أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، ديسمبر 21، 2025

أحدب نوتردام والتشوه الأخلاقي: مرآة العمارة الليبية المعاصرة

حين تتحول الواجهات إلى أقنعة، ويُقصى الجوهر من عمران المدن


 جمال الهمالي اللافي

    لا شك أن أغلبكم قرأ رواية أحدب نوتردام للروائي الفرنسي فيكتور هوجو، ومن لم يقرأها فلا بد أنه شاهد الفيلم الهوليوودي المستوحى منها. أما من لم يطّلع على الرواية ولا على الفيلم، فالقصة تدور حول إنسان مشوّه الخلقة، أحدب الظهر، يعيش معزولاً في كنيسة نوتردام بفرنسا. لم أقل منعزلاً، لأن العزلة فعل إرادي يختاره المرء بنفسه، بل قلت معزولاً، لأن المجتمع هو من أقصاه خوفاً أو احتقاراً لشكله. وحدها فتاة بسيطة رأت خلف هذا التشوّه ملامح الطيبة والعفوية والشهامة، فصاحبته.

    لكن القساوسة والسلطة الحاكمة رأوا في تصرفها تهديداً لهيبتهم. فالعوام ينجذبون عادةً إلى المظاهر: الجمال والوسامة والأناقة والثراء والسلطة، ولا يبحثون عمّا وراءها من وحشية وأنانية وجشع واستغلال. حين كسرت الفتاة هذه القاعدة، كشفت أن خلف المظهر قد تختبئ قيم النبل والشهامة، وأن خلف الواجهة البراقة قد يختفي الخبث والدناءة وانعدام الرحمة. وهذا الوعي، لو انتشر بين الناس، لكان مبعثاً على الثورة والتمرد، ولأجبرهم على إعادة النظر في تقييماتهم، لا وفق الشكل بل وفق الفعل والقيمة.

    خشيت الكنيسة والطغمة المتحكمة من هذا الوعي، فسارعت إلى اتهام الفتاة بالسحر والشعوذة، تهمة جاهزة تسبق يقظة العامة وتمنع بصيرتهم من الانفتاح على الحقائق. وهكذا تحوّل انبهار الناس بالمظاهر إلى غفلة وغيبوبة، جعلتهم وحوشاً تطالب بحرق الفتاة دون أن يتبينوا حقيقتها. أُحرقت الفتاة، وفقد الأحدب العين الوحيدة التي رأت جوهره والقلب الذي تعاطف معه.

    انتقامه كان أن رمى كبير القساوسة من أعلى برج الكنيسة. لم يكن فعله مجرد غضب شخصي، بل حكماً أخلاقياً على الظلم والافتراء والكذب الذي نُصرت به الطغمة. وحده من يمتلك الشهامة والنبل يتخذ قراراً كهذا: إعدام الظلمة والفاسدين، عقاباً رادعاً لكل من يزيّف الحقائق ويروّج الأباطيل ليهنأ الظالم بظلمه ويعيش المستغفل في غفلته.

الخاتمة: الرواية كمرآة للعمارة الليبية المعاصرة

    الحكمة التي أرادها فيكتور هوجو من رواية أحدب نوتردام، والتي تتجلى أيضاً في قراءتي لها ومشاهدتي بعدها للفيلم، هي أن التشوّه الأخلاقي أخطر من أي تشوّه جسدي. فالأول يفسد الوعي الجمعي ويحوّل الناس إلى أدوات في يد الطغاة، بينما الثاني يظل فردياً لا يتعدى صاحبه.

    وإذا أسقطنا هذا المعنى على واقعنا المعماري الليبي، نجد أن ما يعيشه عمراننا اليوم ليس مجرد خلل في الشكل أو ضعف في التقنية، بل هو انعكاس مباشر لتشوه أخلاقي واجتماعي أعمق. فالمباني التي تُشيّد بلا روح، وتُزيَّن بواجهات زائفة لا تخدم الإنسان ولا تعبّر عن بيئته، هي أشبه بسلطة تتزين بالهيبة وتخفي وراءها الجشع والفراغ. إنها عمارة مشوّهة لأنها فقدت وظيفتها الصادقة، تماماً كما فقد المجتمع قدرته على التمييز بين الجوهر والقشرة.

    إن عمارتنا الليبية اليوم، بما تحمله من واجهات زائفة ومبانٍ بلا روح، ليست سوى انعكاس للتشوه الأخلاقي الذي فضحه هوجو في روايته، حيث يُقصى الجوهر ويُعبد المظهر. وهكذا يصبح الأحدب رمزاً كاشفاً لواقعنا، ويغدو عمران المدن شاهداً على غفلة الناس واستسلامهم للتزييف.

 

ليست مأساة الأحدب في قبح جسده، بل في قبح مجتمعٍ عبد المظاهر وأقصى الجوهر. وما أشبه اليوم بالأمس، حين نرى عمارتنا الليبية تتزين بواجهات زائفة تخفي وراءها فراغاً أخلاقياً ووظيفياً.

السبت، ديسمبر 20، 2025

البيت الذي يخنقنا

 


جمال الهمالي اللافي

اختيارك لنمط بيتك وأثاثه لم يكن يومًا مرآةً لذاتك،
لم يكن بحثًا عن راحةٍ تسكنك أو دفءٍ يحيطك،
بل كان بحثًا عن نظرات الآخرين، عن انبهارٍ عابرٍ يلمع في عيونهم.

كنت تفرح حين يشيرون إلى بيتك بإعجاب،
تنتشي حين يطربهم جماله،
لكنهم لم يلتفتوا إليك أنت، لم يروا ساكنه،
رأوا البيت وحده، وتركوك نكرةً خلف جدرانه.

أما كيف تعيش فيه، لم يكن يعنيهم،
ولا يعنيك أنت أيضًا،
فأنت لم تبحث عن سكينةٍ نفسية، ولا عن راحةٍ حرارية،
بحثت فقط عن فخرٍ زائفٍ يلمع في أعين الآخرين.

لكن ألم تلحظ أن انبهارهم كان عابرًا؟
أن نظراتهم التي كانت مسلطة عليه، انطفأت سريعًا؟
صاروا يمرّون أمامه دون التفاتة،
وأنت بقيت وحدك، محاصرًا بمعاناتك في داخله،
تكتمها عن الجميع، حتى لا يشمتوا بك.

هكذا يصبح البيت الذي شيّدته بيديك،
بيتًا يخنقك بدل أن يحتضنك،
بيتًا يذكّرك كل يوم أنك غريب فيه،
وأنك بنيته لأعين الآخرين، لا لقلبك أنت
.

الدولة بين العمارة وتخطيط المدن: قراءة في قرار ترامب

 


جمال الهمالي اللافي

في 28 أغسطس 2025، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بعنوان جعل عمارة الدولة جميلة من جديد. نص القرار على أن تكون المباني الفدرالية الجديدة مرئية كرموز مدنية، تعكس التراث الأمريكي، وتلهم المواطنين بالفخر الوطني، مع اعتماد الطراز الكلاسيكي أو التقليدي كخيار افتراضي، ورفض الطرز الحداثية والتفكيكية التي وُصفت بأنها منفصلة عن الناس وغير ملائمة لتمثيل الدولة. بهذا القرار، أعاد ترامب فتح النقاش حول علاقة الدولة بالمدينة، وحول مسؤولية ضبط الفوضى العمرانية والمعمارية التي شهدها القرن العشرون وما زالت آثارها تتفاقم في مدننا المعاصرة.

لقد أثبت التاريخ أن المدن الكبرى التي بقيت شاهدة على الجمال والتناسق لم تكن وليدة شطحات فردية، بل نتاج سياسات عامة صارمة فرضتها الدولة أو السلطة الدينية والسياسية. في اليونان القديمة، المعابد والساحات كانت جزءًا من مخطط عمراني يرمز إلى النظام والهوية الوطنية. في روما، الكولوسيوم والطرق الشعاعية جسدت قوة الإمبراطورية وهيبتها، حيث التخطيط كان أداة سياسية بامتياز. في المدن الإسلامية الكبرى، من بغداد إلى قرطبة والقاهرة، كان المسجد الجامع والأسواق مركز التخطيط، والدولة هي من تحدد مواقعها لتربط العمران بالشرعية الدينية والسياسية. وفي أوروبا عصر النهضة، لم تكن الكنائس والقصور وحدها هي التي تعكس سلطة الدولة، بل أيضًا الشوارع والميادين التي رسمت ملامح المدن وفق رؤية مركزية.

هذا النجاح التاريخي يقابله فشل واضح في مدن القرن العشرين والمعاصرة، حيث غابت الدولة عن دورها المركزي في التخطيط، وترك المجال لشطحات المعماريين والمستثمرين. انفجرت المدارس المعمارية: الحداثة، التفكيكية، التجريبية، وصولًا إلى مبانٍ تستلهم من الطماطم والفواكه والحشرات والراقصات. النتيجة كانت مدنًا متنافرة بلا هوية، عشوائيات عمرانية، وتناقضات بصرية تعكس غياب الدولة عن دورها المركزي. لم تعد هناك رؤية شاملة تربط بين الماضي والحاضر، بل صار التخطيط مجرد رد فعل على أزمات متراكمة، حيث كل مرحلة تحاول إصلاح ما قبلها بدل أن تبني على رؤية طويلة المدى.

قرار ترامب، في هذا السياق، يعيد الاعتبار إلى أن العمارة والتخطيط لا ينفصلان، وأن الدولة هي الضامن الوحيد لانسجام المدن وحماية هويتها. فالمباني العامة ليست سوى جزء من مخطط عمراني أشمل، وإذا فرضت الدولة الطراز الكلاسيكي كإطار عام، فهي في الحقيقة تعيد ربط العمارة بالتخطيط، وتضع حدًا لشطحات المعماريين التي تهدد بتحويل المدن إلى مستنقعات بصرية. بهذا القرار، تُعاد المياه إلى مجاريها: يصبح الإبداع جزءًا من النهر العمراني، لا بركة راكدة تتعفن على الهامش.

وجهة نظري كمعماري ليبي

من موقعي كمعماري ليبي، أرى أن هذا القرار يحمل رسالة مهمة لنا: لا يمكن ترك مصير المدن لشطحات فردية أو مصالح ضيقة. نحن بحاجة إلى أن تتحرك الدولة لتضع مسارًا شاملًا لمخططات عمرانية ومعمارية تحترم الهوية الوطنية، وتتوفر فيها جميع مقومات الحياة الكريمة من بنى تحتية وخدمات ضرورية، مع القضاء على الفوضى المعمارية والعشوائيات. إن مسؤولية الدولة ليست فقط في ضبط الطراز المعماري، بل في رسم رؤية متكاملة للمدينة، حيث التخطيط العمراني يصبح أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية، والهوية الثقافية، والانسجام البصري.

خاتمة

ما نحتاجه اليوم هو أن نستلهم من الماضي نجاحه، ونواجه حاضرنا بفشل سياساته، لنرسم مستقبلًا أكثر وضوحًا. الدولة يجب أن تعود لتضع السياسات التخطيطية والمعمارية العامة الملزمة، وتترك حرية الإبداع ضمن هذا الإطار فقط. هكذا نصون المدن كهوية جماعية، لا كاستعراض فردي، ونضمن أن يبقى التخطيط العمراني نهرًا جاريًا يحمل الماضي إلى الحاضر، بدل أن يتحول إلى مستنقعات تزيد من عفونة الفوضى العمرانية.

الجمعة، ديسمبر 19، 2025

العمارة المحلية المعاصرة بين الإصلاح والإلغاء ومسؤولية المصمم



جمال الهمالي اللافي

مقدمة

تُعد العمارة المحلية المعاصرة مرآةً لهوية الأمة وميراثها الحضاري، وهي ليست مجرد ممارسة تقنية أو جمالية، بل مسؤولية ثقافية وأخلاقية. غير أن بعض الممارسات التصميمية الحديثة تنطلق من عقلية "الإلغاء والإحلال"، متجاوزة حدود المسؤولية، ومهددةً بطمس الهوية وإضعاف الرصيد الحضاري.

أولاً: مستويات التعاطي مع العمارة المحلية

  • الحفاظ: على العناصر التي أثبتت صلاحيتها وملاءمتها لمتطلبات الواقع المعاش.
  • الإلغاء: لما لا يحقق تلك المتطلبات أو يعيق التكيف مع الحاضر.
  • الإصلاح والتعديل: لما يمكن تطويره دون أن يُستبدل أو يُمحى.

هذه المستويات الثلاثة تشكّل إطاراً عملياً للمصمم، يوازن بين الأصالة والتجديد، ويمنع الانزلاق نحو القطيعة مع التراث.

ثانياً: خطورة عقلية الإلغاء والإحلال

  • تجاوز المسؤولية: حين يتعامل المصمم مع التراث وكأنه ملك شخصي قابل للمحو.
  • تغريب الهوية: عبر استيراد نماذج لا تنتمي إلى السياق المحلي.
  • فقدان الاستمرارية: إذ تتحول العمارة إلى أداة قطيعة بدل أن تكون أداة وصل بين الماضي والحاضر.

ثالثاً: البعد الحضاري للعمارة

العمارة ليست مجرد مبانٍ أو زخارف، بل هي سجل حيّ لتجارب الأمة وذاكرتها الجمعية. كل إضافة معمارية يجب أن تُقرأ كصفحة جديدة في هذا السجل، لا كتمزيق للصفحات السابقة. ومن هنا يبرز السؤال الجوهري الذي يجب أن يطرحه المصمم: ما الذي يستطيع أن يضيفه للرصيد الحضاري لأمته؟

خاتمة

إن مسؤولية المصمم المعماري، والمصمم الداخلي، ومصمم عناصر التأثيث والزخرفة، ومنسق المواقع، لا تقف عند حدود الإبداع الفردي، بل تتجاوزها إلى حماية ميراث الأمة وصون هويتها. فالإبداع الحقيقي ليس في الهدم أو التغريب، بل في الإضافة الواعية التي تعزز الرصيد الحضاري وتخدم الواقع المعاش.

 

تنويه: هذا المقال يمهّد لبيان معماري موجَّه للممارسين والطلاب، سينشر على صفحتي في فيسبوك، ليضع المبادئ العملية التي تكمل هذا الطرح النقدي.

الخميس، ديسمبر 18، 2025

الشكل يتبع الوظيفة… ولكن ليس وحدها

  


جمال الهمالي اللافي

مقدمة

الوظيفة هي الشرط الأول لأي مبنى؛ فهي المعيار الذي يحدد نجاحه أو فشله. فالمبنى الذي لا يحقق كفاءة التوظيف، مهما كان شكله جذابًا، يظل مبنى ناقصًا. لكن الاقتصار على الوظيفة وحدها لا يكفي لتفسير العمارة ولا لتشكيلها. فالشكل يتأثر بالحاجة، بالقدرة المالية، بالسياسة، بالثقافة، بمواد البناء، وبقيم المصمم وخبرته.

العمارة إذن ليست معادلة بسيطة بين وظيفة وشكل، بل هي حصيلة شبكة من العوامل المتداخلة، بعضها ظاهر وبعضها خفي، بعضها قوي وبعضها ضعيف. ومن هنا تأتي أهمية النظر إلى العمارة بوصفها انعكاسًا للحياة نفسها، لا مجرد استجابة لبرنامج وظيفي.

إذا كانت الوظيفة هي الشرط الأول، فإن العوامل الأخرى هي التي تمنح الشكل ملامحه النهائية. فالمبنى لا يولد من الوظيفة وحدها، بل من شبكة متداخلة من المؤثرات:

  • الحاجة: هي البذرة التي تحدد نوع الوظيفة، لكنها تختلف باختلاف الناس والظروف.
  • السياسة والأيديولوجيا: توجه المشاريع الكبرى، وتفرض رموزًا أو أنماطًا تعكس السلطة القائمة.
  • التمويل والقدرة المالية: يحدد سقف الطموح، ويقرر إن كان المبنى متواضعًا أو فخمًا.
  • مواد البناء والتقنيات: كل عصر يفرض إمكاناته وحدوده، من الطين والحجر إلى الخرسانة والزجاج.
  • المقاول والعمالة الفنية: التنفيذ ليس محايدًا؛ كفاءة أو ضعف العمالة يترك أثرًا مباشرًا على الشكل.
  • المصمم نفسه: خبرته، قيمه، ثقافته، نزاهته، وحتى خلفيته الأكاديمية، كلها تصوغ ملامح العمل.
  • العلاقات السلطوية: من يفرض رأيه؟ المعماري، الزبون، أم من يقف خلف الزبون.
  • الثقافة السائدة: هي الإطار الأوسع الذي يحدد الذوق العام، ويضغط على المعماري ليكون ابن عصره.

خاتمة

الوظيفة هي الشرط الأول الذي لا يُستغنى عنه، لكنها ليست وحدها ما يصوغ العمارة. فالشكل يتشكل من الحاجة والمال والسياسة والثقافة، ومن قيم المصمم وخبرته، ومن شبكة الحياة بكل تناقضاتها. العمارة الناجحة إذن هي التي تحقق كفاءة التوظيف، وتستوعب في الوقت نفسه هذه القوى المتداخلة، لتصبح مرآةً للحياة لا مجرد استجابة لبرنامج وظيفي.

الوظيفة شرط، لكن الحياة هي الإطار الذي يمنح الشكل معناه.

السبت، ديسمبر 13، 2025

مدينة العراة – قصة قصيرة

 

جمال الهمالي اللافي

الفصل الأول: الشاطئ – بداية اللعبة

على شاطئ البحر، حيث الرمال تلمع تحت الشمس، يجلس المهندس المعماري بجوار زوجته. هي تمدد جسدها بلا خجل، كأنها تعرضه على المارة، وهو يبتسم، لا يغار، بل يراها انعكاسًا طبيعيًا لما يبنيه في عمله.
الأطفال يركضون، الشباب يلتقطون الصور، النساء يتبادلن النظرات، والرجال يضحكون. لم يعد أحد يخجل من جسده، بل صار كل واحد يتلذذ بعري الآخر أكثر مما يلتفت إلى نفسه.
الزوجة تهمس له: "أترى كيف ينظرون إليّ؟" فيجيبها: "هذا هو الجمال، أن تكوني مرئية."
هكذا يبدأ المسرح الأول: الشاطئ، حيث الحرية المزعومة تتحول إلى فرجة جماعية، والستر يُخلع كأنه عباءة ثقيلة.

الفصل الثاني: البيت – الشاطئ الآخر

حين يعودان إلى بيتهما، لا يتركان العري على الرمال. البيت نفسه نسخة من الشاطئ، لكنه من زجاج. واجهة شفافة، نوافذ بلا ستائر، شرفة مفتوحة على الشارع. الزوجة تجلس معظم النهار على الشرفة، تستعرض مفاتنها على المارة، وهو يبتسم بفخر، كأنها جزء من تصميمه المعماري. البيت عنده ليس مأوى، بل معرض حيّ. الجار يمرّ في الشارع، يرفع رأسه، يبتسم، وهي ترد بابتسامة أوسع. المشهد يتكرر يوميًا، حتى صار البيت مسرحًا دائمًا، لا مكانًا للسكينة. الطفل يسأل أباه: "لماذا يروننا ونحن نأكل؟" فيجيبه: "هكذا نعيش اليوم، لا شيء يُخفى."

الفصل الثالث: الشاشات – الاستباحة الكبرى

في المساء، يفتح المهندس هاتفه، يبدأ بثًا مباشرًا من الصالة المواجهة للشارع. خلفه، زوجته تتحرك في الخلفية، مكشوفة كما البيت نفسه. يقول لمتابعيه: "هذا هو بيت المستقبل، بلا جدران ولا أسرار." التعليقات تنهال: "رائع"، "حرية"، "شفافية". لم يعد أحد يسأل عن الكرامة، لأن الكرامة نفسها صارت كلمة قديمة، لا مكان لها في قاموسهم. هكذا صارت الشاشات امتدادًا للبيت، والبيت امتدادًا للشاطئ، وكل شيء امتدادًا للغيبوبة الجماعية.

الفصل الرابع: العمارة – مرآة الغيبوبة

في مكتبه، يرسم خطوطًا جديدة لبيت زجاجي، بينما يطل من نافذته على بيته المكشوف. يرى في ذلك انسجامًا كاملًا: ما يبيعه للناس هو ما يعيشه هو. هو لا يرى تناقضًا، لأن الغيبوبة أزالت كل شعور بالحدود. العمارة عنده ليست فنًا للسكينة، بل فنًا للعرض. يقول لصديقه: "الناس يريدون أن يُروا، وأنا أعطيهم ما يريدون." هكذا تتحول العمارة إلى مرآة للانكشاف، لا أداة للحماية، بل أداة للفرجة.

الفصل الخامس: الرسالة واليقظة – الحكاية المضادة

لكن وسط هذه الغيبوبة، يظهر صوت آخر، يسأل: هل يمكن أن يكون البيت مكانًا للسكينة لا للعرض؟ هل يمكن أن تعود العمارة لتكون سترًا، لا شاشة؟ الرسالة هنا ليست مجرد نص، بل دعوة إلى أن نُسوّق للستر كما سُوّق للعري، أن نُعيد للناس معنى الحدود، وأن نُقنعهم أن البيت الذي يحفظهم هو بيت يحررهم، لا يقيدهم. اليقظة الجماعية لا تأتي من التنظير وحده، بل من إعادة تشكيل الذوق العام عبر قصة جديدة، تُظهر أن الانكشاف ليس حرية بل غيبوبة، وأن الستر هو الكرامة الحقيقية.

الخاتمة

المهندس المعماري وزوجته ليسا مجرد شخصيتين، بل رمز للمدينة كلها. هما بائع الزجاج وزوج العراة، الوجه الإنساني للانهيار، الدليل على أن العمارة ليست مجرد جدران، بل انعكاس لوعي الناس. مدينة العراة ليست مكانًا بعيدًا، بل هي واقعنا اليوم، حيث الشاطئ والبيت والشاشات والعمارة كلها مسارح للتعري الجماعي. لكن الرسالة ما زالت ممكنة: أن نوقظ الناس من غيبوبتهم، أن نعيد الاعتبار للستر والكرامة، أن نُبني بيوتًا ونصوصًا تحفظ الإنسان لا تعرضه. 

المكان كرفيق للروح: من السكن الفردي إلى المحيط العمراني

 من نافذة الضوء إلى صمت الصحراء: أثر العمران في الروح الإنسانية


جمال الهمالي اللافي

الروح من أمر الله، لا تُدرك بالعقل ولا تُحاط بها التجربة، لكنها تسكن الجسد وتنعكس على سلوك الإنسان ومحيطه. وإذا كان السكن هو الحيز الذي يحتضن الجسد، فإن العمارة نفسها تحمل روحًا خاصة بها، تنبع من نية المصمم، ومن القيم التي يحملها المجتمع، ومن المواد التي تُبنى بها. هذه الروح الساكنة في العمارة ليست جامدة، بل تتفاعل مع روح الإنسان: قد تزكيها وتعيد إليها صفاءها، أو تزرع فيها الاضطراب والقلق. هكذا يصبح المكان فضاءً مزدوج الروح: روح الإنسان التي تبحث عن السكينة، وروح العمارة التي تترجم القيم والنيات إلى فراغ وظل وضوء. وعندما يلتقيان، يتحدد أثر العمران: إما أن يكون رفيقًا للروح، يفتح لها أبواب الصفاء، أو أن يتحول إلى عبء يضاعف اضطرابها.

حين يدخل الإنسان بيته، يبدأ أول حوار بين روح الإنسان وروح المكان. الضوء الطبيعي المتسلل عبر نافذة صغيرة أو مشربية لا يكتفي بإنارة الفراغ، بل يضبط إيقاع اليوم الداخلي، يذكّر الروح بدورة الزمن ويعيدها إلى صفائها. في البيوت الإسلامية، كان الفناء الداخلي قلب البيت، فضاءً مفتوحًا للسماء، يوازن بين الداخل والخارج، ويمنح الروح متنفسًا في قلب العمران الكثيف. الماء الذي يتوسط الفناء، نافورة صغيرة أو حوض بسيط، لم يكن مجرد عنصر جمالي، بل كان وسيلة لتصفية الروح وإعادة الطمأنينة إليها. المشربيات بدورها كانت أداة دقيقة لتنظيم الضوء والهواء والخصوصية، تمنح الروح النور دون أن تفضحها، وتتيح لها النظر إلى الخارج دون أن تُكشف.

لكن السكن الفردي يظل تجربة محدودة إذا بقي معزولًا عن محيطه العمراني. فالمحيط العمراني هو فضاء الأرواح المتعددة، حيث تتفاعل روح العمارة مع روح الإنسان في سياق جماعي. في المدن الإسلامية القديمة، كان تلاصق المساكن يخلق علاقة روحية بين الجيران، إذ يمنحهم خصوصية تمنع التطفل، لكنه في الوقت نفسه يفتح أبوابًا للتواصل اليومي. الأزقة الضيقة المخصصة للمشاة لم تكن مجرد مسارات وظيفية، بل فضاءات روحية، حيث يلتقي الناس وجهًا لوجه، ويتبادلون التحية، ويشعرون بحماية جماعية من حرارة الشمس أو برد الشتاء. هذه الشوارع الضيقة، بما توفره من ظل وتدرج، كانت أيضًا حماية بيئية، تلطّف المناخ وتخفف من قسوة الطبيعة، فتزكي الروح وتمنحها سكينة في قلب المدينة.

وفي الساحات العامة، من حديقة البيت الصغيرة إلى الميادين الكبرى، كانت الأرواح تجد متنفسًا جماعيًا. في فاس أو دمشق، كانت الساحات والحدائق الداخلية فضاءات للتأمل الجماعي، حيث الماء والظل والخضرة يخلقون إيقاعًا روحيًا مشتركًا. وفي المدن الساحلية، كان البحر نفسه جزءًا من المحيط العمراني، يذكّر الأرواح بديمومة الحياة ويمنحها صفاءً لا ينقطع. أما في المدن الجبلية مثل شفشاون، فإن الأزقة المتدرجة ليست مجرد مسار عمراني، بل رحلة روحية بين العلو والانخفاض، بين الانفتاح والانغلاق، حيث كل خطوة تحمل معنى جديدًا للروح.

وفي المساجد الكبرى، مثل جامع قرطبة أو جامع الزيتونة أو الجامع الأموي بدمشق، يتجلى البعد الروحي للعمارة بأوضح صورة. الضوء المتدرج عبر الأقواس والقباب لا يكتفي بإنارة الفضاء، بل يخلق إيقاعًا روحيًا يربط الأرواح ببعضها في حضرة جماعية. الفراغ الواسع، الموزون بين الامتلاء والصمت، يمنح الروح شعورًا بالانعتاق من ضيق اليومي إلى رحابة المطلق. حتى المواد ـ الحجر المنقوش، الخشب المزخرف، الرخام المصقول ـ ليست مجرد عناصر بناء، بل وسائط روحية تحمل ذاكرة الجماعة وتعيدها إلى أصلها. هنا تصبح العمارة أداة تزكية جماعية، لا مجرد انعكاس فردي، لأنها تجمع الأرواح في فضاء واحد، وتفتح لها أبواب الصفاء في حضرة الذكر والعبادة.

حتى الصحارى، بصمتها الكبير، كانت فضاءً آخر للروح. صمت الصخور والرمال يتيح للإنسان أن يستعيد توازنه في مواجهة الفراغ، أن يسمع صوته الداخلي بعيدًا عن ضوضاء المدينة، حين تحتويه سكينة بيته بعد يوم عمل شاق. العمارة هنا لا تنفصل عن الطبيعة، بل تتكامل معها: من نخلة البيت إلى المزارع الريفية، من نافورة الفناء إلى الشلالات الطبيعية، من الأزقة الضيقة إلى الساحات المفتوحة، كلها مشاهد عمرانية تسهم في صفاء الروح وتزكيتها.

العمارة إذن ليست مجرد لغة شكلية، بل هي روح تتجلى في المكان. هذه الروح تنبع من نية المصمم، من القيم التي يحملها المجتمع، ومن البيئة التي تحتضن العمران. وحين يدخل الإنسان إلى فضاء معماري، فإن روحه لا تبقى محايدة؛ بل تتأثر بروح المكان، وتعيد بدورها تشكيله عبر الاستخدام والتفاعل. العلاقة بين الروحين ليست انعكاسًا أحاديًا، بل هي تفاعل حيّ: إذا كانت روح العمارة صافية، متوازنة، فإنها تساعد روح الإنسان على التزكية والسكينة؛ وإذا كانت مشوشة، متنافرة، فإنها تضاعف اضطراب الروح وتزيد من قلقها.

الخاتمة

الحديث عن روح العمارة لا يكتمل إلا بربطها بروح الإنسان. فالمكان ليس مجرد انعكاس لحالة فردية، بل هو أداة لتزكية الأرواح أو إفسادها، بحسب ما تحمله العمارة من نية وقيم، وبحسب ما يتيحه المحيط العمراني من فضاءات للتفاعل والسكينة. العمارة الحق هي التي ترافق الروح في رحلتها، من نافذة الضوء إلى صمت الصحراء، وتظل شاهدة على حضور الإنسان في الدنيا بما يليق بكرامته.

الجمعة، ديسمبر 12، 2025

بين فراغ الزبون وتكرار المعماري: أين تضيع رسالة العمارة؟

 



جمال الهمالي اللافي

في علاقتنا بالعمارة، كثيراً ما يُختزل المشروع إلى شكل مبهر أو قائمة مطالب وظيفية، بينما تغيب الرسالة والمعنى. هنا يطرح السؤال نفسه بقوة.


عندما تقصد معماريّاً ليصمم لك بيتك أو مشروعك العام، اسألت نفسك أولاً: ما الرسالة التي تريد أن يلتقطها الزائر أو المشاهد من هذا المبنى؟ هل أخبرت المعماري بها ليضعها في حسبانه؟

غالباً ما نكتفي بالبحث عن شيء "مبهر"، دون أن نحمل رسالة واضحة. وأحياناً نذهب إلى معماري مشهور أو مُزكّى لنا، ونترك له الأمر كله، مكتفين بحزمة المتطلبات المعتادة. النتيجة؟ مبنى جميل في الصور، لكنه بلا أثر في الذاكرة.

وهنا ينقلب السؤال على المعماري نفسه: هل مشاريعك تحمل رسالة تسعى لتوصيلها للمتلقي والمجتمع، أم أنك تكرر أسلوباً أتقنته حتى صار عادة؟

العمارة ليست مجرد شكل، بل لغة. إما أن تكون لغة للتعبير عن الناس والمكان والزمان، أو أن تتحول إلى زخرفة عابرة.

المغزى واضح: هل أنت زبون يأتي محمَّلاً برؤية ورسالة تريد أن يضمّنها مشروعك، أم أنك زبون فارغ لا يحمل سوى قائمة المطالب المعتادة؟ وهل أنت معماري صاحب رسالة تسعى لإيصالها، أم مجرد مكرِّر لأسلوب أتقنته حتى صار عادة؟

بين فراغ الزبون وتكرار المعماري تضيع العمارة كخطاب حيّ، وتتحول إلى مجرد شكل أو وظيفة. والسؤال يبقى معلقاً: من منكما سيجرؤ أولاً على كسر هذه الحلقة؟ أهو وعي المجتمع بما يريد أن تعبّر عنه عماراته، أم التزام المعماري بأن يحمل مشاريعه رسالة تتجاوز الشكل والوظيفة؟

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...