أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

السبت، ديسمبر 06، 2025

العمارة التفكيكية: بين الفلسفة والضحالة

 رحيل فرانك غيهري يعيد طرح سؤال المعنى: هل تكفي الجرأة الشكلية لتصنع حضارة؟

 


جمال الهمالي اللافي

مقدمة

عندما تتحول الضحالة إلى عظمة في عقول السفهاء، تصبح العمارة والفنون وسيلة لتسريب التفاهة إلى وعي العامة، عبر المختصين الذين يضخمون الرذيلة ويسطحون المعنى، ثم يمررون القيم الهدامة من خلال رموزها في العمارة والتصميم والفنون التطبيقية والجميلة، وحتى في نصوص المنتج الأدبي. وتُسخَّر وسائل الإعلام لترسيخ مفهوم الضحالة في صورة القيمة العليا، التي تُقدَّم كمرتبة لا يطالها نقد ولا شك.

الجذور الفلسفية للتفكيكية

العمارة التفكيكية ليست مجرد أشكال متكسّرة أو مبانٍ غريبة، بل هي امتداد لفلسفة التفكيك التي أسسها جاك دريدا، حيث يُرفض المعنى الواحد ويُحتفى بالتناقض والانقطاع. في العمارة، انتقل هذا الفكر إلى أعمال معمارين مثل بيتر آيزنمان وفرانك غيهري، الذين قدّموا مباني تُظهر الكتل المفككة والتلاعب بالفراغ والتناقض بين الماضي والحاضر.

التفكيكية كأداة لتسريب التفاهة

حين تُستقبل هذه العمارة بلا نقد أو وعي، تتحول إلى أداة لإعلاء التفاهة على أنها معيار الإبداع. المناهج الأكاديمية قد تساهم في تضخيمها، عبر تدريسها كإبداع مطلق، دون وضعها في سياقها الفلسفي أو نقدها كظاهرة مرتبطة بمرحلة ما بعد الحداثة. كما تلعب وسائل الإعلام دوراً في ترسيخها، عبر تصويرها كرمز للتجديد والجرأة، بينما قد تكون في الواقع مجرد استعراض شكلي بلا مضمون.

الغرب والمجتمعات المستهلكة

في الغرب، ورغم ظهور التفكيكية، لم تُقبل على علاتها؛ بل وُجهت إليها سهام النقد والتحليل، واعتبرها كثيرون هدمًا للمعنى أكثر من كونها إبداعاً. أما في المجتمعات الجاهلة، فيُستقبل كل ساقط باعتباره "موضة جديدة" تستحق التدويل في أوساطها، فتتسابق المؤسسات التعليمية إلى الإعلاء من شأنه، وتضخيمه في عقول الطلاب، حتى يصبح معياراً زائفاً للجمال.

المخاطر والنتائج

  • تسطيح المعنى: يتحول المعمار من حامل للقيم الإنسانية إلى مجرد لعبة شكلية.
  • إعلاء الضحالة: تُقدَّم التفاهة كقيمة عليا، ويُقنع الطلاب والجمهور أن الغرابة هي معيار الإبداع.
  • فقدان الهوية: الابتعاد عن التراث والمعنى المحلي، واستبداله بكتل مفككة لا علاقة لها بالبيئة أو الثقافة.

التفكيكية بين العمارة والفنون التشكيلية

    يرى بعض النقاد أن العمارة التفكيكية يمكن نسبها إلى العمارة من باب الوظيفة، فهي تنتج مباني تُستخدم وتؤوي الإنسان، حتى وإن بدت غريبة أو مفككة. لكن حقيقتها أقرب إلى الفنون التشكيلية التركيبية، لأنها تُعلي من الاستعراض البصري وتفكيك الشكل، بينما تُسخِّر الإنشاء الهندسي لخدمة هذه الصورة الغريبة.

    المبنى التفكيكي يُقرأ غالباً كـ"منحوتة ضخمة" أو "نص بصري"، لا كفضاء معماري يحمل معنى حضاري أو إنساني. وهنا تكمن المفارقة: التفكيكية عمارة من حيث الوظيفة، لكنها فن تركيبي من حيث الجوهر، لأنها تفتقر إلى النظام والمعنى الذي يخلّد العمارة في سجل الحضارات.

رحيل فرانك غيهري وإرثه المعماري

في السادس من ديسمبر 2025 رحل فرانك غيهري عن عمر ناهز 96 عاماً، بعد أن ترك بصمة قوية في العمارة المعاصرة. أعماله مثل متحف غوغنهايم في بلباو وقاعة والت ديزني للحفلات الموسيقية في لوس أنجلوس، ومؤسسة لويس فويتون في باريس، صارت تُحتفى بها كأيقونات معاصرة. لكن السؤال يبقى: هل تقف هذه المشاريع بشموخ أمام معالم الحضارات الكبرى؟

إذا عرضنا أعماله على مفهوم المعنى والقيمة والنظام، نجد أنها تُصنف ضمن منجزات فنية مرتبطة بمرحلة ما بعد الحداثة، لكنها لا ترقى إلى مستوى المعالم الحضارية التاريخية التي حملت معنىً كونيّاً ورسالة إنسانية ممتدة عبر القرون.

  • الحضارات الكلدانية والساسانية والإغريقية والرومانية، وكذلك الحضارة الإسلامية، تركت معالم تحمل جذوراً روحية وفكرية عميقة، شاهدة على هوية الإنسان وارتباطه بالسماء والأرض.
  • أما أعمال غيهري، فهي أقرب إلى "أيقونات معمارية" تُحتفى بها تقنياً وجمالياً، لكنها لا تحمل نفس العمق الرمزي ولا نفس الامتداد الحضاري.

خاتمة

يرى كثير من النقاد أن العمارة التفكيكية ليست خطأ في ذاتها، لكنها تصبح أداة للهدم حين تُستقبل بلا نقد أو وعي. ورحيل فرانك غيهري اليوم يعيد طرح السؤال: هل تكفي الجرأة الشكلية لتصنع حضارة؟ أم أن المعنى والقيمة والرسالة الإنسانية هي ما يخلّد العمارة في سجل التاريخ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...