جمال الهمالي اللافي
يمثل
التعليم المعماري في ليبيا منذ تأسيس قسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة طرابلس
عام 1969 مرآةً لمسار طويل من الطموح والتحديات، بين انتشار الأقسام وتعدد
الجامعات، وبين الحاجة إلى تأسيس مدارس معمارية ذات هوية محلية. ومع مرور السنوات،
اتسعت رقعة هذا التعليم لتشمل مدناً لم يكن متوقعاً أن تحتضن أقساماً للعمارة
وتخطيط المدن، وهو ما شكّل مؤشراً إيجابياً على تنامي الاهتمام بالعمارة كحقل
معرفي ومهني. لكن هذا الانتشار ظل في كثير من الأحيان يفتقر إلى الجودة والرؤية
الواضحة، خاصة مع دخول الجامعات الخاصة على الخط منذ أكثر من عقدين، حيث افتتحت
أقساماً للعمارة والتخطيط، لكن معظمها لم يرتقِ إلى مستوى التعليم الجامعي
الحقيقي، باستثناء قلة فرضت احترامها للمهنة.
الإشكالية
الكبرى أن هذه الأقسام الجديدة لم تبتكر مسارات تعليمية خاصة بها، بل اكتفت
باجترار تجربة طرابلس، مناهجها وأساليبها، دون أن تلتفت إلى خصوصيات المدن التي
تأسست فيها أو إلى معطياتها البيئية والاجتماعية والاقتصادية. وهكذا ظل التعليم
المعماري في ليبيا أسيراً لنموذج واحد، عاجزاً عن إنتاج مدارس معمارية ذات هوية
محلية، قادرة على أن تكون أكثر فاعلية وتأثيراً في الساحة المعمارية.
الجامعات
الحكومية ما زالت مقيدة بالبيروقراطية الإدارية، تتمسك بالشكليات وتفرض شرط
الماجستير والدكتوراه كمعيار وحيد للتدريس. غير أن كثيراً من حملة هذه الشهادات
يفتقدون لأبسط قواعد التعليم الصحيح، ولا يمتلكون القدرة على توصيل المعلومة
للطالب. أما الجامعات الخاصة، فقد وقعت في فخ التقليد ذاته، مكتفية بتخريج أعداد
كبيرة من الشباب يحملون شهادات بلا مضمون، لا يفقهون من مسؤولياتها شيئاً سوى أنها
تضفي عليهم قيمة اجتماعية شكلية بين أقرانهم.
إن
الحاجة اليوم ليست إلى المزيد من الأقسام، بل إلى تأسيس مدارس معمارية حقيقية،
يكون اتجاهها التعليمي مختلفاً، قائماً على الانتقائية الحريصة في استقطاب أصحاب
الكفاءات والخبرات من مختلف المجالات، وربطها بالمنهج المعماري بما يحقق الفائدة
العلمية والميدانية للطالب. فالمستهدف ليس مجرد تخريج حملة شهادات، بل إعداد كوادر
مؤهلة لممارسة المهنة وإحداث التغيير المنشود. ولن يتحقق ذلك إلا إذا سار التعليم
الأكاديمي جنباً إلى جنب مع التطبيق الميداني، بحيث يتعلم الطالب التفكير الحر المنهجي
والإبداع المنطلق من البيئة المحلية، وفي الوقت نفسه يكتسب الخبرة العملية التي
تؤهله لدخول معترك الممارسة المهنية بكفاءة واقتدار.
في
المحصلة، يعكس التعليم المعماري في ليبيا بين 1969 و2025 مساراً متذبذباً بين
الطموح والواقع. ولعل الحل يكمن في إعادة تأسيسه على أسس جديدة: مدارس معمارية ذات
هوية محلية، مناهج تربط النظرية بالممارسة، وانتقائية صارمة في اختيار الكفاءات.
بدون ذلك، سيظل التعليم المعماري مجرد إنتاج شكلي لشهادات، يفاقم أزمة المدن
الليبية بدل أن يسهم في حلها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق