أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، نوفمبر 21، 2025

البيوت الفارهة: عمران بلا روح

 


جمال الهمالي اللافي

لم يعد البيت مجرد مأوى يقي الإنسان حرّ الصيف وبرد الشتاء، بل صار في كثير من الأحيان مرآةً للوجاهة والاستعراض. وبينما يفترض أن يكون السكن موطنًا للسكينة والدفء، تتحول بعض البيوت الفارهة إلى فضاءات متعالية على ساكنيها، تُظهر ثراءً مصطنعًا وتخفي فراغًا داخليًا.

1.      المظهر الباذخ والجوهر الفارغ

البيوت الفارهة، ذات الأقواس المبالغ في ارتفاعها والمساحات المفتوحة على بعضها، والمكسوة بأغلى مواد التشطيب، لا تعكس بالضرورة رفاهية السكن. إنها عمران يتعالى على ساكنيه، ويحوّلهم إلى خدمٍ له، يحرصون على حماية تفاصيله الباذخة أكثر من حرصهم على راحتهم.

2.      غياب السكينة والدفء

هذه البيوت لا تمنح دفئًا ولا سكينة. فهي باردة المشاعر، متفاخرة بثراء تفاصيلها، لكنها فارغة من المعنى الإنساني. تتحول من مأوى إلى عبء، ومن حضن إلى فضاء متحجر يستهلك ساكنيه في طقوس العناية اليومية.

3.      البيت التقليدي المحلي: حكمة المكان

في المقابل، البيت التقليدي المحلي- سواء في طرابلس أو غدامس أو غيرها من المدن- يقوم على مبدأ الانسجام مع الإنسان والمكان. جدرانه السميكة تحمي من الحر والبرد، ساحاته الداخلية تمنح الخصوصية والراحة، وتوزيع فراغاته يوازن بين الانفتاح والاحتواء. إنه بيت ينسج علاقة حميمة مع ساكنيه، ويعكس قيم الجماعة والدفء الاجتماعي.

4.      رمزية الغرور الاجتماعي

البيت الفاره إذن ليس مجرد عمران، بل رمز للغرور الاجتماعي، يُشيّد لتأكيد المكانة والهيمنة، بينما يغيب عنه جوهر السكن: أن يكون مأوىً دافئًا يليق بالإنسان. أما البيت التقليدي، فهو شاهد على حكمة المكان، حيث تتجسد العمارة كامتداد طبيعي للهوية والذاكرة، لا كاستعراض للثراء.

خاتمة

إن فقدان السكينة في البيوت الفارهة ليس سوى انعكاس لفقدان الهوية في العمران الحديث؛ فحين يتغلب الاستعراض على الحكمة، ويُستبدل الدفء بالبرودة، يتحول البيت من مأوى للإنسان إلى شاهد على اغترابه.

إشكاليات الجمهور المستهدف في العمارة الليبية: قراءة نقدية

 


جمال الهمالي اللافي

المقدمة

تُعدّ العمارة أحد أهم المجالات التي تعكس هوية المجتمع وتترجم قيمه الثقافية والاجتماعية إلى فضاءات عمرانية ملموسة. غير أن تحديد الجمهور المستهدف في الممارسة المعمارية يمثل إشكالية محورية، خصوصاً في السياق الليبي الذي يشهد حالة من الاغتراب وفقدان البوصلة. يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه الإشكالية من منظور نقدي، انطلاقاً من التجربة الشخصية للمعماري الليبي، وصولاً إلى استنتاجات عامة حول مستقبل العمارة في ليبيا.

أولاً: الخلفية والدافع

عند الالتحاق بقسم العمارة والتخطيط العمراني، كان الهدف الأساسي هو خدمة المجتمع الليبي حصراً، باعتباره البيئة الطبيعية والوجدانية التي تستحق الجهد المبذول لتوفير فضاءات عمرانية ملائمة للعيش الكريم. هذا التوجه يعكس قناعة بأن العمارة ليست مجرد ممارسة تقنية، بل هي فعل اجتماعي مرتبط بالمكان والهوية.

ثانياً: أزمة الجمهور المستهدف

مع الدخول في مجال الممارسة العملية، برزت أزمة حقيقية تتعلق بالجمهور المستهدف. فقد ظهر أن المجتمع يعيش حالة من الاغتراب عن ذاته، فاقداً القدرة على تحديد أولوياته العمرانية والثقافية. يتجلى ذلك في:

  • غياب البوصلة القيمية: حيث يسعى الأفراد إلى اقتناء الأشياء المادية دون البحث عن الذات أو تطويرها.
  • ضعف الأهلية المجتمعية: على المستويات العقلية والوجدانية والنفسية والروحية، مما ينعكس في سلوكيات عمرانية غير منسجمة مع الهوية المحلية.
  • تفكك المسؤوليات: من المعماري إلى القادة وصناع القرار، وصولاً إلى رب الأسرة، الكل يتحرك في دائرة مفرغة دون رؤية مشتركة.

ثالثاً: التداعيات

أدى هذا الوضع إلى تحطم حلم بناء مجتمع فاضل، إذ غابت الفضيلة كأساس للعمران. وبدلاً من أن تكون العمارة أداة لترسيخ الهوية، أصبحت انعكاساً لفوضى اجتماعية واقتصادية، تحكمها منطق القوة والمصلحة الفردية. هذه الأزمة تجعل من البحث عن جمهور مستهدف واضح مهمة شبه مستحيلة، في ظل تحول المجتمع إلى كيان هلامي فاقد الملامح.

رابعاً: نحو إعادة التوجيه

إن إدراك هذه الإشكاليات يمثل خطوة أولى نحو الإصلاح. فالمجتمع الليبي بحاجة إلى:

  • توجيه رشيد يعيد البوصلة القيمية إلى الممارسة العمرانية.
  • قيادة حكيمة توازن بين الهوية المحلية ومتطلبات العصر.
  • تضافر الجهود بين المعماريين وصناع القرار والفاعلين الاجتماعيين، من أجل إعادة بناء الروابط الثقافية والاجتماعية التي تمنح العمارة معناها الحقيقي.

الخاتمة

تكشف أزمة الجمهور المستهدف في العمارة الليبية عن عمق التحديات التي تواجه المجتمع في سعيه نحو هوية عمرانية أصيلة. إن تجاوز هذه الأزمة يتطلب رؤية نقدية واعية، تقودها قيادة رشيدة وتدعمها ممارسة معمارية مسؤولة. فالعمارة ليست مجرد جدران وأحجار، بل هي مرآة لروح المجتمع، وإذا استعاد المجتمع هويته، استعاد عمرانَه، وضَمِن لأجياله القادمة بيئة عمرانية تعكس قيمه وتطلعاته.

الخميس، نوفمبر 20، 2025

إشكالية البيت الليبي المعاصر

بين الحاجة والغفلة: تأملات في فراغ البيت الليبي كمرآة للوعي الاجتماعي



جمال الهمالي اللافي

لا تكمن أزمة البيت الليبي المعاصر في غياب الهوية المعمارية أو ضعف المعالجات البيئية أو حتى رداءة مواد البناء، بل في غياب الفهم الحقيقي لماهية هذا البيت، كفراغ وظيفي واجتماعي، لا كمجرد كتلة معمارية أو واجهة زخرفية. إننا نعيش في بيوت لا نعرف لماذا صُممت على هذا النحو، ولا كيف يمكن أن تخدم حاجاتنا المتغيرة، فنكرر نماذج موروثة أو مستوردة دون مساءلة، ونُسكن أجسادنا في فراغات لا تسكن أرواحنا.

السكن كفكرة لا كمأوى

البيت ليس مجرد مأوى يحمينا من العراء، بل هو امتداد لوجودنا، مرآة لهويتنا، ومسرح لعلاقاتنا اليومية. في غمرة الانشغال بالمخططات والواجهات، ننسى أن السكن فعل وجودي، وأن تصميم البيت يجب أن ينطلق من سؤال: "كيف نعيش؟" لا "كيف يبدو؟". إن اختزال السكن إلى عدد غرف أو مواد تشطيب هو اختزال لإنسانيتنا ذاتها.

التحولات الاجتماعية والأنثروبولوجية

البيت الليبي لم يعد يحتضن الأسرة الممتدة كما كان، بل بات يؤوي أسرة نووية صغيرة، أحيانًا مفككة. ومع ذلك، لا تزال تصاميمنا تكرّر نماذج قديمة: غرفة ضيافة ضخمة، ممرات معزولة، فراغات لا تُستخدم. الخصوصية التي كانت تُصان بالعمارة، باتت تُخترق بالتصميم الرديء. والضيافة التي كانت طقسًا اجتماعيًا، تحوّلت إلى عبء فراغي لا يُستخدم إلا نادرًا.

الاقتصاد السياسي للسكن

في غياب سياسات إسكانية عادلة، تحوّل السكن من حق اجتماعي إلى سلعة استثمارية. السوق العقاري لا يُنتج بيوتًا للعيش، بل وحدات للبيع. والمواطن، في ظل هذا المنطق، يُجبر على شراء ما هو متاح، لا ما هو ملائم. وهكذا، تتشكل بيوتنا وفق منطق الربح لا منطق الحاجة، وتُبنى المدن كأرقام لا كحياة.

مقارنات عالمية وتجارب بديلة

في دول مثل الإكوادور وجنوب أفريقيا، أعادت المجتمعات تعريف السكن كحق جماعي، وظهرت نماذج للعمارة التشاركية والتمكين المحلي. ورش مجتمعية صممت بيوتًا تنبع من حاجات الناس لا من كتالوجات الشركات. فهل يمكننا، نحن أيضًا، أن نعيد التفكير في بيتنا الليبي من الداخل، لا من الخارج فقط؟

نقد النموذج السائد

النموذج الحالي للبيت الليبي يعاني من تناقضات صارخة: فراغات زائدة لا تُستخدم، وأخرى ضرورية غائبة. غرف ضيافة فخمة تقابلها مطابخ ضيقة، مداخل رسمية لا تُستخدم، ومساحات معيشة لا تحتمل العيش. الشكل يطغى على الوظيفة، والواجهة تُزيّن ما لا يُطاق من الداخل.

نحو إعادة تعريف المعايير

نحن بحاجة إلى إطار معياري جديد لتصميم البيت الليبي، لا يقوم على المساحة أو عدد الغرف، بل على:

  • الوظيفة الاجتماعية: هل يخدم البيت علاقات الأسرة أم يعزل أفرادها؟
  • المرونة في الاستخدام: هل يمكن للفراغ أن يتغير مع تغير الحاجة؟
  • الاستدامة البيئية: هل يحترم البيت مناخنا ومواردنا؟
  • القدرة على التكيف: هل يمكن للبيت أن يصمد أمام التحولات الاقتصادية والاجتماعية؟

خاتمة: البيت كمرآة للوعي

البيت ليس مجرد بناء، بل مرآة لوعينا الاجتماعي. وكلما كان وعينا مشوشًا، كانت بيوتنا كذلك. لهذا، لا بد أن نبدأ بالسؤال قبل المخطط، وبالوظيفة قبل الشكل، وبالصدق قبل الاستعراض. فربما، حين نعيد تعريف البيت، نعيد أيضًا تعريف أنفسنا.

الاستحواذ الإمبراطوري بين الماضي العثماني والحاضر الأمريكي

 

الحوش الطرابلسي التقليدي

جمال الهمالي اللافي

منذ عقود ظل النقاش محتدماً حول توصيف الدولة العثمانية: هل كانت دولة استعمارية بالمعنى الأوروبي الحديث، أم مجرد خلافة توسعت بحدودها لتشمل شعوباً وأقاليم متعددة؟ هذا الجدل كثيراً ما بقي أسير ثنائية النفي والإثبات، دون أن يصل إلى قناعة حقيقية بطبيعة الممارسات التي انتهجتها تلك الدولة في المناطق التي ضمتها إلى نفوذها.

هنا يبرز مصطلح "الاستحواذ الإمبراطوري" كبديل أكثر دقة وملاءمة من مصطلح الاستعمار. فالاستعمار الأوروبي ارتبط بالاستيطان والإحلال الثقافي، وبفرض هوية جديدة على الشعوب المغلوبة، بينما الاستحواذ الإمبراطوري يعني السيطرة على الموارد والطاقات البشرية والاقتصادية، ونقلها إلى المركز، دون أن يُعاد تشكيل الهوية أو يُمحى الوجود الثقافي المحلي.

الدولة العثمانية تمثل النموذج الأوضح لهذا النمط. فهي لم تُنشئ مستوطنات تركية واسعة في البلاد العربية أو البلقان، لكنها استحوذت على مقدرات تلك الشعوب، نقلت الحرفيين والمهندسين المهرة إلى إسطنبول لبناء نهضتها العمرانية، جمعت الضرائب والموارد الزراعية لصالح المركز، واعتمدت على نظام "الدفشرمة" الذي استحوذ على أطفال من البلقان ليصبحوا جنوداً وإداريين في خدمة السلطان. تركت للشعوب قدراً من الخصوصية الثقافية والدينية، لكنها أبقتهم في موقع التابع، حيث تُستنزف مواردهم لصالح المركز الإمبراطوري.

إن طرح مصطلح "الاستحواذ" يحرر النقاش من أسر الجدل العقيم حول إثبات أو نفي كون الدولة العثمانية استعمارية، ويقربنا أكثر إلى فهم طبيعة هيمنتها الفعلية على الشعوب. فهو يصف بدقة آلية السيطرة التي مورست، دون أن يخلطها بممارسات الاستعمار الأوروبي الذي كان أكثر عنفاً في محو الهويات وإحلال ثقافات جديدة.

وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد أن الولايات المتحدة تمثل حالة معاصرة للاستحواذ الإمبراطوري، وإن بأدوات مختلفة. فهي لا تستعمر الأراضي ولا تنشئ مستوطنات، لكنها تستحوذ على مقدرات الشعوب عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام. الدولار يهيمن على النظام المالي العالمي، الجامعات الأمريكية تجذب العقول والكفاءات من كل أنحاء العالم، والقواعد العسكرية تنتشر لتفرض السيطرة الأمنية والسياسية. الإعلام والقوة الناعمة يعيدان تشكيل الوعي الجمعي، دون الحاجة إلى جيوش استيطانية.

بهذا المعنى، يمكن القول إن الولايات المتحدة تمارس الاستحواذ الإمبراطوري الحديث، الذي يختلف في أدواته عن النموذج العثماني، لكنه يشترك معه في جوهر الفكرة: السيطرة على الموارد والطاقات البشرية والاقتصادية لصالح المركز، مع ترك الشعوب في موقع التابع، وإن بدا لها أنها تحتفظ بهويتها الخاصة.

خاتمة

ولعل هذا المصطلح الجديد، "الاستحواذ"، لا يقتصر على توصيف السياسة العثمانية في بعدها السياسي والاقتصادي، بل يمتد ليكشف عن طبيعة حضورها في المجال المعماري الليبي. ففي أوساط المعماريين والمجتمع الليبي ظل الجدل قائماً: هل العمارة التي نشأت في فترة الحكم العثماني تقع ضمن التأثيرات العثمانية المباشرة، أم أنها تعبير عن هوية محلية أصيلة؟

إن النظر إلى الدولة العثمانية باعتبارها دولة استحواذية يوضح أن هذه السلطة لم تشغل نفسها بفرض هوية معمارية جديدة على الشعوب التي حكمتها، بل اكتفت بالاستفادة من مقدراتها وطاقاتها البشرية. وبهذا المعنى، فإن العمارة الليبية التي ظهرت في تلك المرحلة لم تكن انعكاساً لهيمنة عثمانية ثقافية، بل كانت استمراراً لهويات محلية رسخت نفسها في المشاريع العمرانية، مع بعض التداخلات الشكلية أو الوظيفية التي فرضتها طبيعة السلطة المركزية.

هكذا يصبح مصطلح "الاستحواذ" أداة تفسيرية دقيقة، تخرجنا من أسر الجدل العقيم حول إثبات أو نفي كون الدولة العثمانية استعمارية، وتفتح لنا أفقاً أوسع لفهم طبيعة هيمنتها على الشعوب، وكيف انعكس ذلك على العمارة الليبية التي حافظت على خصوصيتها، رغم وجود سلطة عليا تستحوذ على الموارد دون أن تمس جوهر الهوية.

الأربعاء، نوفمبر 19، 2025

رحلة عبر التاريخ: فهم تشابه العمارة التقليدية

تأملات في جدل الهوية المعمارية بين التشابه والتمايز

صحن زاوية عمورة بحنزور

جمال الهمالي اللافي

حوار المفكر والحكيم

المفكر:  

كثيرًا ما تتردد في مجالس الناس روايات متناقضة حول أصول العمارة المحلية؛ بين من ينسبها إلى تأثيرات خارجية، ومن يراها امتدادًا لعمائر أخرى. بعضهم يزعم أن البيت الدمشقي هو أصل عمارة الأندلس والمغرب العربي، وكأن التاريخ يبدأ من دمشق وينتهي هناك. لكن حين نتأمل بوعي، نجد أن الإيوان الدمشقي مستلهم من العمارة الفارسية، وأن الفناء الداخلي يعود بجذوره إلى العمارة الرومانية.

هذا الجدل الشعبي، وإن بدا بسيطًا، يكشف عن حاجة إلى تفكيك علمي وتأملي يوضح أن العمارة ليست مجرد نقل أو نسخ، بل هي استجابة خلاقة لظروف اجتماعية ومناخية واقتصادية متشابهة. العمارة إذن هي تفاعل مع مؤثرات متعددة عبر الزمن، وليست سلسلة من النقل الأعمى.

الحكيم:  

ما تقوله يفتح باب الفهم الحقيقي: التشابه بين العمائر ليس بالضرورة نتيجة نسخ أو اقتباس مباشر، بل هو انعكاس لتشابه الظروف. كما في امتحانات التصميم المعماري، حين يُعطى الطلبة قطعة أرض ومحددات اجتماعية ومناخية واقتصادية، فإن الحلول التي يقدمونها تتقارب رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة، لأنهم يواجهون نفس المعطيات. العمارة التقليدية وُلدت من هذا المنطق، من مواجهة الظروف بوعي وإبداع.

المفكر:  

وهذا ما يفسر ثراء العمارة المحلية في العالم العربي والإسلامي. فهي متشابهة في الجوهر لأنها استجابت لظروف متقاربة، لكنها متمايزة في التفاصيل لأن كل أسطى بناء أضاف من حصيلته المعرفية والثقافية، ومن إمكانيات بيئته وموادها، ومن حسه الفني في الزخرفة والمعالجة. العمارة هنا ليست مجرد حلول وظيفية، بل هي أيضًا إبداع فردي وجماعي.

الحكيم:  

ومن هذا التمايز وُلدت التحف المعمارية التي نراها اليوم. كل بيت أو مسجد أو سوق هو شهادة على جهد جماعي، على ابتكار في طرق الإنشاء، وعلى قدرة على تحويل المحددات إلى جماليات. لذلك، فإن مسؤوليتنا اليوم لا تقف عند الإعجاب بما تركه الأسلاف، بل تتجاوز ذلك إلى الحفاظ عليه وصيانته، وإلى إعادة توظيفه بما يضمن استمراره حيًا في وجداننا.

المفكر:  

صحيح، نحن أمام واجب مزدوج: أن نحافظ على المعالم التاريخية القائمة بالترميم والصيانة، وأن نستلهِم منها في صياغة عمارة ليبية معاصرة تراعي متطلبات المجتمع وظروفه البيئية والمناخية والاقتصادية. بهذا نضمن أن تكون عمارتنا امتدادًا لهويتنا، لا قطيعة معها ولا استلابًا لغيرها.

الحكيم:

العمارة التي ورثناها ليست جدرانًا صامتة، بل ذاكرة حيّة وابتكار متجدد. فإذا حفظناها وأحسنا استلهامها، صارت جسرًا بين الماضي والحاضر، وأساسًا لمستقبل يليق بنا. هكذا تبقى الهوية المعمارية نابضة، لا تُطمس ولا تُزوَّر، بل تُصان وتُجدَّد، لتظل شاهدة على حياة الشعوب وإبداعها.

جدل المرجعية بين وضوح الهوية وتيه الغرب

قراءة نقدية في مسار العمارة والفنون

زاوية عمورة بجنزور

جمال الهمالي اللافي

في الغرب، حيث تغيب المرجعية القيمية الجامعة، تتناوب النظريات والتوجهات المعمارية والفنية والفكرية على المشهد، فتجد لها مجالاً واسعاً للانتشار والتنفيذ، حتى وإن لم يعتنقها الجميع. لكنها سرعان ما تُختبر أمام النقد، لتنكشف حدودها وقصورها، قبل أن تُستبدل بموجة أخرى لا تقل عنها اضطراباً. هكذا يتشكل مسار متقلب، يفتقد البوصلة، ويترك المدن في حالة من تفسخ الهوية وفقدان المعنى.

أما في المجتمعات الإسلامية، فقد شكّلت المرجعية الدينية والأخلاقية حضوراً حياً يحدد بوضوح ما يصلح وما يفسد، فكان للفنون والعمارة مسار أصيل، تجلّى في نتاج الحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية. مساجد، مدارس، وأسواق حملت وحدة الشكل والوظيفة، وأكدت انسجاماً بين الجمال والغاية، بين الروح والمكان.

غير أن لحظة السيطرة الغربية قلبت هذا المسار، حين فُرض منطق بلا مرجعية على هذه المجتمعات، فدخلت في دوامة من التغريب والتخبط، وتراجعت الأصالة أمام موجات مستوردة لا تحمل سوى مزيد من التيه. وهكذا، ضاع الغرب في دروبه المعوجة، وأضاع معه كل من سار خلفه، متخلياً عن البوصلة التي تحفظ التوازن بين الهوية والابتكار.

خاتمة: نحو حوار معماري معاصر

هذا الجدل بين وضوح المرجعية في العمارة الإسلامية وتيه الغرب في غيابها، ليس مجرد مقارنة تاريخية، بل هو مدخل لحوار معماري معاصر. حوار يسعى لإعادة اكتشاف البوصلة القيمية التي تحفظ للمدينة هويتها، وتفتح في الوقت نفسه مجالاً للابتكار دون أن ينفصل عن الجذور. وهو ما يشكّل أحد محاور مشروع "حوارات معمارية"، حيث يتحول النقد إلى دعوة للتأمل وإعادة البناء على أسس أصيلة.

الثلاثاء، نوفمبر 18، 2025

العمارة بوتقة الجمال والعلم

العمارة بين الزخرفة والحسابات الدقيقة


جمال الهمالي اللافي

حوار بين المفكر والحكيم

المفكر:

يا حكيم، ما زلت في حيرة. في كثير من الجامعات تُدرَّس العمارة ضمن كليات الفنون الجميلة، وكأنها مجرد فرع من الفنون التشكيلية. ألا يدل ذلك على حقيقتها؟

الحكيم:

ذلك يا بني من المفاهيم المغلوطة. العمارة ليست فرعاً من الفنون، بل هي علم وفن قائم بذاته. مكانها الطبيعي بين مدرجات الهندسة والعلوم التطبيقية، حيث الحسابات الدقيقة والمواد والإنشاء. أي خطأ في هذه الحسابات قد يهدد حياة المستعملين أو يُقصّر في كفاءة المبنى.

المفكر:

لكنهم يرونها فناً، لأنها تُبهِر العين وتستعين بالزخرفة والتشكيل. ألا يكفي هذا لتصنيفها ضمن الفنون الجميلة؟

الحكيم:

الجمال جزء من العمارة، لكنه ليس كل شيء. العمارة تُبنى على العلم قبل أن تُزيَّن بالفن. هي فضاء وظيفي يضمن الراحة والأمان والسكينة، والفنون الأخرى تأتي لتخدمها لا لتطغى عليها.

المفكر:

وماذا عن بعدها التاريخي؟ أليست العمارة مجرد أشكال تتغير عبر العصور؟

الحكيم:

العمارة يا بني هي ذاكرة الحضارات. كل جدار فيها يحكي قصة، وكل فضاء يروي سيرة مجتمع عاش فيه. من المعابد القديمة إلى المساجد والقصور، العمارة هي سجل الإنسان على الأرض، وليست مجرد زخرفة عابرة.

المفكر:

لكن البيئة أيضاً تؤثر فيها. ألا يجعلها ذلك فناً مرتبطاً بالطبيعة؟

الحكيم:

البيئة هي أحد أعمدتها. موادها من الأرض، أشكالها من المناخ، توزيعها من حاجات الناس. العمارة استجابة للطبيعة قبل أن تكون لوحة فنية، فهي توازن بين حرارة الشمس وبرودة الرياح، بين الضوء والظل، بين الداخل والخارج.

المفكر:

وماذا عن الثقافة؟ ألا يمكن أن نعتبرها مجرد انعكاس لذوق الناس؟

الحكيم:

الثقافة هي روح العمارة. كل حضارة صاغت عمارتها بما يعكس قيمها ورؤيتها للعالم. من البيوت الشعبية إلى المباني الكبرى، العمارة هي التعبير الأصدق عن هوية المجتمع وذاكرته الجمعية.

المفكر:

لكن في بعض المدارس الحديثة، مثل العمارة التفكيكية، انحازت إلى الشكل الفني على حساب الوظيفة. أليس هذا دليلاً على أنها فن قبل كل شيء؟

الحكيم:

العمارة التفكيكية مثال على الانحراف حين يُغفل بُعدها العلمي والوظيفي. ركزت على الأشكال الغريبة واستخدمت مواد مصنّعة خفيفة الوزن من اللدائن والمعادن الرقيقة القابلة للتشكيل، لكنها كثيراً ما أهملت كفاءة التوزيع الفراغي وراحة المستعملين. هذا يؤكد أن العمارة لا يمكن أن تُختزل في الفن وحده.

المفكر:

أفهم الآن… العمارة ليست فرعاً من الفنون الجميلة، بل هي علم دقيق، وذاكرة تاريخية، واستجابة بيئية، وتجسيد ثقافي.

الحكيم:

أحسنت. العمارة بوتقة الجمال والعلم، وفضاء التاريخ والبيئة والثقافة. هي الأصل الذي يسبق الفنون ويحتويها، وهي التي تمنح الإنسان معنى المكان والهوية.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...