أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، ديسمبر 28، 2025

الهوية المعمارية بين الواجهة والجوهر: نحو مشروع ليبي للتأصيل

  


جمال الهمالي اللافي

الواجهة كقشرة والداخل كروح

تواجه العمارة المعاصرة إشكالية جوهرية تتعلق بالهوية: هل هي مجرد واجهة تُزيّن المباني لتأكيد الانتماء، أم منظومة متكاملة تتغلغل في الداخل والخارج معاً لتصوغ تجربة الإنسان في المكان؟ هذا السؤال يزداد إلحاحاً في السياق الليبي، حيث تتقاطع الحاجة إلى التنمية العمرانية مع ضرورة الحفاظ على الأصالة الثقافية.

كثيراً ما يُختزل مفهوم الهوية المعمارية في الواجهات الخارجية، وكأنها بطاقة تعريف بصرية تكفي لتأكيد الانتماء. غير أن هذا المنظور يظل ناقصاً إذا لم يمتد إلى الداخل حيث يعيش الإنسان ويتفاعل مع المكان. فالواجهة ملك لعامة الناس في الشوارع، أما الداخل فهو فضاء التجربة اليومية، حيث تتجسد العلاقة الحقيقية بين الإنسان والعمارة.

ويزداد وضوح هذه الإشكالية عند النظر إلى بعض التجارب المعاصرة، مثل التوجه الرسمي في السعودية لترسيخ الهوية المعمارية عبر الواجهات الخارجية. ورغم أن هذه الخطوة تُعد بداية مباركة في مسار التأصيل، إلا أن الاقتصار على الواجهة يحوّل الهوية إلى قشرة هشة، بينما شمولها للداخل يجعلها جسداً حياً ينبض بالمعنى، ويمنح العمارة دورها الأصيل كبيت للروح ومسرح للحياة اليومية.

الهوية المكانية والذاكرة الجمعية

الهوية المعمارية ليست مجرد شكل بصري، بل هي انعكاس لـ الهوية المكانية التي ترتبط بالبيئة الطبيعية والاجتماعية، ولـ الذاكرة الجمعية التي تحفظ تجارب المجتمع وتعيد إنتاجها في الفضاء العمراني. الاقتصار على الواجهات الخارجية يحوّل الهوية إلى قشرة هشة، بينما شمولها للداخل يجعلها جسداً حياً ينبض بالمعنى، ويجعل العمارة وسيطاً بين الماضي والحاضر.

دروس من التجارب العالمية

التجربة المكسيكية: ألوان وزخارف تحكي التاريخ

في المكسيك، الهوية المعمارية لا تتوقف عند الواجهة، بل تتغلغل في تفاصيل الداخل:

  • الألوان: الأحمر القرميدي، الأصفر الذهبي، والأزرق الفيروزي، وهي ألوان مستوحاة من الطبيعة والاحتفالات الشعبية.
  • الزخارف: بلاط Talavera المزخرف، الذي يحكي قصصاً من التراث الإسباني والموروث المحلي.
  • الأثاث: الخشب المنحوت يدوياً، الحديد المشغول، والفخار التقليدي، مما يجعل كل قطعة تحمل بصمة الحرفي المحلي.
  • هكذا جعلت من الألوان الدافئة والزخارف التقليدية والأثاث اليدوي امتداداً للهوية، بحيث يصبح الداخل فضاءً يحكي التاريخ ويستدعي الذاكرة الشعبية. ويصبح الداخل امتداداً للهوية، لا مجرد فراغ محايد.

التجربة الكينية: الطبيعة والهوية في الداخل

أما في كينيا، فالتجربة المعاصرة في التصميم الداخلي فدمجت الهوية المحلية مع الاستدامة، عبر استخدام المواد الطبيعية والألوان الترابية والأثاث المستوحى من التراث القبلي، مما جعل الداخل مساحة تحكي قصة المكان والناس.

  • الألوان والمواد: اعتماد الألوان الترابية المستوحاة من المناظر الطبيعية، مع استخدام الخيزران، الأخشاب المحلية، والزجاج المعاد تدويره.
  • الأثاث: تصميم قطع أثاث يدوية الصنع تعكس التراث القبلي، وتستحضر أنماط الزخرفة التقليدية في المنسوجات والجداريات.

·         الزخارف: إدخال عناصر مستوحاة من الحياة البرية والرموز الثقافية، مما يجعل الداخل مساحة تحكي قصة المكان والناس.

هنا يصبح التصميم الداخلي وسيلة للحفاظ على الهوية، وفي الوقت نفسه أداة للتنمية المستدامة ودعم الحرفيين المحليين.

التجربة السعودية: خطوة أولى تحتاج إلى اتساع

في السعودية، الخطوة الرسمية لتأصيل الهوية في الواجهات هي بداية مباركة، لكنها تحتاج إلى اتساع لتشمل الداخل أيضاً. فاقتصار الهوية على الخارج يحوّلها إلى قشرة هشة، بينما شمولها للداخل يجعلها جسداً حياً ينبض بالمعنى.

  • يمكن للألوان المستوحاة من البيئة الصحراوية والبحرية أن تدخل في تفاصيل الفراغات الداخلية.
  • يمكن للحرف اليدوية المحلية أن تتحول إلى عناصر أثاث وزخرفة.
  • يمكن للهوية أن تُترجم في توزيع الفراغات بما يعكس أنماط العيش المحلية، لا مجرد قوالب مستوردة.

السياق الليبي: التحديات والفرص

في ليبيا، الهوية المعمارية ما تزال تبحث عن صياغة معاصرة تتجاوز الاستعارة السطحية للرموز. التحدي يكمن في كيفية الجمع بين الأصالة والمعاصرة:

  • الأصالة: استلهام الألوان من البيئة الصحراوية والبحرية والريفية والجبلية، وتوظيف الحرف اليدوية في الأثاث والزخارف، وإبراز الرموز الثقافية في توزيع الفراغات.
  • المعاصرة: الاستفادة من التقنيات الحديثة في البناء، وتبني معايير الاستدامة، وتطوير حلول وظيفية تلبي احتياجات المجتمع الحديث.

هنا يصبح المشروع المعماري جسراً بين الماضي والمستقبل، بين الذاكرة الجمعية ومتطلبات العصر.

نحو مشروع ليبي للتأصيل

لتحقيق مشروع معماري يجمع بين الأصالة والمعاصرة، لا بد من تظافر جهود متعددة:

  • المعماريون: لصياغة الفراغات وفق منطق يعكس أنماط العيش المحلية.
  • المصممون الداخليّون: لترجمة الهوية في تفاصيل الأثاث والألوان والزخارف.
  • الفنانون التشكيليون: لإدخال البعد الرمزي والجمالي الذي يربط العمارة بالذاكرة الجمعية.
    هذا التعاون يضمن أن تكون المشاريع المعمارية امتداداً للهوية الليبية، لا مجرد استنساخ لنماذج مستوردة.

خاتمة

إن الهوية المعمارية مشروع جماعي يتجاوز حدود الواجهة ليطال الداخل والخارج معاً. في ليبيا، يمكننا أن نسير على خطى التجارب العالمية الناجحة في تأصيل الهوية المعمارية عبر الجمع بين الأصالة والمعاصرة، ليس في الواجهات فقط بل في الداخل أيضاً، حيث يعيش الإنسان ويتفاعل مع المكان. إن استلهام الألوان من البيئة المحلية، وتوظيف الحرف اليدوية في الأثاث والزخارف، وإبراز الرموز الثقافية في توزيع الفراغات، كلها خطوات تجعل العمارة جسداً حياً يعكس روح المجتمع. ولتحقيق ذلك، لا بد من تظافر جهود المعماريين والمصممين الداخليين والفنانين التشكيليين في صياغة رؤية مشتركة، تضمن أن تكون مشاريعنا المعمارية امتداداً للذاكرة الجمعية ومعبّرة عن هوية ليبية أصيلة، قادرة في الوقت نفسه على مواكبة العصر.

إن إعادة النظر في التصميم الداخلي ليعكس الهوية المحلية هو ما يرسّخ العمارة كبيت للروح ومسرح للحياة اليومية. كل خطوة في هذا الاتجاه تقود إلى ما بعدها، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة على الطريق الصحيح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...