرقة، وكجسر بين العقيدة والواقع، بين الإنسان وبيئته، وبين الماضي والمستقبل.

السبت، أغسطس 16، 2025

نحو إعادة تعريف تدريس مادة تاريخ العمارة


جمال الهمالي اللافي

المقدمة: لماذا نقرأ التاريخ؟

في زمنٍ تتسارع فيه التحولات، وتُستبدل فيه الجذور بالأنماط المستوردة، تبرز الحاجة إلى قراءة التاريخ لا كترفٍ ثقافي، بل كفعلٍ معماري مقاوم. نقرأ التاريخ لنستعيد العبرة، لا لنُكررها، بل لنُعيد تشكيلها بما يليق بكرامة الإنسان وذاكرة المكان. نقرأه لنُحدد مرجعيتنا، لا لنُقلّد، بل لننطلق من نقطة وعيٍ نقديٍّ يُعيد الاعتبار لتجارب الأجداد، ويُؤسس لمنهجية تصميمية تُراعي السياق، والهوية، والاحتياج. ونقرأه لنُحقق أهدافًا تتجاوز الشكل، نحو عمارةٍ تُنظّم العلاقة بين الذات والموضوع، بين الحلم والواقع، بين ما نؤمن به وما نبنيه.

في هذا المقال، أستعرض كيف يمكن للتاريخ أن يكون حليفًا في صياغة مشروع معماري يحمل روح حوش العيلة، ويُعيد للضواحي والأرياف الليبية دفئها المفقود، لا عبر الحنين، بل عبر التصميم الواعي، والذاكرة الحيّة. ومن خلال هذا التأمل، أطرح دعوة لإعادة النظر في منهج تدريس تاريخ العمارة، الذي يُدرّس اليوم بشكلٍ يُغيب جوهره النقدي والثقافي.

أولًا: التاريخ كعبرة لا كحكاية

التاريخ ليس سردًا للأمجاد، بل تفكيكٌ للخيارات التي اتخذها من سبقونا، وتحليلٌ للنتائج التي ترتبت عليها. في العمارة، كل نمطٍ بنائي وكل فراغٍ عمراني هو انعكاسٌ لفلسفةٍ في العيش، لرؤيةٍ في الزمن، ولعلاقةٍ بين الإنسان والمكان. نقرأ كيف انهارت مدنٌ حين فُصلت عن ناسها، وكيف تحوّلت البيوت إلى قوالب جامدة حين غابت عنها الروح.

"قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين" (الأنعام: 11(

التاريخ يُعلّمنا أن نطرح الأسئلة الصحيحة:

  • ما الذي يجعل البيت بيتًا؟
  • كيف يُصبح الحيّ نسيجًا حيًّا لا مجرد تقسيمات؟
  • ما الذي فقدناه حين استبدلنا "الحوش" بمساحاتٍ معزولة، وحين قُلنا "الخصوصية" ونسينا "الحميمية"؟

 

ثانيًا: التاريخ كمرجعية تصميم

في زمنٍ يُغري فيه الحداثة بالقطيعة، يُعيدنا التاريخ إلى الجذور لا لنُقلّدها، بل لنُفكّر من خلالها. نماذج مثل حوش العيلة ليست مجرد طرزٍ تقليدية، بل أنماطٌ عمرانية تُجسّد فلسفةً في التراحم، في التداخل الأسري، وفي احترام الزمن كدورةٍ لا كخطٍّ مستقيم. المرجعية التاريخية تُصبح هنا أداةً نقدية، تُساعدنا على أن نُصمّم بما يُشبهنا، لا بما يُرضي السوق.

ثالثًا: التاريخ كأفقٍ للتحوّل

قراءة التاريخ تُعلّمنا أن العمارة ليست فعلًا تقنيًّا، بل فعلٌ ثقافيٌّ يُعيد تشكيل الوعي. حين نُدرك كيف كانت العمارة في لحظات النهوض الثقافي أداةً للكرامة، وللذاكرة، وللتماسك الاجتماعي، نُدرك أن بإمكاننا اليوم أن نُعيد إنتاج لحظةٍ مشابهة. نُصمم بيتًا ليحتضن العائلة، لا ليُعجب المستثمر. نُعيد للحيّ وظيفته كنسيجٍ اجتماعي، لا كمخططٍ هندسي.
نُعيد للعمارة دورها كوسيطٍ بين الإنسان والزمن، بين الفرد والجماعة، بين الذاكرة والطموح.

رابعًا: إشكالية تدريس تاريخ العمارة

رغم أهمية التاريخ، يُدرّس في معظم كليات الفنون والعمارة كمسارٍ زمنيٍّ يُركّز على الشكل دون المضمون.

مظاهر الإشكالية:

  • عرض تسلسلي للنماذج دون تحليل للسياق
  • تصنيف الطرز وفق المواد والأساليب دون فهم فلسفتها
  • تغييب العلاقة بين العمارة والهوية، وبين الشكل والسلطة
  • الطالب يُحفظ ولا يُحلّل، ويُنتج مشاريع تُرضي السوق وتُهمّش الإنسان

خامسًا: المقترح المنهجي

يهدف هذا المقترح إلى تحويل مادة التاريخ من أرشيفٍ زمني إلى مختبرٍ نقدي يُعيد تشكيل وعي الطالب.

محاور التعديل

المحور

التعديل المقترح

المنهجية

إدماج التحليل الثقافي والاجتماعي في دراسة النماذج

المصادر

اعتماد نصوص فلسفية، سرديات محلية، وشهادات معمارية

التقييم

تشجيع المشاريع النقدية بدل الحفظ، مثل تحليل نموذج محلي من منظور ثقافي

الربط المحلي

إدماج نماذج من العمارة الليبية، وتحليلها كجزء من الهوية لا فقط التراث

النتائج

تخريج معماريين ناقدين، قادرين على إنتاج عمارة تُشبه مجتمعهم وتُعيد له المعنى

 

الخاتمة

تدريس تاريخ العمارة ليس ترفًا معرفيًا، بل ضرورة ثقافية. حين يُعاد تعريف المنهج، يُصبح التاريخ أداةً للتحرّر، لا للحفظ، ويُصبح المعماري شاهدًا على الزمن، لا مجرد ناقلٍ لأشكاله. وإننا، إذ نُطالب بإعادة النظر في هذا المنهج، لا نُطالب بتغييرٍ شكلي، بل باستعادة جوهر العمارة كفعلٍ إنساني، وكوسيطٍ للذاكرة، والكرامة، والانتماء.

 

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...