الاثنين، أبريل 14، 2025

نظرات تاريخية وهندسية في فنون البناء والعمارة الليبية

مدبنة طرابلس التاريخية


 

الكاتب: رياض الاميري

باحث عراقي مقيم في فيينا

 

أثّرت الطبيعة الجغرافية منذ القدم تأثيرا مهما في تاريخ ليبيا الفني والعماري. فأينما وجدت الموانئ والطرق والمناطق الزراعية ٬ قام التجار بإنشاء وصيانة مراكز تجارية صغيرة خصوصا على نهاية طريق القوافل التجارية الآتية من اواسط افريقيا عبر الصحراء. مثل هذه المدن وجد في الماضي السحيق في منطقتي طرابلس وبرقة. وعن ليبيا وسكانها ومجّمعاتها السكانية جاء في مذكرات المؤرخ هيرودوتس ما يعني ان تلك المراكز

كانت ذات أثر لم يستطع ان ينساه. فقد قامت على سواحل ليبيا في فترات مختلفة من تاريخها مراكز حضارية في العهود الفينيقية القرطاجية واليونانية الرومانية ٬ واخرى هيلينية لاتينية ومسيحية بيزنطية. وقد تحولت تلك المراكز إلى مدن مهمة نافست الاخريات على حوض البحر الابيض المتوسط. فاليونانيون والرومان والفرس حاولوا جميعا ٬ً في مراحل مختلفة ٬ السيطرة عليها وتحويلها إلى قواعد لتحركاتهم العسكرية في القارة الافريقية. 

في السنة الثانية والعشرين من الهجرة النبوية الشريفة 643 م قام عمرو بن العاص بعد فتحه مصر بفتح ليبيا ٬ ووصلت جيوشه الى فزان وطرابلس٬ ثم بنى سورا حول طرابلس. وانبسطت على البلاد راية الاسلام ٬ فاصبحت ليبيا جسرا واصلًا بين المناطق الواقعة شرق البحر الابيض المتوسط وغربه من دون ان تنافس مدينة القيروان ٬ المركز الحضاري الاسلامي المجاور. لقد وطأت اقدام العرب الارض الليبية بعد ان بقيت قرنا من الزمن ترزح تحت نير الوندال وقرنا آخر تحت نير البيزنطيين. وكان الوندال مارسوا شتى انواع التخريب في المدن التي استولوا عليها ٬ اما البيزنطيون فقد اقتصر عملهم على ترميم تحصينات لبدة وصبراتة وتشييد بعض الكنائس وصيانة بعض المباني الاخرى ٬ حتى انه لما فتح العرب البلاد كانت حركة الانشاء والتعمير في حالة يرثى لها ٬ شأنها شأن كل نشاط آخر. وخلال فترة قصيرة شهدت البلاد تطورا حضاريا لكنها سرعان ما تعّرضت لهجوم القوات الاجنبية. وكانت طرابلس مثلًًا ٬ قبل الهجوم الذي شنه اسطول شارل الخامس كما روى المؤرخ مارمول: "تزخر بالعديد من المساجد والمستشفيات والمدارس". وبعد سقوط المدينة في ايدي الاسبان في الخامس من تموز يوليو 1510 م ٬ اقدموا على محو آثارها في غضون عشرين عاما. وجاء في "الحوليات الطرابلسية" الصادرة في باريس سنة 1937 ان الاسبان بعد استيلائهم على طرابلس طردوا اهلها وهدموا المساكن وخربوا المباني العامة واستعملوا أنقاضها في إقامة بعض التحصينات وفي توسيع القلعة. 

 قّسم العثمانيون المغرب العربي عدا المغرب الذي لم يكن تحت سيطرتهم إلى ثلاث ولايات هي: الجزائر وتونس وطرابلس. وتمركز الحكم العثماني في مناطق الساحل الليبي ٬ اما سكان الجزء الداخلي من البلاد فلم يخضعوا للسيطرة العثمانية. وفي العام 1911 احتلت ايطاليا طرابلس بعد انسحاب الاتراك منها باتجاه الداخل ٬ واستمرت في سيطرتها على المدن والاقاليم الليبية. لكن السكان قاوموها بكل قوة وتمّثل ذلك في عدم التعاون السياسي او تقبل التأثير الفني والعماري الذي حاول الايطاليون نشره. وبعد الحرب العالمية الثانية احتلت بريطانيا البلاد ولقيت المقاومة نفسها التي واجهها الايطاليون. 

ارتبط تأريخ العمارة والانشاء في ليبيا منذ البدء بالظروف الاقتصادية والجغرافية ٬ فالبلاد مكونة من ستة اقاليم لعبت وتلعب دورا مهما في نشأة الاساليب العمارية وتطورها. كما لعبت الظروف الاجتماعية والتاريخية دورا لا يقل اهمية عن الاول ٬ فالمحتلون الاجانب جاؤوا بفكرهم العماري واساليبه الفنية فلم يتقبلها الليبيون بل قاوموها بشدة. وعلى العكس من ذلك كان تأثير الاساليب الفنية والعمارية المحلية الليبية غير عادي ٬ فتركت بصماتها على المحتلين العثمانيين والايطاليين الذين وجدوا في العمارة المحلية الليبية مؤثرات بصرية ومقدرة على المعالجة البيئية غير عادية فقلدوها في منشآت عدة منها "فندق عين الفرس" بواحة غدامس الذي اعاد نمط العمارة المحلية في الشكل الخارجي والفضاء الداخلي ٬ او في مسجد بياله باشا الذي بني عام 981 للهجرة في الاستانة وهو ذو قباب متحاذية بتصميم مقتبس من العمارة الليبية المحلية. ففي الوقت الذي يشكل هذا المسجد ذو القبيبات بالنسبة إلى العمارة التركية حادثة محصورة في إطار زمني ومكاني ٬ فانه يمثل بالنسبة إلى ليبيا الموضوع الاساسي لكامل تطورات المسجد المعمارية المتعاقبة فيها. وهذا المثال يؤكد على ان تصميم المسجد الليبي ليس من اصل تركي في نمطه. 

تتصف العمارة الليبية بالبساطة ٬ مؤكدًة على الجانب الوظيفي في المبنى إذ حاول المعمار الليبي ان يقّرب المبنى بكل مكوناته إلى طبيعة الناس في مختلف مناطق البلاد وهم المطبوعون على البساطة في العيش وعدم التكلف في البناء. فهناك اماكن في ليبيا مثل غدامس تحتفظ لنفسها بطراز عماري محلي يصعب ايجاد مثيل له خارج حدودها ٬ ليس في الفضاء الداخلي فحسب وانما في تخطيط المدينة وما تمتاز به شوارعها من حلول بيئية رائعة تدل على فهم عميق لمتطلباتها والتعامل معها من الوجهتين الفنية والانشائية. فالطابع المميز للعمارة الليبية يقوم على صلابة الكتلة والاعتماد عليها كعنصر معماري تعبيري مجرد ٬ يؤكد على وعي السكان الفطري بجوهر الفن المعماري المتمثل في الاحساس بقيمة الحيز الفضائي الذي يشغله المبنى والفضاء المنحصر داخل جدرانه. فالمباني البسيطة ذات القبيبات المتعددة او المباني ذات القبوات المستطيلة او المربعة على اختلاف انماطها التي ابدعتها أيدي فناني البناء الليبيين دليل على الاحساس بقيمة الكتلة وشكلها وقدرتها التعبيرية. 

ومن الحديث عن الموروثات الفنية للعمارة المحلية الليبية ٬ لربما يتبادر إلى ذهن المتتبع ان ليبيا خالية من أية آثار ذات قيمة من امثلة الفن المعماري العربي الإسلامي. وواقع الامر انه ليس فيها الكثير بالمقارنة مع ما تفتخر به الحضارة الاسلامية من امثلة في مصر او في المغرب او في ايران ٬ لان ذلك يعود إلى عدم توافر الموارد في الماضي ٬ سواء لسكان البلاد الاصليين او للغزاة والفاتحين. 

قال غاسبري ميسانا في كتابه "المعمار الإسلامي في ليبيا" ما يلي: "ان الحقيقة التاريخية الهامة التي لم يتعرض لها احد ابدا تكمن في أن هذه البلاد مجردة كما هي من اي تقليد معماري خاص بها معترف لها ٬ لانها لم تقاوم استهواء مدرستي المشرق والمغرب فحسب ٬ ولكنها قاومت حتى استهواء المدرسة العثمانية على رغم طول حقبة الحكم العثماني لها التي دامت ثلاثة قرون ونصف قرن". واضاف: "ان البنائين الليبيين المتواجدين في الارياف ٬ وهم يتقدون حماسا خارقا للدين ٬ احدثوا على رغم خبرتهم الانشائية المتواضعة نوعا من المساجد نسميه المسجد الليبي". وهذا المبنى الذي عناه ميسانا هو عبارة عن عمارة مربعة الشكل مسقوفة بعتبات عدة موزعة على صفوف عدة. اما الباطن فيبدو كتركيب هندسي ناتج عن وضع عناصر حجمية متساوية في ما بينها. والفضاء الداخلي الذي تمتاز به هذه العناصر ٬ بما يستطيع الانسان بلوغه فيها والانتفاع برحابها ٬ يشكل العامل الذي يسمو دون سواه بعمل إنشائي إلى مستوى الفن المعماري. ومثال ذلك جامع الخروبة الذي يعود تاريخ إنشائه إلى ما قبل الحكم العثماني٬ ولحسن الحظ نجا من اعمال التهديم التي تعرضت لها طرابلس خلال القرون الخمسة التي مرت على إنشائه . ولذلك فهو يحتفظ بوضعه الاصلي ٬ والمسجد عبارة عن حجرة مربعة التخطيط 16 بلاطات متوازية مع جدار القبلة وثلاث متعامدة عليه. وتعلو كل عنصر منها قبيبة ٬ ترتكز اواسط كل منها على اربعة اعمدة تدعم بدورها اربعة عقود مدببة قليلًا. ان معايير التقييم التقليدية في مجال العمارة وفنونها لم تكن قادرة على استيعاب محاسن العمارة الليبية واستعمال اصالتها ٬ إذا لم يؤخذ الفضاء الداخلي كمعيار ٬ فعن طريقه يمكن إعطاء القيمة الحقيقية لعمائرها. فالفضاء الداخلي اعطى قيمة ابداعية للحيز وأضفى عليه جانب الروعة والاتقان. 

والحديث عن العمارة الليبية لا يمكن ان يكون مفيدا من دون الحديث عن المدينة القديمة في طرابلس التي اخذت طابع المدن العربية والاسلامية ونقلت في مخططاتها الاسس التنظيمية والتخطيطية. فأزقة المدينة بمبانيها ذات الجدران البيضاء المشعة ٬ وباحيائها الملتوية وطرقها المسدودة وهي محاطة باشجار النخيل والزيتون تحت صفاء سماء ليبيا ٬ كّونت عالما خاصا يثير الزائر والباحث على حد سواء.

 خلال الفتوحات الإسلامية وانتشار الدين الاسلامي الحنيف نشأت حضارة مجيدة ارست دعائمها في أرجاء المعمورة ٬ وقامت مدن عدة جديدة مثل الكوفة والبصرة والقيروان وواسط والفسطاط وبغداد وسامراء ٬ وازدهرت مدن كانت قائمة مثل مكة والمدينة ودمشق وحلب وطرابلس وغيرها. واضفى المسلمون على تلك المدن طابعهم الخاص حتى غدت تعيد الاسس التخطيطية نفسها للمدن الاسلامية الجديدة. وكان اهتمام المخططين العرب منصبا في المقام الاول على مركز المدينة الذي يتكون اساسا من مباٍن مختلفة الوظيفة في مقدمها المسجد الجامع ثم المدرسة التي كانت بادئ ذي

بدء جزءا من الجامع او متصلة به ٬ ثم صار لها كيانها المنفصل في ما بعد. وبعد ذلك المباني الخدمية للمجتمع الاسلامي ٬ مثل الفندق والحمام واخيرا السوق التي تبدأ عادة متفرعة من المركز في حركة تكون شبكة غير منتظمة من الشوارع المسقوفة تصبح ايضا كشرايين للاحياء السكنية التي تتكون منها المدينة. 

ومع ان طرابلس الغرب كانت قائمة قبل الفتح الاسلامي إلّا انها تحولت في ظله إلى مدينة فيها كل صفات المدينة العربية الاسلامية وتحتفظ بكل خصائصها الجمالية والتنظيمية ٬ ولو بمقياس اقل مما هو عليه في المدن الاخرى ٬ وذلك من ناحية عدد المباني التي تضمها وانواعها. ويعود ذلك ٬ كما اسلفنا سابقا ٬ً إلى طبيعة الليبيين وعدم اهتمامهم بالترف وبالنواحي الجمالية الزخرفية البحتة ٬ ولعبت قلة الامكانات المادية وانشغال الناس في التصدي للغزاة دورا مهما في ذلك ايضا. وتريبولس ٬ وهذه التسمية اطلقت على ثلاثي صبراته. وورد Oea " يعود تأسيس مدينة طرابلس إلى القرن الخامس قبل الميلاد وكانت تسمى "أواية في رسالة عمرو بن العاص المرسلة بعد فتحها إلى الخليفة الراشد الثاني. وذكر Atrabulus " اسمها للمرة الاولى باللغة العربية "إترابولس الرحالة والمؤرخون العرب في القرن الحادي عشر ان ال التعريف أضُيفت الى إسمها لاحقا.ً وفي القرن السادس عشر اضيفت إلى إسمها كلمة "الغرب" للتفريق بينها وبين طرابلس الشام.

للمدينة القديمة شكل خماسي غير نظامي ٬ كما يمكن ملاحظته اليوم او في المطبوعات منذ القرن التاسع الهجري. وكانت مسّورة وتتكون من كتلة متراصة من المساكن تخترقها أزقة ملتوية قّسمتها إلى أحياء ٬ كل منها يحوي المراكز الدينية والدنيوية كافة ٬ وهذا ما يعطيها استقلاليتها الكاملة ٬ بالاضافة إلى تقسيمها حسب الحرف. وتمر ازقة المدينة وفق خطين يتجهان من الجنوب والجنوب الشرقي نحو الشمال والشمال الغربي ٬ او يمتدان في اتجاه متعامد مع كل منهما. ولربما حافظ هذا التخطيط على اصله الروماني. وقد ادخل الاتراك بعض التوسعات على المدينة لاحداث سوق الترك وغيرها ٬ كما انشأوا العديد من المباني. والمدينة القديمة في طرابلس الغرب ٬ مثل اي اثر معماري آخر ٬ لها مقوماتها الجمالية والفنية بالاضافة إلى ما تضمه من العديد من المباني ذات المميزات العمارية المحلية الخاصة ٬ او تلك التي امتزجت فيها الخبرة المحلية مع التجارب الوافدة ٬ خصوصا في الزخرفة واستخدام بعض المواد الإنشائية وغيرها. 

ففي شمال افريقيا ٬ كما في سواها ٬ انشأ المسلمون مدنا بلغ بعضها مرتبة العاصمة كالقيروان والمهدية ومراكش وفاس وغيرها. وكانت المساجد مركز النشاطات الادارية والبلدية على اختلافها ٬ ففيها كان يمارس القضاء ويعالج المرضى ويتعلم الاطفال ويحاضر العلماء. والمدينة القديمة في طرابلس لا تختلف عن غيرها من المدن الإسلامية في هذا التخطيط ٬ ومثال ذلك جامع أحمد باشا القره مانلي الملحق به مسجد ٬ وجامع سيدي طغرت الملحق به حمام... وغير ذلك من الامثلة. فالاسواق ٬ كشوارع مسقوفة عادة بقباب او بقبوات مستطيلة ٬ تحمل على طول محورها فتحات منتظمة

تفصل الواحدة عن الاخرى المسافة نفسها من اجل إدخال قليل من الضوء. كما وان قبوات اخرى تسقف الحوانيت والمعامل الملحقة بها. ومع ان الزخرفة المستخدمة في العمارة الليبية داخل المدينة القديمة ليست محلية صرفة ٬ لكنها جاءت كتزاوج بين المهارات المحلية والخبرة الخارجية وبقيت محافظة على روحها الاسلامية في مواضيعها النباتية والهندسية والخطية. 

وتشمل المباني ذات القيمة الفنية والمعمارية في المدينة القديمة ٬ على رغم قلتها بالمقارنة مع ما تملكه المدن العربية والاسلامية الاخرى ٬ عددا كافياً يمثل الانواع نفسها التي تزخر بها تلك المدن ٬ وهي: المساجد والمدارس والمنازل والفنادق والحمامات والاسواق. فهناك خمسة مساجد ذات اثر فني وعماري ٬ اولها جامع الناقة الذي يعتبر من اهم المساجد الليبية قاطبة وذلك للاساطير المنسوجة حوله بالاضافة إلى طريقة إنشائه. والثاني هو جامع القره مانلي الذي افتتح سنة 1150 هجرية / 1738 ميلادية ويعتبر من احسن الشواهد المعمارية في المدينة القديمة ويمتاز بزخرفته الداخلية ووجود مدرسة مرتبطة به صُممت وُبنيت مع الجامع في الوقت نفسه ٬ ويقع على اربعة شوارع من شوارع المدينة القديمة ما اعطاه اهمية مركزية ٬ وهو يعكس اساليب البناء والعمارة في العصر العثماني. اما المدارس فمنها ما هو متصل بالمساجد وبعضها منفصل. ومن المفيد ذكره ان المدينة القديمة كانت تضم مدرسة تسمى المنتصرية او المستنصرية تقليدا لمستنصرية بغداد العباسية ٬ في التصميم او ربما في الاسم فقط. اما المنازل فهناك عدد لا يقل عن عشرة لها القيمة الفنية والعمارية. وكذلك هناك عدد من الفنادق لا يقل عن خمسة ما زالت تعكس الاسس التصميمية العربية لهذا النوع من المباني ٬ منها نزل الطيفية ونزل بن سعد وغيرهما.

 

* باحث عراقي مقيم في فيينا

المصدر:

الكاتب: رياض الامير

23/3/ تاريخ النشر(م): 2000

17/12/ تاريخ النشر (ه): 1420

منشأ:

رقم العدد: 13525

الباب/ الصفحة: 21

 

الحفاظ على هويتنا الثقافية في مواجهة العمارة المغتربة

جامع وزاوية عمورة بمنطقة جنزور- طرابلس


أبناء وبنات وطني الأعزاء،

أتحدث إليكم اليوم كصوت معماري ينتمي إلى هذا الوطن الغالي، ليبيا التي تتمتع بتاريخ عريق وثقافة غنية. نعيش في زمن يتسم بالعولمة والتأثيرات المعمارية المتعددة التي قد تبدو لنا في بعض الأحيان جذابة، ولكن دعوني ألفت انتباهكم إلى الأبعاد الأعمق والأكثر خطورة التي قد تنتج عن التماهي مع العمارة المغتربة.

الهوية المعمارية: مرآة ثقافتنا

تعد العمارة مشروعًا يعكس هويتنا الثقافية وأسلوب حياتنا. إن كل مبنى، كل مسجد، وكل بيت تاريخي في شوارعنا وكل مدينة، ينقل لنا قصص الأجداد وتاريخهم. إن تجاهل هذه الجذور والانسياق وراء تصاميم مغتربة قد يؤدي إلى فقد هويتنا الثقافية واستبدالها بسمات غريبة لا تعكس طبيعتنا ولا عاداتنا.

العمارة المغتربة: تهديد للروابط الاجتماعية

عندما نقوم ببناء مساحات لا تعبر عنا، فإننا نضعف الروابط الاجتماعية التي تجمعنا. إن التصاميم المعمارية التي تهمل السياق الثقافي والاجتماعي قد تساهم في إنشاء بيئات تعزل الناس عن بعضهم البعض. نحن بحاجة إلى عمارة تعبر عن شغفنا وتراثنا، وتعزز من تواصلنا الاجتماعي.

الأمن الثقافي: ضرورة الحفاظ على تراثنا

الأمن الثقافي هو جزء لا يتجزأ من أمننا الوطني. عندما نتجاهل تراثنا المعماري ونقبل العمارة المغتربة، فإننا نُعرّض ثقافتنا وذاكرتنا الجماعية للخطر. يجب أن ندرك أن المباني ليست مجرد هياكل، بل هي تعبير عن وجودنا، وعلينا حماية هذا الوجود من التلاشي.

دعوة للتغيير

لذا، أتوجه إليكم جميعًا، من معمارين ومهندسين، من مهتمين بالثقافة والتاريخ، بل وكل مواطن ليبي: دعونا نعمل معًا للحفاظ على هويتنا. يجب علينا أن نؤكد أهمية اعتماد أساليب تصميم تحترم وتستند إلى تراثنا وبيئتنا وثقافتنا. لنأخذ العبرة من التجارب العالمية، ولكن علينا دائماً أن نمارس التصميم الذي يعكس عمقنا الثقافي.

فلنبنِ عمارة تستمد قوتها من تاريخنا، ولتصمم مبانينا بأسلوب يجمع بين المعاصرة واحترام جذورنا. دعونا نعمل على خلق بيئات تعبر عن ليبيا الجميلة، وتعيد لها هويتها.

معاً، نستطيع أن نبني مستقبلًا يحيي تراثنا ويعكس ثقافتنا، مستفيدين من كل الأسباب التي تجعل ليبيا وطنًا فريدًا وغنيًا بالتنوع البيئي والثقافي والجمال المعماري والحرفي.

دمتم ودامت ليبيا بخير ورِفعة وسؤدد، 

 

جمال الهمالي اللافي

كاتب معماري ليبي

الجمعة، أبريل 04، 2025

فقدان هوية المكان

 


المعماري/ صالح بشير المزوغي

 

الإحساس بالمكان والزمان: أساس الهوية المعمارية 

إن الإحساس بالمكان هو جوهر ارتباط الإنسان ببيئته، فهو العنصر الذي يمنح العمارة هويتها وأصالتها. المكان والزمان يشكلان ثنائية مترابطة تؤثر على الطريقة التي نصمم بها مدننا ونعيش فيها. وإذا فقدنا أحدهما، فإننا نخسر جزءًا جوهريًا من هويتنا المعمارية. 

أما فقدان الإحساس بالزمان، فعادةً ما يكون تجربة ممتعة تُثري الروح، تأخذ الإنسان في رحلة فكرية تعيده إلى التاريخ عبر المدن القديمة والمعالم الأثرية. هذه التجربة تخلق نوعًا من الاندماج بين الإنسان والماضي، حيث تعبر المباني والأسواق والشوارع عن روح زمن مضى. 

لكن على النقيض تمامًا، فإن فقدان الإحساس بالمكان يترك أثرًا سلبيًا عميقًا. عندما تُفقد علاقة العمارة بالمكان، يتحول النسيج العمراني إلى صورة جامدة تعبر عن الحاضر فقط دون أن تحمل روح البيئة والمجتمع.

التحولات التاريخية: صراع بين القديم والجديد 

كانت العمارة دائمًا انعكاسًا للبيئة الثقافية والجغرافية، إذ أن كل شعب وأمة شكلوا عبر العصور طرزًا معمارية تعكس خصوصياتهم المحلية. لكن هذا التنوع لم يكن دائمًا موضع اتفاق. تاريخيًا، كان كل تجديد معماري يواجه مقاومة من المتمسكين بالطرز التقليدية، ومع ذلك كان لكل زمن إضافاته التي تعزز هوية المكان. 

ولكن ما يحدث في عصرنا الحالي يختلف تمامًا. اليوم، لم يعد العالم مجرد مجموعة من المدن المتنوعة، بل تحول إلى "قرية صغيرة" بفعل ثورة الاتصالات. ومع هذا التغير، ظهر الطراز العالمي الجديد الذي ألغى تقريبًا الهوية المكانية، لصالح عمارة موحدة تلغي الخصوصيات المحلية.

سيطرة الطراز العالمي الجديد: تأثيرات واسعة على العمارة والمجتمع 

إن الطراز العالمي الجديد لم يقتصر تأثيره على العمارة فقط، بل امتد ليشمل كافة جوانب الحياة. ففي المدن الحديثة، اندثرت الأسواق الشعبية واستُبدلت بالسوبر ماركت والمولات الضخمة. اختفت الأزياء التقليدية لتحل محلها ملابس عالمية موحدة. حتى الأطعمة الشعبية، التي كانت تعبر عن الثقافة المحلية، أصبحت تُستبدل بوجبات سريعة تحمل مسميات عالمية مثل "ماكدونالدز" و"كنتاكي". 

المساحات العامة التي كانت تجسد هوية المدن، كالساحات الشعبية والمجتمعات التقليدية، حلت محلها البلازا والمسارح ذات الطابع الغربي. وهكذا، أصبحت المدن الحديثة مجرد نسخ مكررة لبعضها، تفقد فيها الهوية المكانية لصالح عمارة تعبر عن زمانٍ اقتصادي عالمي أكثر من مكان محلي.

التجارة العالمية: السبب الرئيس لتآكل الهوية المكانية

لقد لعبت التجارة العالمية دورًا كبيرًا في هذا التحول. فبفضل الثورة في النقل والاتصالات، أصبح الوصول إلى منتجات وعناصر البناء العالمية أمرًا سهلاً ومتاحًا للجميع. ومع هذا الانفتاح، اختفت تدريجيًا الطرز المحلية. لم تعد البيئة الجغرافية أو الثقافية تؤثر على العمارة كما كان الحال في الماضي، بل أصبحت التجارة هي المحرك الرئيسي للهوية الجديدة. 

حتى المدن القديمة، التي تمثل آخر ما تبقى من الهوية المكانية، أصبحت تُسوق كمواقع سياحية، حيث يدفع الزائر المال لمشاهدة معالم أصبحت مجرد سلعة تجارية. وهكذا، أصبحت المدن القديمة متاحف مفتوحة، تفقد تدريجيًا صلتها بحياتها الطبيعية.

الإنسان وهوية المكان: فقدان الانتماء 

إن فقدان الهوية المكانية لا يُمكن عزوه فقط إلى التجارة أو العمارة. المشكلة الحقيقية تكمن في هوية الإنسان نفسه. فقد تغيرت طموحات الإنسان المعاصر، ولم يعد يفتخر بهويته كما كان في الماضي. أصبح يسعى لتقليد الطراز العالمي الجديد، سواء في لباسه أو طريقة حديثه أو حتى تصاميم منازله. 

الإنسان الذي كان يومًا يُعرف من لباسه وحركاته ولهجته أصبح الآن يحتاج إلى بطاقة تعريف ليُثبت من هو. هذه التحولات انعكست شكل مباشر على العمارة، حيث فقدت المدن قدرتها على التعبير عن هويتها المحلية وأصبحت مرآة للزمان العالمي الموحد.

رسالة أمل: استعادة الهوية من خلال العمارة 

رغم كل هذه التحديات، فإن الأمل ما زال قائمًا. فالمدن القديمة تحتفظ بجاذبيتها لأنها تعبر عن هوية مكانية وزمانية متميزة. ويمكن للعمارة أن تلعب دورًا محوريًا في استعادة هذا الإحساس بالمكان، إذا ما تمسكت بالخصوصيات الثقافية والبيئية. 

إن العمارة ليست مجرد مبانٍ، بل هي انعكاس لماهية الإنسان وقيمه. ولكي ننقذ هوية مدننا، علينا أن نعيد التفكير في العمارة كوسيلة لإعادة الاتصال بين الإنسان ومكانه.

 

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...