الاثنين، سبتمبر 08، 2025

اغتراب العمارة كمرآة لاغتراب المجتمع


جمال الهمالي اللافي


ما نعايشه اليوم من اغتراب العمارة عن هويتها، ومن فوضى عمرانية تتجلى في تمدد العشوائيات وانعدام أي رؤية تخطيطية لمواجهة الحاجة المتزايدة للتوسع، ليس مجرد خلل في أدوات التنظيم أو قصور في السياسات العمرانية. بل هو مرآة صادقة تعكس حقيقة المجتمع الليبي في لحظته الراهنة: مجتمع يعاني من فقدان البوصلة، وتآكل الوعي الجمعي، وتراجع الحس بالانتماء المكاني والثقافي.

فالعمارة، بوصفها تعبيرًا بصريًا عن الذات الجمعية، لا يمكن أن تنفصل عن السياق الذي تُنتج فيه. وإذا ما فقدت ملامحها، واغتربت عن بيئتها، وتنكرت لجذورها، فإن ذلك لا يدل إلا على اغتراب أعمق يسكن النفوس، ويعكس هشاشة في الهوية، وارتباكًا في الرؤية، وعجزًا عن صياغة خطاب عمراني يعبّر عن الذات لا ينسلخ عنها.

إن فوضى العمران ليست عشوائية بالصدفة، بل هي منظمة بفعل الغفلة، وممنهجة بفعل الإهمال، ومُشرعنة بصمت المؤسسات. وهي، في جوهرها، تعبير عن غياب المشروع الثقافي الذي يربط بين المكان والإنسان، بين الشكل والوظيفة، بين العمارة والكرامة.

اغتراب العمارة كمرآة لاغتراب المجتمع

ما نعايشه اليوم من اغتراب العمارة عن هويتها، ومن فوضى عمرانية تتجلى في تمدد العشوائيات وانعدام أي رؤية تخطيطية لمواجهة الحاجة المتزايدة للتوسع، ليس مجرد خلل في أدوات التنظيم أو قصور في السياسات العمرانية. بل هو مرآة صادقة تعكس حقيقة المجتمع الليبي في لحظته الراهنة: مجتمع يعاني من فقدان البوصلة، وتآكل الوعي الجمعي، وتراجع الحس بالانتماء المكاني والثقافي.

فالعمارة، بوصفها تعبيرًا بصريًا عن الذات الجمعية، لا يمكن أن تنفصل عن السياق الذي تُنتج فيه. وإذا ما فقدت ملامحها، واغتربت عن بيئتها، وتنكرت لجذورها، فإن ذلك لا يدل إلا على اغتراب أعمق يسكن النفوس، ويعكس هشاشة في الهوية، وارتباكًا في الرؤية، وعجزًا عن صياغة خطاب عمراني يعبّر عن الذات لا ينسلخ عنها.

إن فوضى العمران ليست عشوائية بالصدفة، بل هي منظمة بفعل الغفلة، وممنهجة بفعل الإهمال، ومُشرعنة بصمت المؤسسات. وهي، في جوهرها، تعبير عن غياب المشروع الثقافي الذي يربط بين المكان والإنسان، بين الشكل والوظيفة، بين العمارة والكرامة.

الأحد، سبتمبر 07، 2025

بين العودة والتقوقع: تأملات في جدل العمارة المحلية والحداثة


جمال الهمالي اللافي

يُطرح عليّ أحيانًا سؤالٌ يبدو في ظاهره استفهاميًا، لكنه يحمل في طياته نبرة تشكيك:

"لماذا تصرّ على الدعوة للعودة إلى النهل من العمارة المحلية التقليدية في عمارتك المعاصرة؟ هل هو عجز عن مواكبة مشاريع الحداثة، أم تقوقع على فكرة راودتك وأردت إثباتها رغم رفض المجتمع الليبي لها؟"

ولأن السؤال لا يُجاب عليه بردٍّ دفاعي، بل بتأملٍ في جوهر الفكرة، أجد أن العودة إلى العمارة المحلية ليست فعلًا رجعيًا ولا إثباتًا ذاتيًا، بل هي مقاومة واعية للاستلاب البصري والوظيفي الذي فرضته نماذج حداثية مستوردة، غالبًا ما جاءت منقطعة عن السياق المحلي، غريبة عن المكان، وعاجزة عن احتضان الإنسان.

العمارة التقليدية الليبية ليست مجرد زخارف أو أنماط شكلية، بل هي منظومة معيشية متكاملة، نمت من رحم البيئة، واستجابت للمناخ، واحترمت الخصوصية، وعبّرت عن روح الجماعة. من غدامس إلى طرابلس، ومن الواحات إلى المدن الساحلية، كانت العمارة المحلية قادرة على خلق فراغات تنتمي للناس، وتُشعرهم بالسكينة والانتماء.

أما مشاريع الحداثة التي تُستنسخ بلا تمحيص، فغالبًا ما تُنتج فراغات معزولة، لا تنتمي للناس ولا تنسجم مع المكان. هي حداثة بلا ذاكرة، وبلا حسٍّ نقدي، تُراكم المواد دون أن تُراكم المعنى.

لذا، فإن دعوتي ليست تقوقعًا على فكرة شخصية، بل هي سعيٌ لإعادة تعريف المعاصرة من داخل الذات، لا من خارجها. هي محاولة لتأسيس خطاب معماري نقدي يعيد الاعتبار للبساطة والصدق، ويقاوم التكلّف والاستعراض، ويُعيد وصل ما انقطع بين الإنسان والمكان.

الوعي، حتى لو كان عاجزًا عن التغيير، هو فعل مقاومة في ذاته. والعودة إلى الجذور ليست نكوصًا، بل هي خطوة إلى الأمام حين تكون الجذور حيّة، قادرة على الإنبات من جديد.

الجمعة، سبتمبر 05، 2025

العمارة كخطاب عقائدي: بين تغريب التعليم وتفكك الهوية


جمال الهمالي اللافي

في هذه الورقة الجديدة على مدونة الميراث، أتناول كيف يسهم التعليم المعماري في تغريب الوعي الجمعي، ويقود المدن الليبية نحو فقدان هويتها البصرية. هل يمكن للعمارة أن تكون وسيلة مقاومة لا أداة استلاب؟

المقدمة

في زمن تتنازع فيه الطرز المعمارية مرجعيات متباينة، لم تعد العمارة مجرد بناء يُؤوي الإنسان، بل غدت خطابًا ثقافيًا وعقائديًا يعيد تشكيل الوعي الجمعي من الداخل. فالمباني التي نعيش فيها، ونتعلم ونتسوق داخلها، ليست حيادية كما يُظن، بل تحمل في طياتها رؤى ومعتقدات قد تتصادم مع قيم المجتمع أو تُعيد توجيهها.
هذه الورقة لا تكتفي بتشخيص أزمة التعليم المعماري، بل تطرح سؤالًا أكثر عمقًا: كيف تحوّل التعليم المعماري إلى منصة تغريب، تُنتج معماريين يحملون توجهات متضاربة، ويُسهمون في تفكيك الهوية البصرية والثقافية للمدن الليبية؟ وما السبيل إلى استعادة العمارة كأداة تعبير عن الذات الجمعية، لا كوسيلة لفرض قيم دخيلة؟

1.      العمارة ليست حيادية

العمارة، في جوهرها، ليست مجرد بناء وظيفي، بل هي خطاب ثقافي محمّل بالمعتقدات والتوجهات. سواء تجلت في مبنى سكني أو مخطط عمراني، فهي تعكس رؤية المعماري ووعيه أو انبهاره، وتنقل إلى الواقع مشروعًا فكريًا قد يتصادم مع قيم المجتمع.

2.      التعليم المعماري كمنصة تغريب

يُغرق التعليم المعماري الطالب في طرز عالمية متضاربة دون أن يُبصره بخلفياتها الفكرية والعقائدية، مما يؤدي إلى إنتاج معماريين يحملون توجهات متصادمة. هذا الانفصال بين الشكل والمضمون يسهم في انحراف تدريجي للمجتمع عن قيمه، عبر مشاريع معمارية تُنفذ دون وعي بمآلاتها الثقافية.

3.      العمارة كأداة لإعادة تشكيل المجتمع

خطورة العمارة تتجاوز الأدوات الأخرى، لأنها تحتضن الإنسان وتعيد تشكيل وعيه اليومي. ومع تضارب الطرز، تتعدد القناعات داخل المجتمع الواحد، ويصبح كل فرد رهينًا للبيئة المعمارية التي يعيش فيها، مما يُضعف إمكانية تكوين رأي عام موحد.

4.      تغريب العمارة وطمس المحلي

في التعليم المعماري المعاصر، يُروَّج للطراز الغربي بوصفه معيارًا للحداثة والتطور، بينما تُهمَّش العمارة المحلية ذات البُعد الإسلامي وتُقدَّم كأثر تجاوزه الزمن. هذا التحيّز لا يقتصر على الشكل، بل يمتد إلى المضمون، حيث تُغذّى الأجيال المعمارية الجديدة بفكر مادي أو إلحادي، يُترجم عمليًا في مشاريع تفتقر إلى الروح الإسلامية. وهكذا، تُصنع بيئة عمرانية تُكرّس قيمًا دخيلة تحت شعار "مواكبة العصر"، في مقابل طمس الهوية وتهميش الجذور.

5.      أزمة الخطاب الثقافي في ظل تعدد المصادر

تعدد مصادر الثقافة داخل المجتمع الواحد يجعل من كل خطاب يحمل مضمونًا مغايرًا عرضة للرفض، مما يُعمّق الانقسام ويُضعف القدرة على بناء وعي جمعي متماسك.

6.      المدن الليبية بين فقدان الهوية وتضارب الرسائل البصرية

إن المدن الليبية اليوم تعاني من تشوّه بصري ناتج عن تضارب الطرز المعمارية المستوردة، التي لا تنتمي إلى السياق المحلي لا في مادتها ولا في روحها. هذا التراكم غير المنسجم يُنتج بيئة عمرانية مفككة، تُربك الوعي الجمعي وتُضعف الإحساس بالانتماء. فحين تغيب المرجعية العقائدية والثقافية عن التصميم، تتحول المدينة إلى معرض طرز متنافرة، لا تعكس هوية أهلها ولا تحفظ ذاكرتهم. وهكذا، تصبح العمارة أداة تغريب لا وسيلة تعبير، ويغدو الفضاء اليومي للمواطن الليبي مشحونًا برسائل بصرية لا يفهمها ولا ينتمي إليها.

الخاتمة

إن العمارة، بما تحمله من رموز ومضامين، لا تبني الجدران فقط، بل تُعيد تشكيل الإنسان داخلها. وحين يُغفل التعليم المعماري هذا البُعد، يتحوّل إلى أداة تغريب تُنتج بيئات عمرانية مفككة، تُربك الوعي وتُضعف الانتماء.
لذا، فإن إعادة النظر في مناهج التعليم المعماري ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة ثقافية لحماية المجتمع من التصدّع القيمي.
إن استعادة العمارة المحلية، لا بوصفها تراثًا جامدًا بل كخطاب حيّ متجدد، هو السبيل إلى بناء مدن تعبّر عن أهلها، وتحفظ ذاكرتهم، وتُقاوم الاستلاب البصري والفكري باسم الحداثة.

الخميس، سبتمبر 04، 2025

أزمة التخصصات المتجاورة: غياب الرؤية التكاملية في المشهد المعماري الليبي


جمال الهمالي اللافي

    في هذا النص، لا أطرح رأيًا عابرًا ولا أبحث عن جدل نظري. بل أشارككم تشخيصًا لمشكلة مهنية تتكرر في المشهد المعماري الليبي، وتُفرغ العمل الإبداعي من روحه التكاملية. وفي ختامه، أوجّه دعوة محددة، ليست عامة ولا مفتوحة، بل موجهة لمن يشتركون معي في الرؤية، ويؤمنون أن المعنى يسبق المكسب، وأن التكامل لا يُشترط، بل يُبنى.

المشهد الإبداعي الليبي: تقاطع التخصصات وتباعد الرؤى

    في الحقل الإبداعي الليبي، حيث تلتقي العمارة بالتصميم الداخلي، وتتقاطع مع تصميم الجرافيك وتنسيق الحدائق، يُفترض أن نجد بيئة خصبة للتعاون المثمر. فهذه التخصصات، رغم استقلاليتها، تشترك في هدف جوهري واحد: خلق فضاءات إنسانية متناغمة وذات قيمة وظيفية وجمالية. إلا أن الواقع المهني يكشف عن ظاهرة مقلقة تتمثل في هيمنة النزعة الفردية، التي تحوّل إمكانية العمل المشترك إلى مجرد طموح نظري بعيد المنال.

    إن إشكالية "التفرد" تضرب بجذورها في منهجية العمل السائدة. فبدلاً من أن يكون المشروع عملية تطوير تكاملية منذ مراحله الأولى، يتحول إلى سلسلة من المهام المنفصلة. يبدأ المعماري بوضع رؤيته، سواء كانت متجذرة في التراث المحلي، أو منساقة نحو الحداثة، أو حتى شاطحة في اتجاهات تجريبية. وعند هذه النقطة، بدلاً من أن يجد شركاء يثرون رؤيته ويضيفون إليها من منظور تخصصاتهم، يُطلب منه غالباً "التنحي جانباً".

    هنا تبدأ المرحلة الثانية من التشظي؛ حيث يضع كل متخصص "بصمته الخاصة" بمعزل عن روح التصميم الأصلي. فتأتي حلول التصميم الداخلي، أو هوية الجرافيك، أو تنسيق المناظر الطبيعية، كطبقات منفصلة تُضاف إلى الهيكل المعماري، وغالباً ما تتنافر معه بشكل صارخ. يصبح هذا التضارب في الأسلوب والرؤية بمثابة "ضريبة" حتمية للاستعانة بهذه الخبرات، مما ينتج عنه بيئة مبنية تفتقر إلى الانسجام والتناغم، أشبه ما تكون بقطع فنية جميلة وُضعت معاً قسراً بلا رابط.

    تتعمق هذه الأزمة حين يتحول التعاون من شراكة مهنية ضرورية إلى ما يشبه "الخدمة العابرة". ينظر المتخصصين الآخرين إلى مساهمتهم على أنها التزام مؤقت يجب إنجازه بأسرع وقت ممكن للانتقال إلى مشاريع أخرى، مما يفرغ العملية الإبداعية من أهم عناصرها: الصبر، والحوار، والنضج المشترك للوصول إلى حل تصميمي متكامل ومتفوق.

    وفي مواجهة هذا التشظي المهني، لا تبدو الحاجة إلى "شراكة تكاملية" ترفًا تنظيريًا، بل ضرورة ملحّة لإعادة الاعتبار للفعل الإبداعي بوصفه ممارسة جماعية ناضجة. إنها دعوة مفتوحة لكل من يعمل في هذه التخصصات المتجاورة، لتجاوز منطق "الخدمة العابرة" نحو تأسيس رؤية مشتركة، تُعيد للعمارة المحلية المعاصرة معناها المتكامل. رؤية لا تُختزل في المكسب المادي، بل تنشد عملًا إبداعيًا تتضافر فيه الخبرات، وتتكامل فيه البصمات، ويُصاغ فيه المشروع ككلٍّ حيّ، لا كأجزاء متنافرة. فالتأصيل لا يتحقق بالاجتهاد الفردي وحده، بل بالوعي الجمعي الذي يرى في التكامل قيمة، وفي الحوار وسيلة، وفي الصبر شرطًا للتميز.

نحو شراكة واعية: اختبار التناغم قبل الالتزام

    ومن موقعي كممارسٍ ومتابعٍ لهذا الحقل، أتوجه بدعوة صريحة إلى من يشتركون معي في الرؤية، ويؤمنون بأن التكامل ليس خيارًا تجميليًا، بل ضرورة مهنية وأخلاقية. لا أطرح هذه الدعوة على العموم، فقد خضت مرارًا تجارب تعاون لم تُفضِ إلا إلى مزيد من التنافر، حين كانت الغاية مكسبًا لا معنى، أو حضورًا لا أثر. لذلك، أخص بها من يرى في العمل الإبداعي غاية تتجاوز المكسب، وفي الشراكة وسيلة لبلوغ مشروع متكامل، حيّ، ناضج، يُصاغ بتفاعل حقيقي بين التخصصات لا بتجاورها الصامت. وستنطلق هذه الشراكة أولًا من محاولة تقريب أساليب العمل والتفكير، عبر مشاريع منجزة سابقًا قُدّمت لزبائنها، لا من مشاريع جديدة يُفترض أن تُنتج فورًا. فالتجربة المشتركة هي الشرط الأول، والانسجام المهني هو المعيار، قبل أي تورط في التزامات حالية أو قادمة. إن تأصيل العمارة المحلية المعاصرة لا يتحقق بالاجتهاد الفردي، ولا بالتعاون العابر، بل باللقاء الواعي بين من يطلبون المعنى قبل الشكل، ويؤمنون أن التكامل لا يُشترط، بل يُبنى.

في هندسة الذات ومقاومة التكلّس: تأملات في الكتابة والتصميم


جمال الهمالي اللافي 

مقدمة 

في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها المجتمعات العربية، تبرز الحاجة إلى مراجعة المفاهيم التي تحكم العلاقة بين الفرد والمكان، بين الفكرة وأدوات التعبير، وبين الهوية وصورها المعمارية. لم تعد الكتابة ولا التصميم مجرد أدوات إنتاج، بل تحوّلت إلى وسائط مقاومة تُستعمل لاستعادة المعنى في زمن التكرار والتشويه.

هذا النص لا يُقدّم وصفًا لحالة فردية، بل يُطرح كتأمل نقدي في مسار بناء الذات، وفي تحرير المصطلح المعماري المحلي من التبعية البصرية والوظيفية. إنه دعوة لإعادة التفكير في ما يُعدّ مكتملًا، وفي ما يُظن أنه راسخ، وفي ما يُقال باسم التطوير بينما يفرّغ المعنى من جذوره.

يخاطب هذا النص كل من يمارس الكتابة أو التصميم من موقع المسؤولية، لا من موقع التكرار، وكل من يرى في الإخفاق فرصة للنضج، وفي الإيمان صمام أمان يحفظ المعنى من الانهيار. أما العزلة، التي سبق تناولها في نصوص أخرى، فتُذكر هنا كإشارة عابرة إلى لحظة مراجعة لا أكثر.

الكتابة والتصميم: أدوات مقاومة لا أدوات تزيين 

في هذا السياق، لا تُمارس الكتابة كحرفة، ولا يُنتج التصميم كوظيفة، بل يُعاد تعريفهما كوسيلتين للتعبير عن موقف، وكأداتين لمقاومة التكلّس. تُستعاد الفكرة حين تنضج، لا حين تُستدعى، ويُكتب النص لتأدية دور لا لإبهار، ويُنجز التصميم لاستعادة علاقة الإنسان بالمكان لا لإرضاء ذائقة عابرة.

النضوج لا يُبلغ بل يُبنى، والإخفاق لا يُقرأ كفشل بل كجزء من عملية التشكّل. تُكتسب ملكة التسامح مع الخطأ من إدراك أن كل تجربة، حتى المؤلمة منها، تُضيف طبقة إلى الرؤية، وتُعمّق الحس النقدي.

الزخم لا يُقاس بعدد النصوص أو التصاميم، بل بقدرة كل منها على التعبير عن لحظة صادقة. يُعاد النظر في المشاريع المكتملة، ويُكتشف فيها ما يستحق التعديل، لأن الاكتمال ليس نهاية بل لحظة مؤقتة من التوازن. الزمن وحده يفرز ما يستحق البقاء، وكل مشروع يحمل داخله بذرة مراجعة.

تحرير المصطلح وبناء المعنى 

تُطرح مسألة الهوية بوصفها عقيدة وانتماء، لا قالبًا جامدًا. تُفهم الهوية على أنها ثابتة في جوهرها، متجددة في صورها، وأن أدوات التعبير عنها يجب أن تُراجع وتُصقل، لا أن تُجمّد أو تُشوّه. يُحرَّر المصطلح المعماري المحلي من التكرار أو التشويه، لا فقط لتوضيح المفاهيم، بل لحماية المعنى من التمييع. ويُربط المصطلح بالتجربة المعيشة، لا بالنظرية المجردة، لأن المفردة لا تُستعاد إلا حين تُجسّد في البيئة والذاكرة والوظيفة.

من المسؤولية إلى الإيمان 

تُمارَس الكتابة والتصميم من موقع المسؤولية الذاتية، لا من موقع التبعية للمؤسسات أو السوق. يُقاوَم التقليد الجامد، ويُرفض التشويه باسم التطوير، لأن الحفاظ على الهوية لا يعني تكرار الصور القديمة، بل تجديد العلاقة بين الإنسان والمكان. يُصاغ الخطاب النقدي لا كترف فكري، بل كضرورة أخلاقية، تُمارَس من باب الالتزام لا من باب المجاملة.

وفي النهاية، يُكتشف أن ما يمنح القدرة على الاستمرار، حتى حين تبدو الطريق معتمة، ليس الواقع بل الإيمان. الإيمان بأن المعنى لا يُهزم، وأن الرضا الحقيقي لا يُستشعر إلا حين يُؤدى الدور بصدق، ويُربط العمل برضى الله واستعادة كرامة الوطن. فالتعب، مهما اشتد، لا يُثقل من يعمل في خدمة المعنى، بل يُنضجه.

الثلاثاء، سبتمبر 02، 2025

العمارة كفعل أخلاقي – من القيم التي لا تُشترى إلى المباني التي تُهذّب

 

جمال الهمالي اللافي

بالنظر إلى منظومة القيم التي لا تُشترى بالمال، كما وردت في الصورة المرفقة، ثم ما أضيف إليها من نقاء وتواضع وواقعية، تتضح ملامح علاقة عميقة بين العمارة وبين البنية الأخلاقية والنفسية للمجتمع. ليست هذه القيم مجرد فضائل فردية، بل هي شروط تأسيسية لأي بيئة معمارية سوية، قادرة على احتضان الإنسان وتشكيل سلوكه.

العمارة كمرآة للقيم

تتأسس العمارة على منظومة من القيم غير المادية، تشكل جوهرها وتنعكس في كل تفاصيلها. الأخلاق، الاحترام، النزاهة، الصبر، الحب، وغيرها، ليست مفاهيم مجردة، بل تظهر في توزيع الفراغات، في شكل الكتلة، في لون الطلاء، وفي علاقة المبنى بمحيطه العمراني. فالمبنى الذي يُصمم دون احترام لهذه القيم يتحول إلى عبء بصري ونفسي، يكرّس التوتر ويغذي الانفصال عن الذات والمجتمع.

النقاء، الذي لا يظهر في القائمة الأصلية، يمثل صفوة هذه القيم. إنه الصفاء الذي يجعل المعمار صادقاً، غير ملوث بالادعاء أو التزويق، ويمنح المبنى قدرة على بث الطمأنينة في النفس. أما التواضع، فهو ما يقي العمارة من الغرور البصري، ويعيدها إلى وظيفتها الإنسانية. والواقعية، بدورها، تمنح التصميم صدقاً وظيفياً، وتبعده عن المبالغة أو التزييف.

القيم التي لا تُشترى: أساس العمارة السوية

القائمة التي وردت في الصورة- الأخلاق، القيم، الاحترام، الشخصية، الحس السليم، الثقة، الصبر، الرقي، النزاهة، الحب- ليست مجرد فضائل فردية، بل هي شروط تأسيسية لأي بيئة معمارية سوية. فالمبنى الذي يُصمم دون احترام لهذه القيم، يتحول إلى عبء بصري ونفسي، يكرّس التوتر، ويغذي الانفصال عن الذات والمحيط.

·         الأخلاق والاحترام: تظهر في احترام السياق العمراني، وعدم التعدي على خصوصية الجوار.

·         الشخصية والنزاهة: تتجلى في صدق التعبير المعماري، وابتعاد التصميم عن الزيف أو الاستعراض.

·         الحس السليم والثقة: تُترجم إلى منطقية توزيع الفراغات، وسهولة التنقل، ووضوح الوظائف.

·         الرقي والحب: ينعكسان في العناية بالتفاصيل، والاهتمام بجماليات الضوء والظل، والمواد الطبيعية.

أما النقاء، الذي غاب عن القائمة، فهو جوهر هذه القيم جميعاً. إنه الصفاء الذي يجعل المعمار صادقاً، غير ملوث بالادعاء أو التكرار، ويمنح المبنى قدرة على بث الطمأنينة في النفس.

العمارة كعلاج نفسي

استوقفتني قصة رواها أحد المتابعين لصفحتي، عن حالة مرضية في إحدى الدول الأوروبية، تعاني من اضطرابات نفسية واكتئاب. لم تُجدِ الجلسات النفسية نفعاً، فاقترح الطبيب زيارة منزل المريض. قام بتغيير ألوان الحوائط والسجاد، وتعديل نوعية الأثاث وتوزيعه، فحدث تحسن كبير في الحالة، بل أعلن المريض أنه شُفي تماماً.

هذه القصة ليست استثناءً، بل تؤكد أن العمارة ليست محايدة، بل لها أثر مباشر على الصحة النفسية. الألوان، الإضاءة، توزيع الأثاث، وحتى ملمس المواد، كلها عناصر تؤثر في المزاج، وتعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان ومحيطه. في مجتمعاتنا، حيث تسود التوترات وسوء الأخلاق، فإن جزءاً من الأزمة يعود إلى بيئات عمرانية منفصلة عن القيم، تفتقر إلى التواضع، وتغرق في التزويق دون معنى.

كيف تتشرب العمارة القيم؟

العمارة لا تفرض القيم، بل تتشربها من نية المصمم، من ثقافة المجتمع، ومن فلسفة المكان. ثم تعكسها عبر:

  • شكل الكتلة: هل هي متضخمة أم متزنة؟ هل تعبر عن سلطة أم عن احتواء؟
  • الزخرفة: هل هي صادقة أم متكلفة؟ هل تحترم التراث أم تبتذله؟
  • الألوان: هل تبعث على الطمأنينة أم على التوتر؟ هل تنسجم مع المحيط أم تتصادم معه؟
  • الفراغات الداخلية: هل تتيح التأمل أم تكرّس العزلة؟ هل تحفّز الحوار أم تغلقه؟

من البيت إلى المجتمع

حين تُبنى البيوت على هذه القيم، فإنها تخرج لنا مجتمعاً سوياً، يتشرب الاحترام، ويُمارس النزاهة، ويُقدّر الصبر والرقي. العمارة هنا ليست انعكاساً فقط، بل محفّزاً للتغيير. إنها تربية صامتة، تُمارس أثرها دون خطابة، وتُعيد تشكيل الإنسان من خلال المألوف اليومي: الباب، النافذة، الضوء، والظل.

إن المبنى، في نهاية المطاف، يكون نتاجاً لمؤثراتنا، ثم يبدأ هو في التأثير علينا، في أخلاقنا وسلوكياتنا. وهذا ما يجعل من العمارة فعلاً أخلاقياً بامتياز، لا ينفصل عن منظومة القيم التي تُبنى بها، وتُبني بها الإنسان.

في ذكرى انقلاب 1969: حين بدأت الرداءة تُبنى

 


جمال الهمالي اللافي

لم يكن انقلاب سبتمبر مجرد حدث سياسي، بل كان نقطة تحول في بنية المجتمع الليبي، امتدت آثارها إلى الحرفة والكرامة والمهنة. قبل هذا التاريخ، كانت شركات المقاولات الليبية تملأ السوق، والعمالة الوطنية تقود الورش بكفاءة وانضباط، والمعماري الليبي يربط بين الفكرة والتنفيذ، لا يكتفي بالرسم ولا يُقصى عن الموقع.

لكن ما تلا الانقلاب كان تفكيكًا ممنهجًا لمنظومة العمل الوطني: أُغلقت الشركات، وأُقصيت العمالة الليبية، وجرى تحويل الحرفيين إلى موظفين في مؤسسات بيروقراطية، تحت شعارات التدريب العسكري والانضباط الثوري. فُرغت المهنة من معناها، وأُهينت كرامة المواطن، وتحوّل المعماري إلى متفرج على تنفيذ مشوّه، تقوده عمالة مستوردة لا تملك وعيًا تصميميًا ولا التزامًا مهنيًا.

اليوم، تسيطر العمالة المصرية على سوق البناء في ليبيا، لا من باب الكفاءة، بل بفعل سياسات التسهيل والاحتكار التي همّشت كل بديل. والنتيجة: غش في المواصفات، تلاعب في التنفيذ، أعمال معلقة، ومباني بلا روح.

إن استعادة الحرفة بأيدي الليبيين ليست مطلبًا مهنيًا فحسب، بل هي فعل مقاومة، واستعادة للكرامة، وبُعد من أبعاد الأمن القومي. فحين يُبنى الوطن بأيدي أبنائه، تُستعاد السيادة من بوابة الإنتاج، لا من بوابة الشعارات.

المعماري ليس مجرد مصمم، بل قائد ميداني، ومثقف بصري، وضامن للجودة. وإقصاؤه عن الموقع هو إقصاء للوعي، وتشويه للعمارة، وتفريط في الهوية.

فلنعد بناء الورشة الليبية، لا فقط بالمباني، بل بالكرامة.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...