أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

السبت، ديسمبر 20، 2025

الدولة بين العمارة وتخطيط المدن: قراءة في قرار ترامب

 


جمال الهمالي اللافي

في 28 أغسطس 2025، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بعنوان جعل عمارة الدولة جميلة من جديد. نص القرار على أن تكون المباني الفدرالية الجديدة مرئية كرموز مدنية، تعكس التراث الأمريكي، وتلهم المواطنين بالفخر الوطني، مع اعتماد الطراز الكلاسيكي أو التقليدي كخيار افتراضي، ورفض الطرز الحداثية والتفكيكية التي وُصفت بأنها منفصلة عن الناس وغير ملائمة لتمثيل الدولة. بهذا القرار، أعاد ترامب فتح النقاش حول علاقة الدولة بالمدينة، وحول مسؤولية ضبط الفوضى العمرانية والمعمارية التي شهدها القرن العشرون وما زالت آثارها تتفاقم في مدننا المعاصرة.

لقد أثبت التاريخ أن المدن الكبرى التي بقيت شاهدة على الجمال والتناسق لم تكن وليدة شطحات فردية، بل نتاج سياسات عامة صارمة فرضتها الدولة أو السلطة الدينية والسياسية. في اليونان القديمة، المعابد والساحات كانت جزءًا من مخطط عمراني يرمز إلى النظام والهوية الوطنية. في روما، الكولوسيوم والطرق الشعاعية جسدت قوة الإمبراطورية وهيبتها، حيث التخطيط كان أداة سياسية بامتياز. في المدن الإسلامية الكبرى، من بغداد إلى قرطبة والقاهرة، كان المسجد الجامع والأسواق مركز التخطيط، والدولة هي من تحدد مواقعها لتربط العمران بالشرعية الدينية والسياسية. وفي أوروبا عصر النهضة، لم تكن الكنائس والقصور وحدها هي التي تعكس سلطة الدولة، بل أيضًا الشوارع والميادين التي رسمت ملامح المدن وفق رؤية مركزية.

هذا النجاح التاريخي يقابله فشل واضح في مدن القرن العشرين والمعاصرة، حيث غابت الدولة عن دورها المركزي في التخطيط، وترك المجال لشطحات المعماريين والمستثمرين. انفجرت المدارس المعمارية: الحداثة، التفكيكية، التجريبية، وصولًا إلى مبانٍ تستلهم من الطماطم والفواكه والحشرات والراقصات. النتيجة كانت مدنًا متنافرة بلا هوية، عشوائيات عمرانية، وتناقضات بصرية تعكس غياب الدولة عن دورها المركزي. لم تعد هناك رؤية شاملة تربط بين الماضي والحاضر، بل صار التخطيط مجرد رد فعل على أزمات متراكمة، حيث كل مرحلة تحاول إصلاح ما قبلها بدل أن تبني على رؤية طويلة المدى.

قرار ترامب، في هذا السياق، يعيد الاعتبار إلى أن العمارة والتخطيط لا ينفصلان، وأن الدولة هي الضامن الوحيد لانسجام المدن وحماية هويتها. فالمباني العامة ليست سوى جزء من مخطط عمراني أشمل، وإذا فرضت الدولة الطراز الكلاسيكي كإطار عام، فهي في الحقيقة تعيد ربط العمارة بالتخطيط، وتضع حدًا لشطحات المعماريين التي تهدد بتحويل المدن إلى مستنقعات بصرية. بهذا القرار، تُعاد المياه إلى مجاريها: يصبح الإبداع جزءًا من النهر العمراني، لا بركة راكدة تتعفن على الهامش.

وجهة نظري كمعماري ليبي

من موقعي كمعماري ليبي، أرى أن هذا القرار يحمل رسالة مهمة لنا: لا يمكن ترك مصير المدن لشطحات فردية أو مصالح ضيقة. نحن بحاجة إلى أن تتحرك الدولة لتضع مسارًا شاملًا لمخططات عمرانية ومعمارية تحترم الهوية الوطنية، وتتوفر فيها جميع مقومات الحياة الكريمة من بنى تحتية وخدمات ضرورية، مع القضاء على الفوضى المعمارية والعشوائيات. إن مسؤولية الدولة ليست فقط في ضبط الطراز المعماري، بل في رسم رؤية متكاملة للمدينة، حيث التخطيط العمراني يصبح أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية، والهوية الثقافية، والانسجام البصري.

خاتمة

ما نحتاجه اليوم هو أن نستلهم من الماضي نجاحه، ونواجه حاضرنا بفشل سياساته، لنرسم مستقبلًا أكثر وضوحًا. الدولة يجب أن تعود لتضع السياسات التخطيطية والمعمارية العامة الملزمة، وتترك حرية الإبداع ضمن هذا الإطار فقط. هكذا نصون المدن كهوية جماعية، لا كاستعراض فردي، ونضمن أن يبقى التخطيط العمراني نهرًا جاريًا يحمل الماضي إلى الحاضر، بدل أن يتحول إلى مستنقعات تزيد من عفونة الفوضى العمرانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...