أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

السبت، أكتوبر 25، 2025

تجربة "الكون 25" كما قرأتها من زاويتي


جمال الهمالي اللافي

في ستينيات القرن الماضي، أجرى عالم السلوك جون كالهون تجربة عُرفت باسم "الكون 25"، حيث أنشأ بيئة مثالية للفئران: وفّر لها الطعام والماء والمأوى، وأزال عنها كل تهديد خارجي. في البداية، ازدهر المجتمع الفأري، لكن سرعان ما ظهرت سلوكيات غير مألوفة: عزلة، عدوانية، انكفاء على الذات، ثم انهيار كامل في التفاعل والتكاثر، وصولًا إلى الانقراض. خلص كالهون إلى أن الاكتظاظ، حتى في ظل الوفرة، يؤدي إلى انهيار اجتماعي وسلوكي، وهو ما اعتبره تحذيرًا من مصير المجتمعات البشرية إذا فقدت التوازن بين النمو والاحتواء.

لكن هذه التجربة لم تستوقفني في حيثياتها، ولا في خلاصتها كما أراد صاحبها. ما استوقفني هو ما تكشفه عن أثر البيئة العمرانية حين تُبنى بلا رؤية، وتُحشد فيها الكتل السكانية دون اعتبار للكرامة أو التفاعل أو الانتماء.

خطر الاكتظاظ لا يكمن في العدد وحده، بل يتضاعف حين يقترن بـ العشوائية العمرانية، وشيوع الفقر، وغياب البنية التحتية والخدمات الأساسية. في مشاريع العمارات السكنية التي تُبنى بنموذج مكرر، دون مرافق ترفيهية أو مساحات خضراء، يتحوّل السكن إلى عزلة جماعية، ويصبح الحيّز العمراني طاردًا لا حاضنًا. فالمكان، حين يُصمَّم بلا اعتبار للكرامة، يُعيد تشكيل السلوك بصمت، ويُغذّي الانكفاء بدل الانتماء.

وقد أثبتت دراسات علم النفس البيئي أن غياب الضوء الطبيعي، وانعدام التهوية، وضيق المساحات، تؤثر مباشرة على الصحة النفسية، وتزيد من معدلات الاكتئاب والعدوانية. كما أن التصميمات المغلقة، التي لا تتيح التفاعل البصري أو الاجتماعي، تُنتج شعورًا بالانفصال، وتُضعف الإحساس بالانتماء للمكان.

غياب المساحات الخضراء، والمرافق التي تتيح التفاعل الآمن، لا يُنتج فقط بيئة فقيرة، بل يُعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمكان، ويحوّل الحيّ إلى معبر لا إلى مستقر. وقد أشار علماء الاجتماع إلى أن المجتمعات التي تفتقر إلى رموزها الثقافية والمعمارية، تُنتج أفرادًا يشعرون بالاغتراب، حتى لو كانوا في موطنهم.

ما رأيته في الواقع لا يُفسَّر بتجربة "الكون 25"، بل يُفصح عن أن الانهيار لا يأتي من الاكتظاظ وحده. فالمدن التاريخية كانت تتميز بكثافتها العالية، وتلاصق مبانيها، وضيق شوارعها، ومع ذلك كانت المكان الآمن لسكانها، الحافظة لقيمهم، والعامل على قوتهم. في تلك المدن، كانت الكثافة تعني التقارب، لا التنافر؛ أما اليوم، فالكثافة تُنتج عزلة حين تُبنى بلا رؤية، وتُكرّس الانفصال حين تُصمّم بلا روح.

وقد بيّنت أبحاث علم النفس الاجتماعي أن الشعور بالكرامة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبيئة العمرانية التي تحترم الحاجات النفسية والاجتماعية، لا تلك التي تختزل الإنسان في وظيفة سكنية. حين يُختزل السكن إلى مأوى جسدي، ويُستبعد منه ما يُراعي الحاجات النفسية والاجتماعية، يتحوّل الحيّ إلى فضاء طارد، ويُصبح العمران أداة تكديس لا وسيلة حياة.

الانهيار يأتي من غياب القيم حين تتوفر الوسائل.

والعمارة، حين تُبنى بلا رؤية، تُصبح جزءًا من هذا الفراغ، لا علاجًا له.

بل إن العمارة المعاصرة، في كثير من نماذجها الإسكانية، لا تُبنى بلا رؤية فحسب، بل تُبنى برؤية تستهدف تدمير كرامة الإنسان، وتدفعه إلى العزلة، والعنف، وانعدام الإنتاجية، عبر بيئات مكتظة، مغلقة، تفتقر إلى الضوء، والمساحات، والمرافق التي تُنعش الروح وتُحفّز التفاعل. وقد أشار علماء النفس إلى أن البيئات التي تُقصي الإنسان من التفاعل، وتُحاصره في وحدات سكنية مغلقة، تُغذي السلوكيات الانكفائية، وتُضعف القدرة على بناء علاقات صحية.

فحين يُختزل السكن إلى مأوى جسدي، ويُستبعد منه ما يُراعي الحاجات النفسية والاجتماعية، يتحوّل الحيّ إلى فضاء طارد، ويُصبح العمران أداة تكديس لا وسيلة حياة.

فهل نعيد التفكير في ما نبنيه، أم نواصل التعايش مع فراغ لا يملؤه الإسمنت؟

الجمعة، أكتوبر 24، 2025

من الطماطم إلى الطوب: حين تُختزل العمارة في محاكاة شكلية


جمال الهمالي اللافي

مقدمة تأملية

في زمنٍ بات فيه الشكل يطغى على المعنى، تُستدعى شرائح الطماطم والدلاع كمصدر إلهام لتصاميم معمارية تُعرض بفخر على أنها "ابتكار". لكن العمارة ليست طبقًا يُزين بالمكونات العشوائية، بل هي خطاب مسؤول يُبنى على فهم عميق للبيئة والهوية والذاكرة الجمعية.

الصورة وتعليق نقدي

الصورة المرفقة تُجسد هذا التوتر بدقة: تشابه بصري بين شرائح الطماطم ومبنى حديث بتصميم منحني ومجزأ. وكأن الشكل وحده يكفي ليبرر الفكرة. هذا النوع من المحاكاة الشكلية لا يُعبّر عن وعي معماري، بل عن انحدار في سلم القيم، حين يُستبدل السياق الثقافي بالمطبخ، ويُستبدل الالتزام بالذوق العابر.

خاتمة تربط الفكرة بالواقع

العمارة ليست شطحة ولا ترفًا. إنها مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون ممارسة فنية. ومن يخلط بين الإبداع والهرطقة، عليه أن يعيد تعريف موقعه من الفكرة، لا أن يكتفي بتزيينها. إن ما يُروّج له اليوم في وسائل الإعلام العالمية من أفكار "متحررة" لا يُمثل الإبداع، بل يُمثل الغفلة. والرد القاسي أحيانًا لا يكون إلا محاولة لإيقاظ الغافل، لا لإهانته.

حين تُبنى المدن بلا ذاكرة: تأمل في المعاصرة والهوية العمرانية

مدينة القلعة بيفرن، من المدن القديمة التي هجرت وتركت لعوامل الزمن


جمال الهمالي اللافي

ينظر المعماريون في الغرب إلى حاضرهم فيرونه امتداداً عضوياً لماضٍ عمراني متجذر، تربطه سلسلة متصلة من الحلقات الحضارية، لا انقطاع فيها ولا قطيعة. كل طبقة عمرانية لديهم تنهل من سابقتها، وتضيف إليها دون أن تمحوها، فتتشكل المدن ككائن حيّ ينمو ويتطور دون أن يفقد ذاكرته.

أما نحن، ففي ظل ما يتعرض له العمران الليبي من خراب ممنهج، وما يُمحى يومياً من معالمنا التاريخية، نقف أمام سؤال مؤلم: كيف سيكون شكل العمارة في ليبيا بعد نصف قرن؟ وهل ستبقى لنا ذاكرة عمرانية نحتكم إليها، أم سنُسلّم مدننا لعشوائيات تُرسم اليوم بلا رؤية، ويُحتفى بها غداً بوصفها "عمارة محلية أصيلة"؟ أتخيل معماريّاً شاباً في ذلك المستقبل، يقف مفتخراً أمام هذه العشوائيات، ويُسميها امتداداً للهوية، بينما هي في حقيقتها انقطاعٌ عنها، وتشويهٌ لها.

في هذا السياق، يُطرح أحياناً سؤال من بعض المعماريين:

"لماذا ينبهر المعماري الليبي بالعمارة الحديثة في البلدان الأخرى، بينما يرفضها في بلاده بحجة الحفاظ على الهوية؟"

والجواب أن ما يُنظر إليه هناك ليس انبهاراً، بل إعجابٌ نابع من إدراكٍ واعٍ بأن تلك العمارة الحديثة نشأت من رؤية متكاملة، منسجمة مع قيم المجتمع، ومع البيئة والتقنيات والمواد المتاحة. أما ما يُفرض عليه في بلاده، فهو غالباً عمران بلا رؤية، بلا انسجام، وبلا احترام للذاكرة الجمعية. لهذا، فالإعجاب هناك لا يعني الرغبة في التقليد، بل هو دعوة لأن ننهج نحن أيضاً طريقاً خاصاً بنا، نبني فيه عمارة معاصرة تعبّر عن قيمنا، وتراعي معطياتنا البيئية والاقتصادية، وتستثمر ما لدينا من مواد وتقنيات، لا ما لدى غيرنا.

أما الانبهار، فهو حالة من فقدان البوصلة، يسعى فيها الفرد إلى التقليد الأعمى، ضارباً بعرض الحائط كل ما لديه من خصوصية، فلا يصل إلى شيء، ولا يبني شيئاً. فقط يعيش حالة تخبط دائم، ويُنتج عمراناً بلا روح.

ولعل ما يزيد الأمر تعقيداً هو أن التعليم المعماري نفسه، في كثير من الأحيان، لا يُدرّس كفعل ثقافي نقدي، بل كتمرين شكلي وتقني، مما يُخرج أجيالاً من المعماريين بلا حسّ تاريخي، ولا وعي سياقي، ولا قدرة على مساءلة ما يُطلب منهم إنجازه. حين يُدرّس الطالب كيف يرسم، لا كيف يفكر، فلا عجب أن يُنتج عمراناً بلا ذاكرة.

وبينما كانت مدن مثل برشلونة أو إسطنبول تعيد قراءة تراثها لتصوغ منه عمراناً معاصراً، كانت مدننا تُهدم بلا بديل، وتُبنى بلا ذاكرة، ويُحتفى فيها بالفراغ وكأنه إنجاز.

لهذا، فإن السؤال الحقيقي ليس عن ازدواجية المعايير، بل عن غياب الرؤية، وعن الحاجة إلى وعي نقدي يعيد للعمارة الليبية مكانتها كخطاب حضاري، لا كزينة شكلية أو تكرارٍ أجوف.

فهل نملك الشجاعة لنُعيد تعريف المعاصرة من داخلنا، لا من خلال مرآة الآخر؟

المسجد الليبي: من المركز إلى الهامش


  

جمال الهمالي اللافي

تمهيد

ليست المساجد مجرد مبانٍ لأداء عبادة مفروضة، بل هي تجسيد حي لروح الأمة الإسلامية، ومعمار يعكس موقع العقيدة الإسلامية في وجدان المسلمين وفي قلب المدينة. ومع تراجع هذه المكانة، تراجعت صورة المدينة الإسلامية ذاتها.

"المسجد ليس بناءً وظيفيًا فحسب، بل هو مرآة للوجدان الجمعي، ومحرابٌ للهوية."

المسجد في المخطط الإسلامي التقليدي

في التخطيط الإسلامي التقليدي، كان المسجد الجامع مركز المدينة، والمحراب هو نقطة الانطلاق في التشكيل العمراني. مآذنه كانت علامات حضرية تحدد الاتجاهات، وتربط الإنسان بالمكان والزمان. حوله تنشأ الأسواق، وتتموضع مؤسسات الدولة، ويُبنى الحي على أساس القيم الروحية التي يغذيها المسجد.

الاستعمار الإيطالي (1911–1943): التهميش المعماري المقصود

مع دخول المستعمر الإيطالي، تغيّرت أولويات التخطيط. أُقصي المسجد عن مركزية المدينة، لصالح الكنائس والمباني الإدارية التي احتلت مواقع استراتيجية، كما في ميدان الجزائر بطرابلس وكاتدرائية بنغازي. هذا التهميش لم يكن عشوائيًا، بل كان انعكاسًا لعقيدة المستعمر، التي أعادت تشكيل هوية المدينة على نحو يتعارض مع وجدان أهلها.

ما بعد الاستقلال (1951–الآن): غياب المسجد عن المشهد

رغم رحيل المستعمر، بقيت رؤيته حاضرة في التخطيط العمراني. ظهرت الأبراج والبنوك في قلب طرابلس، بينما حُشر المسجد في الزوايا المهملة. لم يعد يمثل معلمًا حضريًا، ولا يحظى باهتمام المصممين أو الحرفيين المهرة. وغابت الطرز المحلية لصالح أشكال دخيلة، تتراوح بين الطرز المستوردة، والإسراف الزخرفي، والابتذال، والحداثة الهلامية.

التحولات الاجتماعية والعمرانية: أثر التهميش على الوعي الجمعي

تراجع حضور المسجد يعكس تراجع حضور العقيدة في الحياة العامة. ومع طغيان القيم المادية، فقدت المدينة الإسلامية مركزها الروحي، وتحوّل التخطيط إلى فعل مادي مجرد، يفتقر إلى البعد القيمي الذي كان المسجد يجسده.

ومن منطلق الإيمان العميق بتأثير العمارة في تشكيل سلوك الإنسان، فإن تغييب المسجد عن قلب المدينة وعن نسيج الحي السكني لم يكن مجرد قرار تخطيطي، بل فعلٌ رمزيٌّ ترك أثره في النفوس. فكما تراجع حضور المسجد في المشهد العمراني، تراجعت معه مكانة العقيدة في وجدان الناس، وتبدلت أولوياتهم، حتى غدت المادة هي المرجع، لا الروح.

نحو استعادة المكانة

لا بد من إعادة الاعتبار للمسجد، ليس فقط في المخططات العمرانية، بل في وجدان الناس. وذلك عبر:

  • إعادة مركزية المسجد الجامع في تخطيط المدن والمناطق والمشاريع الإسكانية.
  • ربط مؤسسات الدولة والبلديات حضريًا بالمسجد.
  • تنظيم الأسواق والمرافق العامة حوله.
  • مراعاة التنوع البيئي والثقافي في التصميم.

التوصيات

من أجل استعادة المكانة المركزية للمسجد في تخطيط المدن الإسلامية المعاصرة، لا بد من فتح باب الحوار المعماري والتخطيطي عبر تنظيم ندوات ومؤتمرات متخصصة، تُعنى بمناقشة المحاور التالية:

  • إعادة التفكير في التخطيط الحضري للمدن من منظور يعيد للمسجد دوره المحوري في تشكيل الصورة العمرانية، لا بوصفه مرفقًا وظيفيًا فحسب، بل باعتباره نواة روحية وثقافية تنبع منها باقي مكونات المدينة.
  • صياغة معايير تصميم معماري للمساجد تستلهم الطرز المحلية وتراعي خصوصية كل منطقة من حيث التضاريس والمناخ والبيئة الثقافية، بما يضمن تنوعًا أصيلًا في أنماط المساجد، ويمنع الاستنساخ المعماري الذي يطمس الهوية.

الخميس، أكتوبر 23، 2025

تأملات معمارية

 مقدمة لسلسلة: تأملات معمارية

جمال الهمالي اللافي

ليس هذا النص والنصوص اللاحقة له مقالات تقنية، ولا مرافعات نظرية، ولا حتى محاولات لتأريخ تجربة شخصية. إنها تأملات مكتوبة من موقع الممارسة، ومن زاوية يقظة لا تهادن الواقع ولا تنفصل عنه.
في هذه السلسلة، لا يُعرض المعمار كحرفة أو مهنة، بل كمرآة للوعي، وكمجال تتقاطع فيه الذات مع الجماعة، والبيئة مع الفكرة، والزمن مع المسؤولية.

ما يُكتب هنا ليس بحثًا عن اعتراف، ولا ردًا على تهميش، بل كشفٌ لما يُرى ولا يُقال، وتوثيقٌ لما يُعاش ولا يُؤرشف. كل نص في هذه السلسلة هو محاولة لفهم ما تبقى من المعمار حين يُنزَع عنه الاستعراض، ويُعاد إليه صدقه الأول: أن يكون فعلًا إنسانيًا مواجهًا، يصدر عن وعي لا عن رد فعل، وعن مسؤولية لا عن انفعال.

من الجماعة إلى الذات: كشف المعمار في زمن الاستحواذ

مدخل تأملي

لم تكن تجربتي المعمارية مجرد مسار مهني، بل كانت فعلًا ثقافيًا مستمرًا، بدأ من مقاعد الدراسة، وامتد عبر الوظيفة الحكومية، ثم ممارسة المهنة بحرية. كنت حريصًا على أن أكون فاعلًا، لا مجرد مشارك، في كل ما من شأنه تنشيط الحركة المعمارية، سواء في أوساط الطلاب أو المهنيين.

بين النجاح والتشويش

نجحت العديد من المبادرات التي اقترحتها، رغم ما اكتنف بعضها من ممارسات محبطة من أطراف متعددة. لم تكن هذه الممارسات حالات فردية، بل جزءًا من ثقافة سائدة، تتقن الاستحواذ ثم الإقصاء، وتُفرغ الفعل من أثره، حتى حين يبدو ناجحًا في ظاهره.

التحول نحو الفرد

في السنوات الخمس الأخيرة، وجدت نفسي أفضّل العمل الفردي، رغم اعتيادي الطويل على العمل الجماعي. توقعت أن ألامس القصور، لكن ما حدث كان مفاجئًا: تقدم غير مسبوق في فهمي لطبيعتي، وفي إنتاجي المعماري والفكري، لم أكن لأبلغه لو واصلت العمل ضمن الجماعة.

عزلة مفروضة لا مختارة

العزلة لم تكن خيارًا، بل واقعًا فرضه تردي البيئة المهنية، حيث يسعى الكثيرون للظفر بجهود الآخرين، دون أي التزام أخلاقي أو مهني. هذه الثقافة تستنزف الزمن والعمر والصحة، وتحوّل الفعل المعماري إلى سلسلة من الفعاليات الهامسية، التي تنتهي بتفرق الجميع دون أثر ملموس.

كشف المعمار

ما كشفه العمل الفردي لم يكن فقط عن الذات، بل عن طبيعة الحقل المعماري نفسه، حين يُمارس خارج منطق الاستعراض أو التواطؤ. كشفٌ لا يطلب التصفيق، بل يطلب الصدق، ويعيد تعريف الفعل المعماري كمسؤولية لا كمنصة.

الجمعة، أكتوبر 17، 2025

الهُوية المعمارية: من حضور المادة إلى حضور المعنى

العمارة ليست استجابة تقنية، بل فعلٌ ثقافيٌ يُعبّر عن الذات الجماعية

تفصيل داخلي يُجسّد حضور الهُوية في أبسط عناصرها: حديدٌ أخضر مزخرف، أصصٌ فخارية، ونظرةٌ معمارية لا تُستعرض بل تُفصح عن نفسها بهدوء.

جمال الهمالي اللافي

مواد البناء وتقنيات الإنشاء تتغير وتتطور أو تبقى على حالها لا فرق. أما الهُوية المعمارية التي تعكس ثقافة وخصوصية أمة وشعب ومنطقة فراسخة في البنيان، لا يعيبها تجدد مواد البناء أو اختلاف طرق الإنشاء. في اعتقادي وجب فهم هذه النقطة والوعي بها وعياً متجذراً في العقل والوجدان.

هذا الوعي ليس ترفًا فكريًا، بل شرطٌ أساسيٌ لفهم العمارة بوصفها خطابًا ثقافيًا لا مجرد ممارسة تقنية. فحين تُختزل العمارة في أدواتها، تُفقد قدرتها على التعبير، وتتحول إلى قشرة وظيفية بلا روح. أما حين تُستوعب الهُوية بوصفها جوهرًا متجذرًا، فإن كل مادة، مهما كانت حداثتها، تصبح قادرة على حمل المعنى، إن وُظّفت بصدق.

الهُوية المعمارية لا تُقاس بنوع الطوب أو شكل النوافذ، بل تُقاس بقدرتها على استدعاء الذاكرة، على محاورة المكان، على احترام الإنسان الذي يسكنها. إنها ليست استنساخًا للماضي، ولا انبهارًا بالمستقبل، بل موقفٌ نقديٌ من الحاضر، يُوازن بين الوفاء للجذور والانفتاح على العصر.

في زمنٍ تتسارع فيه التقنيات وتُستورد فيه النماذج، لا يكون التمسك بالهُوية انغلاقًا، بل فعلًا واعيًا. إنه موقفٌ فاعل، لا ردّ فعل. ليس رفضًا للآخر، بل تأكيدًا للذات. اختيارٌ نابع من إدراك عميق لما يُشبهنا، وما يُعبّر عنا، لا انجرارًا وراء أنماط مستوردة تُفرغ البنيان من روحه.

الهُوية المعمارية لا تُدافع عن نفسها، بل تُعلن حضورها. لا تُقاوم الذوبان، بل تُفصح عن خصوصيتها بثقة، وتُعيد تشكيل السياق بما يليق بها. إنها ليست في موقع ضعف، بل في موقع تحديد المعايير، حين يُحسن المعماري الإصغاء للذاكرة، والبيئة، والناس.

المواد تتغير، والتقنيات تتطور، لكن هذه كلها أدوات في يد المعماري، وليست محددات للهُوية. يمكن للخرسانة أن تحمل روح الطين، ويمكن للزجاج أن يعكس دفء الحجر، إن وُظّفت بوعي سياقي. فالهُوية لا تُقاس بنوع المادة، بل بقدرتها على التعبير عن الإنسان والمكان والزمان.

الهُوية لا تعني التكرار الذي يُفرغ العمارة من معناها، بل تعني التمايز. أن يكون للبنيان لهجة، وللجدار ذاكرة، وللنافذة نظرة تُشبه أهل المكان. إنها ليست استنساخًا للماضي، ولا انبهارًا بالمستقبل، بل موقفٌ نقديٌ من الحاضر، يُعيد تعريف العلاقة بين الشكل والمعنى.

إن فهم هذه النقطة لا يقتصر على المعماري وحده، بل هو مسؤولية جماعية: من صانع القرار إلى المواطن، من الأكاديمي إلى الحرفي. لأن العمارة، في جوهرها، مرآةٌ للوعي الجمعي، لا مجرد منتج فردي.

خاتمة

فليكن وعينا بالهُوية المعمارية متجذرًا، لا عاطفيًا. متزنًا، لا انفعاليًا. وليكن البناء فعلًا ثقافيًا بامتياز، لا مجرد استجابة لحاجة وظيفية. فالهُوية لا تُستحضر من خارج السياق، بل تُولد من داخله، حين يُصغي المعماري للناس والمكان والزمن،  لا للموضة أو السوق.


الخميس، أكتوبر 16، 2025

العمارة العصبية: حين يتكلم الفراغ بلغة الدماغ

 قراءة في البرمجة المعمارية العصبية وامكانيات تطبيقاتها الليبية


 جمال الهمالي اللافي

الافتتاحية: من منشور إلى فضول إلى بحث

في صباح الأمس، شارك د. إبراهيم الأصيفر على صفحته منشورًا لافتًا حول ما يُعرف بـ"العمارة العصبية" (Neuroarchitecture)، حيث كتب:

"حين ندخل مكانًا ونشعر بالراحة أو التوتر، السعادة أو الانزعاج، دون سبب واضح، فذلك ليس صدفة.
الأماكن تتحدث مع أدمغتنا بلغة لا نسمعها، لكننا نحسّها.
هذه هي لغة العمارة العصبية، حيث التصميم يتحول من شكل إلى شعور وإحساس، ومن ثم حالة نفسية."

وقد دفعني هذا الطرح إلى إعادة التفكير في العلاقة بين التصميم المعماري والمستعمل، لا بوصفها علاقة وظيفية أو جمالية فقط، بل علاقة عصبية عميقة. شاركت المنشور على صفحتي، ثم تواصلت مع المساعد الذكي "كوبيلوت" لاستكشاف هذا المجال الذي يربط بين البرمجة المعمارية وآليات عمل الدماغ.

العمارة العصبية: من علم الأعصاب إلى التصميم

العمارة العصبية هي تخصص بيني يجمع بين علم الأعصاب والعمارة، ويهدف إلى فهم كيف تؤثر البيئة المبنية على الدماغ البشري من حيث:

  • الانفعالات النفسية: مثل الراحة، التوتر، الطمأنينة، الانزعاج.
  • الوظائف الإدراكية: التركيز، الانتباه، الذاكرة.
  • الاستجابات الفسيولوجية: مثل معدل ضربات القلب، التنفس، إفراز الكورتيزول.

وفق دراسة منشورة في مجلة الفنون والعلوم التطبيقية (2024)، فإن الفراغات المعمارية تؤثر على الإنسان منذ اللحظة الأولى للدخول، عبر عمليات إدراكية وفسيولوجية لا شعورية، مما يجعل التصميم الداخلي أداة عصبية تؤثر على الصحة النفسية والرفاهية.

أمثلة معمارية تنطبق عليها المفاهيم العصبية

  • مركز سالك للأبحاث (Salk Institute) في كاليفورنيا: تصميمه يخلق شعورًا بالانفتاح والسكينة، ويُستخدم كمثال في دراسات العمارة العصبية.
  • مستشفى ماجيز (Maggie’s Centres) في بريطانيا: تعتمد على تصميمات تقلل التوتر وتدعم التعافي النفسي.
  • مكتبة بيركلي العامة: توظيف الضوء الطبيعي والمواد العضوية لتحفيز التركيز والراحة.

هذه الأمثلة تُظهر كيف يمكن للعمارة أن تكون علاجًا، لا مجرد مأوى.

 

نحو تطبيق العمارة العصبية في السياق الليبي

في ليبيا، حيث تتشابك العمارة مع الهوية والذاكرة ومواجهة الاستلاب الحضاري، يمكن للعمارة العصبية أن تكون أداة لإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والمكان. كيف؟

  • إعادة التفكير في البرمجة المعمارية: بحيث لا تُبنى الفراغات على الوظيفة فقط، بل على الاستجابة العصبية للمستعمل.
  • توظيف المواد المحلية: التي ترتبط بالذاكرة الجمعية وتخلق شعورًا بالانتماء.
  • تصميم فراغات عامة: تراعي الإيقاع العصبي للإنسان الليبي، من حيث الضوء، الصوت، التوزيع، والرمزية.

يمكن أن تكون هذه المقاربة مدخلًا لنقد المشاريع المعمارية التي فشلت في احتضان الإنسان، رغم ضخامتها أو حداثتها الشكلية.

خاتمة

العمارة ليست صامتة. إنها تتكلم، تشتكي، تفرح، وتغضب. وما العمارة العصبية إلا محاولة لفهم هذه اللغة الخفية التي يتحدث بها المكان إلى الدماغ. في السياق الليبي، حيث العمارة ليست مجرد بناء بل خطاب، فإن فهم هذه اللغة قد يكون خطوة نحو تصميم أكثر صدقًا، أكثر إنسانية، وأكثر قدرة على احتضان الذات الجمعية.

الأربعاء، أكتوبر 15، 2025

الفن التشكيلي بين التبرير والتأسيس: حوار في مرآة العقيدة

من أعمال الفنان التشكيلي: د. صلاح غيث

جمال الهمالي اللافي

    في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التعبير البصري، وتتشابك فيه حدود الجمال مع حدود الشرع، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للفن التشكيلي أن يكون شاهدًا على التوحيد، لا مجرد انعكاس للذوق؟


    هذا النص لا يأتي ردًا على شخص، بل تفكيكًا لخطاب بات يتكرر في أوساط الفنانين التشكيليين: خطاب يبرر رسم ذوات الأرواح باعتباره "تعبيرًا عن الضعف الإنساني أمام عظمة الخلق"، ويعتبر أن "عجز الفنان عن بث الروح هو في ذاته نوع من الشهادة على قدرة الخالق".


    لكن هذا التبرير، مهما بدا متماسكًا ظاهريًا، يتجاهل أصل المسألة: أن الشرع لم يحرّم التصوير لأنه ينجح في المضاهاة فعليًا، بل لأنه يفتح باب المضاهاة رمزيًا، ويُغري النفس بما لا تملك.

    من هنا، يأتي هذا الحوار بين "المفكر" و"الحكيم" لا ليجادل، بل ليؤسس. لا ليُقصي الفن، بل ليعيد له رسالته ضمن حدود العقيدة.

المفكر:
في أحد المعارض، سمعتُ تعليقًا لفنان تشكيلي يقول إن رسم البورتريه لا يضاهي خلق الله، بل يشهد على عظمته من خلال عجز الفنان عن بث الروح. بدا لي الطرح أنيقًا، لكن شيئًا ما في منطقه ظل معلقًا.

الحكيم:
لأنه يخلط بين العجز والتقوى. العجز عن بث الروح ليس فضيلة، بل حدّ فاصل وضعه الخالق. والشرع لم يحرّم التصوير لأنه ينجح في المضاهاة، بل لأنه يقترب منها، ويُغري بها، ويفتح بابًا لا يُغلق بسهولة.

المفكر:
لكن أليس في هذا العجز نوع من التذكير بحدود الإنسان؟ أليس في اللوحة التي لا تنبض بالحياة اعتراف ضمني بأن الحياة لا تُمنح إلا من الله؟

الحكيم:
الاعتراف لا يُعفي من التعدي. آدم عليه السلام لم يُنكر أمر الله، لكنه اقترب من الشجرة. والفنان حين يقترب من ذوات الأرواح، حتى لو لم يضف لها روحًا، فقد دخل منطقة محرّمة. لا لأن نيته فاسدة، بل لأن الفعل في ذاته متجاوز.

المفكر:
إذن، هل ترى أن الفن التشكيلي يجب أن يُعيد تعريف ذاته ضمن حدود الشرع، لا ضمن حدود الذوق أو التعبير؟

الحكيم:
بل يجب عليه ذلك. الفن ليس حرًا حين يتجاوز الشرع، بل منفلت. والفنان المسلم لا يُطلب منه أن يُقلّد الغرب، بل أن يُعيد اكتشاف الجمال ضمن منظومة التوحيد. الحضارة الإسلامية فعلت ذلك، ونجحت دون أن ترسم وجهًا أو تجسّد جسدًا.

المفكر:
لكن اليوم، لا يجتمع الفنانون إلا على المجاملة، ولا يملكون ميثاقًا يُنظّمهم. من يملك مشروعًا لا يجد من يؤازره، ومن يلتزم يُتهم بالجمود.

الحكيم:
وهنا يأتي دور الكتابة النقدية. أن تُعيد ترتيب المفاهيم، وتُحصّن الوعي، وتُمهّد لتأسيس نواة صلبة. لا نحتاج إلى إجماع، بل إلى وضوح. والمقالة ليست ترفًا، بل واجب. أن نكتب لا لنُعجب، بل لنُوقظ.

المفكر:
هل ترى أن هذه النواة يمكن أن تُبنى من داخل التجربة الليبية، دون أن تذوب في نماذج مستوردة؟

الحكيم:
بل يجب أن تُبنى منها، وتُمحّص غيرها. فالدول الإسلامية اليوم، شكل بلا مضمون. وبعضها لا يملك من الإسلام إلا رسمه. ونحن لا نبحث عن رسم، بل عن روح. عن فن يُعبّر دون أن يُضاهي، ويُجسّد المعنى دون أن يُجسّد الجسد.

المفكر:
إذن، فلنبدأ من هنا. من هذا الحوار. ليكن نقطة ضوء لا تُجامل، بل تُنير. وليكن الفن التشكيلي شاهدًا على التوحيد، لا على التبرير.

خاتمة: الفن بين التوحيد والمراوغة

    ما دار في هذا الحوار ليس جدلًا حول تقنية الرسم، بل مساءلة عميقة لوظيفة الفن في ظل العقيدة. لم يكن السؤال عن قدرة الفنان على التعبير، بل عن حدود هذا التعبير حين يقترب من منطقة الخلق.

    الطرح الذي يرى في العجز عن بث الروح "قيمة جمالية" يتجاهل أن الشرع لا يُحاسب على النية وحدها، بل على الفعل ومآله. وأن الاقتراب من المحظور، حتى لو كان بنية التأمل، يظل تجاوزًا لا يُغتفر بالتبرير.

    في خلفية هذا الحوار، كانت هناك إشارات لم تُذكر صراحة:

  • أن المجاملة بين الفنانين تُعطّل التأسيس، وتُبقي الالتزام في دائرة الفرد لا الجماعة.
  • أن غياب الميثاق الإسلامي في الوسط التشكيلي الليبي ليس نتيجة نقص في الوعي، بل نتيجة تواطؤ ناعم مع خطاب الحداثة الذي يُجمّل الانحراف.
  • أن الفن الإسلامي ليس بحاجة إلى إعادة اختراع، بل إلى استعادة واعية، تُعيد تفعيل البدائل التي أثبتت عبر قرون أنها قادرة على التعبير دون أن تُضاهي.
  • أن الكتابة النقدية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة شرعية، حين يصبح الفن وسيلة لتزييف العقيدة تحت غطاء الجمال.

    هذا النص لا يدعو إلى إقصاء الفن، بل إلى تحريره من وهم المضاهاة، ومن غواية التقليد. ولا يطلب من الفنان المسلم أن يُنكر ذاته، بل أن يُعيد تعريفها ضمن منظومة التوحيد، لا ضمن ذائقة السوق أو استعراض المعارض.

    إن نقطة البدء ليست في التنظيم، بل في الوضوح. ومن يملك مشروعًا، عليه أن يكتبه، لا أن ينتظر الإجماع. فالنواة الصلبة لا تُبنى من الحشود، بل من الصدق، ومن الجرأة على المواجهة.

الأحد، أكتوبر 12، 2025

الحرف الفنية كمدخل لإنعاش المدن الخاملة: تأمل في تجربة مدينة درج

 



جمال الهمالي اللافي

في ليبيا، حيث تتجاور المدن النشطة مع القرى الخاملة، تبرز الحرف التقليدية كإمكانات كامنة لم تُستثمر بعد. ليست الحرف مجرد تراث يُحفظ، بل أدوات إنتاج يمكن أن تُفعّل لتعيد تشكيل الواقع الاقتصادي والاجتماعي في المدن المنسية. ليس تعليم هذه الحرف في القرى الخاملة ترفًا، بل ضرورة تنموية تفتح أبواب العمل، وتمنح السكان معنى جديدًا للوقت والهوية.

تجربة درج: مشروع لم يُكتب له الاكتمال

منذ عقود، عُرض على مكتبنا مشروع تصميم منارة إسلامية في مدينة درج، قدمه البخاري المدني، أمين اللجنة الشعبية لشعبية نالوت آنذاك. لم يكن المشروع دينيًا صرفًا، بل كان يحمل رؤية تنموية واضحة في ثوب ديني. قال البخاري:

"مدينتي لا يتوفر فيها أي نشاط اقتصادي لأهلها، رغم شهرتهم بالصناعات الحرفية من سعف النخيل، ولكنها مدينة منعزلة عن حركة الزوار. لهذا أريد تنفيذ هذه المنارة لتستقطب الطلاب من المدن المجاورة، مما سيفتح أبواب العمل لسكان هذه القرية."

كانت الفكرة بسيطة وعميقة: تحويل المعلم الديني إلى نقطة جذب، تُعيد وصل المدينة بالعالم، وتُنعش الحرف التقليدية عبر الطلب المتزايد على الخدمات والسكن والمنتجات المحلية. لكن المشروع توقف عند لحظة التنفيذ، بعد تنحية البخاري واستبداله بغيره. هكذا، أُجهضت الفكرة لا لضعفها، بل لتقلبات السياسة وسلوكيات بعض القيادات التي لا تحتمل أن ترى مدنًا تنتعش خارج دوائر نفوذها.

دعوة للمسؤولية المحلية

هذه التجربة تدعو إلى إعادة تعريف دور القيادات المحلية. لا يكفي انتظار قرارات مركزية، بل يجب أن تتحمل كل مدينة وقرية مسؤولية الارتقاء بالحرف فيها، دعمًا وتسويقًا وتنظيمًا. فالحرف ليست هامشًا، بل قلبٌ نابضٌ إذا أُحسن توظيفه. ولا ينبغي أن تُربط المشاريع التنموية بمزاج المناصب، بل تُصان بمنظومة مؤسسية تضمن استمراريتها واستقلالها.

ما بين الحرف والسياسة: مفارقة ليبية

في ليبيا، كثيرًا ما تُجهض المبادرات لا لضعفها، بل لأن نجاحها يُربك من اعتادوا على مشهد الخمول. ثمة سلوك سياسي مريض يرى في انتعاش المدن تهديدًا، لا فرصة. وهذا ما يجب أن يُقاوَم، لا فقط بالنقد، بل بالفعل المحلي المستقل، الذي يرى في الحرف وسيلة للنجاة، لا مجرد زينة تراثية. 

الصورة المرفقة

منذ العام 1998، ظل مجسم المنارة الإسلامية لمدينة درج يرافق مسيرتي المعمارية. ولا يزال يؤنس وحدتي في مكتبي. لم يكن مجرد تمثيل معماري، بل شاهدًا على مشروع لم يُنجز، وعلى إيمانٍ لم يخفت. دفعته من مالي الخاص، بأضعاف ما قبضت من أتعاب التصميم، لأنه حمل وعدًا لمدينةٍ تستحق أن تُرى... لا أن تُنسى.


شارك في تصميم المنارة:

  • الخرائط التنفيذية: المعماري/ عزت خيري
  • الخرائط الإنشائية: المهندس/ طارق الراجل
  • الخرائط الكهربائية: المهندس/ عادل ابوقرين
  • الخرائط الصحية: المهندس/ وجيه باشا إمام (رحمه الله وغفر له(

 

نحو بيئة عمرانية متوازنة في المدن الليبية

رؤية نقدية لتفكيك المركزية وتفعيل المجتمعات المحلية في تشكيل المشهد العمراني الليبي


جمال الهمالي اللافي

مدخل

ليست المدن الليبية في حاجة إلى المزيد من المخططات المركزية، بل إلى إعادة التفكير في علاقتها بسكانها. فالبيئة العمرانية، بما تحمله من تفاصيل مادية ورمزية، لا تُبنى فقط بالإسمنت والحجر، بل بالوعي الذي يربط الإنسان بالمكان. في ظل غياب الرؤية المحلية، وتراكم القرارات الفوقية، يتشكل مشهد حضري لا يُعبّر عن الناس، ولا يستجيب لاحتياجاتهم، ولا يحترم خصوصياتهم الثقافية. ما يُفتقد ليس التصميم، بل الرؤية. وما يُشوَّه ليس الواجهة، بل العلاقة بين الإنسان والمحيط.

أين الخلل؟

  • مركزية التخطيط التي تُقصي المجتمعات المحلية.
  • غياب الهوية البصرية المشتركة بين المدن.
  • تدهور الفراغات العامة وتحولها إلى فضاءات مهملة أو تجارية عشوائية.
  • ضعف المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار العمراني.

هذا المقال لا يقدّم حلولًا جاهزة، بل يطرح رؤية تستوعب الواقع، وتعيد الاعتبار للمجتمعات المحلية كفاعل حضري، وتفكك المركزية الإدارية التي عطّلت قدرة المدن على التنفس.

أولًا: المدينة ليست منتجًا إداريًا

المدينة ليست مشروعًا هندسيًا يُدار من مكتب مركزي، بل كيان حيّ يتشكّل من تفاعل الناس مع المكان. حين يُختزل التخطيط في قرارات فوقية، تُفقد المدينة قدرتها على التعبير عن ذاتها، وتتحول إلى واجهة مشوّهة، لا تنتمي لمن يسكنها.

ثانيًا: المجتمعات المحلية كفاعل حضري

تحسين البيئة العمرانية لا يبدأ من المخطط، بل من الوعي المحلي. حين يُمنح السكان حق التفكير في محيطهم، تتغير طبيعة التدخلات العمرانية. المجالس المحلية، والمكاتب الهندسية، والمؤسسات التعليمية، يمكن أن تشكّل نواة فعل حضري متكامل، إذا ما أُعيد لها الاعتبار، وأُزيلت عنها القيود الإدارية.

ثالثًا: البيئة العمرانية كمرآة للهوية

المدن الليبية، في تنوعها، تحمل ملامح ثقافية غنية، تتراوح بين الطابع الإسلامي، والمتوسطي، والصحراوي، والجبلي. لكن هذه الخصوصيات غالبًا ما تُهمَل في التصاميم المعمارية، لصالح نماذج مستوردة، لا تنتمي للمكان.

في هذا السياق، لا يكون التحسين الحضري مشروعًا رسميًا، بل فعلًا مجتمعيًا، يبدأ من الممكن، لا من المثالي. وهذه بعض المقترحات العملية، القابلة للتطبيق حتى في غياب الدعم المؤسسي:

1.      تفعيل المبادرات المجتمعية الصغيرة

  • فرق تطوعية لتنظيف وصيانة الفراغات العامة.
  • أيام عمل جماعي تُعيد الاعتبار للمكان.
  • إشراك المدارس والمساجد كمراكز تنسيق محلية.

2.      تحسين الواجهة البصرية بوسائل بسيطة

  • توحيد الألوان بما يعكس رمزية ثقافية أو يبرز مادة البناء المحلية.
  • إزالة الإعلانات العشوائية، واستبدالها بلوحات توجيهية مصممة محليًا.
  • استخدام النباتات المحلية لتأطير الفراغات.

3.      إعادة تأثيث الفراغات العامة بمواد محلية

  • تحويل المساحات المهملة إلى ساحات تفاعل.
  • تثبيت عناصر تُشير إلى هوية المكان.
  • استخدام مواد محلية في التأثيث الحضري.

4.      تنظيم النشاط التجاري بشكل تلقائي

  • توحيد واجهات العرض وتقنين استخدام الأرصفة.
  • تخصيص أيام لنشاطات شعبية.
  • دعم الحرفيين المحليين في عرض منتجاتهم.

5.      حماية المعالم التاريخية والطبيعية

  • توثيق رقمي للمعالم.
  • لافتات تعريفية تُبرز القيمة.
  • التوعية المجتمعية كوسيلة حماية.

6.      بناء شبكات تنسيق غير رسمية

  • ربط الحيّ بمكاتب هندسية مستقلة.
  • التعاون مع جمعيات ثقافية وبيئية.
  • نشر التجارب عبر وسائل التواصل.

هذه المقترحات لا تدّعي الكمال، لكنها تُعيد للحيّ قدرته على التنفس، وتحوّل الفعل العمراني من انتظار إلى مبادرة.

رابعًا: المقترح التنشيطي للمجمعات المحلية

ضمن هذا التصور، يمكن اقتراح آلية تنشيطية للمجمعات المحلية، لا تُقدَّم كمشروع مركزي، بل كمبادرة داخلية.
تقوم الفكرة على تخصيص مواقع محددة في كل منطقة، تُعاد دراستها حضريًا، وتُطوَّر من خلال مساهمة المكاتب الهندسية المحلية، بالتنسيق مع المجالس البلدية، وبدعم من المؤسسات التعليمية والمجتمعية.
لا تُطرح هذه المبادرة كمسابقة، بل كفعل تحفيزي، يُمنح فيه الحيّ فرصة لإعادة تشكيل صورته، وفق اشتراطات بسيطة، قابلة للتنفيذ، وتُقيَّم بناءً على أثرها الفعلي، لا على شكلها الخارجي.

خامسًا: نحو نموذج حضري غير مركزي

ما يُقترح هنا ليس بديلاً عن التخطيط الرسمي، بل مكمل له، يُعيد التوازن بين المركز والمحيط. المدن الليبية لا تحتاج إلى المزيد من المشاريع الكبرى، بل إلى نماذج صغيرة، متكاملة، تُبنى من الداخل، وتُدار من قبل من يعرفها.

الخاتمة

تحسين البيئة العمرانية ليس مهمة هندسية فقط، بل مسؤولية ثقافية واجتماعية. والمجتمعات المحلية، إن مُنحت المساحة، قادرة على صياغة مدنها من جديد، دون حاجة إلى مركز يُملي، أو جهة تُصنّف.
ما يُطرح هنا ليس وصفة جاهزة، بل دعوة للتفكير في المدينة ككائن حيّ، يتشكل من الوعي، ويتنفس حين يُحترم، ويختنق حين يُهمَل.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...