حين تتحول الواجهات إلى أقنعة، ويُقصى الجوهر من عمران المدن
جمال الهمالي اللافي
لا شك أن أغلبكم قرأ رواية أحدب نوتردام للروائي
الفرنسي فيكتور هوجو، ومن لم يقرأها فلا بد أنه شاهد الفيلم الهوليوودي المستوحى
منها. أما من لم يطّلع على الرواية ولا على الفيلم، فالقصة تدور حول إنسان مشوّه
الخلقة، أحدب الظهر، يعيش معزولاً في كنيسة نوتردام بفرنسا. لم أقل منعزلاً، لأن
العزلة فعل إرادي يختاره المرء بنفسه، بل قلت معزولاً، لأن المجتمع هو من أقصاه
خوفاً أو احتقاراً لشكله. وحدها فتاة بسيطة رأت خلف هذا التشوّه ملامح الطيبة
والعفوية والشهامة، فصاحبته.
لكن القساوسة والسلطة الحاكمة رأوا في تصرفها
تهديداً لهيبتهم. فالعوام ينجذبون عادةً إلى المظاهر: الجمال والوسامة والأناقة
والثراء والسلطة، ولا يبحثون عمّا وراءها من وحشية وأنانية وجشع واستغلال. حين
كسرت الفتاة هذه القاعدة، كشفت أن خلف المظهر قد تختبئ قيم النبل والشهامة، وأن
خلف الواجهة البراقة قد يختفي الخبث والدناءة وانعدام الرحمة. وهذا الوعي، لو
انتشر بين الناس، لكان مبعثاً على الثورة والتمرد، ولأجبرهم على إعادة النظر في
تقييماتهم، لا وفق الشكل بل وفق الفعل والقيمة.
خشيت الكنيسة والطغمة المتحكمة من هذا الوعي،
فسارعت إلى اتهام الفتاة بالسحر والشعوذة، تهمة جاهزة تسبق يقظة العامة وتمنع
بصيرتهم من الانفتاح على الحقائق. وهكذا تحوّل انبهار الناس بالمظاهر إلى غفلة
وغيبوبة، جعلتهم وحوشاً تطالب بحرق الفتاة دون أن يتبينوا حقيقتها. أُحرقت الفتاة،
وفقد الأحدب العين الوحيدة التي رأت جوهره والقلب الذي تعاطف معه.
انتقامه كان أن رمى كبير القساوسة من أعلى برج
الكنيسة. لم يكن فعله مجرد غضب شخصي، بل حكماً أخلاقياً على الظلم والافتراء
والكذب الذي نُصرت به الطغمة. وحده من يمتلك الشهامة والنبل يتخذ قراراً كهذا:
إعدام الظلمة والفاسدين، عقاباً رادعاً لكل من يزيّف الحقائق ويروّج الأباطيل
ليهنأ الظالم بظلمه ويعيش المستغفل في غفلته.
الخاتمة: الرواية كمرآة للعمارة
الليبية المعاصرة
الحكمة التي أرادها فيكتور هوجو من رواية أحدب
نوتردام، والتي تتجلى أيضاً في قراءتي لها ومشاهدتي بعدها للفيلم، هي أن التشوّه
الأخلاقي أخطر من أي تشوّه جسدي. فالأول يفسد الوعي الجمعي ويحوّل الناس إلى أدوات
في يد الطغاة، بينما الثاني يظل فردياً لا يتعدى صاحبه.
وإذا أسقطنا هذا المعنى على واقعنا المعماري
الليبي، نجد أن ما يعيشه عمراننا اليوم ليس مجرد خلل في الشكل أو ضعف في التقنية،
بل هو انعكاس مباشر لتشوه أخلاقي واجتماعي أعمق. فالمباني التي تُشيّد بلا روح،
وتُزيَّن بواجهات زائفة لا تخدم الإنسان ولا تعبّر عن بيئته، هي أشبه بسلطة تتزين
بالهيبة وتخفي وراءها الجشع والفراغ. إنها عمارة مشوّهة لأنها فقدت وظيفتها
الصادقة، تماماً كما فقد المجتمع قدرته على التمييز بين الجوهر والقشرة.
إن عمارتنا الليبية اليوم، بما تحمله من واجهات
زائفة ومبانٍ بلا روح، ليست سوى انعكاس للتشوه الأخلاقي الذي فضحه هوجو في روايته،
حيث يُقصى الجوهر ويُعبد المظهر. وهكذا يصبح الأحدب رمزاً كاشفاً لواقعنا، ويغدو
عمران المدن شاهداً على غفلة الناس واستسلامهم للتزييف.
ليست مأساة الأحدب في قبح جسده، بل في قبح مجتمعٍ
عبد المظاهر وأقصى الجوهر. وما أشبه اليوم بالأمس، حين نرى عمارتنا الليبية تتزين
بواجهات زائفة تخفي وراءها فراغاً أخلاقياً ووظيفياً.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق