أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، مايو 18، 2016

مساجد المسلمين


القيمة المهدورة والهوية المفقودة
  

جمال اللافي


(المساجد ليست مجرد بناء لأداء عبادة مفروضة، بل هي روح الأمة الإسلامية وكينونتها متجسدة في هذا المعمار الذي يعبر عنها أصدق تعبير، تبعا لمكانته في نفوسهم وموقعه من المدينة أو الحي. ومدى اهتمامهم بعمارته وصيانته).
 
مسجد محلي بمركز منطقة سوق الجمعة

       يمثل المسجد المركز الروحي للمجتمعات الإسلامية ومحور نشاطاتها وتفاعلاتها اليومية. فإلى جانب وظيفته التعبدية. فهو يؤدي أيضا دوره كعنصر ضابط لأخلاقيات المجتمع، مثلما يساهم كفراغ معماري في استيعاب النشاطات الدينية والاجتماعية والثقافية المختلفة.    لهذا فهو يحتل إلى جانب مكانته الوظيفية كفراغ لأداء الصلوات، مكانة أخرى تتمثل في حضوره المركزي والمحوري في مخططات المدن الإسلامية والتجمعات العمرانية. كما يمثل بحكم موقعه المختار بعناية فائقة ضمن التجمعات العمرانية ليكون إما في مركز المدينة، كمسجد جامع. أو كعلامات دالة في بداية أو نهاية أو تقاطعات الشوارع الرئيسية والأزقة الفرعية بالنسبة لمساجد الأوقات المنتشرة في الأحياء والحارات السكنية. يحدد من خلالها العابر اتجاهه ومساره الصحيح داخل المنطقة، من خلال مآذنها المرتفعة بأشكالها المتعددة. ناهيك عن اعتبار المسجد أساس تخطيط المدينة، ومحرابه هو اللبنة الأولى التي توضع بعد تحديد اتجاه القبلة بدقة متناهية ومن تم تؤسس باقي عناصر المدينة على هذا التوجيه.   

المسجد الجامع بمركز مدينة ترهونة

       وقد بدأت إشكاليات مخطط المدينة الإسلامية المعاصرة والمسجد على وجه الخصوص تأخذ منحناها التنازلي مع بداية الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي بصورة عامة وبلادنا بصفة خاصة، حيث استلمت إدارة المستعمرات مسؤولية وضع مخططات المدن والتوسعة العمرانية. الأمر الذي جعل موقع المسجد ومكانته السامية في نفوس المسلمين تكون في آخر اهتمامات المخططين، بحكم اختلاف العقيدة. فتعرض المسجد للتهميش في مقابل إبراز مكانة الكنائس وإعطائها مواقع السيطرة. كما هو الحال بالنسبة للكنيسة القائمة بميدان الجزائر بمركز العاصمة طرابلس، أو كاتدرائية مدينة بنغازي، حيث أخذتا موقعا استراتيجيا من خلال الجهد الذي بذله المخطط الإيطالي لاختيار موقعها وتخطيط الشوارع المحيطة بها لتكون هذه الكنسية دائما في محور الحركة وترى من مسافات بعيدة، كما يراها الداخل إلى مدينة طرابلس عبر البحر كأوضح معلم. وبذلك أعادت هذه الكنيسة تشكيل هوية مدينة طرابلس المعاصرة على أساس سيطرة العقيدة المسيحية على عقيدة أهل البلد وهي الإسلام. 

كاتدرائية ميدان الجزائر- الهيمنة على المحيط العمراني ومحاور الحركة

       واليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن على رحيل جيوش المستعمر، إلاّ أن فكره بقي متجذرا في نفوس المستعمَرين وهم آهالي هذا البلد. ومع طغيان الفكر العلماني المادي على العقيدة في النفوس وفي الحياة العامة، نجد أن البنوك والأبراج المرتفعة بطرزها الغربية، كبرج ذات العماد وبرج الفاتح وفندق كورينتيا- وما أعقبها من أبراج تم تنفيذها في العشرية الأولى من الألفية الثالثة- نجدها تطل علينا لتحتل موقع السيطرة على أهم المواقع بمدينة طرابلس ومحاور الحركة ونهايات بعض الشوارع الرئيسية بها وإطلالتها على البحر لتشكل من خلالها بانوراما جديدة للمشهد العام لمدينة طرابلس في الألفية الثالثة. في حين ظل المسجد غائبا عن الحضور وفاقداً لمكانته التي كانت تتجلى بوضوح في المدن الإسلامية التاريخية. و لم يعد يحسب له أي حساب في تقسيمات المناطق الجديدة. وأصبح حضوره على مستوى المخططات العمرانية مهمشا بصورة واضحة ومتعمدة. حيث أصبح يحشر حشرا في إحدى الزوايا المهملة من مناطق المدن الليبية وأحيائها السكنية. كما لم يعد يمثل معلما معمارية يحظى باهتمام المصممين والحرفيين المحترفين. وبدأ يترك أمر تصميمه وتنفيذه لأفراد غير متخصصين أو مؤهلين لهذا الأمر من حيث التصميم أو تنفيذ الأعمال الحرفية فيه. فحصل تداخل غريب في الطرز المعماري للمساجد. وغابت الطرز المحلية التي تميز كل منطقة بخصائصها الثقافية والبيئية. وبدأ يطغى على الرؤية التصميمية للمساجد بحيث أصبحت تتباين في أشكالها بين:  · الانتقاء المفرط للطرز الإسلامية المشرقية لعمارة المساجد، التي تتميز بالإسراف في ارتفاعاتها الشاهقة دون دواعي ومبررات منطقية، إلى جانب الإسراف في التفاصيل والزخارف، بما يتعارض مع الرؤية الشرعية لعمارة المساجد.  · أو الابتذال المخل بقيمة المسجد الروحية من خلال تنافر المسجد بأشكاله وتفاصيله مع المحيط.  · أو الخروج بأشكال هلامية بدعوى الحداثة ومجاراة آخر الصرعات المعمارية المعاصرة. 

مجموعة من المساجد المحلية بمختلف المدن الليبية

       إن استمرار فكرة تهميش مكانة المسجد في المخططات الحديثة، إنما يعكس حالة المجتمع والدولة على حد سواء في تهميش قيمة الدين الإسلامي في النفوس، حيث أصبحت القيم المادية هي المحرك للعلاقات والسلوكيات والمبادئ التي يسير عليها المجتمعات الإسلامية المعاصرة. أو تسيّر بها الدولة شؤون الرعية. ولا يخفى علينا ما للعمارة من تأثير مباشر على سلوكيات المجتمعات والأفراد. لهذا نرى أننا نؤتى من هذا الجانب لعظيم أهميته وتأثيره ودوره.   


الخلاصة/
       ومن المنطلقات السابقة يمكن تحديد بعض الجوانب التي قد تسهم في إعادة الاعتبار لمكانة المسجد في حياة وقلوب المسلمين قبل إعادة الاعتبار له داخل مخططات المدينة الإسلامية المعاصرة وصورتها العمرانية والمعمارية، من خلال التركيز على أهمية العلاقة بين المسجد ومحيطه العمراني والاجتماعي، باعتباره العصب والمركز والنواة التي تدور حولها باقي مكونات الحي أو المدينة وهو الذي يغديها بالقيم الروحية التي تفتقر إليها المدن المعاصرة في عالمنا الإسلامي اليوم. وأن لا يقتصر تفكيرنا على الشكل الظاهر للمسجد من حيث طرازه أو مساحته أو مكوناته. وذلك بالأخذ في الاعتبار عند إعادة رسم مخططات المدن والمناطق النواحي التالية/
1.     احتفاظ المسجد الجامع والساحة العامة المحيطة به بمركزيته على مستوى مخططات مدننا المعاصرة.
2.     إعادة ارتباط مؤسسات الدولة بالعاصمة وباقي المدن بالمسجد الجامع على مستوى التصميم الحضري.
3.     استمرارية انتشار الأسواق الرئيسية والتخصصية والمباني التجارية حول المسجد الجامع ومؤسسات الدولة والمرافق الخدمية مع الأخذ في الاعتبار نوعية الخدمات ومواقعها بالنسبة إلى موقع المسجد.
4.     مراعاة الاختلاف المناخي وتنوع التضاريس والثقافي بين المدن الساحلية والصحراوية والجبلية والأرياف وما يترتب عنه من تنوع في الخصائص العمرانية والمعمارية، عند وضع المخططات الجديدة.  


التوصيات:
       التركيز على أهمية تنظيم الندوات والمؤتمرات المعمارية والتخطيطية التي تناول المحاور التالية بالنقاش للوصول إلى مقترحات لمعالجة إشكاليات المسجد في المدن المعاصرة وذلك من حيث/
·        التخطيط الحضري للمدينة من منظور أهمية المسجد في تشكيل صورتها العمرانية.

·        معايير التصميم المعماري للمسجد والطرز المعمارية المختلفة التي تخلق التنوع في أنماط المساجد المحلية تبعا لتغير التضاريس والبيئات الحضرية والثقافية التي تميز كل منطقة.     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية