الجزء الثالث من سلسلة: العمارة كوعي حضاري بين النسبة والاستمرارية
![]() |
في هذا الجزء، نحاول تفكيك
مفهوم "العمارة كفعل تحرري"، لا بوصفه شعارًا يُرفع في مواجهة السلطة،
بل كمسار نقدي يُعيد الاعتبار للإنسان كفاعل في الفضاء، لا كمتلقٍ له. فالعمارة، حين تُنتج بقرار
شعبي واعٍ، تُصبح أكثر من مجرد بناء؛ تُصبح تعبيرًا عن الذات، عن الحاجة، عن
الذاكرة، وعن العلاقة الحية بين الإنسان والمكان.
نطرح هنا أسئلة جوهرية:
- كيف تُبنى العمارة حين
يكون الشعب هو صاحب القرار؟
- ما الفرق بين عمارة تُنتج
من الداخل، وعمارة تُفرض من الخارج؟
- وهل يمكن للعمارة أن تكون
أداة مقاومة، لا مجرد انعكاس للسلطة؟
هذه الأسئلة لا تُطرح في
الفراغ، بل في سياق تاريخي وثقافي طالما تجاهل صوت الشعوب في إنتاج الفضاء. فكثير من العمارة التي
تُستعرض اليوم بوصفها "حضارة"، هي في الحقيقة نتاج سلطات خارجية أو نخب
حاكمة، لا تعكس بالضرورة وعي المجتمع المحلي أو حاجاته. وهنا تبرز المفارقة : من يملك الحق في
نسبة الحضارة؟
هل كل أثر معماري يُعد تعبيرًا عن هوية الشعب الذي عاش فيه، أم
عن السلطة التي قررت إنشاؤه؟
التحرر المعماري لا يعني القطيعة مع الماضي، بل تحرير
العلاقة به. أن نختار ما نأخذ، ونفهم ما نترك، ونبني ما
نحتاج، لا ما يُملى علينا من فوق أو من بعيد. ولا يعني أيضًا رفض كل ما هو وافد، بل مساءلته،
وتكييفه، وإعادة إنتاجه ضمن سياق محلي واعٍ.
حين يُصبح الشعب فاعلًا في القرار المعماري، تُولد عمارة نابعة
من الداخل:
- تُراعي المناخ والخصوصية
والعادات.
- تُستثمر فيها الحرفة
المحلية بوصفها ذاكرة لا مجرد تقنية.
- تُبنى على الحاجة لا على الاستعراض.
- وتُعبّر عن الذات لا عن
السلطة.
أما العمارة المفروضة من
الخارج، فهي غالبًا ما تُنتج فجوة بين الشكل والمضمون، بين ما يُعرض وما يُعاش،
بين ما يُقال وما يُحسّ. وهي، وإن بدت عظيمة في مظهرها، تبقى غريبة في
روحها، منفصلة عن النسيج الاجتماعي، وعن الذاكرة الجمعية.
هذا الطرح، إذن، لا يُنكر
الأثر، لكنه يُعيد تعريفه. لا يُلغي التاريخ، لكنه يُحرر العلاقة به.
ولا
يُطالب بعمارة بديلة في الشكل، بل بوعي بديل في الإنتاج.
إنه دعوة للشعوب كي تستعيد
صوتها المعماري، لا عبر استنساخ الرموز، بل عبر إنتاج المعنى. دعوة للفعل، لا للتلقي. دعوة للعمارة كاستعادة
للذات، لا كاستعراض للسلطة.
خاتمة
السلسلة: من أثرٍ يُستعرض إلى وعيٍ يُنتج
في هذه السلسلة، لم يكن الهدف
إعادة سرد التاريخ المعماري، بل مساءلة المفاهيم التي تُبنى عليها النسبة
الحضارية، تُستدعى بها الأطلال، وتُستعرض بها الرموز. تأملنا الفرق بين حضارة تُراكم الوعي، وأخرى
تُستدعى كتعويض. فككنا مغالطة النسبة، حيث يُنسب الأثر إلى من
سكن الأرض، لا إلى من قرر البناء. ثم انتقلنا إلى طرح العمارة كاستعادة للذات، لا
كاستنساخ للسلطة.
ما يجمع هذه المحاور هو سؤال واحد: هل نملك وعيًا معماريًا يُنتج، أم نعيش على
هامش رموز لا نُدرك سياقاتها؟
العمارة، في جوهرها، ليست
زخرفة ولا استعراضًا، بل خطابٌ حضاري يُعبّر عن علاقة الإنسان بالمكان، وعن موقعه
من الزمن، وعن قدرته على تحويل الحاجة إلى معنى. وحين يُصبح الشعب فاعلًا في إنتاج هذا الخطاب،
تُولد عمارة نابعة من الذات، لا من السلطة؛ من الذاكرة، لا من القصر؛ من الحرفة،
لا من الاستيراد.
هذه السلسلة لا تُقدّم أجوبة
نهائية، بل تُفتح بابًا للتفكير النقدي، وتُعيد الاعتبار للعمارة كأداة وعي، لا
كأثر يُستعرض في المناسبات. إنها دعوة لتجاوز الانبهار، واستعادة الفعل.
دعوة
للمعماري أن يُصغي لما لا يُقال، وأن يرى ما لا يُستعرض، وأن يبني بما يُعبّر، لا
بما يُفرض.




