أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الخميس، ديسمبر 25، 2025

حين يتحول التاريخ من بديهية زمنية إلى ذريعة للتبعية

 

من البيت الطرابلسي التقليدي إلى البيت الطرابلسي المعاصر: الهوية أساس التطور، لا عائق أمامه.


جمال الهمالي اللافي

المقدمة

كثيرًا ما يُستعمل القول  "لن يتوقف التاريخ " كحجة لا تحتمل النقاش، وكأن مجرد استمراره يعني بالضرورة تقدم الشعوب وتطورها. وهي عبارة تبدو بديهية في معناها الزمني، إذ التاريخ رديف للزمن، والزمن لا ينقطع حتى نهايته. لكن هذا الفهم السطحي يُسقط المعنى الأصلي للتاريخ بوصفه تقويمًا زمنيًا لا ينقطع، ويحوّله من حقيقة زمنية إلى شعار يُسوَّق لتبرير التبعية الثقافية والمعمارية، بدلًا من أن يكون دعوةً إلى الارتقاء الواعي. وهنا يصبح السؤال ملحًا: هل التاريخ فعلٌ واعٍ نصنعه بارتباطنا بهويتنا، أم مجرد ذريعة تُستخدم لإقناعنا بالانصياع لكل ما يأتي من الخارج؟"


التاريخ كزمن لا كذريعة

التاريخ في جوهره تقويم تسترشد به الشعوب لتنظيم حياتها اليومية، قائم على حركة الشمس والقمر، لا أكثر ولا أقل. وهو بهذا المعنى لا يتوقف، بل يتوغل في أعماق الزمن حتى نهايته. لكن تحويل هذه البديهية إلى شعار سياسي أو ثقافي يراد منه إقناع الناس بأن عليهم الانصياع لكل ما يأتي من الخارج، هو قلب للمعنى وتزييف للوعي.

المعمار بين الهوية والتبعية

المعمار ليس مجرد شكل أو قوالب جاهزة تُستورد من وراء البحار. إنه سلسلة متصلة بهوية المكان، تُبنى على إرث الأجداد وتُطوَّر بما يلائم الحاضر. المفارقة أن من يطالبوننا بتجاوز "الجمود المعماري"، هم أنفسهم غارقون في جمود فكري؛ جمود عن التفكير النقدي، وقبول بالتقليد الأعمى لكل ما يُستورد دون مساءلة عن ملاءمته للمناخ، لمواد البناء، للمقومات الاقتصادية، للقدرات الإنشائية، وللظروف الاجتماعية والعقيدية.

التقدم الحقيقي: إعادة إنتاج الإرث

الدراسات المعمارية تؤكد أن التقدم لا يُقاس بكمية ما يُستورد، بل بقدرة المجتمع على إعادة إنتاج إرثه المعماري بما يلائم المناخ، مواد البناء، المقومات الاقتصادية، والظروف الاجتماعية. هذا ما يُعرف في الأدبيات بـ "التنمية المعمارية المستدامة"، التي تسعى إلى حماية الهوية من الذوبان في أنماط استهلاكية عابرة. التقدم الحقيقي يعني تنقية الإرث من شوائب التحريف، وتطويره ليكون دعامة لحياة مستقلة وهوية راسخة.

التجربة اليابانية: برهان عملي

ولعل التجربة اليابانية تكشف بوضوح أن الهوية ليست عائقًا أمام التطور، بل أساسًا له. فقد استطاعت اليابان أن تحافظ على خصوصية معمارها التقليدي - كالبيوت الخشبية ذات الأسقف المائلة واستخدام الورق والخشب في الفواصل الداخلية - حتى في المدن الحديثة. هذا يبرهن أن الهوية المكانية يمكن أن تتجدد دون أن تُمحى. كما أن دمج الإرث المحلي مع تقنيات مقاومة الزلازل يوضح أن التقدم يمكن أن يكون استدامة ثقافية واعية، لا تبعية عمياء. والمفارقة هنا أن الشعوب التي تُدرك قيمة إرثها لا تقع في فخ شعار  "لن يتوقف التاريخ" بوصفه ذريعة للتقليد، بل تُحوّله إلى فعل وعي يعيد وصل الماضي بالحاضر.

الخاتمة: دعوة إلى وعي معماري جديد

وعليه، فإن القول "لن يتوقف التاريخ" لا ينبغي أن يُستعمل كذريعة للتبعية، بل كدعوة لإعادة وصل الحاضر بالماضي، وصياغة مستقبل معماري مستقل يوازن بين الأصالة والتجديد. فالمعمار، في جوهره، ليس مجرد انعكاس لزمنٍ لا يتوقف، بل هو فعل مقاومة وذاكرة حيّة، وامتداد لعزةٍ لا ينبغي أن تُمحى.

التاريخ لا يتوقف، لكن المعمار قد يضيع إن فقد هويته. وحده الوعي القادر على تحويل الاستمرار الزمني إلى تقدمٍ حقيقي، يحفظ العزة ويصوغ مستقبلًا يوازن بين الأصالة والتجديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...