أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، فبراير 24، 2012

الفن التشكيلي الشعبي بين الحداثة و الاصالة




د. عياد هاشم*


      تأتي الفنون الشعبية التشكيلية على قمة الماثورات الشعبية ممارسة وأصالة و تتمتع بطابع فني خاص يعكس حياة الناس و تتصف بالعراقة فهي ترديد لعادات و تقاليد متوارثة تعبر بوضوح و صدق عن ثقافة معينة تحدد معالم الشخصية الحضارية لكل مجتمع.

بدأ الاهتمام بالفنون الشعبية أوالمأثورات الشعبية كما يسميها الكثيرون في أواخر القرن التاسع عشر كمصطلح انجليزي استخدمه لاول مرة عالم الاثريات الانجليزي ( سيرجون وليام تومز ) ( 1803 – 1885م ) و ذلك في يوم 22 من شهر  أغسطس  من عام 1846م امتدادت للجهود العلمية التي سبقته في كل من انجلترا نفسها و المانيا و فنلندا و لقد ظهر هذا المصطلح ( فولك – لور ) بعد ذلك و هو بمعنى ( حكمة الشعب ومأثوراته ) و يطلق على كل موضوع من ابداعات الشعب المختلفة. وأصبح هذا الفن تعبيرا مباشرا بالصدق و يجمع في مادته خبرات ثقافية موروثة وتجربة حية معيشة بوسائل تعبير مختلفة.

في تراثنا العربي ظهرت مواد المأثورات الشعبية بشكل واضح في القرن الثامن و أهم يميزها قدرتها على الاستمرار في عملية الابتكار والإبداع في تتابع الاجيال، ويتحول الموروث الثقافي إلى مأثور ثقافي حي في تواصل أيضا مستمر في اطار من الرؤية العلمية والفنية المعاصرة فهو إضافة انسانية مستمرة للحياة ووسيلة مباشرة من وسائل معرفة الإنسان عبر العصور من خلال رؤية فكرية وجمالية.
     
و حقيقة أن ما يمثله هذا الفن من علاقة قوية، وحية لحياة الناس ويزاولونه هم انفسهم من خلال مبدعيهم اجيالا وراء الاجيال في تتابع مستمر،فهو يمثل في حقيقة الامر الفن الجماهيري بعينه الذي ينبغي تاكيده واظهاره و الاهتمام به و نشره و الحفاظ عليه فهو تعبير صادق عن الذات القومية و الوطنية.

أولا/ مدخل للفن التشكيلي الشعبي:
التعريف:
    الفن الشعبي التشكيلي جزء مهم من المأثور الشعبي أو ( الفلكلور) وهو مادة ابداعية ابدعها الشعب تلقائيا يعبر بها عن فكره ووجدانه، ويمتزج فيها الموروث الثقافي التاريخي مع الخبرة الإنسانية في تجربة الحياة اليومية.

الأصالة و الحداثة في العمل التشكيلي الشعبي:
     الأصالة هي عراقة النسب لشيء أو لشخص ما بتأصيل الجذور في اعماق الماضي و ربطها بالتجديد نحو الأبتكار و الأبداع في المستقبل هو الطريق الصحيح لفهم التراث و جعله صالحا للاجيال القادمة بركائز قوية للوصول إلى التقدم المنشود بوثبة عالية وبذلك يصبح مفهوم الاصالة بهذا المعنى الاشارة إلى الابتكار الدائم و التجديد دون التقليد و الاتباع.

       ان خصوبة العمل الفني لا تتوضح الا بجدته و التنبوء بنجاحه نظرا لمعرفتنا المسبقة لاصالته، فعندما ننشد الجديد لابد من أن نتعرف على القديم و ثمة من ينبه إلى أن نفطن إلى تربية الاصالة في نفوس النشء الجديد و هي الضمان الوحيد لتنمية حرياتهم وتطوير قدراتهم الأبداعية،و أن الانجاز الاصيل هو السبيل الوحيد من أجل اللحاق بركب الإنسانية و التسامي إلى مستوى لا شمول أو كلية في الدعوة للحرية الأبداعية.

       لم تقف عجلة الابداع للعناصر التشكيلية في العمل الفني الشعبي عند حقبة زمنية معينة أو اقتصرت على حدود مكانية معينة، بل سارت واستمرت ماثلة في حركية مطردة في التعبير الفني و التقنية و الممارسة الشخصية والجماعية من مصممين ومنفذين في خبرة اصيلة في تعبيرها وقدرتها على استلهام عناصرها الاساسية ذات مكونات تاريخية فكرية وعقائدية جاءت لتلبي حاجات ورؤى مستقبلة جديدة ومعاصرة تبعا لما يبغيه جيل معين في فترة زمنية أيضا معينة.

     إن الفنان الشعبي لهذه المأثورات الشعبية عندما يتناول موضوعات أو أشكال من التراث المحلي و هو على سبيل المثال في منطقتنا العربية عليه أن ينظر إلى هذا التراث الخاص بالبيئة و الظروف المحيطة بها لتكوين مصدر ألهام لتجسيد و تحريك عنصر الحداثة فانه من الضروري و المهم في نفس الوقت نفسه من أن يتنبه إلى الاسس الفكرية والعقائدية الكامنة وراء مظاهر الأبداع الفني التقليدي المتوارث عبر الاجيال لهذه الأعمال الفنية، فأستلهام العناصر أو الموضوعات من هذا التراث الشعبي بأنماطه الثرية يحقق لنا قفزة نحو الحداثة في نشر الوعي بحضارة هذه الامة و تأكيد مشاعرها في الأنتماء و الأصالة بامكانيات حديثة ووسائل أفضلمتطورة وتقنية عملية متقدمة. والحداثة تتطلب مقاييس وضوابط لابد من مراعاتها وهذا بدوره يتطلب كيفية معينة للتوازن المستمر مع التقدم في التقنية العملية و الوعي الثقافي العام.

      ان مكونات الشكل العام للتراث تتغير و تنمو و تتبدل على مر العصور و هذا طبيعي جدا من أجل الحيوية و الأصالة التعبيرية في تواصل حي متطور لابد للفنان منالتعرف و الوقوف عليها بشكل مبتكر ووعي تام ومتفتح لركائزه شكلا ومضمونا مع العناية بعناصره المتجددة ومضمونة الأصيل المتطور هو الاخر عبر الزمان مهما كان قريبا أو بعيدا فلا عجب أن نستلهم التراث بغية احياء الماضي الذي قد يكون تراثا رجعيا متخلفا أو يكون تراثا ثوريا تقدميا عندها نستطيع أن نميز ما يفيدنا وبالتالي نترك ما لا يفيدنا ومعنى هذا بأن عملية التواصل ينبغي أن تستمر في توازن ثقافي بين ما كان و ما يجب أن يكون في عصر يتميز بالحيوية و تداخل الخبرات الفنية و العلمية والأجتماعية و في أوجه النشاط الإنساني العالمي كافة و نحب أن نشير إلى أهمية دراسة علمية فنية عالية متخصصة مستقبلا بمعاهدنا و كلياتنا المعينة بالفنون الجميلة والتطبيقية لتوضيح أساليب تطوير هذه الفنون التقليدية لتواكب مقتضيات العصر والاستمرارية في الحداثة برؤى علمية نشطة تسعى لتحقيق حيوية لهذا التراث الخالد بتميز المهارات ووضع الخطط التي من شانها أن تبني حجر الاساس للمبدعين كافة.

خصائص و مميزات العمل التشكيلي الشعبي:
     حتى نصل إلى وضع خطة تقدمية للرفع من مستوى العمل الابداعي للفنون الشعبية لابد لنا من الوقوف على أهم خصائص و مميزات هذا النوع من الفن، و تختلف العناصر والمميزات مع ما يمثله هذا الفن مننشاط فني بين جيل و اخر و بين منطقة و أخرى، و لكن توجد عناصر تكاد تكون اساسية وعامة و هي التي ترفع منالذوق و التربية و تدعو للاحساس به:

أ – الجانب التعبيري:
الذي يمثل قدرة الفنان الشعبي على توظيف فكرته و تناسق عناصر اشكاله الخطية و اللونية بشكل نقول عنه تلقائي وذي موضوع شاعري أو وصفي أو حتى ماساوي جدا في بعض الأحيان وياتي فيالعادة باسلوب محكم ولغة شعبية تشكيلية سهلة و هادفة.

ب- الجانب الشكلي:
والذي يتكون من تناسق عناصر معنية تخرج بأشكال موظفة توظيفا معبرا وقابلا للجانب التعبيري السابق في وحدة تلاحم من شأنها أن توفر قيما جمالية وفنية تدعونا إلى جانب يتفرع إلى عناصر مختلفة أخرى نجملها في نقاط تالية:
1/ العنصر الخطي و اللوني و الحركي:
لا ينجح أي عمل فني تشكيلي مهما كان عظيما الا بنجاح الجانبين الأساسين وهما جناحا العمل الفني ويمثلان الجانب التعبيري والجانب الشكلي ولابد لنجاح الجانب الشكلي من نجاح توظيف الخط واللون وحركة كل واحد داخل هذا العمل الأبداعي كعناصر رئيسية هامة يقوم عليها أي بناءتشكيلي بشكل عام ناهيك من الجانب الرمزي الذي يندرج تحت الجانب التعبيري في توزيع الخطوط ورموزها والوان الأشكال ودلالاتها السياسية و الاجتماعية والنفسية و نعني على العمل التشكيلي الفني حتى يرتقي إلى مرتبة العمل المبدع وعفوية الخطوط والألوان والأشكال لا تقودنا دائما للنجاح، بل تنظيمها وفهم التكوين العام فالخطوط والأشكال والألوان لها أدوار معينه دالة على المخرج الجيد من الاتقان في توزيعها ناجحا في حركة ووحدة مفعمة بالقيم الجمالية التي ترقي بالعمل الفني إلى مستوى القمة في الأبداع ولو كانت بأسلوب وتقنيات بسيطة، فالعمل الفني الناجح دائما يخرج من بساطة في التكوين وتلقائية في التعبير والأداء بأسلوب فني منظم.

2/ عنصر الملمس:
وهو عنصر له أهميته وقيمته العالية بالذات في الفنون الشعبية التشكيلية وذلك لأهمية السطوح التي يتعامل معها ويستخدمها، فاختلاف مادة الصوف والحرير والخشب والرخام والحجر والفخار ونحوها يساعد على نجاح العمل وله اهميته وطبيعته الجذابة فالتحف الفنية التقليدية تاخذ القلوب ورونقها الخاص وعرض ملامسها بوضوح طبيعتها وصدقها الفني والمادي.

3/ عنصر الكتلة:
تزداد اهميته الفن الشعبي لعنصر الكتلة والإحساس بها في تجسيد العناصر الشعبية اساسا منخطوط وأشكال بوسائل ومواد مختلفة مما يعطيها تجانسا في مختلف درجاتها ومستوياتها وطبقاتها مع تكامل تام للجانب التعبيري بدون شك.

4/ عنصر التكوين:
     وهو الذي نسميه بأبي العناصر جميعا و حاميها و راعيها، فهو الجامع المانع الذي يجمع كل العناصر و يمنع الخروج عنه، فهو البناء الكامل الذي يتوخاه الفنان في صياغة كافة العناصر و الاشسكال و الألوان و تطابقها أيضا في هذا العمل الابداعي في وحدة كاملة يعكس خبرة الفنان منناحية وقيمة العمل الذي يزاوله و يحمل في طياته كل العناصر وسواء كانت بسيطة أو معقدة جلية أو غامضة ظاهرة أو باطنة فهو الاتزان بعينه وقوة التعبير الرصين المطلوب.

ثانيا/ الفن التشكيلي الشعبي في ليــببا ـ  تاريخه و أنواعه:
      يمتد زمن تاريخ المأثورات الشعبية أو فنون الشعب الليبي التقليدية إلى زمن بعيد موغل في القدم، فمنذ أن وطئ الإنسان هذه الأرض بدات معه ارهاصات و دوافع هذا العمل الفني لضرورته الحياتية و انسجامه مع هذه الطبيعة جعلته أكثر قربا من المادة و التشكيل.

      ان فنون الكهوف الليبية تزخر بهذه الأعمال التشكيلية الأولى و التي جاءت تلقائية فطرية ابدعها هذا الإنسان فكانت معبرة عن فكره ووجدانه في تجربة حياته اليومية التي كان يعيشها في تلك الفترة ومع مرور الوقت ازدادت الحاجة إلى صنع اشياء و اشياء وفي كل مرة يطورها من اجل الملاءمة معتمدا على تجاربه السابقة كموروث ثقافي تاريخي ودليلا يوجهه. وهكذا تنوعت المصنوعات واختلفت مادتها والحاجة إليها عبر السنين حتى اصبحت تشمل سائر أنواع النشاط الإنساني المختلفة منملبوسات وأدوات وحتى عمارة.

      كان لتأسيس الفنيقيين لعشرة مراكز تجارية على طول الساحل الليبي مثل ماركا اويات و لبدة و صبراته و غيرها خلال القرنين السادس والسابع قبل الميلاد دليلا قاطعا على أهمية هذه المنطقة من إنتاج للصناعات الحرفية التجارية حيث كانت تعج بنشاط تجاري فعال يربطها مع دول اوروبا شمالا والأراضي الافريقية جنوبا وبين المشرق والمغرب. وكانت هذه الفنون اليدوية أوليات اهتمامات وتشجيع الفنيقيين، ثم مرت على البلاد أقوام من الغزاة مرة تلو المرة من أغريق و رومان ووندال وبيزنطين وخلال هذه الحقب التاريخية استمرت بدون شك صناعة الفنون الحرفية و بصورة جيدة أشغال الخزف والنسيج والفخار والزخارف المعمارية المختلفة مرورا بالفتح العربي وما تلاه من فترات تاريخية مختلفة وإلى يومنا هذا فقد كانت للعرب المسلمين نهضة شاملة من بينها تشجيع هذه الحرف ودعهما مما أصلها في كيان الإنسان وصارت جزءا من حياته ومعايشته لها ثم على اثر الغزوات الاستعمارية وما صاحبها من شظف العيش و قسوة الحياة صار الاعتماد على الحرف اليدوية الخاصة امرا ضروريا لاستمرار الصناعات ولكنها كانت رخيصة ومتواضعة مما تولد روح نقل هذه الصناعات من جيل إلى جيل وجعل الكثير من الاسر تحافظ على هذا النشاط حسب توفر امكاناته الطبيعية التي تزخر بها، فكانت السجادة مثلا من صنع محمودي أو "بوسيفي" نسبة إلى مازال اصحاب المهنة يعرفون الجرود أو الحوالي على انها نالوتية و أخرى ديارية أو سواحلية و كذلك من خلال تقنية الصنع و الزخارف الخطية واللونية التي تحملها نجد الخيمة لاهل سهل جفارة و الأخرى لاهل سرت أو المنطقة الوسطى وهكذا.

     كان لإنشاء مدرسة الفنون الصنائع في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي و بداية القرن القرن العشرين الاثر الكبير في رسوخ هذه الصناعات وامتدادا منظماو مقننا لهذه الفنون الابداعية، فكانت صناعة التجارة والحدادة وتطريز الجلود والسروج والحياكة من أهم التخصصات زد على ذلك الاحذية والطباعة والبناء والنقش و الموسيقا والرسم كانت كلها تدرس بمدرسة الفنون والصنائع الإسلامية ومن قبل اساتذة عرب ليبيين واتراك ومغاربة واندلسيين وكانت معظم المنتوجات ذات فنون نفعية تطبيقية خالصة.

     و من الناحية التنظيمية كانت الصناعات التقليدية تخضع لنظام نقابي اشبه ما يكون بالانظمة التي ازدهرت في بعض الازمنة باوروبا خصوصا في ايطاليا، فكانت كل نقابة يرأسها امين يشرف على صناعتها من حيث الاتقان والجودة و مراقبة اسعارها ويقوم به تحت اشراف عام شيخ البلد الذي تعينه السلطات في تلك الفترة.

     استمرت الفنون الشعبية التقليدية مع وجود المستعمر الأيطالي أيضا وكانت الحياكة و اشغال الجلد و كل أعمال الزخارف العربية الإسلامية على رأس هذه الفنون التطبيقية دون أي مساعدة كبيرة تذكر حيث يقوم الأهالي في داخل الأسر الصغيرة بعمل تلك الفنون و نشرها بين الأجيال في تواصل مستمر. كانت صناعة البسط من أهم الصناعات الحرفية للبنات قبل الحرب العالمية الثانية في مدينة طرابلس ومن ابرز الفنانات في هذا المضمار نجد كل من جميلة الأزمرلي وزكية بن شعبان على سبيل المثال لا الحصر تخرجتا من مدرسة الفنون والصنائع في وقت مبكر من بين 25 ايطالية دخلن هذه المدرسة في عام 1903 م، بينما اتجهت البنية إلى تعليم وتدريب الموهوبين في مجال الخزف، و قد كان في عام 1914 م من اجل توفير المستلزمات الخزفية و الفخارية وتعليم الطلاب الليبيين الموهوبين والعمل على تحسين صناعة المشربيات والأواني المختلفة الهامة في الاكل و المشرب و بلاط الجدران المزخرف الجميل الذي يستعمل في الحمامات وتوثيق اللوحات الزخرفية الإسلامية على البلاط القيشاني و في مجال الزخرفة بمواد أخرى نجد الجص الذي يلعب الدور الكبير في نقش المساجد والبيوت و المداخل وكل ذلك في يتم بتشكيل يدوي بسيط يجاري الحياة اليومية العربية والإسلامية بفنونها المختلفة وعاداتها وتقاليدها.

خصائص الفن الشعبي التشكيلي الليبي:
     الفن التشكيلي الشعبي الليبي يتنوع بتنوع مواده الخام والحاجة إليه، فقد طوره الليبيون بشكل يتناسب مع طبيعة البلاد و تقاليدها الشعبية، فنجد الصناعات الصوفية اليدوية متواجدة مع هذا الإنسان الليبي منذ زمن بعيد فلا عجب أن اللباس الليبي تفرد في العالم بطبيعته الخشنة أحيانا أخرى فهذا وبنعومته أحيانا أخرى فهذا الجرد أو الحولي على سبيل المثال يكتسب شهرة عالمية وتاريخية، فاخذه الرومان عن الاغريق و الاغريق عن الليبين منذ مئات السنين و نقل عن الليبيين الكثير من الزخارف الخطية البسيطة ذات الدلالة التجريدية وزخارف السجاد و الألبسة والأغطية والمرقوم والحمل والكليم وبيوت الشعر والوبر و نحوها كلها تحمل زخارف ذات خصائص يدوية بيئية تترجم نمط الحياة البدوية المناخية الحارة نهارا والباردة ليلا، زخارف في قمة التجريد والنقاوة والبساطة، عفوية في تخطيطها ولكنها تحمل سمات هذا البلد المميزة.

       الفن التشكيلي الشعبي الليبي له ايقاع في خطوطه و انسجام في ألوانه ودقة وضوح أشكاله دون اللجوء إلى المنظور والتظليل، و لقد حقق بالتالي إحدى الوظائف الرئيسية للعمل الفني مما يجعلنا نشعر بالمتعة البصرية تجاهه وهذه الخصائص البصرية تخدمه رمزيا في التعبير عن طبيعة و حياة المجتمع في هذه المنطقة و قد جاءت الوانه متناسبة مع ما يرمز إلى طبيعته من سيكولوجية الناس العامة، ألوان صريحة كصراحة هذا الشعب فنجد اللون الأحمر على سبيل المثال يسيطر على بعض مساحات الزخارف الشعبية لادراك القدماء بأن اللون الأحمر يرمز إلى خاصية تتعلق بالحياة والسرور من جهة وبالحرب من جهة أخرى وهو لون الدم بطبيعة الحال المعروفة فهو قوة الطبيعة الخصبة الحية وهو لون الشوق الشديد على اعتبار الأحمر أشد الألوان تأثيرا بينما نجد الأخضر فهو لاشك لون الحياة و النمو و لون الخضرة يبهج العين ويرمز إلى الجنة ثم اللون الأصفر يمثل اللون الذهبي للاراضي الشاسعة الليبية الصحراوية ، لون الضياء و النور و الشمس وليس له علاقة بما يرمز له اللون عند بقية الشعوب الأخرى.

      الأشكال الزخرفية من وضعها لفهمها بهذه الصورة و خصوصا فيما يتعلق بقضية ابعاد العين الشريرة و الحسد و نحوها مما لايتسع المجال لسردها. يكفي بأن خصائص هذا الفن نابعة من وظيفته أساسا وتعبير صريح عن سماحة وصفاء سريرة مبدعيها انسجاما مع الظروف البيئية والجمالية وتأخذ الألوان مساحة في الفنون التشكيلية الشعبية لتختم بها اشكالها رمزا لسمرة بشرة هؤلاء القوم.

واقعه اليوم:
    ان أهم هدف للفن الشعبي العالمي تسجيل و رصد كل المظاهر الفنية الأبداعية التي يستخدمها أو يتناقهلها الناس البسطاء الذين لم يتأثروا بالطبيعة المدنية في العادة، فن قائم على الحاجة اليه و ضرورته الاقتصادية و الأجتماعية والجمالية و الأخيرة ترتبط بالمهارات و المعارف التقليدية التي تحبب الناس اليه وترغبهم فيه حسب الذوق السائد فهي تلك الجماعات ولقد تراجعت صناعة الحصر على سبيل المثال المصنوع من مادة ( الديس) على اعتبار أن الحصير لم يعد يستعمل كثيرا ومن الكماليات ولا يمكن استعماله في المدن وضواحيها نظرا لسيطرة الحصير البديل المصنوع من اللدائن الرخيصة والسهلة الاستعمال وهذا يؤثر على الصناعات التقليدية الشعبية كثيرا ة يحد من نشاطها و تداولها.

    الصناعات التقليدية للمصنوعات المعدنية من فضة و ذهب و حلي متقدمة ولكنها ذات زخارف و مع الاسف ليست نابعة من صميم الزخارف الشعبية المحلية بل هي معظمها مقلدة و مكررة لا ينسب معظمها إلى هذا البلد. فالأبداع الشعبي يصدر من رؤية فنية للمجتمع في اطار عاداته و تقاليده كما وضحنا وتعبر بصدق و بساطة عن الثاقفة التي تحدد معالم الشخصية الحضارية لهذا المجتمع و لكن واقع هذه الصناعات التقليدية بحاجة إلى توجيه ووعي للفنان المبدع و المتلقي.

ثالثا/ الفن التشكيلي الشعبي اليوم و المستقبل:
1- الشكل و المضمون:
    لكل عمل فني بشكل عام شكل قام عليه كقالب تنظيمي لعناصره المكونة من خطوط و الوان ومساحات، هذا ما يعكسه العمل التشكيلي من تصميم عام و هذا لا يقوم بوظيفته و لا يصبح ذا اهمية حتى يكون له مضمون يحققه هذا العمل ولا يكتمل الا بفلسفة و هدف تجميع تلك العناصر التشكيلية فالشكل و المضمون هما الاساس الذي يحدد و يحرك العمل الفني مهما كان نوعه و هدفه، الشكل فعل ابداعي هدفه تنظيم التجارب الذاتية ضمن اطار الاصالة و الذوق العام السائد في المجتمع خلال فترة زمنية معينة بينما المضمون تلخيص لموقف انساني من بيئته و مجتمعه فالعمل الفني ينبغي أن يتجه نحو التاثير على وجدان الناس من خلال الشكل أو الأشكال الموزعة توزيعا ايقاعيا معينا حتى يكتمل العمل الفني و يصبح بالتالي للشكل و المضمون صلة عضوية لا يحيا الا بهما معا، الشكل هو الفعل الظاهر الذي باستطاعته كل مشاهد أن يراه بينما المضمون فعل باطن يرشدنا إلى التفكير و التأمل بوسائل و عناصر تشكيلية جمالية معينة.

وحتى تتحقق عملية الأبداع فيالعمل التشكيلي الشعبي أو ما يعرف بالمأثورات الشعبية و نصل بها إلى الغاية المطلوبة في تحقيقها ينبغي مراعاة دراسة الشكل من ناحية و المضمون منناحية اخرى و ربط قضية الفن بالمجتمع و تطور الفن من خلال تطور المجتمع نفسه نحو تفهم معاني ة دلالات هذا الفن و الرقي بها فهو يعكس طبيعة ثقافة الشعب و لا يمكن تجديد الشكل دون الرجوع إلى الأصل و هو الأصالة، أصالة هذا الشعب وهذا يقودنا إلى دراسة الجذور التقليدية وانتقاء ما ينفع و يساهم في التقدم و ترك ما لا ينفع فلا يكون هناك داع لصياغة الاشياء غير المتمشية معنا و لا يمكن دراسة الشكل الجديد دون الرجوع لدراسة مسألة التراث الأصلي بشكل دقيق، فالشكل الزخرفي على الكليم أو السجاد الشعبي اليدوي البسيط المكون من خط و لون و مساحة و فضاء هي وسائط تاريخية تجريبية اكتسبها الفنان الشعبي منخلال تجاربه و ممارسته هذا العمل بغية ابراز غاياته في تقبل هذا العمل النفعي و هو الاستفادة من المادة نفسها و الاقبال عليها و لكن انتقاءه لهذه العناصر و طريقة وضعها و تشابكها و تمازجها قد ينجم عنه فن أو قد تنجم عنها فوضى و بالتالي اذا لم يكن الفنان يدرك هذه العناصر و يفهم معانيها فهو لا ينتج عملا ابداعيا له قيمة جماية ويعرض هذا الفن إلى المسخ و الضعف مهما كان معناه و رمزيته و محتواه ويفقد تواصله و مكانته العالية.

2- التقنية و الابتكار:
    يتطلب العمل الفني عناصر تشكيلية معينة لترجمة مضمون و تعبير عن رأي معين و هذا لا يتحقق لا بتقنيات و ابتكارات خاصة، فالأولى تعتمد على وسائل تساهم في سرعة و دقة العمل الفني و الثانية تعتمد على براعة وثقافة و ذكاء و حسن تصرف الفنان نفسه.

     فالفن التشكيلي تتعدد سائله و مواده مهما كانت بدائية فالمبدع دائما يلجأ إلى عناصر تعينه على عمله الحرفي و بأسرع و أسهل الطرق النفعية اليومية المتعددة و الضرورية، كلما كان هذا المبدع يبحث عن تقنيات جديدة لعمله كلما كان ناجحا و بالتالي يسهل عليه الابداع و الألق أيضا هو يتكامل مع تفهم الشكل و المضمون و باقي مقومات العمل الفني الاخرى.

الوقوف على الجديد في التقنيات مع الحرص على سلامة اخراجها دون المساس بالأصل أو التراث الشكلي و الرمزي يساعد على نجاح هذا العمل وينشطه و ينشره، و لا تبرز التقنيات الفنية في العمل الشعبي الا اذا صار هناك اهتمام خاص بها و هي منالعلامات الثقافية لاتساع الافاق أمام الفنانين التشكيليين للخوض في مجالات و فرص أكثر.

      طرق الاستفادة من ابتكارات الاخرين و توظيفها للعمل الفني مهمة وأسلوب جاد نحو التعمق في حل معضلات تواصل و تقدم هذا الفن والتنافس مع الفنون العالمية لأخرى ومسايرتها. تقنيات العمل الابداعي الشعبي لا تخرج من اطار ابداعات هذا المجتمع و ظروفه البيئية و امكاناته و لكن بوجود عوامل مساعدة تكشف عن تقنيات و ابتكارات جديدة خاصة في كل مرة فالطينة الممتازة في منطقة غريان على سبيل المثال طريقة معالجتها وسهولة الحصول عليها و بأسرع الطرق و بأحدث الوسائل عوامل تساعد على تطور العمل و تقدمه شعبيا ايضا فالحلول المادية و بالطرق المنهجية العلمية السليمة ينبغي ان تنطلق نحو الابتكار. و دائما ترتبط عملية الابتكار أو الخلق بالتقنية و تدريب الشباب على استعمال الالات في ايجاد تقنيات مساعدة تسهّل عملية الابداع.

     مسألة الابتكار هامة جدا حيث ان التقليد هو السكون للضعف و الجمود ومظهر منمظاهر العجز و الركون إلى الانحطاط و التشويه و الانحلال وتختفي الشخصية وتضيع المعاني الأصيلة. و الفن الرفيع لا يقدم و لا ينهض الا على أساس الابتكار و البناء و الابداع و ذلك باتاحة الفرص في الحرية الكاملة و المنظمة التي تجعل من الفن بجميع صوره يأخذ طريقه الصحيح.

    على الفنان الشعبي أن يتقبل كل ظواهر الابداع و الابتكار بروح الفهم والمسئولية لما يعمله فلا قيمةللعمل لكمه أو لكيفيته و القيم الجمالية متوقفة على الكيف و ليس الكم دائما. فلا للكسب المادي فقط بل للذوق الجميل والأحساس المرهف و الشعور الدقيق و الذهن المتيقظ و الفكر المتفتح بالتطوير و البحث عن الجديد و المفيد الذي لا يخرجنا مندائرة الفن الأصيل المحلي و بعيدا عن التقليد الغربي الجميل في مظهره القبيح في جوهره ومعانيه.

     هذا هو الفن الشعبي الذي نريده و سيكون مستقبله زاهرا فلا مستقبل دون وضع خطة علمية فنــية مدروسة نحو تحقيق عمل فني مبدع يعكس تراث هذا الشعب و أصالته و حضارته.

الخاتمة و الاستنتاج:
    الفن التشكيلي الشعبي فن ذو أصالة و امتداد متواصل بين الاجيال في الابتكار و الابداع و يعكس فنا جماهيريا حيا و ثقافة شعبية نابضة بالصدق والاحساس و التعمق لشتى مظاهر الحياة و نستطيع أن نخلص إلى نقاط هامة ينبغي العمل على دراستها:
1-   ينبغي أن يسير هذا الفن وفق خطة علمية فنية مدروسة و أن يستفاد منه في شتى ضروب الثقافة العامة للمجتمع من الناحية الاجتماعية والنفسية و التاريخية و الفنية.
2-        تحديد أسلوب موحد لجمع وتسجيل و تصنيف مواد المأثورات الشعبية التشكيلية الشائعة في ليبيا.
3-        توفير المتطلبات المادية و المعنويةالتي من شأنها أن تساعد على الأداء والبحث العلمي و الفني السليم.
4-        فتح مراكز تدريب و تعليم تقنيات حرفية و توجيهها نحو تفهم معانيها وبث الروح الجمالية كقيمة للابتكار و الابداع.
5-        تحقيق نهج علمي و فني متكامل في العمل الميداني لدراسة التراث أنواعه و أطرزته في ليبيل.
6-        تشجيع مبدأ الابتكار و الابداع في الفن التشكيلي الشعبي.
7-   التعاون مع وسائل الاعلام المختلفة لاثارة الاهتمام بهذا الفن الجميل وتفهم أصوله و معانيه و نشره لكافة الناس و لكل المستويات.
8-   الاهتمام بالفخار و الخزفيات و السجاد و لأشغال المختلفة المصنوعة من سعف النخيل و جريده لما يمثله من أهمية لهذا الشعب كأقدم الصناعات التقليدية التي عرفها الأنسان على هذه الأرض وارتبطت بالتطور الحضاري لتاريخ الشعب الليبي.
9-   توثيق مواد الفن الشعبي التشكيلي بالصورة و الرسم و هي عملية أساسية لدراسة مقومات الثقافة الشعبية للمجتمع و تقييم قيمه الابداعية و الجمالية.
10- مساعدة المبدعين على حل مشاكلهم المختلفة التقنية و الجماليةدون المساس بأساسيات الابداع التقليديةالحرفية.
11- توجيه الحرفيين إلى هذه الصناعات التقليدية لأهميتها السياحية والفنية و الثقافية لحياة المجتمع، و التصدي للتيارات الثقافية الوافدة المؤثرة.
 12- على ثقافة البلد وفكرها الأصيل. تأسيس و فتح متحف وطـني قومي خاص بالمأثورات الشعبية.
13- الاكثار من المسابقات الفنية و المعارض التي تخص هذا النوع من الفن.
14- توعية النشء الجديد على تفهم و تقبل رموز الفن الشعبي و تربيتم على حب الوطن و فنونه من خلال تفهمهم لأهدافه و أصالته و رموزه العامة.


المراجع:

1-      إبراهيم، زكريا ( دكتور ) الأصالة ماذا تعني؟ و ما دورها في حياتنا؟ مجلة العربي، العدد (196 ) الكويت.
2-      أبو غازي، بدر الدين ( الفن في عالمنا )، دار المعارف، مصر، 1981 م.
3-      خشيم، علي فهمي ( قراءات ليبية )، دار مكتبة الفكر، طرابلس – ليبيا. بدون تاريخ .
4-      الشاروني، صبحي ( الفنون التشكيلية )، دار الطباعة الحديثة، مصر، 1958 م.
5-      الشال، محمود النبوي، العناصر التشكيلية في بنية الفنون التشكيلية الشعبية، مجلة الفنون الشعبية ( العدد الثاني و العشرون )، مصر، 1988م.
6-      الشال، محمود النبوي ( التوجيه في الفنون العملية )، مكتبة نهضة مصر الفجالة، مصر، 1958 م.
7-      جمعة، حسين ( قضايا الإبداع الفني)، دار الأدب، بيروت – لبنان، 1983 م.
8-      رشيد، عدنان ( دكتور ) ( دراسات في علم الجمال )، دار النهضة العربية، بيروت – لبنان، 1985 م.
9-      صفوت، كمال ( الأصالة التقليدية مصدر الهاد الحداثة)، مجلة الفنون الشعبية، العدد ( 49 )، الهيئة المصرية للكتاب، 1995م
10-  صفوت، كمال ( الفلكلور تعبير عن أصالة الشعوب )، مجلة العربي، العدد ( 243 ) 2 – 1979م.
11- صفوت، كمال، ( الوصول إلى منابع التراث الشعبي )، مجلة المأثورات الشعبية، السنة الثالثة، العدد العاشر، مركز التراث الشعبي، الدوحة – قطر، 4- 1988 م.
12-  طرابلس في مائة عام، بلدية طرابلس؟
13-  عبد الملك، جمال ( ابن خلدون ) ( مسائل في الإبداع و التصوير)، دار الجيل، بيروت – لبنان، 1991 م.
14-  عطية، محسن محمد ( دكتور ) ( تذوق الفن )، دار المعارف، مصر، 1995م.
15-  محمود، زكي نجيب ( دكتور ) ( إحياء التراث و كيفية فهمه )، مجلة العربي، العدد ( 265 )، الكويت، 12/ 1980 م.
16-  مع الفنون – مجله عدد خاص، مدرسة الفنون و الصنائع الإسلامية، الجماهيرية العظمى 1997 م.
17-  نوبلر، ثاثان ( حوار الرؤية ) ترجمة/ فخري خليل، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت - لبنان، 1992م.
18-  هارون، عبد السلام ( التراث العربي )، السلسلة الثقافية، المركز العربي للثقافة و العلوم، بيروت – لبنان. 


تعريف بالكاتب على هذا الرابط/

هناك تعليقان (2):

  1. Hi there, just became aware of your blog through Google, and found that it's really informative. I am going to watch out for brussels. I'll appreciate if you continue this
    in future. Lots of people will be benefited from your writing.
    Cheers!

    Also visit my website; best stand mixers

    ردحذف
  2. Its like you read my mind! You appear to know a lot about this,
    like you wrote the book in it or something. I think that you could do
    with a few pics to drive the message home a bit, but other than that, this is fantastic blog.

    A fantastic read. I'll certainly be back.

    Feel free to surf to my website - stand mixer reviews (http://forum.sseooutreach.org.uk/)

    ردحذف

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية