جمال الهمالي اللافي
لمن أصمم؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يجب أن
يسبق كل خط قلم. بالنسبة لي، الإجابة واضحة وممتدة عميقاً في الوجدان: أنا أصمم
للمجتمع الليبي، لأنني أنتمي إليه بالولادة والجذور والعقيدة. هذا الانتماء ليس
مجرد شعار، بل هو منهج عمل يفرض عليّ مراعاة جميع الاعتبارات؛ من الظروف
الاجتماعية والمناخية إلى التحديات الاقتصادية، دون التغافل لحظة واحدة عن الهوية
الثقافية والمعتقد الديني.
أينما وُجدت بيئة ليبية كُلفت بالعمل فيها، فإن
مهمتي لا تنتهي عند وضع المخططات، بل تبدأ بتلمس جوانب الخصوصية في هويتها
المعمارية والاجتماعية. أنظر للمحددات كفرص، وأستثمر مقومات البيئة من مواد بناء
وتشطيب وعناصر تأثيث، لتكون العمارة ابنة شرعية لأرضها.
فخ القشور وذوبان الهوية
لكن، وبنظرة فاحصة على واقعنا المعاصر، نجد أن
المعماري الليبي قد استقال –في كثير من الأحيان– من مسؤولياته تجاه بيئته. لقد غرق
في تقليد الموجات المعمارية الغربية والتماهي معها دون توفر مقوماتها الحقيقية من
تقنيات ومواد بناء؛ فاكتفى بـ "القشور الظاهرة" والواجهات البراقة التي
لا تلبث أن تنطفئ أمام شمسنا الحارقة، أو تفشل في احتواء عاداتنا الاجتماعية
الصارمة.
النتيجة كانت
ولادة مسخ معماري؛ فلا هو انتمى لبيئته وأصالتها، ولا هو استطاع أن يكون نسخة
حقيقية من العمارة الغربية بتعقيداتها التقنية. هنا نشأ نوع جديد وهجين من العمارة
أسميه "اللاشيئية".
الوقوف على حافة الفراغ
إن عمارة "اللاشيئية" هي "تطبيع
للقبح" في أقصى تجلياته، حيث تفقد الحواس بوصلتها وتعتاد العين على الفوضى
البصرية. إنها حالة من الانفصام المعماري تجعلنا نعيش في فراغات لا تشبهنا، ونبني
مدناً غريبة عنا وعن تاريخنا.
إنني أحذر من
التمادي في هذا النهج، وأدعو زملائي المعماريين للمراجعة واليقظة قبل أن يبتلعنا الفراغ الأسود، فنفقد بداخله قدرتنا على الوقوف
باتزان على أرضية صلبة. هذه الأرضية هي هويتنا التي بدونها سنظل معلقين
في هواء "اللاشيء"، بلا ماضٍ يحمينا ولا مستقبل يمثلنا.
إن الأمانة المعمارية تقتضي منا العودة إلى
الذات؛ ليس من باب الانغلاق، بل من باب الاحترام للإنسان الليبي وبيئته، لنصنع
عمارة تتحدث لغتنا، وتفهم احتياجاتنا، وتصمد أمام تقلبات الزمان.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق