أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، نوفمبر 16، 2025

العمارة كاستعادة للذات: من التلقي إلى الفعل

الجزء الثالث من سلسلة: العمارة كوعي حضاري بين النسبة والاستمرارية


جمال الهمالي اللافي

في هذا الجزء، نحاول تفكيك مفهوم "العمارة كفعل تحرري"، لا بوصفه شعارًا يُرفع في مواجهة السلطة، بل كمسار نقدي يُعيد الاعتبار للإنسان كفاعل في الفضاء، لا كمتلقٍ له. فالعمارة، حين تُنتج بقرار شعبي واعٍ، تُصبح أكثر من مجرد بناء؛ تُصبح تعبيرًا عن الذات، عن الحاجة، عن الذاكرة، وعن العلاقة الحية بين الإنسان والمكان.

نطرح هنا أسئلة جوهرية:

  • كيف تُبنى العمارة حين يكون الشعب هو صاحب القرار؟
  • ما الفرق بين عمارة تُنتج من الداخل، وعمارة تُفرض من الخارج؟
  • وهل يمكن للعمارة أن تكون أداة مقاومة، لا مجرد انعكاس للسلطة؟

هذه الأسئلة لا تُطرح في الفراغ، بل في سياق تاريخي وثقافي طالما تجاهل صوت الشعوب في إنتاج الفضاء. فكثير من العمارة التي تُستعرض اليوم بوصفها "حضارة"، هي في الحقيقة نتاج سلطات خارجية أو نخب حاكمة، لا تعكس بالضرورة وعي المجتمع المحلي أو حاجاته. وهنا تبرز المفارقة : من يملك الحق في نسبة الحضارة؟

هل كل أثر معماري يُعد تعبيرًا عن هوية الشعب الذي عاش فيه، أم عن السلطة التي قررت إنشاؤه؟

التحرر المعماري لا يعني القطيعة مع الماضي، بل تحرير العلاقة به. أن نختار ما نأخذ، ونفهم ما نترك، ونبني ما نحتاج، لا ما يُملى علينا من فوق أو من بعيد. ولا يعني أيضًا رفض كل ما هو وافد، بل مساءلته، وتكييفه، وإعادة إنتاجه ضمن سياق محلي واعٍ.

حين يُصبح الشعب فاعلًا في القرار المعماري، تُولد عمارة نابعة من الداخل:

  • تُراعي المناخ والخصوصية والعادات.
  • تُستثمر فيها الحرفة المحلية بوصفها ذاكرة لا مجرد تقنية.
  • تُبنى على الحاجة لا على الاستعراض.
  • وتُعبّر عن الذات لا عن السلطة.

أما العمارة المفروضة من الخارج، فهي غالبًا ما تُنتج فجوة بين الشكل والمضمون، بين ما يُعرض وما يُعاش، بين ما يُقال وما يُحسّ. وهي، وإن بدت عظيمة في مظهرها، تبقى غريبة في روحها، منفصلة عن النسيج الاجتماعي، وعن الذاكرة الجمعية.

هذا الطرح، إذن، لا يُنكر الأثر، لكنه يُعيد تعريفه. لا يُلغي التاريخ، لكنه يُحرر العلاقة به.
ولا يُطالب بعمارة بديلة في الشكل، بل بوعي بديل في الإنتاج.

إنه دعوة للشعوب كي تستعيد صوتها المعماري، لا عبر استنساخ الرموز، بل عبر إنتاج المعنى. دعوة للفعل، لا للتلقي. دعوة للعمارة كاستعادة للذات، لا كاستعراض للسلطة.

خاتمة السلسلة: من أثرٍ يُستعرض إلى وعيٍ يُنتج

في هذه السلسلة، لم يكن الهدف إعادة سرد التاريخ المعماري، بل مساءلة المفاهيم التي تُبنى عليها النسبة الحضارية، تُستدعى بها الأطلال، وتُستعرض بها الرموز. تأملنا الفرق بين حضارة تُراكم الوعي، وأخرى تُستدعى كتعويض. فككنا مغالطة النسبة، حيث يُنسب الأثر إلى من سكن الأرض، لا إلى من قرر البناء. ثم انتقلنا إلى طرح العمارة كاستعادة للذات، لا كاستنساخ للسلطة.

ما يجمع هذه المحاور هو سؤال واحد: هل نملك وعيًا معماريًا يُنتج، أم نعيش على هامش رموز لا نُدرك سياقاتها؟

العمارة، في جوهرها، ليست زخرفة ولا استعراضًا، بل خطابٌ حضاري يُعبّر عن علاقة الإنسان بالمكان، وعن موقعه من الزمن، وعن قدرته على تحويل الحاجة إلى معنى. وحين يُصبح الشعب فاعلًا في إنتاج هذا الخطاب، تُولد عمارة نابعة من الذات، لا من السلطة؛ من الذاكرة، لا من القصر؛ من الحرفة، لا من الاستيراد.

هذه السلسلة لا تُقدّم أجوبة نهائية، بل تُفتح بابًا للتفكير النقدي، وتُعيد الاعتبار للعمارة كأداة وعي، لا كأثر يُستعرض في المناسبات. إنها دعوة لتجاوز الانبهار، واستعادة الفعل.
دعوة للمعماري أن يُصغي لما لا يُقال، وأن يرى ما لا يُستعرض، وأن يبني بما يُعبّر، لا بما يُفرض.

السبت، نوفمبر 15، 2025

من العمارة كاستمرارية حضارية إلى العمارة كهوية سياسية

الجزء الثاني من سلسلة: العمارة كوعي حضاري بين النسبة والاستمرارية


جمال الهمالي اللافي

في الجزء السابق، ناقشنا كيف أن العمارة لا تُقاس بعمرها الزمني، بل بقدرتها على الاستمرار كخطاب حيّ يُنتج المعنى ويُعيد تشكيل الوعي. رأينا كيف أن الحضارة الرومانية، رغم سقوط دولتها، استمرت في تشكيل العقلية الإيطالية، بينما بقيت الحضارة الفرعونية تُستدعى رمزيًا دون تفعيل حضاري معاصر.

لكن هذا النقاش يفتح سؤالًا أعمق:

هل كل ما يُبنى على أرض شعب ما يُعد تعبيرًا عن هويته؟

وهل يمكن أن نُسمي كل أثر معماري "حضارة شعب"، حتى لو كان نتاج سلطة خارجية أو نخبة حاكمة لا تمثّل الوعي الجمعي؟

هنا تبدأ إشكالية النسبة الحضارية، حيث تُنسب منجزات معمارية ضخمة إلى شعوب لم تكن صاحبة القرار أو المرجعية الفكرية في إنتاجها، بل كانت تعيش تحت سلطة خارجية اتخذت من أرضها مركزًا للحكم. هذه الإشكالية لا تخص مصر وحدها، بل تتكرر في سياقات تاريخية متعددة، من بلاد الشام إلى الهند، ومن المغرب إلى أوروبا.

في هذا الجزء، نُفكك هذه المغالطة، ونُعيد طرح العمارة بوصفها سلطة رمزية لا مجرد أثر مادي، ونُميّز بين ما يُستعرض وما يُعبّر، بين ما يُفرض وما يُنتج، بين ما يُنسب جغرافيًا وما يُنتمي فكريًا.

العمارة كهوية سياسية: إشكالية النسبة الحضارية

في الخطاب المعماري، كثيرًا ما تُنسب منجزات حضارية ضخمة إلى شعوب لم تكن صاحبة القرار أو المرجعية الفكرية في إنتاجها، بل كانت تعيش تحت سلطة خارجية اتخذت من أرضها مركزًا للحكم. هذه الإشكالية تكشف عن خلل في فهم العلاقة بين العمارة والهوية.

أمثلة لحضارات منسوبة شعبيًا رغم أنها سلطوية:

  • مصر الإسلامية: منجزات كالأزهر ومساجد الفاطميين والمماليك والعثمانيين تعود لسلطات غير مصرية، اتخذت من مصر قاعدة لحكمها، لا تعبيرًا عن هوية شعبها.
  • بلاد الشام في العهد الأموي والعباسي: كثير من العمارة الإسلامية في دمشق وبغداد تُنسب شعبيًا، رغم أن القرار المعماري كان صادرًا عن نخبة حاكمة مركزية.
  • الهند المغولية: منجزات مثل تاج محل تُنسب للهند، لكنها نتاج سلالة مغولية ذات مرجعية ثقافية فارسية– تركية، حكمت الهند دون أن تكون من نسيجها الشعبي.
  • بلاد المغرب في العهد الموحدي والمريني : رغم الحضور الأمازيغي، فإن القرار المعماري كان سلطويًا، يُعبّر عن مشروع سياسي لا عن تعبير شعبي حر.
  • الآثار الرومانية في بريطانيا وفرنسا:  لا تُنسب إلى الشعب البريطاني أو الفرنسي، بل إلى الدولة الرومانية التي بنتها ضمن مشروع توسعي خارجي.

دلالة معمارية نقدية

  • العمارة، حين تُنتج بقرار سلطوي خارجي، تُنسب إلى الدولة لا إلى الشعب.
  • المغالطة تحدث حين يُستعرض الأثر وكأنه تعبير عن هوية شعبية، بينما هو في الحقيقة تعبير عن سلطة حاكمة اتخذت من الأرض مركزًا لا من الشعب مرجعية.
  • هذا الخلط يُستخدم أحيانًا لتبرير خطاب "الامتداد الحضاري"، رغم أن الواقع يُظهر انقطاعًا في المرجعية الذاتية.

معيار النسبة الحضارية

المعيار

النسبة للدولة

النسبة للشعب

المرجعية الفكرية

خارجية سلطوية

محلية شعبية

القرار المعماري

صادر عن السلطة

نابع من المجتمع

الوظيفة الحضارية

تعبير عن مشروع سياسي

تعبير عن الذات

الاستمرارية

منقطعة بزوال السلطة

متجذرة محليًا

خاتمة: من أثر السلطة إلى سؤال الذات

إن مساءلة النسبة الحضارية ليست تمرينًا في نزع الاعتراف، بل محاولة لاستعادة الدقة في فهم العلاقة بين العمارة والهوية. فليست كل قبة تُشيَّد على أرض ما تعبيرًا عن روح أهلها، ولا كل مئذنة أو قصر أو قنطرة شاهدًا على وعي شعبي متجذر. العمارة، حين تُنتج بقرار سلطوي خارجي، تُعبّر عن مشروع سياسي أكثر مما تُجسّد هوية جمعية.

لكن هذا لا يعني أن الشعوب كانت غائبة تمامًا، بل إن حضورها كان غالبًا في الهامش: في الحرفة، في التكيّف، في التفاصيل الصغيرة التي لا تُذكر في كتب التاريخ، لكنها تُرى في الزخرفة، في الممرات، في النسيج العمراني غير الرسمي.

وهنا يبرز هذا السؤال: إذا كانت العمارة تُنسب أحيانًا زورًا إلى الشعوب، فكيف يمكن للشعوب أن تستعيد صوتها المعماري؟ كيف ننتقل من عمارة تُفرض علينا، إلى عمارة نُنتجها نحن، بوصفنا فاعلين لا متلقين، وبوعي نقدي لا بانبهار رمزي؟

الجمعة، نوفمبر 14، 2025

العمارة كوعي لا كأثر

الجزء الأول من سلسلة: العمارة كوعي حضاري بين النسبة والاستمرارية


جمال الهمالي اللافي

في زمنٍ تتكاثر فيه الشعارات عن "الامتداد الحضاري"، وتُستعرض فيه الأطلال بوصفها دليلًا على العظمة، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في العلاقة بين العمارة والهوية، بين الأثر والوعي، بين ما نُردده وما نُنتجه.

هذه المقالة لا تُعنى بالعمارة بوصفها زخرفة أو استعراضًا، بل بوصفها مرآة للوعي الحضاري، ومؤشرًا على موقع الشعوب من الزمن، لا من التاريخ فقط. نبدأ من سؤال بسيط لكنه جوهري:

هل نملك حضارة ممتدة، أم أننا نعيش على هامش حضارة مضت؟

من هذا السؤال تتفرّع المقالة إلى ثلاثة محاور مترابطة:

  • الأول يُميّز بين الحضارة الممتدة والحضارة المنقطعة، ويُظهر كيف أن الاستدعاء الرمزي للماضي يُغذّي العجز بدل أن يُعالجه.
  • الثاني يطرح إشكالية النسبة الحضارية: هل كل أثر يُبنى على أرض شعب ما يُعد تعبيرًا عن هويته؟ أم أن السلطة المعمارية تُنسب لمن يملك القرار لا لمن يسكن المكان؟
  • الثالث ينتقل من التفكيك إلى البناء، ويطرح مفهوم العمارة كاستعادة للذات، حيث يُصبح الشعب فاعلًا لا متلقيًا، وصاحب قرار لا مستهلكًا رمزيًا.

هذه المقالة لا تقدّم أجوبة جاهزة، بل تُحفّز على مساءلة المفاهيم، وتُعيد الاعتبار للعمارة كخطاب نقدي، لا كديكور تاريخي. إنها دعوة للوعي، لا للانبهار. دعوة للفعل، لا للتكرار.

وهم الحضارة في الخطاب المعماري: بين الذاكرة والواقع

كثيرًا ما يُستدعى الماضي المعماري في الخطاب المحلي بوصفه دليلًا على "امتداد حضاري" مزعوم، دون مساءلة حقيقية عن طبيعة هذا الامتداد أو انقطاعه وهنا تبرز المفارقة الدقيقة بين أن تكون الحضارة المعمارية ممتدة فعليًا، وبين أن تكون مجرد ذكرى تُستغل كأداة تعويضية عن حاضر هش.

إن القول بأن لدينا حضارة منذ سبعة آلاف سنة لا يعني بالضرورة أننا نعيش في سياق حضاري مستمر. فالفارق جوهري بين من يراكم التجربة ويطوّرها، وبين من يعيش على هامش الحضارات، مستندًا إلى أطلال الماضي دون قدرة على إنتاج خطاب معماري حي.

في هذا السياق، يصبح التمجيد غير النقدي للماضي المعماري نوعًا من العيش في أوهام الماضي، وهي حالة نفسية تعكس عجز العقل الجمعي عن تحقيق أي خطوة متقدمة في مسار الحياة المعمارية. فبدلًا من أن يكون الماضي منطلقًا لفهم الذات وتطويرها، يتحول إلى قيد رمزي يُستخدم لتبرير الركود.

تحليل نقدي

  • العمارة ليست مجرد شواهد حجرية، بل هي تعبير عن وعي زمني وثقافي. وحين يغيب هذا الوعي، تتحول العمارة إلى ديكور تاريخي بلا وظيفة.
  • استدعاء الماضي دون مساءلة يخلق فجوة بين الشكل والمضمون، بين ما نعرضه وما نعيشه.

سؤال جوهري للخطاب المعماري المحلي:

هل نملك فعلاً حضارة معمارية ممتدة؟ أم أننا نُعيد إنتاج رموزها دون فهم سياقاتها، فنعيش على هامشها بينما نُردد شعاراتها؟

الثلاثاء، نوفمبر 11، 2025

العمارة كوعي حضاري: بين النسبة والاستمرارية

 تفكيك المفاهيم السائدة حول من يُنسب إليه الأثر، ومن يُنتج الحضارة، ومن يملك حق التعبير المعماري.

مدينة غدامس


جمال الهمالي اللافي

في الخطاب المعماري السائد، كثيرًا ما تُستدعى منجزات الماضي بوصفها دليلًا على امتداد حضاري، دون مساءلة حقيقية عن طبيعة هذا الامتداد: هل هو وعي مستمر، أم استعراض رمزي؟ وهل كل ما شُيّد على أرض شعب ما يُعد تعبيرًا عن هويته، أم أن السلطة المعمارية تُنسب لمن يملك القرار لا لمن يسكن المكان؟

الفرق بين حضارة ممتدة وحضارة منقطعة لا يُقاس بعمر الأثر، بل بقدرة الشعوب على تحويل الماضي إلى مرجعية حية، تُنتج المعنى وتُعيد تشكيل الحاضر. فالحضارة الرومانية، مثلًا، لم تُستدعَ كرمز، بل استُثمرت في بناء عقلية معمارية نقدية. بينما بقيت الحضارة الفرعونية تُستعرض في المتاحف دون أن تُفعل في الواقع المصري المعاصر.

هذا التمييز يقود إلى إشكالية أعمق: النسبة الحضارية. إذ تُنسب منجزات ضخمة إلى شعوب لم تكن صاحبة القرار أو المرجعية الفكرية في إنتاجها، بل كانت تعيش تحت سلطة خارجية اتخذت من أرضها مركزًا للحكم. من الأزهر الذي بناه الفاطميون في مصر، إلى تاج محل الذي شيده المغول في الهند، إلى الآثار الرومانية في بريطانيا وفرنسا، يتكرر الخلط بين الموقع الجغرافي والمرجعية الفكرية، ويُستخدم هذا الخلط لتبرير خطاب امتداد لا يستند إلى وعي فعلي.

هذا الطرح لا يُنكر مساهمة الشعوب في الحرفة أو التكيّف، لكنه يُعيد ضبط النسبة: فالعمارة، حين تُنتج بقرار سلطوي خارجي، تُعبّر عن مشروع سياسي أكثر مما تُجسّد هوية جمعية. والمغالطة تحدث حين يُستعرض الأثر وكأنه تعبير عن الذات، بينما هو في الحقيقة تعبير عن سلطة حاكمة اتخذت من الأرض مركزًا لا من الشعب مرجعية.

إن مساءلة هذه المفاهيم لا تهدف إلى نزع الاعتراف، بل إلى تحرير العلاقة بالعمارة، وإعادة تعريفها بوصفها خطابًا نابعًا من الذات، لا مستعارًا من السلطة. وحين يُدرك الشعب الفرق بين ما يُفرض عليه وما يُعبّر عنه، يبدأ فعل التحرر المعماري، لا عبر استنساخ الرموز، بل عبر إنتاج المعنى.

بهذا الوعي، لا تعود العمارة مجرد أثر يُستعرض، بل تصبح مرآة للزمن، ومجالًا للفعل، وموقعًا لاستعادة الصوت الحضاري الذي طالما اختُزل في الأطلال.

الاثنين، نوفمبر 10، 2025

نحو تأسيس فلسفة معمارية ليبية: من الوعي الفردي إلى البناء المؤسسي

تأمل تأسيسي في الحاجة إلى فلسفة معمارية ليبية، تُعيد الاعتبار للسياق المحلي، وتفتح بابًا نحو بناء منهج نقدي يُحرر العمارة من التبعية والارتباك.

 

جمال الهمالي اللافي

في ظل التحديات المعرفية والمهنية التي تواجه العمارة الليبية، وتتكاثر فيه النماذج وتتشابه الواجهات، وتغيب فيه الأسئلة الكبرى عن معنى البناء وجدواه، تبرز الحاجة الملحة إلى تأسيس فلسفة معمارية محلية تستمد شرعيتها من السياق الليبي، وتدعو إلى وقفة تأملية تُعيد للعمارة الليبية صوتها الخاص، وتُحررها من التبعية البصرية والمفاهيمية. وتنهض على قاعدة من التأمل النقدي والوعي الثقافي. فلسفة لا تكتفي بردّ الفعل على التغريب أو الاجترار، بل تسعى لبناء خطاب معماري متجذر في المعتقد الإسلامي، والبيئة المحلية، والمجتمع الليبي بتعقيداته وتحولاته.

ليست هذه دعوة للانغلاق، ولا حنينًا إلى نمطٍ مفقود، بل محاولة لتأسيس خطاب معماري نابع من السياق الليبي، يستمد شرعيته من المعتقد الإسلامي، والبيئة المحلية، والمجتمع بتعقيداته وتحولاته.

الغايات المرجعية: لماذا نحتاج فلسفة العمارة الليبية؟

لأن العمارة الليبية اليوم تُنتج بلا سؤال، وتُدرّس بلا تأصيل، وتُمارَس بلا وعي. ولأن غياب التأطير الفلسفي جعلها عرضة للاجترار أو التغريب، تُشبه كل شيء إلا نفسها. ولأن السياق الليبي، بما يحمله من خصوصية دينية واجتماعية ومكانية، يستحق خطابًا معماريًا يُعبّر عنه، لا يُفرض عليه.

من التأمل الفردي إلى البناء المؤسسي

التجربة الفردية، مهما بلغت من النضج، تبقى محدودة الأثر إن لم تُصاغ ضمن رؤية مؤسسية. فلسفة العمارة الليبية لا تُبنى على التأمل وحده، بل على تحويل هذا التأمل إلى محتوى منهجي قابل للتدريس، والتحاور، والتطوير. هي محاولة لتحويل الوعي الفردي إلى منهج يُمكّن الأجيال القادمة من الانطلاق بثقة، دون ارتباك أو تبعية.

الهوية كمصدر لا كقيد

المعتقد الإسلامي ليس عائقًا أمام الإبداع، بل منبعٌ لرؤية متكاملة للإنسان والمكان والزمن. والبيئة الليبية ليست مجرد خلفية، بل شريكٌ في التكوين. والمجتمع، بتنوعه وتاريخه، ليس عبئًا على المعمار، بل مادةٌ للفهم والتأويل. فلسفة العمارة الليبية تُعيد الاعتبار لهذه العناصر، لا بوصفها قيودًا، بل مصادر تأسيس.

نحو مقرر تأسيسي: ملامح أولية

من هنا، تبرز فكرة إعداد مقرر أكاديمي بعنوان: "فلسفة العمارة الليبية: من الوعي الفردي إلى البناء المؤسسي" . مقرر يُعالج الغايات المرجعية، ويُقترح هيكلًا معرفيًا، ويستند إلى مرجعيات فكرية محلية وعالمية، ويطرح خطوات مؤسسية للتأسيس، ويواجه التحديات دون تنازل عن الجوهر.

1.      مبررات تأسيس المقرر

  • غياب التأطير الفلسفي في مناهج العمارة الليبية الحالية.
  • تشوّش الهوية المعمارية نتيجة الاجترار أو التغريب.
  • الحاجة إلى بناء موقف نقدي معماري يُمكّن الطالب من فهم الواقع وتحليله.
  • ضرورة تحويل التجربة الفردية إلى محتوى مؤسسي قابل للتدريس والتطوير.

2.      أهداف المقرر

  • تمكين الطالب من التفكير النقدي في العمارة كخطاب ثقافي.
  • فتح باب التأمل الفلسفي في العلاقة بين الإنسان والمكان والزمن.
  • تمكين الطالب من التفكير النقدي في العمارة كخطاب ثقافي.
  • تحرير المصطلحات المعمارية من الاستلاب المفاهيمي.
  • بناء وعي معماري متجذر في السياق الليبي.
  • تقديم أدوات تحليلية لفهم وتحليل الإنتاج المعماري المحلي.

3.      محتوى المقرر المقترح:

يتكون المقرر من ست وحدات معرفية:

  1. مدخل إلى فلسفة العمارة:  المفاهيم، النشأة، المدارس الفكرية.
  2. العمارة كخطاب ثقافي:  تحليل العلاقة بين العمارة والهوية.
  3. نقد الاستلاب البصري:  تفكيك آليات التغريب في التصميم المحلي.
  4. تأويل التراث المعماري الليبي:  من الاستهلاك إلى التأسيس.
  5. دراسات حالة ليبية:  تحليل نقدي لمشاريع مختارة.
  6. مشروع ختامي:  بناء موقف فلسفي معماري خاص بالطالب.

4.      المرجعيات الفكرية:

  • مدارس فلسفة العمارة (الظاهراتية، النقدية، ما بعد الحداثة).
  • مفكرون عرب وليبيون في الهوية والمكان.
  • التجربة الشخصية كمنبع تأملي.
  • المعتقد الإسلامي كرؤية تكاملية للإنسان والمكان والزمن.

5.      خطوات التأسيس:

  • تقديم المقترح إلى كليات العمارة كمقرر اختياري أو نواة لمسار بحثي.
  • تنظيم ورش عمل تجريبية بالتعاون مع أقسام العمارة.
  • نشر مقالات تأسيسية في المجلات الأكاديمية والمهنية.
  • بناء شبكة من المهتمين بالفكر المعماري الليبي لتبادل الخبرات.

خاتمة: فلسفة العمارة الليبية ليست ترفًا، بل ضرورة

إن تأسيس فلسفة معمارية ليبية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة ثقافية ومهنية. هو فعل مواجهة للارتباك، واستعادة للوعي، وبناء لمرجعية تحمي العمارة من التبعية والتشويش. وهو أيضًا دعوة إلى تحويل التأمل الفردي إلى منهج مؤسسي، يُمكّن الأجيال القادمة من الانطلاق بثقة، ويُعيد للعمارة دورها كأداة وعي وتعبير عن الذات والمكان.

دعوة مفتوحة

هذه المقالة ليست نهاية، بل بداية. بداية لحوار معماري ليبي، لا بوصفه رد فعل، بل فعل تأسيس. دعوة لكل من يرى في العمارة أكثر من بناء، وفي التأمل أكثر من ترف، وفي السياق المحلي أكثر من خلفية.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...