أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، يونيو 05، 2009

من فنون مدينة طرابلس المعمارية- (منذ القرن السادس عشر وحتى بداية القرن العشرين )



د. عياد أبوبكر هاشم*
كلية الفنون والإعلام – طرابلس






يطلق اسم " طرابلس" في العالم العربي على مدينتين . المدينة الأولى تقع في غرب هذا الوطن الكبير بليبيا والأخرى تقع في شرقه بلبنان.

تتميز المدينتان بخواص تكاد تكون مشتركة ، فكلتاهما تقعان على شاطئ البحر الأبيض المتوسط ، وتملكان مرفأ تجارياً وبحرياً منذ القدم وقد أسسهما العرب الفينيقيون منذ زمن بعيد .
تاريخياً : تعرضت المدينتان إلى حوادث مشتركة أيضاً ، فقد مرت عليها حضارات مختلفة من يونانية ورومانية وبيزنطية وكانتا مركزين مهمين لكل حضارة منها.

دخلتا تحت لواء الخلافة العربية والإسلامية منذ القرن السابع الميلادي وقد أمّن وجود مرفأ بحري لكل منهما قد سهّل من اتصال الدولة العربية الإسلامية مع كل أجزائها بعضها مع بعض ومع بقية أطراف الدولة المجاورة والبعيدة ، وبالتالي أصبحتا تشكلان ليس فقط المركز الثقافي والحضاري في العالم العربي – الإسلامي في القرون الوسطى ، بل كانتا أهم وسيط في نشر واتساع المنجزات الثقافية والحضارية التي حققها العرب المسلمون في ذلك الوقت . للتمييز بين هاتين المدينتين في الوطن العربي ثم إطلاق مدينة طرابلس الغرب الواقعة في الجماهيرية الليبية وإطلاق مدينة طرابلس الشام الواقعة في بلاد الشام شرق الوطن العربي.

مدينة طرابلس الواقعة في الجماهيرية بليبيا كانت تشكل مجموعة ثلاث مدن وهي طرابلس ولبدة وصبراتة وكلها تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وتمتد أسواقها التجارية إلى عمق اليابسة .... وبفضل هذا الموقع الجغرافي امتلكت تلك المدن هذا الاتصال القوي مع جميع حضارات البحر الأبيض المتوسط (1).

بلغت هذه المدن في العصور القديمة مرحلة حضارية متقدمة ، ونضوجاً فنياً كبيراً متساوياً مع التطور الحضاري والتقدم الذي شهده العالم خلال الفترة الرومانية (2) الآثار العظيمة لمدينة لبدة ذات الجدران الحجرية والطينية ، تكشف لنا عن مجمع معماري عريض يمثل ويشمل شوارع ذات أروقة ،وأعمدة، وساحات ، ومعابد ،وأقواس نصر، وتكشف لنا عن أروع وأكبر حمامات ذات أرضية مرصوفة بالفسيفساء، وجدران مكسوة بالرخام ، بالإضافة إلى التماثيل الجميلة المنحوتة من الرخام الناعم القوي الجميل.

مدينة صبراته أحتوت أيضاً آثار مهمة وضخمة مثل المسرح المدرج ،وأعمدة رخامية مزخرفة، ذات الطراز الكورنتي وشيد المسرح على نمط حمامات مدينة لبدة في القرن الثاني الميلادي "الإفرنجي" والذي أعيد بناؤه في سنة 1927.

المدن الليبية القديمة بشكل عام تكونت من منشآت ومجمعات معمارية ضخمة واحتوت على فنون نحتية عظيمة إلى جانب التماثيل هناك النحت النار والنقوش الحجرية بالإضافة إلى الفسيفساء وتتشكل فيها زخارف متعددة الألوان تمشياً مع ماهو سائر من تقليد فني في تلك الفترة التاريخية في فنون المعمار والنحت في إيجاد مجموعة حلول وصيغ تصميمية وفي خلق أو ابتكار وتكوين نموذج فني معماري تركيبه ذي صلة وثيقة بين مختلف أنواع الفنون المختلفة.
هذا التقليد الفني استمر حتى العهود البيزنطية واستمرت المنشآت المعمارية جنباً إلى جنب مع الفنون العربية الإسلامية وتداخلت هذه الفنون في كثير من المواضع في المدينة. مع استمرار هذا التقدم الحضاري في أثناء الفترة العثمانية الأولى وما بعدها، أصبح للمدينة أهم مركز حضاري فني إلى جانب النشاط التجاري ونحوه فيها .

كان للتأثير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمدينة الأثر الكبير والمباشر والواسع على التطور الحضاري على نحو ما سنعرفه فيما بعد من أجل فهم وتتبع هذا التطور الفني الذي حدث ونما في هذه المدينة منذ بداية القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن العشرين، قمنا بتناول هذه الدراسة.

خلافاً لبقية الآثار في العالم ودراسة فنونها فقد كانت هناك دراسات دقيقة لمعظم هذه الآثار ودونّت عنها الكثير من التعليقات التاريخية وتحليل كافة صغائرها التي تضمنها خزائن الفن العالمي، ولكن بالمقابل فإن الشواهد الحضارية العربية الإسلامية في ليبيا والى وقت قريب بقيت بعيدة عن اهتمام البحات والمتخصصين في دراسة التاريخ والفنون بالذات "والاتْنوغرافيا" وحتى منهم من المتخصصين في علوم الفن الإسلامي وتاريخه إلا للقليل منهم ، ومع هذا فإننا نرى في أعمال الأوربيين الذين قاموا بدراسة الفنون الإسلامية والعربية والذين حققوا دراسات حول العمارة والتصوير والزخرفة والخطوط الكتابية لم تتضمن مؤلفاتهم فنون مدينة طرابلس باعتبارها مركزاً حضارياً اسلامياً وعربياً وأنهم لم يتطرقوا إطلاقا إلى الآثار الفنية وبالذات العربية والإسلامية إلا الشئ السطحي والقليل جداً الذي لايعتبر دراسة فنية مهمة مثل الباحث التاريخي هرتزفلد ، كونيل ، كرزلد ، ايتنغهاون، راسيل، دايمند.

وتجدر الإشارة إلى أن البحات الروس والسوفييت السابقين المتخصصين بدراسة الحضارة العربية الإسلامية لم يهتموا أيضاً بهذا الموضوع مثل : فايمرن (3) ، وكابثرقا مؤلفي كتاب الفنون الوسطى في المغرب العربي ( شمال أفريقيا ) (4) من وجهة نظرنا أن هذا التقصير العلمي الذي آلت إليه أعمال الباحثين في مجال الفنون العربية والإسلامية في ليبيا ، يعود بالدرجة الأولى إلى عدم توفر المؤلفات والمنشورات الخاصة بهذه المرحلة التي من شأنها وأن تساعد على التشجيع لدراسة هذه الفنون وتحليلها تحليلاً نقدياً سليماً.

إن ما تتصف به البحوث العلمية الغربية وحتى عام 1960 ف غياب كلي عن الاهتمام بإبراز المعالم الحضارية في طرابلس وبعد هذا الزمن وفي أواخر الستينات من القرن الحالي تغير الوضع عندما وجد وسط من المثقفين والمتعلمين والمفكرين الليبيين من الاهتمام بالدراسة وإعادة البحث والإنعاش للتعريف بالحضارة الفنية التي تشهدها مدينة طرابلس وباقي المدن الليبية . فكانت الخطوات الجادة في هذا المضمار وتبلورت في تأسيس جناح علمي مهمته تسهيل وتعريف الوسط الثقافي في ليبيا وخاصة لطلاب التاريخ والآثار والفنون وذلك من خلال مؤلفات شهيرة تتحدث عن التاريخ بشكل عام القديم والحديث في ليبيا ولأجل هذا تمت ترجمة العديد من الكتب التي لمست بعض هذه الآثار من قريب أو بعيد وخاصة فيما يتعلق بمدينة طرابلس ومثال ذلك كتب: ذكريات ريتشارد تولي ( عشر سنوات في طرابلس -1783- 1793 ف(5) وأعمال قسطنطين بيرقانو ( طرابلس فيما بين سنوات 1510- 1850(6) وبعض التراجم الأخرى التي تناولت الفن الإسلامي بشكل عام في الوطن العربي مثل جورج مارسيه وكريزول دافيد وغيرهم.

وبعد قيام ثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة صدرت عدة كتب تناولت هذه الحضارة في المدينة وبقية المدن الليبية الأخرى ونشرت باللغتين العربية والانجليزية وبعض اللغات الأوروبية الحية الأخرى (7). مثل الذي نستطيع أن نلمسه ونستدل عليه في نشر الفهرس البياني الذي صدر في عام 1975 ف – لندن - (8) وكذلك الكتاب المصور عن ( العمارة الإسلامية في شمال أفريقيا ) التي احتوى على الكثير من المعالم الأثرية المعمارية في ليبيا (9) .


إن الخطوة الجوهرية الملموسة للقيام بدراسة الحضارة الفنية في مدينة طرابلس كمدينة إسلامية وضمن تحليل علمي وتاريخي سليم يعيد لهذه المدينة عظمتها ي نشر حقيقة صورتها قديماً وحديثاً هو ممثل في بداية دراسة منتظمة عن المدينة التي مازالت تحتفظ بمظهرها التقليدي العريق ولكن بدأت الدراسات في الظهور ولعل الموسوعات ذات الاهتمام الخاص والتسجيل والتوثيق والأبحاث العلمية التفصيلية والدقيقة وبتحليل علمي رصين ومتابعة كل كبيرة وصغيرة مــن جميع النواحي السياسية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية والفنية يساعد بالتأكيد على نشر هذه الحضارة والتعريف بها للعالم . لذلك أتقدم بهذه الدراسات أولاً بأول عن هذه الحضارة الفنية لمدينة طرابلس وبشكل مختلف قليلاً عن من سبقوني في دراسته وتحليله عن هذه الآثار أو الإرث الثقافي الفني البديع مهتماً بجماليات والأسس الفنية التشكيلية على اعتبار إن هذه المجالات من صميم تخصيصي في دراستي الاكادمية في كل مرة .

التصميم المعماري الخاص بالمدينة :
إن ازدهار التصميم الزخرفي والتزييني في هذه المدينة ومعمارها خلال مختلف المراحل والعصور التاريخية التي مرت بها المدينة تتحدد بعوامل ثلاث رئيسية هامة :
1- الخصائص المناخية المحلية والموقع الجغرافي المميز بقربها من البحر من الجهة والصحراء ذات الرمال الناعمة من جهة أخرى.
2- التقليد المعماري الفني والمحلي.
3- الوضع الديني ذو الاتجاه العربي الإسلامي.

في ظل الظروف المناخية حيث يغلب الحر في مدينة طرابلس ، وكما في بقية مدن شمال أفريقيا ، فإن التصميم البنائي المعماري يأخذ في الاعتبار كيفية ملائمة تقلّب وضع الشمس خلال ساعات النهار كي تتلقى كل أقسام المبنى الضوء والظل بالتناوب.

إن رسوخ وثبات الأساليب التقنية والبنائية في تشييد وتزيين المباني إنما يعكس الفكر المحافظ ، وظروف الحياة ووضع أبناء المدينة المتمسكين بالتقاليد وحياتهم الاجتماعية التي يعيشونها ، كما يفصح عن انتمائهم الديني ووفائهم للإرث الفني المتوارث عبر الأجيال القديمة بشكل متواصل. وفي تتبع مراحل هذه التقاليد يظهر التقليد الفني بالإضافة الى التأثير المحلي هناك التركي والمغربي والأندلسي، والجدير بالذكر التنويه الى الهجرات الفنية للأعداد الكبيرة من المسلمين الذين خرجوا من أسبانيا واستوطنوا من جديد مدن التريبوليتانية ( تونس والجزائر وطرابلس ) بعد عام 1609 ف وكان من بين هذه الفئات من المهاجرين العائدين حرفيون مهرة بناءون وفنانون ومتخصصون وقد انتقلت أعمالهم وتجاربهم من جيل الى جيل وتركت أساليب خاصة وبصمات واضحة مما قد أثر على تميز الفن المغربي بصفة عامة على منطقة شمال أفريقيا (10) .

إن التصميم والشكل المعماري لمدينة طرابلس الخاص بهذه المرحلة قد تميز بالخصائص التي تتمتع بها المدينة العربية والإسلامية مع ضم بعض العناصر التركية وقسم أو جزء بسيط من فنون العمارة الأوروبية .

المدينة العربية والإسلامية المغربية في أساسها تملك تخطيط جيد . فكان يتم بناء القلعة أولاً وأحياناً تقام هذه القلعة على أنقاض حصن قديم وكانت المدينة أيضاً تحاط بسور من الجدران الدفاعية مع وجود بوابات التي تقع عادة على أطراف الطرق التجارية ومراكز العبور والمواصلات ، وكان يقطن هذه المدينة عدد كبير من سكانها الأصليين بالإضافة الى وجود ضواحي للمدينة والتي نمت على أطرافها وبسرعة مشاريع بنائية دون تحضير مسبق ، وهكذا سادت مدينة طرابلس على قاعدة أصول البناء في المدينة العربية الإسلامية ، وكل مبنى عندما يشيد من جديد قد أتبع هذه القواعد أو الأسس المطابقة للمعايير البنائية القائمة والطرز والذوق الخاص بالمدينة المناسب للتعاليم الإسلامية. وقد أخذ في الاعتبار أيضاً التقليد المحلي في تخطيط الأحياء من ترتيب وتنظيم الطوابق التي يتألف منها البناء والمحيط به بحيث لا يجب أن يسبب أي مبنى أي إزعاج للبناء المجاور له وأن لايزيد عنه ارتفاعاً أواختلافاً كبيراً عنه وبشكل عام قد تميــــزالبناء في المدينة بأسلوب البساطة وملائمة الشكل المعماري والوظائفي المحافظ على للتقاليد وهذا ما اعتمدته العمارة المغربية الإسلامية في شمال أفريقيا بشكل عام أيضا .

إن البساطة التي نتحدث عنها هي البساطة الواعية ، التي اعتمدت على جماليات خاصة بالمدينة المغربية والتي شدّت انتباه أهم وأشهر معماريّ الغرب في القرن العشرين فهذا المهندس المعروف ( لوكربوزيه ) على سبيل المثال قد انبهر بالأعمال المغربية الجميلة ( على طول الساحة في شمال أفريقيا في الغرب الأقصى والجزائر وتونس وطرابلس ) في مجال البناء والعمارة التي أخذت بكل خصائص المناخ المحلية التي تم تشييد المباني على أساس أن تكون مواجهة لبعضها البعض ، متراصة لتعطي الظل حقه ، وجاءت الشوارع والأزقة بشكلها الضيق ، لتمتص ضوضاء المدينة ، وبرزت الزخارف والزينة المعمارية على واجهات المنازل والمحال ملساء لتحسين إمكانية مرور الهواء بسهولة وتم تشييد كل هذه المباني وفق عناصر قد كوّنتها المدينة نفسها والتي تعكس المستوى الثقافي المعماري الرفيع في تنفيذ شروط ومطالب الحياة اليومية لسكانها كما تعكس علاقة العمارة نفسها مع مختلف الأجيال المتوارثة التقاليد الخاصة بالمدينة على امتداد تاريخها الموغل في القدم.

إن الشكل المعماري الفريد والخاص ، في بعض الاحيان لمدينة طرابلس ، يحدد ويعطي فكرة واضحة عن أساس وشكل المدينة القديمة المختلفة وخلافاً للوصف الذي قدّمه الأكاديمي المستشرق ( أ. كراقكوسكي ) عن مدينة طرابلس في كتابه : المؤلفات الجغرافية العربية من خلال رحلات التجاني – " الذي جاء فيه التأكيد بأن الشواهد المعمارية التاريخية التي بقيت في مدينة طرابلس تعود الى فترة الأتراك " (11).

هذا الزعم يرجع أساساً لأبنية ذلك العصر عندما أعتلى الحكم في طرابلس الوالي العثماني مرا آغا ودارغوت باشا اللذان أعادا نشاط المدينة المعماري بعد خروج الأسبان منها وكذلك الأمر فيما يخص المنشآت التي شيدّت في عهود محمد الساقزلي وعثمان الساقزلي ومحمد باشا الإمام (12) .
إلا أنه بغض النظر عن التأثير المعماري التركي ، فإن مدينة طرابلس المتميزة تحتفظ أولاً بالأساليب المعمارية المحلية الخاصة بالتقليد البنائي الليبي الذي يعكس البساطة الى جانب روعة التشكيل المعماري المناسب ومع طبيعة الحياة فيها اجتماعيا ومناخياً.

من ميزة تشييد المدينة إستخدامها لمختلف الأساليب ذات الخواص التخطيطية والبنائية المتأصلة أساساً عند أهل المدينة فاستعمال الأعمدة والعقود كدعائم وحوامل للهيكل البنائي له ضرورته في المتانة والصلابة ، ولحمايته من الانهيار من جراء تأثير الانخفاض السريع لدرجات الحرارة وتفاوتها في الليل والنهار، وكذلك لمواجهة ضغط الرياح القوية والعواصف الرملية التي تمر على المدينة في بعض الفصول واستخدمت هذه الأقواس والقناطر والدعائم كعناصر زخرفيه معمارية بشكل مدهش وكرابط قوي بين المباني المجاورة بعضها ببعض ، ومؤلفة شوارع وأزقة جميلة، وفي المباني ذات الطوابق المتعددة عمد المعماريون الى استخدام الدعائم أو الركائز والقناطر المرفوعة على أعمدة للتخفيف من ضغط الأجزاء العلوية.

المعماري الإيطالي ميسانا في كتابه حول العمارة الإسلامية في ليبيا (13) ص142 يخصص إهتماماً كبيراً لدراسة تقنية البناء المحلي . فالجدران للأبنية القديمة تكشف عن كتل باطونية ملساء وهذه الكتل تكونت من خليط من الرمال والطين والحصب الصغيرة الحجم ثم صُبّت في قوالب خشبية خاصة وضغطت بشدة . وحالياً هذا النموذج من التقنية الباطونية كانت متبعة في البناء المغربي في العصور الوسطى ومازال العمل جاري به في الاستعمال حتى وقت قريب ومع ظهور التقنيات الحديثة.
ولقد لاحظ الكثير من الرحالة الذين زاروا مدينة طرابلس أو مروا بها عبر مختلف المراحل التاريخية نظافة شوارعها وجمالها حتى أطلقوا عليها اسم " المدينة البيضاء " بسبب شيوع استخدام الطلاء الأبيض على جدرانها الذي كان متبعاً منذ القدم ومع انعكاس أشعة الشمس القوية على هذه الجدران البيضاء تكسب شفافية مثل لؤلؤة مصقولة تزيد من إضاءتها فتبدو منيرة مشعة.

إن مدينة طرابلس العريقة تعتبر النموذج الحي للمدينة العربية الإسلامية في التصميم البنائي من حيث الأهمية الوظائفية والشكل المعماري الذي يتمثل بشكل كبير في البناء الإسلامي : الجوامع ، المدارس ، المآذن ، المقابر ، الخانكة ، السراي ، الفنادق ، الأسواق المسقوفة والحمامات .

الايطالي ( ستيفانو بيانكو ) المتخصص في مجال بناء المدن والعمارة الإسلامية يعتقد أن الإسلام ترك تأثيره القوي على تشكيل وتكوين وتطور المظهر أو الشكل الخاص بالمدينة الذي حسب رأيه يستحق أن يحتدى به كنموذج رائع وناجح في البناء المجمّع للمدينة الإسلامية .

وتتميز الخواص الجوهرية لمنشآت المدينة العربية الإسلامية في العصور الوسطى تتميز بالانفرادية، وانعزال المباني المنفصلة في داخل المجمعات والأحياء السكنية وتآلفت من خلايا بيوت منفردة في نفس الوقت وتجمع كل بيت حول ساحة فناء داخلي مع وجود بئر أو مصدر خاص مثل( الفسقية) يعطي استقلالية كاملة للسكان عن بقية البيوت السكنية المجاورة.

وقد ظهرت الذاتية أو الاستقلالية، التي تميزت بها معظم البيوت الإسلامية كتقليد متبع وفي نفس الوقت رمز للاستقلالية الروحانية لدى المؤمنين ، أضف الى ذلك كل بيت سكني بُني على أساس إقامة علاقة رب البيت بالعالم الخارجي، وهو المسؤول الاول في ربط هذه العلاقة وذلك من خلال حجرة الاستقبال المعروفة " بالمربوعة " لتسهيل دخول الغرباء الى المنزل دون العبور الى داخل البيت والتعرف على خصوصياته ولكن مع هذا الانفراد يوجد تآلف اجتماعي كبير، وكما أشار كوزاك فإن الحي في المدينة العربية الإسلامية يتألف من منازل سكنية موضوعة بشكل متلاصق متراص مع بعضها البعض مما يخلق انطباعاً بوجود ألفة وقربى بين السكان القانطين فيها مؤلفين مجموعة اجتماعية موحدة واحدة (14) في حقيقة وواقع الأحياء بوصفها وحدة معمارية اجتماعية فإنها تشكل وحدة المدينة الإسلامية وقد تجمعت وتواجدت منها لحمة لُحمة سكانية ليس بسبب روابط القربى وإنما بفعل الميزة التي خُصّت بها مختلف المهن والأعمال الحرفية في المدينة – الحي وبانت سمة ودلالة واضحة على تشكيل هذا الحي ونلاحظ هذا في الأسواق المجمعة ، والسوق هو عبارة عن شوارع مسقوفة تنتشر على جوانبها الحوانيت والمخازن لمختلف الحرف والمهن التي كانت تمارس في ذلك العصر ويتجمع الناس في هذه الأسواق وتميزت عن بعضها البعض بنوع معين من الحرفة أو الصناعة ، فيوجد على سبيل المثال سوق للخياطين وسوق للصياغة سوق النحاسين سوق لنساخ الكتب وأخرى للجلود ونحوه.

لقد نظمت البيوت في الأحياء على شكل خط واحد متصل من جهة الشارع وفي كل منزل ظهر وكأنه تابع أو متصل بالبيت الآخر الذي سبقه وهكذا.

إن تكاثف المباني الذي تميزت به مدينة طرابلس حيث نجد على سبيل المثال أكثر من 48 منزلاً على مساحة الهكتار الواحد يشير الى قيلس أو حجم السكن الداخلي ثم تكوين البيت من طابق أو طابقين أو ثلاث طوابق يكون خاضعاً لضوابط معينة لايتعداه المكون لهذا البيت مهما كانت الأسباب ، فهناك شروط موجبة ومطلوبة في الأبنية المغربية في المدينة الإسلامية وذلك على النحو التالي/
أ‌- ملائمة الارتفاع أو العلو لهذه المنازل مع بعضها البعض إذ لا يجب أن يرتفع المنزل عن العلو العام المتبع.
ب‌- توازن وتساوي جميع مقاييس العناصر البنائية لحجم الإنسان العادي.
جـ- مطابقة نسب البناء، بحيث يتمكن الإنسان من النظر الى المباني الأخرى المجاورة من الأسفل الى الأعلى فيالحي ذي الأبنية المتراصة وبالتالي لا يستطيع أن ينظر إلي احد في داخل البيوت المجاورة.

إن الملائمة الوظائفية التي تميزت بها دائما العمارة العربية الإسلامية لم تمنع من أمكانية تزيين المباني فقد تميزت واجهات المباني في مدينة طرابلس بالزخرفة والتزيين المباني المعماري المتنوع فكما كان متبعا في التزيين الخارجي مثل النوافذ المطلة على الشوارع كانت محدودة البروز وفتحات الأبواب العلوية وأطر النوافذ التي تتمتع بنقوش جميلة والمشربيات المزخرفة بالشبابيك الحديدية والخشبية والأبواب الخشبية السميكة بينما استخدمت في واجهات القصور الكسوة الرخامية أو الترابيع المطلية بالمينا ذات الزخارف الهندسية او البنائية أما وجهات وقباب الجوامع,والمدارس والحمامات والبوابات والفنادق فقد زينت بالزخارف البنائية والحفر على الخشب وكذلك بالمعدن وقد حضيت المآذن بعناية تزين فائقة في كثير من الحيان والمواضع .

وهكذا نرى بأن البناء العربي والإسلامي لم يعجز عن أيجاد حلول جديدة وحيوية لمهمة الوظائفية الذي بنى عليه مظهر و شكل المدينة المعمارية، الذي تشكل وتكون عن قصد وعمد في بساطة واعية، وبناء عل أسس تقليدية معروفة من تأثيرات واضحة وجلية.

الخلاصة والختام:
كانت لمدينة طرابلس الفرصة الكبيرة لظهور الفنون وتنوعها نظرا لقدم المدينة، والتي شهدت أراضيها حضارات قديمة مختلفة من فينيقية وإغريقية ورومانية وعربية إسلامية الى جانب الكثير من الأقوام الاستعمارية التي استعمرت المدينة لبضع السنين في عصورها والى عصرنا الحديث، تبرز فنون العمارة العربية الإسلامية والمحلية في حد ذاتها حضارة غير معروفة لدى الكثير من الاحيان وتلاقيها مع الفنون المغربية في شمال أفريقيا في أحيان أخرى ومن خلال دراستنا التي تعتبر سريعة مهما كنا قد كتبنا وحللنا نستطيع إن نجمل أهم الانجازات الفنية التي قد ظهرت أثناء وبعد مرور حوالي أربعة قرون من الزمان فيما يخص العمارة وجمالياتها وخصوصياتها وذلك على النحو التالي:
1- اجتمعت ثلاث أسس وانصهرت مع بعضها البعض مكونة لفن موحد مميز لهذه المدينة العريقة في التاريخ وهي التأثير المحلي البيئي ثن المغرب الأندلسي وأخيرا التأثير التركي العثماني.
2- تطور الأسلوب والذوق الفني وولدت قيم جمالية وفنية ساعدت عل تطور الفنون التشكيلية في المدينة نتيجة للامتداد التاريخي والحضاري لها.
3- كانت البيئة المحلية عاملا مهما في تطور مظاهر الرؤية البصرية في الحقبة التاريخية من الزمن وتعبيرا منطقيا مع ظروف البلاد الدينية والاجتماعية والسياسية.
4- كانت لظاهرة الضوء والظل أهمية كبيرة في بناء علاقة الأشكال بارضياتها وبذلك تم التحكم في شدة الضوء بخلق جدران بيضاء عالية ومشربيات التي تحجب الضوء وتلطف من حدة الحرارة وذلك عن طريق زخارف يلعب فيها الشكل تارة كأرضية والفراغ تارة أخرى مع إتاحة الفرصة لحركة الهواء المتجدد.
5- تأثير الأتراك وتأثرهم بالفنون الطرابلسية المحلية و الأعجال بها وخاصة في بعض التصاميم المعمارية وبقية الفنون الزخرفية الأخرى .
6- إنسجدت تماما الفنون التشكيلية للزخرفة والعمارة في مدينة طرابلس مع طبيعة البلاد المناخية من حيث الضوء والحرارة الشديدة في معظم فصول السنة ونلاحظ الحلول التشكيلية المساعدة فيها الذي كان مجسدا في اللون الأبيض مثلا الذي طليت به جدران المدينة الخارجية والداخلية، وصغر حجم الشبابيك والنوافذ، وتلاصق المباني مع بعضها البعض حتى أصبحت جسما واحدا يعكس الظلال التي ساهمت الى حد كبير في تخفيض درجة الحرارة والشعور بالارتياح وأعطت أشكالا إيقاعية جميلة.
7- كان لأسلوب البساطة الواعية الذي سيطر على معظم فنون العمارة والفنون في المدينة دورا كبيرا في إنتاج أشكال غاية في الجمال والروعة.
8- حافظ الطراز الطرابلسي المحلي في فنون العمارة والفنون في المدينة دورا كبيرا في إنتاج أشكال غاية في الجمال والروعة.
9- تميزت فنون العمارة والزخرفة في منطقة شمال أفريقيا، وبالذات منطقة المغرب العربي بالوحدة الفنية التي تجمعت بين الفنون الإسلامية وصارت متأثرة ببعضها البعض، وتداخلت فيما بينها وخاصة فيما يتعلق التصاميم المعمارية وبعض زخارف الخزف لأجل العمارة نفسها.
10- أحتوى البيت الليبي الطرابلسي على اروقة وفناء وسطح وهو نظام قد ساد في منطقة البحر الأبيض المتوسط وخاصة في البلاد العربية منذ أكثر من 3.000 سنة قبل ميلاد المسيح والذي أخد به حتى الرومان فيما بعد.

المراجع/
1- ت . ب . كابتريفا ، فنون بلاد المغرب في التاريخ القديم ، دار الفنون ، موسكو، روسيا ، 1980 ف ( باللغة الروسية ) ( ص 176- 177).
2- نفس المرجع السابق ( ص 177).
3- ب . ف . فيرمن ، الفنون العربية والارانية خلال القرون 711 – 11 * دار الفنون ، موسكو روسيا 1974 ف ( اللغة الروسية ) ص.
4- ت . ب . كابتريفا ، فنون المغرب العربي في العصور الوسطى والحديث دار الفنون موسكو روسيا 1988 ف ( باللغة الروسية ) ص .
5- ريتشارد تولي ، عشر سنوات في مدينة طرابلس ( 1787-1793 ) الجامعة الليبية 1967 ف مترجم عن الانجليزية بالعربية .
6- قسطنطية بيرقانا ، طرابلس فيما بين (1510-1850) طرابلس ليبيا 1969 ف مترجم عن الايطالية بالعربية .
7- A . M Ramadan reflection upon Islamic Architecture in Libya Tripoli –Tunis, The Arabic House For book1975.
8-Islamic art & Architecture in Libya Catalogue L .1975.
9- D.Hill L Golvin , Islamic Architecture in North Africal .1976.
10- س . م . أزبيس – أثار المغرب العربي - مكتبة النجاح تونس 1958 . ص 82.
11 – طرابلس في مائة عام – بلدية طرابلس – طرابلس – ليبيا 1992 . ص 79 .
12- أوراس مخلوف – فن النحت في حفر الخشب في العالم العربي الإسلامي – مجلة الوحدة ، العدد (24) الرباط المغرب 1986 . ص 25.
13- ق . ميسانا المعمار الإسلامي في ليبيا ( مترجم عن الايطالية إلى العربية ) طرابلس 1993 . ص 142.
14- عادل عيد ، المدينة العربية الإسلامية مجلة العالم والتكنولوجيا العدد ( 27 ) شهر يناير بيروت لبنان 1992 . ص 36 .

* أســتاذ جامعي ، تخصص الفنون التشكيلية منذ عام 1984م ـ جامعة الفاتح بطرابلس


هناك تعليقان (2):

  1. I have been surfing online more than 4 hours today, yet
    I never found any interesting article like yours.
    It is pretty worth enough for me. In my view, if all webmasters and bloggers made good content as you did, the net will be
    a lot more useful than ever before.

    Also visit my homepage ... best stand mixer reviews ()

    ردحذف
  2. شكرا دكتور عياد علي المعلومة ربي يحفظك.

    ردحذف

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية