أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، يونيو 08، 2012

من مدن جبل نفوسة،


 بقــالــــة *



الأستاذ/  سعيد علي حامد

        لم يحظ جبل نفوسة بذلك الاهتمام من قبل المؤرخين القدماء والجغرافيين العرب، ولعل أهم ما جاء بخصوصه من إشارات مقتضبة، وردت عند ابن حوقل والبكري وصاحب كتاب الاستبصار.
      
يصف إبن حوقل صاحب كتاب صورة الأرض والذي ألفه في القرن الرابع الهجري/ العاشر للميلاد جبل نفوسة بقوله: (( جبل عالٍ منيف... وفيه منبرين لمدينتين تسمى أحدهما شروس في وسط الجبل وفيها مياه جارية وكروم وأعناب طيبة وتين غزير، وأكثر زروعهم الشعير وإياه يأكلون، وإذا خبز كان أطيب طعماً من خبزة الحنطة، ولشعيرهم لذة ليست في خبز من أخباز الأرض... وبالجبل مدينة ثانية تعرف بجادو من ناحية نفزاوة وفيها منبر وجامع... )) . ويشير البكري إلى جبل نفوسة في كتابه المسالك والممالك الذي كتبه في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر للميلاد فيذكر أن المسافة من إطرابلس إليه مسيرة ثلاثة أيام، وهو على ستة أيام من القيروان ويذكر أن طوله من الشرق إلى الغرب ستة أيام، وأن بوسطه النخيل والزيتون والفواكه الكثيرة.

ومن المعلوم أن فتح عاصمة جبل نفوسة مدينة شروس كان في عام 23 هجري/ 643 ميلادي على يد القائد عمرو بن العاص، وكتب من هنالك إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستأذنه في غزو أفريقية ولكن الخليفة لم يأذن له بذلك فعاد عمرو بن العاص إلى الإسكندرية ولم يترك أي حامية بشروس أو طرابلس وكأنه أعتبر ذلك تمهيداً لفتح لاحق.
       
تتناثر على قمم وتلال جبل نفوسة العديد من القرى والمدن القديمة بداية من وازن عند الحدود الليبية التونسية إلى يفرن، وتتشابه أنماط الحياة في مدن وقرى الجبل وتتماثل أساليب العمارة فيها من الغيران إلى بيوت الحفر(( الدواميس )) إلى البيوت المبنية والقصور والمساجد... إلخ كما نجد أن مواد البناء التي تتمثل في الحجارة والجبس وجذوع النخل وأغصان الزيتون هي الغالبة في كافة تلك القرى والمدن.
       
سنتعرف على قرية من قرى جبل نفوسة لم تنل عند المؤرخين والآثريين بنصيب من الاهتمام أو الذكر وهي قرية بقالة. أول نص أطلعت عليه أشار إلى هذه القرية الذي دونه إبراهيم سليمان الشماخي في كتابه القصور والطرق لمن يريد جبل نفوسة من طربلس ( 1303 هــ / 1885 م ) فيذكر" قصر يقال له بقالة: نصفه أمازيغيين ونصفه عرب، عنده سواني كثيرة تقم عليها زراعة الخضروات وأهلها أصحاب زيتون وحيوان، وبها مسجد وحوالي 120 منزلاً في وسط الغابة، وفي رأس الشعبة".
قرية بقالة
          
تقع قرية بقالة على حافة وادي البقاقيل الذي يلتف حولها مما يجعلها محاطة به من ثلاث جهات فتبدو القرية عند جريان هذا الوادي شبه جزيرة . وهي من ضمن مديرية الحرابة التي بها عدة قرى أخرى منها : جريجن ، مرقس ، أم صفار ، بقيقيلة ، وتندميرة ومن أشهر المدن التاريخية فيها ويغو وشروس التي  كانت عاصمة جبل نفوسة حتى القرن الثالث الهجري.
        
بنيت بقالة على تل صخري تتراص المباني فوق بعضها البعض على شكل هرم  بحيث تبدو للناظر من بعيد وكأنها تتسلق التل، ويفصل الكتل البنائية طريق متعرج يمكن الوصول منه إلى قمة التل التي يتربع عليها القصر القديم، الذي يضم نحو من مائة حجرة معدة للتخزين وتبدو ملامحه واضحة رغم إنهياره. وهذا  القصر مثله مثل قصور جبل نفوسة يستغل لتخزين الغلال كالقمح والشعير والزيتون كما يخزن به السمن والصوف وغير ذلك من المواد وكان أهل المنطقة يعينون حارساً له يشترط فيه الأمانة ومعرفة سكان المنطقة نظير أجر متفق عليه يتقاضاه.

إستخدمت في بناء بيوت القرية ومسجدها القديم وقصرها المواد المتوفرة محلياُ المتمثلة في الحجارة والجبس وجذوع النخل وأغصان الزيتون. وتتميز معظم البيوت بأن أسطحها مسطحة أستغلها الأهالي في تجفيف التمور والتين بينما بعضها على شكل كاموري ( نصف برميلية ) في حين اغلب المداخل والأبواب على شكل عقود.
مجموعة بيوت
        
لا نــجد في المصادر التاريخية والمراجع تاريخ نشأة هذه القرية وتشير الروايات الشفوية لدى الأهالي بأن بقالة من أقدم القرى بالمنطقة إذا إستثنينا مدينتي شروس وويغو ،  وأن أهلها نزحوا منها في زمن غير محدد وأسسوا القري المجاورة.
        
إن طبيعة جبل نفوسة أعطت سكانه نمطا معينا من الحياة ، إذ إعتمدوا على مياه المطار التي يستغلونها في زراعة المحاصيل التي تشتهر بها المنطقة كالقمح والشعير ، وأعتمد أهل بقالة أيضاً على أشجار التين والزيتون والنخيل فتناثرت حول المنطقة ومما يدل على وفرة الزيتون وجود ست معاصر قديمة بها وتوجد بالمنطقة بعض العيون تستغل مياهها في زراعة بعض الخضروات في حقول صغيرة تعرف بالسواني كما أشتغل أهلها برعي الأغنام.

ما يميز بقالة بأن سكانها خليط من الأمازيغ والعرب وتتداخل بيوتهم مع بعضها البعض ويسكنها اللحمات التالية : العيايطة ، أولاد أبو الهول ، و أولاد عمر العريبات إنتقل بعضهم إلى القري المجاورة ومنها بقيقيلة وعرفت سابقاً بإسم تمنكرت . واللحمات العربية التي إستقرت بالمنطقة جاءت إليها بعد مقدم قبيلتي بني هلال وبني سليم في القرن الخامس الهجري  / الحادي عشر للميلاد . وقد تأثرت منطقة جبل نفوسة عامة بالغارت التي شنها المغامر يحيى بن غانيه الذي إستغل إنشغال الموحدين في حرب ضروس في الأندلس وثبت أقدامه في طرابلس وتونس ثم أراد إخضاع جبل نفوسة لسيطرته فشن عدة غارات أسفرت عن حرق وتخريب الكثير من مدن الجبل وحاول الإستيلاء على مدينة شروس القريبة من بقالة إلا أنه عجز عن ذلك نظراً للمقاومة التي أبداها الأهالي ولا يستبعد أن تكون هذه الغارات قد أضرت بالحياة الإقتصادية والعمرانية بالمنطقة.

إن الفتن والثورات والإغارات والحروب التي تعرضت له مدن وقرى جبل نفوسة في فترات تاريخية مختلفة كان لها الأثر البين في عمارة المنطقة التي شيدها الأهالي فلم يغفلوا فيها جانب الحماية والأمن ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم وصد الغارات المفاجئة.

إلى الغرب من قرية بقالة وعلى قمة مرتفعة تبدو في الأفق القريب زاوية سنوسية بنيت في القرن التاسع عشر ظلت تؤدي دورها الديني والثقافي حتى ستينيات القرن العشرين ولازالت معالمها  في حالة جيدة.
الزاوية السنوسية
        
هجر السكان قرية بقالة في ستينيات القرن العشرين وبنوا بيوتاً حديثة يفصلها عن القرية وادي البقاقيل ، وتحتاج أطلال بقالة إلى باحثين آثريين لدراسة معمارها وإلى أيدي خبيرة تتولى صيانة وترميم معالمها وتحتاج المنطقة عامة إلى بنية سياحية لتكون أحد بؤر الجذب السياحي في ليبيا.




المصادر والمراجع :ــ
1ــ ابن حوقل. كتاب صورة الأرض . بيروت : مكتبة دار الحياة.
2ــ أبو عبيد الله البكري . كتاب المسالك والممالك . بغداد : مكتبة المثني .د.ت.
3ــإبراهيم سليمان الشماخي.القصور والطرق لمن يريد جبل نفوسة من طرابلس ( 1303هـ ــ1885م ) ترجمة أحمد الفساطوي. دراسة وتقديم إمحمد البوجديدي وأخرون.منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، 2005م.
4ــ جاك تيري. تاريخ الصحراء الليبية في العصور الوسطى. ترجمة جاد الله عزوز الطلحي, مصراتة : المنشأة العامة للنشر والتوزيع والاعلان. 2004م.
5ــ محمد سالم المقيد الورفلي. بعض الآثار الإسلامية بجبل نفوسة في ليبيا. منشورات مصلحة الآثار الليبية .2007م.
6ــ سعيد علي حامد . قصور تاريخية منافعها شتى . مجلة تراث الشعب . مكتب الفنون والتراث. السنة 11 ، العدد 2، 1991م.


·        نشر في صحيفة أفاق أثرية التي تصدر بمدينة بنغازي .فبراير 2012

                                   

هناك تعليقان (2):

  1. I was more than happy to find this page. I need to to thank
    you for your time due to this fantastic read!
    ! I definitely enjoyed every part of it and i also have you
    book marked to look at new stuff on your site.

    Feel free to visit my blog post: cuisinart stand
    mixer ()

    ردحذف
  2. Hello very cool blog!! Man .. Beautiful .. Superb .. I'll bookmark your blog and take the feeds also? I'm satisfied to seek out numerous useful
    info here in the submit, we want work out extra strategies on this regard, thanks for sharing.
    . . . . .

    Here is my blog No-Fuss Stand Mixers Plans - An Assessment

    ردحذف

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية