أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الثلاثاء، مارس 24، 2009

العمارة حالة أخلاقية




جمال الهمالي اللافي

من خلال الورقة التي عرضها أستاذنا الفاضل أحمد انبيص مساء يوم السبت الموافق 14/3/2009 م. بقاعة المحاضرات بمدرسة الفنون والصنائع الإسلامية، التي قدم لها عنوانا على شكل تساؤل، يحمل علامة استفهام كبيرة، عن الأسباب والعوامل التي جعلت المستعمر الإيطالي ممثلا في معمارييه قادرا على إنشاء عدة مدن جديدة خلال فترة احتلاله لليبيا، في حين لم يوفق المعماريون الليبيون حتى يومنا هذا في بناء أو طرح ولو رؤية لمدينة جديدة واحدة.
وفي مداخلة مسهبة وقيّمة في مجملها، خلص المعماري فيصل البناني إلى طرح تعريف للعمارة وشخّصها على أنها حالة ثقافية.

وقد قمت بالتعليق على هذا الطرح، وقدمت رؤيتي للعمارة على أنها حالة أخلاقية، وأكدت بأنها أشمل من تعريفها على كونها حالة ثقافية ، كما أشرت إلى أن الأخلاق هي التي ترسم ملامح الثقافة ، ما إذا كانت ثقافة بناء وتعمير، أو ثقافة تشويه وتدمير، وأنّ حسن الخلق هو الذي يشيع النظام والتخطيط، وأن سوء الخلق هو الذي يشيع الفوضى والعشوائيات ، والعمارة بذلك هي رهينة لأخلاقيات الفرد أو الجماعات التي تستوطن بقعة ما من الأرض.

واستكمالا لهذا الطرح، يمكننا هنا الاستدلال بما فعله المغول والتتار بالعالم، فأخلاقهم المبنية على التدمير والقتل، وبيئتهم التي تفتقر لمعالم العمران والتّمدن، هي التي أحرقت الأخضر واليابس في كل الأمصار التي مروا بها في طريقهم قبل أن تحرق حاضرة العالم والدولة الإسلامية بغداد، وتغرق كنوز مكتباتها في نهر الفرات، حتى تخضّب لونه بلون الحبر الذي كتبت به هذه المؤلفات. وفي المقابل فإن أخلاق المسلمين التي تشيع لديهم ثقافة البناء والتعمير، واحترام قيمة الإنسان، هي التي شيدت حضارة الأندلس وأنارت بصيرة أوروبا، وأخرجتها من ظلمات العصور الوسطى إلى حضارة القرن العشرين، مقتدين في مسلكهم بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، الذي زكّاه ربه عز وجل في قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم الآية (4). ومستمدين من قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله ليبلغ العبد بحسن خلقه درجة الصوم والصلاة)[1]، منهجهم في التعامل مع الآخر وخلقهم القويم، الذي فتح لهم قلوب الناس قبل أن يفتح لهم بوابات المدن والأمصار. وهو القائل صلى الله عليه وسلم:( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)[2].

وإطلالة سريعة على القاعدة الأساسية التي انطلق منها مخطط المدينة الإسلامية، والتي حددها قوله صلى الله عليه وسلم:( لا ضرر ولا ضرار)[3]، تبين لنا، أن المقوّم الأساسي الذي بنيت عليه هذه المدينة هو الأخلاق ، فالضرر الذي يلحقه الفرد أو الجماعة ببعضهم البعض أو بالبيئة المحيطة، يعرّف ببساطة على أنه سوء خلق وفساد في الأرض وإن كان ظاهره الإصلاح، ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)، سورة الكهف.

فعندما هاجر النبي محمدا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة" يثرب"، شرع في بناء دولته على أسس أخلاقية، ومن أهم الأحاديث الشريفة التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما زال يوصيني جبريل بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه)[4]، كما نقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن). قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه)[5]. و عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: (إلى أقربهما منك باباً)[6]. ولما سأله أحد الصحابة رضوان الله عليهم جميعا عن إمرأة تصوم النهار وتقوم الليل ولكنها تؤذي جيرانها، قال: ( هي في النار).
وهذا يعني إشاعة حسن الجوار، وما يتبعه من التزامات، تتعلق بعلاقة الجار بجاره، وعلاقته بالجيران من حوله، وهو ما يعني علاقته بالشارع والحي، ومن ثمّ المدينة بكل مرافقها ومشتملاتها، وصولا إلى احترامه للبيئة المحيطة، وما حوته من عناصر طبيعية.

أما الثقافة- التي تعرّف على أنها نتاج أو حصاد خبرات المجتمعات البشرية عبر مر السنين في شتى مناحي الحياة، وهي التي يطلق عليها ميراث الشعوب أو تراثها الثقافي- فمن أهم مقوماتها الأخلاق، وعماد تأصلها في وجدان أي مجتمع هو إشاعة حسن الخلق، ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات الآية (13).
وثقافة المجتمع لا تمنع من ساء خلقه أن يتجاوزها، مثلما لا تمنعه الضوابط والقوانين السماوية والأرضية من اختراقها كلما سنحت له الفرصة، سواء غاب الرقيب أو حضر. وما تحريف الأديان السماوية والخروج بتعاليمها عن سياقها، إلا نتاج سوء خلق بعض الناس، الذين استحلوا الحرام وبرروا لأنفسهم أسباب الفساد في الأرض. وقد ارتبط انحدار الحضارات بالفساد في الأرض، وتفسخها بالتحلل من القيم الأخلاقية، ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) سورة الروم الآية (41).
وما اختراع القنابل الذرية والجرثومية، وتبرير تقتيل آلاف البشر بواسطتها، وتدمير العمران والبيئة، إلاّ نتاجا لثقافة العنف ونبذ الآخر وثقافته. وما اختراع الإسطرلاب وأجهزة الإتصالات والمواصلات إلاّ تعبيرا عن ثقافة التواصل والحوار والرغبة في التعارف وتبادل المنافع والتعرف على ثقافات الشعوب الأخرى، وفي الحالتين نجد أن الأخلاق تسهم في رسم ملامح وطبيعة هذه الثقافة ونتاجها الفكري والمادي. وما بناء الأهرامات ( التي لا تزيد عن كونها مقابر لملوك مصر من الفراعنة) إلاّ دليلا على علو الحكام وطغيانهم في الأرض، ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) سورة القصص الآية (4)، وما بناء ناطحات السحاب إلا تعبير عن سطوة المادة واستعراض القوة الغاشمة، وما انتشار عمارة التفكيك إلا دلالة على شيوع التحلل الخلقي من كل القيم والضوابط والمعايير والمرجعيات الأخلاقية، فكل شئ جائز ومبرر مثلما أن كل شئ مباح، بما في ذلك الشذوذ الجنسي.

وخلاصة القول أن الأخلاق هي التي تحدد طبيعة ثقافة المجتمعات البشرية والأفراد. وهي بدورها التي تنتج لنا شكل العمارة، مثلما تحدد طبيعة السلوك الإنساني وتأثيره على البيئة العمرانية والمحيط. ولتبسيط المسألة في شكل تخطيطي يمكننا إلقاء نظرة على الشكل رقم (1)
ومن هذا المنطلق نعود لنجيب عن الإشكالية التي طرحها أستاذنا الفاضل أحمد انبيص والتي لخصها في هذا السؤال:
لماذا استطاع المعماريون الإيطاليون بناء عدة مدن جديدة في ليبيا، وفي المقابل لم يوفق المعماريون الليبيون إلى بناء ولو مدينة واحدة، مدروس مخططها، مكتملة مرافقها و خدماتها، واضحة معالم هويتها؟!
الإجابة عن هذا السؤال تقودنا بالضرورة إلى أزمة أخلاقية يعايشها المجتمع الليبي، تتمثل في انعدام الإحساس بالمسؤولية تجاه الأمة ومصيرها ومستقبلها، وهي ناجمة عن غلبة الأنا على النحن أو المجتمع، إضافة إلى تغليب المصلحة الآنية على الرؤية المستقبلية بعيدة المدى، وغلبة ضغوطات ومتطلبات اللحظة على التخطيط المسبق والمبرمج والممنهج والمدروس، وهي بدورها تطرح أمامنا إشكاليتين تحولان دون تحقيق الهدف والمبتغى/
الإشكالية الأولى/ ( أزمة التعليم المعماري في ليبيا):
أزمة يعانيها التعليم المعماري، الذي يتجه في ليبيا ليأخذ منحيين:
أحدهما: يعتمد على تلقين طالب العمارة معلومات لا ترتبط بواقعه ولا تتصل بحاجات المجتمع وثقافته، بل هي مستمدة من مناهج غربية، تمّ إعادة تهجينها بطريقة فجّة فرّغتها من محتواها العلمي والمنهجي، وصيّرتها مجرد معلومات عامة، لا تحمل في مضمونها أيّة قيمة أو فائدة علمية يمكن تطبيقها.
والآخر: يعتمد على استفزاز عقلية الطالب وحثها على التفكير المبدع، إضافة لاحترام إرادته في تحديد اتجاهه الفكري، مع الاكتفاء بتوجيهه نحو طرح حلول تصميمية ناجحة ومقنعة، دون تبصيره بخطورة هذه الاتجاهات المعمارية وبعدها الفكري الذي تستمد منه مبادئها ومنطلقاتها، ودون تبصيره بعدم ملائمة هذه الاتجاهات المعمارية في شكلها ومضمونها وتركيبتها الإنشائية وموادها مع ظروف البيئة المناخية وقيم المجتمع الدينية والثقافية وإمكاناته الاقتصادية وموارده الطبيعية والبشرية.

الإشكالية الثانية/( أزمة ممارسة المهنة):
وهي بدورها تنقسم إلى شقين:
شق يتعلق بالجانب الإداري، الذي يغلب عليه الممارسات اللا أخلاقية في التعاطي مع مهنة العمارة، وتعتمد في جلها على الارتجال وعدم التخطيط المسبق والممنهج علميا وفكريا للمشاريع المعمارية والتخطيطية، وفي حالة وجود مخططات- بغض النظر عن ملاءمتها بيئيا واجتماعيا وثقافيا- تقف المخالفات الإدارية والتنفيذية حائلا دون تطبيقها حرفيا وبالصورة الصحيحة، حيث يتم التلاعب بها لصالح أهواء ورغبات ذوي المصالح المتعارضة مع هذه المخططات.
والثاني يتعلق بالجانب الاستشاري، حيث يتجه المستشارون في مجال العمران إلى تحويل الرأي الاستشاري إلى مجرد مهنة للارتزاق، يوزع خلالها المستشار نفسه على أكثر من مؤسسة، يقسّم عليها وقته دون جهده، لساعات محدودة جدا، يضيع جلها في اجتماعات روتينية ولجان متفرعة عنها، يتم من خلالها الالتفاف إداريا على سلامة المخططات ومصداقية الرأي الاستشاري. والهدف أولا وأخيرا تحقيق مكاسب مادية ومعنوية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المستشار مؤتمن)[7].

هذه الخلاصة تسلط الضوء على بعض ملامح الإشكالية المطروحة، يمكننا من خلال مراجعتها وتقييمها، من ملامسة مواطن الخلل وتبيان مكامن الزلل، وبالتالي طرح الحلول الناجعة التي ستسهم في حال الالتزام الأخلاقي بها من رسم صورة مدن جديدة ومعاصرة، يتطلع المواطن في ليبيا للعيش في رحابها، بعيدا عن الفوضى المعمارية وسطوة العشوائيات. والشكل رقم (2) يلخص لنا مجمل الطرح الذي جاء في هذا الموضوع.

الأحد 15/ 3/ 2009 م.

[1] - المستدرك على الصحيحين للحاكم
[2] - رواه البخاري في " الأدب المفرد
[3] - سنن ابن ماجه
[4] - صحيح البخاري
[5] - المرجع السابق
[6] - نفس المرجع
[7] - سنن أبي داود و الترمدي

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية