أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الثلاثاء، نوفمبر 04، 2025

نحو مدرسة معمارية ليبية

 استلهام الباوهاوس واستعادة الاختصاصات المسلوبة



 جمال الهمالي اللافي

تمهيد

في زمنٍ باتت فيه العمارة تُختزل في برامج التصميم ومخرجات العروض البصرية، يتوارى المعماري كممارس شامل خلف جدران التخصصات المجزأة. هذه المقالة لا تسعى إلى تقديم نموذج جاهز، بل إلى فتح أفق للنقاش حول إعادة تشكيل التعليم المعماري في ليبيا، بما يستجيب للسياق المحلي ويستحضر الهوية الثقافية والمكانية.

نقد الواقع الأكاديمي المعماري

كيف ساهم التعليم الأكاديمي في تجزئة المعماري؟

  • منذ استحداث التعليم الأكاديمي المعماري في ليبيا، وخصوصًا مع انتشار الجامعات الخاصة، بات التكوين المهني يعتمد على التخصصات النظرية، مع إضعاف واضح للتدريب الميداني.
  • يتم تدريس التصميم المعماري بمعزل عن التنفيذ، دون إلمام حقيقي بمراحل البناء أو تقنيات الحرفة التقليدية.
  • يغيب عن الطالب التدريب على التصميم الداخلي، تنسيق المواقع، والتخطيط الحضري، رغم أنها كانت جزءًا من الممارسة المعمارية التقليدية.
  • هذا الفصل يُنتج مصممًا يعتمد على فرق خارجية، مما يُفقده سلطته المهنية ورؤيته الشاملة.
  • في المقابل، تُظهر تجارب مثل الباوهاوس وورش الـ Design-Build أن دمج الحرفة بالتعليم يُنتج معماريًا واعيًا بالمادة، والموقع، والإنسان.

إن نقد الواقع الأكاديمي لا يهدف إلى تقويضه، بل إلى مساءلته. فاستعادة المعماري كممارس شامل تعني إعادة بناء المنهج بما يستوعب الحرفة، والميدان، والهوية، في آنٍ واحد.

نماذج عالمية ملهمة

بين النظرية والميدان: كيف تجاوزت بعض المدارس الفصل الأكاديمي؟

  • الباوهاوس: جمعت بين الفن، الحرفة، والتعليم. اعتمدت على مبدأ "التصميم عبر الصنع"، مما منح الطالب وعيًا ماديًا ومكانيًا لا يتحقق في القاعات النظرية.
  • مدرسة AA في لندن: ربطت التعليم بالممارسة من خلال مشاريع واقعية ونقد حي، وقيّمت الطلاب على التفكير النقدي والتفاعل مع السياق.
  • Rural Studio في أمريكا: نفذت مشاريع حقيقية في المجتمعات الريفية، مما عزز فهم الطالب للمواد والبيئة الاجتماعية، وأعاد للمعماري سلطته المهنية.

هذه النماذج لا تُقدّم وصفة جاهزة، لكنها تُظهر أن التعليم المعماري يمكن أن يُعاد تشكيله ليصبح أكثر التصاقًا بالحرفة والسياق.

نحو تصور مدرسي ليبي

استعادة الاختصاصات لا استنساخ النماذج

يقترح هذا التصور ملامح فكرية لمنهج تعليمي ومهني يعيد للمعماري سلطته، ويستحضر "أسطى البناء" كمصدر معرفي، لا كرمز تراثي. يقوم على أربعة أعمدة:

  1. دمج الحرفة بالتعليم: عبر ورش ميدانية وتدريب على المواد وتقنيات البناء التقليدية.
  2. إعادة تعريف التخصصات: تدريس التصميم الداخلي، تنسيق المواقع، والتخطيط الحضري كمجالات متداخلة.
  3. الوعي بالمكان والهوية: دراسة العمارة المحلية وتحليل السياقات الاجتماعية والثقافية.
  4. المعماري كممارس متعدد: قائد مشروع، مفكر مكاني، ومشارك في التنفيذ.

المدرسة المقترحة ليست مؤسسة، بل فكرة يمكن أن تتجسد حين تتوفر الإرادة، ويُعاد الاعتبار للمعماري كممارس، لا كمصمم فقط.

خاتمة

المعماري كممارس متعدد: استعادة الدور لا استعادة الماضي

إن ما طُرح لا يسعى إلى تأسيس مدرسة جديدة، بل إلى تأسيس وعي جديد حول مهنة المعماري، ودوره الذي تآكل بفعل الفصل الأكاديمي والتخصص المفرط. النماذج العالمية تُظهر أن التعليم يمكن أن يُعاد تشكيله بما يناسب السياق المحلي، لا عبر استنساخ التجارب، بل عبر استلهامها.

تبقى الأسئلة مفتوحة: كيف يمكن للمعماري أن يستعيد سلطته المهنية دون أن يفقد روحه التأملية؟ وكيف يمكن للتعليم أن يُعيد تشكيل نفسه ليصبح أكثر التصاقًا بالحرفة، والسياق، والإنسان؟ هذه الأسئلة تستحق أن تُناقش في فضاءات أكاديمية ومهنية جادة.

الاثنين، نوفمبر 03، 2025

المدرسة الليبية للعمارة والفنون

تجربة شخصية في مقاومة التبسيط، واستعادة العمارة كفعل ثقافي في زمن التهافت

 

جمال الهمالي اللافي

لماذا أكتب هذه التجربة؟ وما الذي أطمح إليه من عرضها؟

لا أكتب لأوثّق سيرة مهنية، ولا لأعرض محطات شخصية. أكتب لأن هذه التجربة هي كل ما تبقّى من مسار امتد لأربعة عقود، لم يُثمر مشاريع ضخمة، ولم يُدر أرباحًا، لكنه بقي وفيًا لفكرته، ومخلصًا لهويته، ومستمراً رغم الإقصاء والتهميش. أطمح من عرضها إلى إعادة فتح النقاش حول معنى العمارة في السياق الليبي: هل هي خدمة؟ أم خطاب؟ هل هي منتج؟ أم موقف؟ وهل يمكن للمعماري أن يظل فاعلًا، حتى حين يُقصى من التنفيذ؟

لماذا بدأت من الحديث عن النشأة؟ وما الذي أردت الإشارة إليه؟

لأن النشأة ليست خلفية زمنية، بل محددٌ جوهريٌ لمسار التجربة. ولدت في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، في لحظة كانت الدولة الليبية تتشكّل، وتبحث عن ملامحها. النشأة كانت في بيتٍ لا يُفرّق بين الدين والسياسة والثقافة، بل يتعامل معها كقضايا يومية تُناقش وتُمارس. أردت أن أُظهر أن العمارة، كما فهمتها لاحقًا، لم تكن تخصصًا منفصلًا، بل امتدادًا لتلك البيئة الفكرية المتعددة، التي ربطت بين الفكرة والممارسة، وبين الجمال والمسؤولية.

لماذا توقفت عند لحظة الصدمة البصرية؟ وما الذي دفعني لدراسة العمارة؟

لأن تلك اللحظة كانت نقطة التحول من الملاحظة إلى الالتزام. في أواخر الستينيات، بدأت الأسر الليبية تهاجر من "حوش العيلة" إلى مساكن شعبية وعمارات مستردة. ثم جاءت لحظة الوقوف أمام دوبلكس حديث في مدينة الحدائق، ليكتمل الإدراك بأن ما يُبنى لا يُراعي الذاكرة، ولا البيئة، ولا الذائقة. أردت من دراسة العمارة أن أُعيد التفكير في ما يُبنى، لا أن أُعيد إنتاجه. أن أُقاوم التبسيط، لا أن أُجمّله. أن أبحث عن صيغة تصميمية تُعيد الاعتبار للمكان، لا أن تُقصيه.

لماذا اخترت قسم العمارة؟ وما الذي سعيت لتحقيقه خلال الدراسة؟

لأن القسم كان بوابة لاكتساب الأدوات، لكنني أردته مختبرًا لتشكيل خطاب مغاير. منذ اللحظة الأولى عام 1980، كان هدفي أن أُنتج مشاريع تنتمي للبيئة المحلية، لا أن أُحاكي نماذج مستوردة. نظّمت معارض، وشاركت في رحلات علمية، وأجريت حوارات مطوّلة مع الزملاء، لأنني كنت أبحث عن تكوين فكري جماعي، لا عن تفوق فردي. أردت أن أُعيد تعريف الطالب، لا كمُتلقي، بل كمُنتج للمعرفة المعمارية.

لماذا أسست جماعة التراث؟ وما الذي كنت أطمح إليه منها؟

لأن الأنشطة الطلابية كانت فرصة لطرح رؤية، لا مجرد مشاركة. أسست جماعة التراث داخل القسم، لأُعيد الاعتبار للعمارة المحلية، ولأُظهر أن التصميم يمكن أن يكون موقفًا ثقافيًا. أردت أن أخلق تيارًا داخل القسم يُعيد وصل الطالب بموروثه، ويُعيد التفكير في العلاقة بين العمارة والهوية.

لماذا اخترت العمل في المدينة القديمة؟ وما الذي كنت أبحث عنه هناك؟

لأن المدينة القديمة كانت بالنسبة لي فضاءً حيًا، لا موضوعًا للترميم. التحاقي بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة عام 1990 لم يكن قرارًا وظيفيًا، بل عودة إلى المنبع. كنت أبحث عن مكان لا تزال فيه العمارة تحتفظ بعلاقتها بالناس، حيث الجدران تحكي، والأزقة تُعلّم، والحرفيون يُنتجون دون وساطة. أردت أن أتعلم من المكان، لا أن أُعيد تشكيله. أن أُعيد اكتشاف ما تم تهميشه، لا أن أُضيف إليه من خارج السياق.

لماذا نظّمت برنامج التدريب الصيفي؟ وما الذي كنت أطمح إليه منه؟

لأن التعليم الرسمي كان منفصلًا عن الممارسة، وعن المكان. نظّمت برنامج التدريب الصيفي لطلبة قسم العمارة، واستمر لست دورات. أردت أن أُعيد ربط الطالب بموروثه، وأن أُعيد تعريف التعليم بوصفه تجربة ميدانية، لا نظرية.
كان البرنامج محاولة لتأسيس تجربة تربوية بديلة، تُعيد للطالب علاقته بالمدينة، وبالناس، وبالعمارة كذاكرة.

لماذا بدأت بالطرح الفكري؟ وما الذي أردت تحقيقه من خلاله؟

لأن العمارة لا تُصحّح بالتصميم فقط، بل بالفكر أيضًا. في أول محاضرة عام 1993 بعنوان "نحو رؤية جديدة ومعاصرة لمفهوم البيت الاقتصادي"، أردت أن أفتح باب التفكير في نموذج سكني يُراعي الخصوصية المحلية، ويُوازن بين الجمال والاقتصاد. كانت المحاضرة بداية لسلسلة لقاءات امتدت حتى 2010، نُظّمت في فضاءات المدينة القديمة، التي كانت تُرمّم وتُصان في ذات الوقت. أردت أن يكون النقاش داخل المكان، لا خارجه. وأن يكون الفكر جزءًا من الممارسة، لا منفصلًا عنها.

لماذا أسست المكاتب؟ وما الذي كنت أبحث عنه في كل منها؟

لأنني كنت أبحث عن صيغة عمل تسمح للفكرة أن تعيش، وتجد لها حيزًا في واقعٍ لا يعترف بها.

·         مكتب الميراث – 1993

أسسته مع مجموعة من المعماريين، لأُعيد الاعتبار للعمارة المحلية، ولأُمارس التصميم بوصفه فعلًا ثقافيًا.
لكن اصطدمنا بواقع مهني لا يُشجّع العمل الجماعي، ولا يُعطي للفكرة وقتًا لتنضج.

·         أبعاد – 2001

أضفت إليه برنامجًا لتأهيل خريجي قسم العمارة للإشراف على التنفيذ . كنت أبحث عن طريقة لربط التعليم بالموقع، وعن وسيلة لتجاوز الفجوة بين المعماري والميدان.

لماذا أسست المدرسة الليبية للعمارة والفنون؟ وما الذي أردت تحقيقه منها؟

لأن المكاتب الهندسية كانت محصورة في تقديم خرائط، في زمن تم فيه إقصاء المعماري الليبي عن المشاركة في البناء. أسست المدرسة عام 2004، وضممت إليها مجموعة من الخريجين الذين رأيت فيهم استعدادًا لتجاوز النمط، لا لتكراره. أردت أن أُعيد تعريف دور المعماري، لا كمصمم، بل كمُنتج للخطاب، وكفاعل ثقافي.
خرجت بها من الهندسة إلى الاستشارة، ومن التصميم إلى التكوين، ومن تقديم الخدمة إلى بناء الرؤية.

لماذا نظّمت البرامج والرحلات؟ وما الذي كنت أطمح إليه منها؟

لأنني أردت أن أُعيد لمجموعة المعماريين بالمكتب علاقتهم بالمكان، لا بالمخطط. نظّمت برامج تدريبية، لأن التعليم الرسمي لا يكفي. نظّمت رحلات إلى المدن القديمة، لأن العمارة لا تُفهم من الكتب فقط، بل من الأزقة، والبيوت، والحرفيين. كنت أبحث عن طريقة لتوثيق ما يُنسى، ولإعادة وصل المعماري بالذاكرة الحية.

لماذا ساهمت في مجلة مربعات؟ ولماذا أسست مدونة الميراث؟

لأن الخطاب المعماري يحتاج إلى أدوات نشر، لا أن يبقى حبيس الورش والمكاتب.
ساهمت في تأسيس مجلة "مربعات"، لأُنتج خطابًا بصريًا يُعيد الاعتبار للجمال المحلي، وللرمزية المعمارية.
أسست مدونة "الميراث"، لأنني أدركت أن العمل الجماعي ليس من ثقافة المعماري الليبي، وأن الفكرة تحتاج إلى فضاء مستقل، يُنشر فيه ما يُنتفع به، ويُحفظ فيه ما قد يضيع.

ما الذي تبقّى من التجربة؟ وما الذي أطمح إليه الآن؟

ما تبقّى من هذه التجربة ليس عدد المشاريع، ولا حجم الإنجازات، بل وضوح الفكرة، وثبات الموقف، واستمرار السعي رغم تبدّل السياقات. لقد كانت المدرسة الليبية للعمارة والفنون، والمكاتب التي سبقتها، محاولات متتالية للبحث عن صيغة عمل تُمكّن المعماري من أن يكون فاعلًا ثقافيًا، لا مجرد مقدم خدمة. وما أطمح إليه الآن، ليس استعادة ما فُقد، بل البناء على ما ثبت: أن العمارة في ليبيا لا يمكن أن تُفهم أو تُمارس خارج سياقها الثقافي، وأن إعادة وصل المعماري بالمكان، وبالناس، وبالذاكرة، هو المدخل الحقيقي لأي مشروع إصلاحي في هذا المجال.

عرض هذه التجربة ليس استعراضًا لمسار شخصي، بل دعوة لإعادة التفكير في بنية الخطاب المعماري الليبي، وفي أدواته، وفي فضاءاته. وإذا كان من أثر يمكن أن يتحقق مستقبلاً، فهو أن تُقرأ هذه التجربة بوصفها نواةً لفهمٍ مختلف، يُعيد الاعتبار للعمارة كفعلٍ مسؤول، ويمنح الجيل الجديد من المعماريين أدوات للتفكير، لا وصفات للتنفيذ.

السبت، نوفمبر 01، 2025

حين تلتقي العمارة بأبنائها

 جدار بلا يد، وضوء بلا عين


في ليبيا، كما في كثير من السياقات التي أنهكتها العزلة المهنية والتشظي الثقافي، باتت العمارة تُمارس كفن منفصل، لا يلتفت إلى أبنائه الطبيعيين: الفنون، التصميم، الحرف. وكأنها فقدت قدرتها على احتضانهم، أو كأنهم لم يعودوا يرون فيها أمًّا، بل سلطة تُقصيهم أو تتعالى عليهم.

لكن العمارة، حين تكون صادقة، لا تُبنى بالحجر فقط، بل بالمعنى. لا تُصمَّم في فراغ، بل تتخلق من تفاعل جماعي بين من يرسم، ومن ينحت، ومن يلون، ومن يروي. وحين يغيب هذا التلاقي، لا تغيب فقط الجماليات، بل تغيب الروح.

في هذا الحوار، يتواجه المفكر والحكيم، لا ليحسما الجدل، بل ليطرحا أسئلته من قلب الواقع الليبي، حيث العمارة تتعثر، والفنون تُهمّش، والحرف تُنسى، والشراكة تتحول إلى صراع صامت.

المفكر:

لماذا تبدو العمارة في بلادنا يتيمة؟ لا تصحب معها أبناءها، لا تستدعي الفنون، ولا تستأنس بالحرف، ولا تفتح بابها إلا لمن يشبهها في العزلة.

الحكيم:

لأنها نُزعت من سياقها. العمارة حين تُفصل عن الحرفة، تفقد يدها. وحين تُقصي الفن، تفقد بصرها. وحين تحتكرها فئة دون غيرها، تفقد صوتها.

المفكر:

حتى من يمتهنون هذه المهن، لا يتواصلون. كلٌّ في جزيرته. المعماري لا يرى في الفنان إلا مزيّناً، والفنان لا يرى في الحرفي إلا منفّذاً، والحرفي لا يرى في المعماري إلا متعالياً.

الحكيم:

لأننا لم نعد نؤمن بالعمل الجماعي. نُفضّل أن نُنجز وحدنا، حتى لو كان الناتج ناقصًا. نخشَى أن يسرق الآخر الضوء، فنُطفئ المصابيح جميعًا.

المفكر:

لكن النتيجة واضحة: مدن بلا ملامح، بيوت بلا دفء، فراغات بلا معنى. العمارة صارت صدىً باهتًا، لا صدى لذاكرة، بل صدى لكتالوج مستورد.

الحكيم:

حين يغيب التلاقي، يغيب الانتماء. لا يمكن أن نبني عمارة تنتمي لبيئتنا، ونحن نرفض أن ننتمي لبعضنا.

المفكر:

أليس من حق من يملك تجربة أن يُصغي له الآخرون؟ أليس من واجب من يملك سلطة القرار أن يفتح الباب لا أن يُغلقه؟

الحكيم:

في بيئة مريضة، يُنظر إلى التجربة كتهديد، لا كإضافة. يُقصى من يملك الرؤية، ويُحتفى بمن لا يُقلق أحدًا.

المفكر:

لكن العمارة لا تُبنى بالصمت. تحتاج إلى حوار، إلى اختلاف، إلى احتكاك. تحتاج إلى من يخطط، ومن ينحت، ومن يلون، ومن يروي.

الحكيم:

وتحتاج إلى من يتواضع. من يعرف أن الجدار لا يكتمل دون يد الحرفي، وأن الضوء لا يُفهم دون عين الفنان، وأن المعنى لا يُولد إلا من تلاقيهم جميعًا.

المفكر:

ربما آن الأوان أن نعيد للعمارة أبناءها. لا كضيوف، بل كشركاء. لا كزينة، بل كأصل.

الحكيم:

حين نكفّ عن الخوف من الضوء، ونبدأ في بناء الجسور بدل الجدران، ستعود العمارة إلى أبنائها. لا كمنّة، بل كحق. وعندها فقط، يمكن أن نبدأ في بناء ما يستحق أن يبقى.

المفكر:

وإن أردنا لهذا التلاقي أن يتحقق، فلا يكفي أن نكتب عنه. لا بد من فعلٍ يُجسّده، من فضاءٍ يُحتضنه، من مشروعٍ يُعيد للعمارة أبناءها في صورة ملموسة.

الحكيم:

ربما يكون معرضًا. لا استعراضًا، بل لقاءً. يُصمَّم ويُنفَّذ جماعيًا، لا ليُبهر، بل ليُعبّر. يجمع من يرسم ومن ينحت ومن يروي، في جناح معماري مؤقت، يُبنى لا بالحجر فقط، بل بالثقة.

المفكر:

معرضٌ لا يُعلّق فيه الفن على الجدران، بل يُدمج في الجدار ذاته. لا تُعرض فيه الحرفة كتراث، بل تُمارَس كحياة. لا يُقصى فيه أحد، بل يُدعى الجميع للمساهمة.

الحكيم:

وحين يُبنى هذا الجناح، لا يكون مجرد هيكل، بل بيانًا جماعيًا يقول:

هنا، حين تلتقي العمارة بأبنائها، يولد المعنى من جديد.

السبت، أكتوبر 25، 2025

تجربة "الكون 25" كما قرأتها من زاويتي


جمال الهمالي اللافي

في ستينيات القرن الماضي، أجرى عالم السلوك جون كالهون تجربة عُرفت باسم "الكون 25"، حيث أنشأ بيئة مثالية للفئران: وفّر لها الطعام والماء والمأوى، وأزال عنها كل تهديد خارجي. في البداية، ازدهر المجتمع الفأري، لكن سرعان ما ظهرت سلوكيات غير مألوفة: عزلة، عدوانية، انكفاء على الذات، ثم انهيار كامل في التفاعل والتكاثر، وصولًا إلى الانقراض. خلص كالهون إلى أن الاكتظاظ، حتى في ظل الوفرة، يؤدي إلى انهيار اجتماعي وسلوكي، وهو ما اعتبره تحذيرًا من مصير المجتمعات البشرية إذا فقدت التوازن بين النمو والاحتواء.

لكن هذه التجربة لم تستوقفني في حيثياتها، ولا في خلاصتها كما أراد صاحبها. ما استوقفني هو ما تكشفه عن أثر البيئة العمرانية حين تُبنى بلا رؤية، وتُحشد فيها الكتل السكانية دون اعتبار للكرامة أو التفاعل أو الانتماء.

خطر الاكتظاظ لا يكمن في العدد وحده، بل يتضاعف حين يقترن بـ العشوائية العمرانية، وشيوع الفقر، وغياب البنية التحتية والخدمات الأساسية. في مشاريع العمارات السكنية التي تُبنى بنموذج مكرر، دون مرافق ترفيهية أو مساحات خضراء، يتحوّل السكن إلى عزلة جماعية، ويصبح الحيّز العمراني طاردًا لا حاضنًا. فالمكان، حين يُصمَّم بلا اعتبار للكرامة، يُعيد تشكيل السلوك بصمت، ويُغذّي الانكفاء بدل الانتماء.

وقد أثبتت دراسات علم النفس البيئي أن غياب الضوء الطبيعي، وانعدام التهوية، وضيق المساحات، تؤثر مباشرة على الصحة النفسية، وتزيد من معدلات الاكتئاب والعدوانية. كما أن التصميمات المغلقة، التي لا تتيح التفاعل البصري أو الاجتماعي، تُنتج شعورًا بالانفصال، وتُضعف الإحساس بالانتماء للمكان.

غياب المساحات الخضراء، والمرافق التي تتيح التفاعل الآمن، لا يُنتج فقط بيئة فقيرة، بل يُعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمكان، ويحوّل الحيّ إلى معبر لا إلى مستقر. وقد أشار علماء الاجتماع إلى أن المجتمعات التي تفتقر إلى رموزها الثقافية والمعمارية، تُنتج أفرادًا يشعرون بالاغتراب، حتى لو كانوا في موطنهم.

ما رأيته في الواقع لا يُفسَّر بتجربة "الكون 25"، بل يُفصح عن أن الانهيار لا يأتي من الاكتظاظ وحده. فالمدن التاريخية كانت تتميز بكثافتها العالية، وتلاصق مبانيها، وضيق شوارعها، ومع ذلك كانت المكان الآمن لسكانها، الحافظة لقيمهم، والعامل على قوتهم. في تلك المدن، كانت الكثافة تعني التقارب، لا التنافر؛ أما اليوم، فالكثافة تُنتج عزلة حين تُبنى بلا رؤية، وتُكرّس الانفصال حين تُصمّم بلا روح.

وقد بيّنت أبحاث علم النفس الاجتماعي أن الشعور بالكرامة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبيئة العمرانية التي تحترم الحاجات النفسية والاجتماعية، لا تلك التي تختزل الإنسان في وظيفة سكنية. حين يُختزل السكن إلى مأوى جسدي، ويُستبعد منه ما يُراعي الحاجات النفسية والاجتماعية، يتحوّل الحيّ إلى فضاء طارد، ويُصبح العمران أداة تكديس لا وسيلة حياة.

الانهيار يأتي من غياب القيم حين تتوفر الوسائل.

والعمارة، حين تُبنى بلا رؤية، تُصبح جزءًا من هذا الفراغ، لا علاجًا له.

بل إن العمارة المعاصرة، في كثير من نماذجها الإسكانية، لا تُبنى بلا رؤية فحسب، بل تُبنى برؤية تستهدف تدمير كرامة الإنسان، وتدفعه إلى العزلة، والعنف، وانعدام الإنتاجية، عبر بيئات مكتظة، مغلقة، تفتقر إلى الضوء، والمساحات، والمرافق التي تُنعش الروح وتُحفّز التفاعل. وقد أشار علماء النفس إلى أن البيئات التي تُقصي الإنسان من التفاعل، وتُحاصره في وحدات سكنية مغلقة، تُغذي السلوكيات الانكفائية، وتُضعف القدرة على بناء علاقات صحية.

فحين يُختزل السكن إلى مأوى جسدي، ويُستبعد منه ما يُراعي الحاجات النفسية والاجتماعية، يتحوّل الحيّ إلى فضاء طارد، ويُصبح العمران أداة تكديس لا وسيلة حياة.

فهل نعيد التفكير في ما نبنيه، أم نواصل التعايش مع فراغ لا يملؤه الإسمنت؟

الجمعة، أكتوبر 24، 2025

من الطماطم إلى الطوب: حين تُختزل العمارة في محاكاة شكلية


جمال الهمالي اللافي

مقدمة تأملية

في زمنٍ بات فيه الشكل يطغى على المعنى، تُستدعى شرائح الطماطم والدلاع كمصدر إلهام لتصاميم معمارية تُعرض بفخر على أنها "ابتكار". لكن العمارة ليست طبقًا يُزين بالمكونات العشوائية، بل هي خطاب مسؤول يُبنى على فهم عميق للبيئة والهوية والذاكرة الجمعية.

الصورة وتعليق نقدي

الصورة المرفقة تُجسد هذا التوتر بدقة: تشابه بصري بين شرائح الطماطم ومبنى حديث بتصميم منحني ومجزأ. وكأن الشكل وحده يكفي ليبرر الفكرة. هذا النوع من المحاكاة الشكلية لا يُعبّر عن وعي معماري، بل عن انحدار في سلم القيم، حين يُستبدل السياق الثقافي بالمطبخ، ويُستبدل الالتزام بالذوق العابر.

خاتمة تربط الفكرة بالواقع

العمارة ليست شطحة ولا ترفًا. إنها مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون ممارسة فنية. ومن يخلط بين الإبداع والهرطقة، عليه أن يعيد تعريف موقعه من الفكرة، لا أن يكتفي بتزيينها. إن ما يُروّج له اليوم في وسائل الإعلام العالمية من أفكار "متحررة" لا يُمثل الإبداع، بل يُمثل الغفلة. والرد القاسي أحيانًا لا يكون إلا محاولة لإيقاظ الغافل، لا لإهانته.

حين تُبنى المدن بلا ذاكرة: تأمل في المعاصرة والهوية العمرانية

مدينة القلعة بيفرن، من المدن القديمة التي هجرت وتركت لعوامل الزمن


جمال الهمالي اللافي

ينظر المعماريون في الغرب إلى حاضرهم فيرونه امتداداً عضوياً لماضٍ عمراني متجذر، تربطه سلسلة متصلة من الحلقات الحضارية، لا انقطاع فيها ولا قطيعة. كل طبقة عمرانية لديهم تنهل من سابقتها، وتضيف إليها دون أن تمحوها، فتتشكل المدن ككائن حيّ ينمو ويتطور دون أن يفقد ذاكرته.

أما نحن، ففي ظل ما يتعرض له العمران الليبي من خراب ممنهج، وما يُمحى يومياً من معالمنا التاريخية، نقف أمام سؤال مؤلم: كيف سيكون شكل العمارة في ليبيا بعد نصف قرن؟ وهل ستبقى لنا ذاكرة عمرانية نحتكم إليها، أم سنُسلّم مدننا لعشوائيات تُرسم اليوم بلا رؤية، ويُحتفى بها غداً بوصفها "عمارة محلية أصيلة"؟ أتخيل معماريّاً شاباً في ذلك المستقبل، يقف مفتخراً أمام هذه العشوائيات، ويُسميها امتداداً للهوية، بينما هي في حقيقتها انقطاعٌ عنها، وتشويهٌ لها.

في هذا السياق، يُطرح أحياناً سؤال من بعض المعماريين:

"لماذا ينبهر المعماري الليبي بالعمارة الحديثة في البلدان الأخرى، بينما يرفضها في بلاده بحجة الحفاظ على الهوية؟"

والجواب أن ما يُنظر إليه هناك ليس انبهاراً، بل إعجابٌ نابع من إدراكٍ واعٍ بأن تلك العمارة الحديثة نشأت من رؤية متكاملة، منسجمة مع قيم المجتمع، ومع البيئة والتقنيات والمواد المتاحة. أما ما يُفرض عليه في بلاده، فهو غالباً عمران بلا رؤية، بلا انسجام، وبلا احترام للذاكرة الجمعية. لهذا، فالإعجاب هناك لا يعني الرغبة في التقليد، بل هو دعوة لأن ننهج نحن أيضاً طريقاً خاصاً بنا، نبني فيه عمارة معاصرة تعبّر عن قيمنا، وتراعي معطياتنا البيئية والاقتصادية، وتستثمر ما لدينا من مواد وتقنيات، لا ما لدى غيرنا.

أما الانبهار، فهو حالة من فقدان البوصلة، يسعى فيها الفرد إلى التقليد الأعمى، ضارباً بعرض الحائط كل ما لديه من خصوصية، فلا يصل إلى شيء، ولا يبني شيئاً. فقط يعيش حالة تخبط دائم، ويُنتج عمراناً بلا روح.

ولعل ما يزيد الأمر تعقيداً هو أن التعليم المعماري نفسه، في كثير من الأحيان، لا يُدرّس كفعل ثقافي نقدي، بل كتمرين شكلي وتقني، مما يُخرج أجيالاً من المعماريين بلا حسّ تاريخي، ولا وعي سياقي، ولا قدرة على مساءلة ما يُطلب منهم إنجازه. حين يُدرّس الطالب كيف يرسم، لا كيف يفكر، فلا عجب أن يُنتج عمراناً بلا ذاكرة.

وبينما كانت مدن مثل برشلونة أو إسطنبول تعيد قراءة تراثها لتصوغ منه عمراناً معاصراً، كانت مدننا تُهدم بلا بديل، وتُبنى بلا ذاكرة، ويُحتفى فيها بالفراغ وكأنه إنجاز.

لهذا، فإن السؤال الحقيقي ليس عن ازدواجية المعايير، بل عن غياب الرؤية، وعن الحاجة إلى وعي نقدي يعيد للعمارة الليبية مكانتها كخطاب حضاري، لا كزينة شكلية أو تكرارٍ أجوف.

فهل نملك الشجاعة لنُعيد تعريف المعاصرة من داخلنا، لا من خلال مرآة الآخر؟

المسجد الليبي: من المركز إلى الهامش


  

جمال الهمالي اللافي

تمهيد

ليست المساجد مجرد مبانٍ لأداء عبادة مفروضة، بل هي تجسيد حي لروح الأمة الإسلامية، ومعمار يعكس موقع العقيدة الإسلامية في وجدان المسلمين وفي قلب المدينة. ومع تراجع هذه المكانة، تراجعت صورة المدينة الإسلامية ذاتها.

"المسجد ليس بناءً وظيفيًا فحسب، بل هو مرآة للوجدان الجمعي، ومحرابٌ للهوية."

المسجد في المخطط الإسلامي التقليدي

في التخطيط الإسلامي التقليدي، كان المسجد الجامع مركز المدينة، والمحراب هو نقطة الانطلاق في التشكيل العمراني. مآذنه كانت علامات حضرية تحدد الاتجاهات، وتربط الإنسان بالمكان والزمان. حوله تنشأ الأسواق، وتتموضع مؤسسات الدولة، ويُبنى الحي على أساس القيم الروحية التي يغذيها المسجد.

الاستعمار الإيطالي (1911–1943): التهميش المعماري المقصود

مع دخول المستعمر الإيطالي، تغيّرت أولويات التخطيط. أُقصي المسجد عن مركزية المدينة، لصالح الكنائس والمباني الإدارية التي احتلت مواقع استراتيجية، كما في ميدان الجزائر بطرابلس وكاتدرائية بنغازي. هذا التهميش لم يكن عشوائيًا، بل كان انعكاسًا لعقيدة المستعمر، التي أعادت تشكيل هوية المدينة على نحو يتعارض مع وجدان أهلها.

ما بعد الاستقلال (1951–الآن): غياب المسجد عن المشهد

رغم رحيل المستعمر، بقيت رؤيته حاضرة في التخطيط العمراني. ظهرت الأبراج والبنوك في قلب طرابلس، بينما حُشر المسجد في الزوايا المهملة. لم يعد يمثل معلمًا حضريًا، ولا يحظى باهتمام المصممين أو الحرفيين المهرة. وغابت الطرز المحلية لصالح أشكال دخيلة، تتراوح بين الطرز المستوردة، والإسراف الزخرفي، والابتذال، والحداثة الهلامية.

التحولات الاجتماعية والعمرانية: أثر التهميش على الوعي الجمعي

تراجع حضور المسجد يعكس تراجع حضور العقيدة في الحياة العامة. ومع طغيان القيم المادية، فقدت المدينة الإسلامية مركزها الروحي، وتحوّل التخطيط إلى فعل مادي مجرد، يفتقر إلى البعد القيمي الذي كان المسجد يجسده.

ومن منطلق الإيمان العميق بتأثير العمارة في تشكيل سلوك الإنسان، فإن تغييب المسجد عن قلب المدينة وعن نسيج الحي السكني لم يكن مجرد قرار تخطيطي، بل فعلٌ رمزيٌّ ترك أثره في النفوس. فكما تراجع حضور المسجد في المشهد العمراني، تراجعت معه مكانة العقيدة في وجدان الناس، وتبدلت أولوياتهم، حتى غدت المادة هي المرجع، لا الروح.

نحو استعادة المكانة

لا بد من إعادة الاعتبار للمسجد، ليس فقط في المخططات العمرانية، بل في وجدان الناس. وذلك عبر:

  • إعادة مركزية المسجد الجامع في تخطيط المدن والمناطق والمشاريع الإسكانية.
  • ربط مؤسسات الدولة والبلديات حضريًا بالمسجد.
  • تنظيم الأسواق والمرافق العامة حوله.
  • مراعاة التنوع البيئي والثقافي في التصميم.

التوصيات

من أجل استعادة المكانة المركزية للمسجد في تخطيط المدن الإسلامية المعاصرة، لا بد من فتح باب الحوار المعماري والتخطيطي عبر تنظيم ندوات ومؤتمرات متخصصة، تُعنى بمناقشة المحاور التالية:

  • إعادة التفكير في التخطيط الحضري للمدن من منظور يعيد للمسجد دوره المحوري في تشكيل الصورة العمرانية، لا بوصفه مرفقًا وظيفيًا فحسب، بل باعتباره نواة روحية وثقافية تنبع منها باقي مكونات المدينة.
  • صياغة معايير تصميم معماري للمساجد تستلهم الطرز المحلية وتراعي خصوصية كل منطقة من حيث التضاريس والمناخ والبيئة الثقافية، بما يضمن تنوعًا أصيلًا في أنماط المساجد، ويمنع الاستنساخ المعماري الذي يطمس الهوية.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...