أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، ديسمبر 26، 2025

تطبيع القبح: عندما تفقد الحواس بوصلتها

 


جمال الهمالي اللافي

ثمة جملة بليغة للأستاذ الراحل فؤاد الكعبازي، لا تزال تتردد أصداؤها في ذهني كلما تأملت واقعنا البصري والفكري؛ قوله: "إن الإنسان عندما يتآلف مع القبح نتيجة المعايشة اليومية، يصبح في عينه جميلاً".

هذه المقولة ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل هي توصيف دقيق لعملية "تطبيع حسي" ومنهجية تتبعها آلات التأثير الحديثة. فمن خلال المداومة على تكرار المشاهد القبيحة والأنماط الشاذة التي تمجها النفس وتنفر منها العين، تروض وسائل الإعلام (المسيسة) والمنظومات الموجهة ذائقة المتلقي. ومع مرور الوقت، تسقط حواجز الرفض الفطري، فيصبح المرفوض مقبولاً، والممجوج مستساغاً، بل ويتحول المستقبح في وعي الناس إلى "بهاء" والمنكر إلى "حسن".

إن هذا التحول ليس عفوياً، بل هو استراتيجية تهدف إلى إعادة صياغة الوعي الإنساني عبر عدة ركائز:

·     تسطيح الوعي بالسيطرة على الحواس: فالجمال بطبعه يثير في النفس التساؤل، التأمل، والرغبة في السمو. عندما يُحاط الإنسان بالقبح (سواء في المعمار، أو الفن، أو السلوك البشري)، فإنه يدخل في حالة من "الخمول الذهني". القبح لا يحتاج إلى جهد فكري لفهمه، بل هو حالة من الفوضى التي تستهلك طاقة الإنسان في التكيف معها بدلاً من نقدها. المنظومات التي تسعى للسيطرة تفضل "الإنسان المتكيف" على "الإنسان المتأمل".

·         تدمير المرجعية الأخلاقية: هناك تلازم أزلي بين (الحق والخير والجمال)؛ عندما تنجح الوسائل الإعلامية في جعل "المستقبح بهاءً"، فإنها بذلك تضرب الميزان الذي يقيس به الإنسان الصواب والخطأ. إذا اختل مقياس العين (الجمال)، يختل بالتبعية مقياس العقل (الحق) ومقياس القلب (الخير). وبضرب القيمة الجمالية في نفوسنا، يختل الميزان الذي نقيس به الحق، فتتحول الانحرافات في نظر البعض إلى "حقوق ضائعة" انتصفت لها العدالة!

·     صناعة الإنسان الاستهلاكي: الجمال الأصيل يدعو إلى الاكتفاء والسكينة، بينما القبح يولد شعوراً خفياً بالقلق وعدم الرضا. هذا القلق هو الوقود المحرك للآلة الاستهلاكية؛ فالإنسان الذي لا يجد جمالاً في بيئته أو روحه، يبحث عن تعويض ذلك عبر "الشراء" و"الاستهلاك" المستمر لسد الفجوة الجمالية بداخله.

·     التكلفة والبراغماتية المادية: في عالم تحكمه الأرقام، الجمال "مكلف" لأنه يتطلب إتقاناً، وقتاً، وروحاً. أما القبح فهو "رخيص" وقابل لإعادة التدوير والإنتاج الضخم. المنظومات التعليمية والثقافية التي تتبنى النماذج المادية الجافة تميل إلى تغليب "الوظيفي" على "الجمالي"، مما يحول المدن والمناهج إلى قوالب جامدة خالية من المعنى.

وهنا يبرز السؤال الملحّ: لماذا تتفق جُل وسائل الإعلام في أخبارها، ومؤسسات التعليم في مناهجها، ودور الثقافة في مناشطها، على الترويج لهذا (القبح) وترسيخه؟

إنها عملية إحلال وتجديد للقيم؛ حيث يُراد للإنسان أن ينفصل عن فطرته السليمة، ليكون كائناً "متكيفاً" مع الفوضى، فاقداً للقدرة على التمييز بين القيمة والعدم. إن معركة الجمال اليوم لم تعد ترفاً، بل هي معركة وجودية لاستعادة الفطرة الإنسانية من براثن "تآلف القبح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...