أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، أكتوبر 26، 2016

في غياب مشروع الحداثة


 
كنيسة رونشامب بفرنسا، من أعمال المعماري لوكوربوزييه، واحدة من مشاريع الحداثة في القرن 20

جمال اللافي


أود اليوم التركيز على نقطة مهمة أو الإشكالية الأهم التي تحدد لنا الفيصل بين الاتجاه بالعمارة نحو الحداثة الغربية ومواكبة كل إرهاصاتها أولا بأول دون الشعور بالحرج أو تأنيب الضمير أو المساءلة التاريخية. أو الاحتفاظ بماء الوجه والاكتفاء بتأصيل عمارتنا المحلية شكلا ومضمونا ومواد بناء وطرق إنشاء.

على مستوى التعليم المعماري، ترتكز الدراسة على تجاهل التطرق للقيم الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية ومبرراتها التي بنيت عليها مدارس عمارة الحداثة الغربية منذ بروزها كمشاريع معمارية في أواخر القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. والاكتفاء بالمرور العابر عليها كأشكال هندسية ملفتة للنظر بموادها الحديثة والمتنوعة، المصنعة وفق تقنيات عالية الجودة وبأيدي فنية ماهرة. وتشجيع الطالب على الاتجاه إليها بكل جوارحه، دون أن يسأل نفسه لماذا وكيف؟

على المستوى الفكري، لا رؤية معمارية ليبية معاصرة تواكب نظيراتها في الغرب. ولا عمل جماعي يسعى لتحقيق منجز يحمل قيمة معمارية تعبر عن روح العصر. فقط هي حالة تماهي فردية مع الآخر يعايشها كل معماري منفصلا عن أقرانه وانبهار يسد مسالك العقل عن التفكير السليم والتقييم الصحيح لما قد يتصادم مع قيمنا أو ظروف بيئتنا المناخية والاقتصادية أو يتفق معها.

على مستوى ممارسة المهنة، نرى أن كل مدرسة معمارية غربية فكرية يصحبها إلى جانب الشكل المعماري تقنيات إنشاء ومواد بناء جديدة تعبر عنها أصدق تعبير. في حين أن الحالة الليبية لا زالت تعتمد على مادة الخرسانة المسلحة بتقنية الهيكل الإنشائي التي تجاوزتها أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وانطلقت مع قرن جديد بمواد أخرى جديدة وطرق إنشاء أكثر تعقيدا. كما لا تزال الحالة الليبية تعيش فقرا شديدا في التقنية وفي مواد البناء والتشطيب وفي العمالة الفنية المصاحبة لها، مما يعيق أي منجز معاصر عن التعبير عن حالته كما هي عند نظيراتها في الغرب.

الحالة المعمارية الليبية، هي حالة تخبط عشوائي حطم الموجود. ولم يطرح أي بدائل تعبر عن العصر الذي تعيشه. ومع ذلك يتباهي فيها المعماري بمخرجاته التي تجعل اللبيب حيران من مشاهد البؤس والتنافر الحاد التي تعم مخططات مدننا بمبانيها التي تنسب نفسها لمشروع الحداثة، وهو منها براء.


من الممكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه عندما يقتنع المعماري الليبي بأن هذه مسؤوليته الوطنية والتاريخية، فلا يرمي بتقصيره على المواطن أو أي جهة أخرى مسؤولة كانت أو غير مسؤولة.

الاثنين، أكتوبر 17، 2016

منظومة القيم


مدخل سوق الظلام بمدينة بنغازي

جمال اللافي


       قَيِّم، في معجم المعاني الجامع هي، صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من قامَ / قامَ إلى / قامَ بـ / قامَ على / قامَ لـ . وهي تعني السيِّدُ وسائس الأمر وقيِّمُ القوم، الذي يقوم بشأنهم ويَسُوس أَمرَهم. وهي جمع لكلمة قيمة وقائم وقائمة.


لكل ثقافة قيمها التي تستند عليها نظم وقوانين وضوابط تحكم العلاقات والمعاملات والتعاملات بين أفراد المجتمع الواحد أو الأمة الواحدة. كما تسهم بدورها في التأسيس لهوية محلية وقومية ذات خصوصية متفردة تميزها عن المجتمعات الأخرى.          

دائما ما يتم الحديث عن مجموعة من القيم وليس قيمة واحدة فقط، لأنه لا يستقيم مجتمع بدون منظومة من القيم التي تتناول كل مناحي وتفاصيل حياته، كبيرها وصغيرها، حاضرها ومستقبلها، يجتمع حولها وتوحد صفوفه وكلمته تحت راية واحدة تعبر عن تلك القيم وتحميها من أي تهديد خارجي، سواء كان ثقافيا أو عسكريا. وفي غالب الأحيان تشكل منظومة هذه القيم مسألة حياة أو موت مجتمع، تستدعي منه التضحية بالغالي والنفيس لأجل الحفاظ عليها وحمايتها من أي تدنيس. ولهذا يحرص العدو أولا ودائما على ضرب منظومة القيم حتى يسهل عليه السيطرة على أي مجتمع يدين بها وكسر الحاجز النفسي الذي يقف سدا منيعا أمام أطماعه. مستخدما في ذلك عدة وسائل وأدوات وشخوص.   

ولكل قيم مرجعية تنطلق منها، مردها إلى عقيدة سماوية أو قوانين وضعية، تتبناها مجتمعات مختلفة وتطبقها على قدر فهمها للنصوص التي تشرح القيمة وأبعادها ومنطلقاتها وأهدافها وغاياتها المادية والمعنوية والروحية. وفي أغلب المجتمعات الإسلامية وخصوصا في عهودها الأولى تستند فيها مجموعة  القيم  في مرجعيتها إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.  


ودائما ما يكون لهذه القيم انعكاسات شتى تظهر على سلوكيات وتعاملات الناس، مثلما تظهر في فنونهم وأدابهم وعاداتهم وتقاليدهم. وتتنوع بتنوع المعطيات البيئية في كل مجتمع، لتشكل خصوصية متفردة تتفق أو تختلف أو تتباين بين مجتمع وآخر، بما في ذلك المجتمعات التي تتفق على نفس القيم وتتباها كمنهج للحياة.  

العمارة كمنجز مادي بشري، هي واحدة من انعكاسات أو تطبيقات هذه القيم على المستويين الفكري والمادي. ولكن هناك قيم عامة مستمدة من عقيدة وأعراف المجتمع. وهناك قيم خاصة تتعلق بالمنشأ المعماري الذي يساعد على فهمه وقراءته بسهولة ويسر، بحيث يمكن التمييز بين استعمال وآخر. بين المسجد والبيت أو المدرسة والمصنع والمستشفى، مثلما نستطيع تمييزها من حيث الطرز المعمارية عن الثقافات الأخرى المختلفة والمتباينة والمتفقة في المنطلقات والأهداف والغايات. فالعمارة الإسلامية تشكل إطارا عامة لمجموعة من العمائر المحلية المتباينة بين بيئة إسلامية وأخرى، تخضع في تشكيلها لعدة معطيات بيئية واجتماعية وثقافية واقتصادية وفي بعض الأحيان المتغيرات السياسية يكون لها دور كبير، لتصنع هذا التمايز والتنوع داخل ذلك الإطار العام.  

ولا يمكن للعمارة بأي حال من الأحوال الانطلاق في تشكيلها من عدم. بل هي تتشكل وفق قيم مجتمعية، تستقل أو تتبع أو تخضع لمجموعة من القيم الأصيلة أو الدخيلة، التي ترتقي أو تنحدر على قدر وعي المجتمع وإداركه لأهمية دور العمارة في تشكيل أو إعادة صياغة مفاهيمه عن الحياة وعما يريد أن يحققه أو لا يريده.   

ومثلما تكون العمارة في تشكيل صورتها النهائية نتاجا لمفاهيم وقيم بشرية. فهي تتحول بعد تموضعها في مكانها وعبر فترة زمنية ليست ببعيدة إلى مؤثر قوي في تغيير سلوكيات المجتمع ومنظومة قيمه التي كان يعتنقها إيجابا أو سلبا، تبعا لكفاءة المنجز والقيم التي يراد له أن يعكسها أو يعيد صياغتها أو تم إهمالها وتجاهلها. وهي المرآة العاكسة لحالة المجتمع كيفما كان وكيف سيكون.  

الأحد، أكتوبر 16، 2016

نهاية رحلة - دلالة اللون ولغة الحروف



ناصر سالم المقرحي

عبر تجربته الفنية الغنية التي امتدت لسنوات طويلة يطالعنا الفنان الراحل " محمد الحاراتي " الذي انتقل إلى جوار ربه أواخر شهر اكتوبر العام 2007 , بعمق مدلول ابداعاته وقوة طرحها , إذ أن الناظر إلى لوحة الفنان يُعاين إلى جانب الأستغلال الأمثل للإمكانيات الجمالية التي يُتيحها الحرف العربي بانسيابيته ورشاقته , الزخارف الإسلامية بخطوطها المستقيمة والمتكسرة وانحناءاتها والتواءاتها والمستمدة مفرداتها من البيئة المحلية كتلك النقوش والزخارف المستلهمة من نباتات المُحيط وبعض مظاهر وسمات المعمار الذي أسفرت عنهُ الحضارة الأسلامية كالقِباب والمآذن والأقواس والأهِلة , أيضاً بلوحة الراحل قد نجد إضافة إلى ما تم الإشارة إليه غزارة في طرح اللون وتوزيعه بمقادير ونسب متقاربة على السطح , إذ تتجاور بكثرة الدرجات الحارة والمُشعة مع الباردة والمُعتمة دون أن تطغى إحداها على الأخرى ودون أن تخل بالبناء العام , الأمر الذي جعل اللوحة تتراءى للمشاهد بهيئة فسيفسائية مبهجة للنظر بألوانها الطافحة التي يُخيل للرائي بأنها ستطفر أو تقفز بين لحظة وأُخرى من الإطار لشدة حيويتها وتعدد درجاتها , ومن الرموز الدالة التي تتكرر بانتظام في منجز الفنان نجد إلى جانب المآذن والقِباب , الحمائم والجياد العربية التي كثيراً ما رسمها في حالة حركة ذائبة وجامحة أو يوحي بذلك , مما يوسم العمل الفني بالحيوية والحركة وينفي عنهُ صفة الفتور والسكون .


الفنان التشكيلي محمد الحاراتي الثالث على يمين الصورة

وعن الحرف العربي فقد احتل بأغلب الأعمال مركز اللوحة وحلَّ بقلبها تماماً مُشعاً بألقه ككوكب تدور حوله الأقمار , فتتوزع باقي العناصر حوله كمكملات واكسسوارات ضرورية لتجليه وكثيراً ما اقتُطِع الحرف العربي لدى الفنان من سياقاته كأداة تواصل وجاءَ هكذا متجرداً من كل شيء إلا من جمال تكوينه ورشاقته التي لا يضاهيها شيء , والتي كثيرا ما اتكأَ عليها الفنانين التشكيليين العرب في المشرق والمغرب بل حتى بعض الفنانين الأجانب لاجتراح لوحة جميلة من حيث الشكل ومعبرة من حيث الفكرة التي تطرحها والرسالة التي توصلها .

وتندغم تفاصيل الرسومات البارزة الي تحتل مقدمة اللوحة , والتي كثيراً ما يذهب الفنان إلى طلاء قاعدتها بألوان باهتة وخفيفة ومن ثم يجنح إلى وضع تفاصيل حروفه فوقها بدقة وبألوان ذات درجات واضحة وقوية فتتداخل مع الخلفية التي تأخذ ألواناً متقاربة مع درجات ألوان المقدمة ومن ثم يقوم بطرح اللون على المساحات المتجاورة , وكل هذا يُسهم في إظهار العمل بمظهر فسيفسائي ويُبين الجهد الكبير الي بدلهُ الفنان فيه بعكس بعض المدعين الذين قد يُنجزون ما يسمونه لوحة فنية في دقائق تحت مسمى التجريد .

هذا فيما يخص التقنيات التي توصلت إلى توظيف مادة الأكريليك توظيفاً حسناً , أما فيما يتعلق بالموضوع فإن الفنان ولئِن تطورت أدواته بدءأً بالبسيط والمتداول وصولاً إلى العسير والمُعقد , فإن المواضيع ظلت كما هي وحافظت المضامين على ثبوتيتها حينَ عبَّرت وانطِلاقاً من انتماءات واضعها واعتزازه بهويته عن الهمّ القومي والسياسي وسعت إلى تأكيد الهوية الإسلامية والعربية باحتفائها في المقام الأول برموزها الحضارية . ولأنها لا تتكرر كثيرا باهتداء الفنان إلى أسلوبه الخاص , يمكن اعتبار هذه التجربة متميزة على المستويين العربي الإسلامي , ليس لأنها تُحلق بجناحيها فحسب , بل لأنها أيضأً اتخذت منهما وسيلة ورسالة لمخاطبة الآخر , ويتجلى التميز هنا من خلال الحرفية في استخدام المادة من ومن الثيمات المُسخرة ومن طريقة مزج كل هذه العناصر داخل المضمون , ويأتي كل ما مر ذكره متوافقاً مع أداء تشكيلي متقن ودقة كبيرة وحرفية عالية قد تجعل المتلقي عند المعانقة الأولى للأثر الفني يعتقد بأنَ ما يراه هو مُنتج من منتجات التصوير الحديث وليس من عمل الأنامل الحساسة التي يحوزها الفنان للمهارة الكبيرة التي يبديها . وبمكنة المتأمل في اللوحات المرفقة مع هذا المقال استخلاص المزيد من السمات والخصائص الفنية تلتي تنطوي عليها التجربة . هذا ويعد الفنان الراحل محمد الحاراتي الذي سُررت بالتعرف إليه ذات صباح بعيد قاده إلى مصلحة الضرائب للتصديق على فاتورة تخص عملاً فنياً قام بتسويقه لأحد الجهات العامة , يعد اليوم وسط لفيف من الفنانين التشكيليين من الرواد والمؤسسين الذين عمِلوا مبكراً وبمجهوداتهم الفردية والمتواضعة وسط ظروف قاسية على إرساء قواعد هذا الفن وإسكانه بأرض ليبيا بوقت تفشت فيه الأمية نتيجة لعوامل التخلف المتعددة , وذلك منذ منتصف القرن المنصرم وحتى اللحظة ووضعوا لبنات حداثته وشكلوا بعملهم هذا امتدادا لما بدأه الأسلاف منذ أزمان بعيدة بما وضعوه على جدران كهوف جبال أكاكوس وتاسيلي .


واشتغل الفنان إلى جانب ممارساته الفنية بالتدريس واضطلع بدور تربوي هام لسنوات عديدة , ولا شك في أن أنتاج الحاراتي ببصمته المميزة سيظل وإلى مدى غير محدد نقشا جميلا في فسيفساء التشكيل الليبي وفصلا مهما لا بد من استحضاره عند التأريخ لهذا المشهد وتأطيره , فرحم الله فناننا القدير وأسكنه فسيح جناته . 

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية