أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، ديسمبر 10، 2025

من الحداثة إلى التفكيكية: قراءة نقدية في الفلسفات المعاصرة وغاياتها

جمال الهمالي اللافي

المقدمة

في تصريحه قال فرانك غِهري بأن العمارة كانت جافة ومملة، وأنه أراد أن يغرس فيها الإبداع والطاقة والشعور بالحركة. هذا الادعاء يفتقر إلى الأساس التاريخي؛ فالعمارة عبر العصور لم تكن يومًا جامدة أو مملة، بل كانت دائمًا متجددة ومتنوعة، تعكس تنوع الثقافات والبيئات، وتنتج صروحًا تبهر العقل وتستفز قدراته.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الفلسفات المعاصرة التي شكّلت العمارة الحديثة وما بعدها، بدءًا من الحداثة وصولًا إلى التفكيكية، مع ربطها بالجذر الفلسفي المتمثل في نظرية داروين، وبيان أثرها في العمارة والفنون والإعلام العربي والغربي، وكيف ساهمت في زعزعة البنية الأخلاقية والثقافية للمجتمعات.

مراجعة الأدبيات

نظرية داروين والداروينية الاجتماعية

  • تشارلز داروين، أصل الأنواع (1859): طرح مفهوم الانتقاء الطبيعي، الذي تجاوز حدود البيولوجيا ليصبح إطارًا عامًا لفهم المجتمع والثقافة.
  • هربرت سبنسر: نقل الداروينية إلى المجال الاجتماعي، مؤسسًا لما سُمّي "الداروينية الاجتماعية"، التي بررت الاستعمار وإعادة تشكيل المجتمعات "الأضعف" وفق النموذج الغربي.
  • الأثر الثقافي: العقلية الغربية تبنّت هذا المنهج وروّجت له عبر التعليم والإعلام، حتى أصبح جزءًا من الثقافة السائدة، مما انعكس على العمارة والفنون باعتبارها "تطورًا" شكليًا مستمرًا، لا امتدادًا للذاكرة.

الحداثة المعمارية

  • ظهرت مع الثورة الصناعية، رافعة شعار "الوظيفة قبل الشكل".
  • مدرسة باوهاوس (1919–1933) ولو كوربوزييه مثالان بارزان على قطيعة مع الرموز التقليدية.
  • العمارة تحولت إلى أداة عقلانية صارمة، تفتقر إلى البعد الإنساني والذاكرة الحضارية.

ما بعد الحداثة

  • جاءت كرد فعل على صرامة الحداثة، لكنها عمّقت الانقطاع.
  • روبرت فينتوري وكتابه Learning from Las Vegas (1972) مثال على تحويل الشك إلى منهج، والرموز إلى لعبة.
  • فيليب جونسون وعمارة AT&T Building (1984) مثال على اللعب بالرموز التاريخية في سياق معاصر.

التفكيكية

  • فلسفة جاك دريدا (Of Grammatology, 1967) أسست للتفكيك.
  • ظاهرها إعادة ترتيب النصوص، حقيقتها هدمها ليحل الشك محل اليقين.
  • في العمارة: فرانك غهري (غوغنهايم بلباو، 1997) وبيتر آيزنمان، حيث الشكل هو الغاية، لا الوظيفة أو الهوية.
  • في الفنون: تفكيك الرموز الثقافية والدينية وإعادة عرضها في سياقات عبثية أو صادمة.
  • في الإعلام: تقديم كل يقين باعتباره قابلًا للشك، وكل حقيقة باعتبارها مجرد سردية نسبية.

التحليل

الإعلام والفنون الغربية

  • حركة الدادا (1916): هدم المعايير الفنية التقليدية وتقديم أعمال عبثية بلا معنى.
  • فن البوب (1960s): تفكيك الرموز الاستهلاكية وإعادة عرضها في سياقات جديدة، كما في أعمال آندي وارهول.
  • البرامج الوثائقية الغربية: أعادت قراءة التاريخ والدين بمنطق الشك والنسبية، مما ساهم في ترسيخ زمن "اللا معنى".

الإعلام والفنون العربية

  • المسرحيات المصرية:
    • مدرسة المشاغبين (1973): رسّخت صورة التمرد على المعلم والمؤسسة التعليمية.
    • العيال كبرت (1979): قدّمت صورة مشوهة عن سلطة الأسرة.
  • الأفلام المصرية:
    • خلف أسوار الجامعة (1981): ركّز على الانحرافات داخل الوسط الجامعي.
    • الكباب والإرهاب (1992): ربط الدين والسياسة بالفساد في قالب ساخر.
  • البرامج الإعلامية: برنامج هالة سرحان (قناة دريم، 1990s–2000s) مثال صريح على التفكيك الإعلامي للمسلمات العقائدية والاجتماعية، حيث كانت الحلقات تُبنى على التشكيك دون الوصول إلى يقين، مما يعكس جوهر التفكيك.
  • الأدب العربي: رواية نجيب محفوظ أولاد حارتنا (1959) مثال على توظيف التفكيك في النصوص العقائدية، حيث طرحت رموزًا دينية في سياق قابل للتأويل والشك، مما جعلها جزءًا من المشروع الثقافي الذي يزعزع الثوابت.

لماذا اتجه الإعلام المصري مبكرًا لتبني هذه النظريات؟

  • الإرث الاستعماري: إدخال المناهج الغربية في التعليم والإعلام.
  • النخبة الثقافية: مثقفون درسوا في الغرب وحملوا معهم نظريات الحداثة وما بعدها.
  • الإعلام كأداة للتغيير: الدولة رأت فيه وسيلة لإعادة تشكيل المجتمع.
  • الجوائز والاعتراف الدولي: مثل جائزة نوبل لنجيب محفوظ، التي شجعت النخبة على تبني خطاب ينسجم مع المعايير الغربية.
  • النتيجة: الإعلام المصري أصبح مبكرًا منصة لتطبيق هذه النظريات، عبر المسرحيات والأفلام والبرامج، مما ساهم في زعزعة البنية الأخلاقية والثقافية للمجتمع.

الخاتمة

الفلسفات المعاصرة من الحداثة إلى التفكيكية ليست طفرات منفصلة، بل امتداد لمسار بدأ منذ قرن وأكثر، حين قررت العمارة أن تنفصل عن جذورها الإنسانية والروحية، متأثرة بالداروينية والعقلية الغربية التي ربطت التطور بالقطيعة. ما نراه اليوم من "زمن اللا معنى" هو حصاد طبيعي لذلك الزرع القديم.
الحل لا يكمن في اختراع قطيعة جديدة، بل في العودة إلى ميراث حضاري محلي وإنساني أكثر نقاءً، يربط ولا يقطع، يواصل المسير ولا ينحرف عن الطريق. هذه العودة ليست مجرد خيار ثقافي، بل ضرورة وجودية لحماية الهوية والذاكرة من التفكك.

قائمة المراجع (نماذج أساسية)

  1. Charles Darwin, On the Origin of Species, 1859.
  2. Herbert Spencer, Principles of Biology, 1864.
  3. Walter Gropius, Bauhaus Manifesto, 1919.
  4. Le Corbusier, The Radiant City, 1930.
  5. Robert Venturi, Learning from Las Vegas, 1972.
  6. Jacques Derrida, Of Grammatology, 1967.
  7. Hans Richter, Dada: Art and Anti-Art, 1964.
  8. Andy Warhol, Pop Art Works, 1960s.
  9. Peter Eisenman, Diagram Diaries, 1999.
  10. دراسات نقدية عربية حول المسرح والسينما المصرية ) مدرسة المشاغبين، العيال كبرت، خلف أسوار الجامعة، الكباب والإرهاب).
  11. برنامج هالة سرحان (قناة دريم، 1990s–2000s).).
  12. نجيب محفوظ، أولاد حارتنا، 1959. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...