جمال الهمالي اللافي
النقاش الحقيقي لا يقف عند
النتائج أو الأعراض، بل يتجه إلى المنطلقات والدوافع التي أنتجتها. فكما لا يكتفي
الطبيب بوصف الحمى أو السعال، بل يبحث عن الجرثومة والعوامل التي سمحت لها
بالانتشار، كذلك ينبغي للفكر النقدي أن يتجاوز سطح الظواهر إلى جذورها.
المرض والجرثومة
حين نتحدث عن العمارة بوصفها
كائنًا حيًا، فإننا نرى فيها انعكاسًا لصحة المجتمع أو مرضه. المبنى الذي ينهض بلا
معنى أو بلا حاجة يشبه جسدًا أصابه خلل في جهازه المناعي؛ فهو يستهلك الموارد لكنه
لا يضيف حياة. لذلك، لا يكفي أن نصف الأعراض: قبح الواجهة، ضعف الوظيفة، أو غياب
الانسجام. علينا أن نبحث عن الجرثومة التي أنتجت هذه الأعراض: هل هي نزعة
استعراضية؟ هل هي غياب التخطيط؟ أم هي ثقافة استهلاك لا ترى في العمارة سوى سلعة؟
بهذا يصبح النقد فعلًا علاجيًا، يضع يده على أصل المرض لا على نتائجه الظاهرة.
التربة والبذور
كل عمارة هي بذرة، لا تنمو إلا
في تربة محددة. التربة هنا ليست مجرد أرض، بل هي مجموع القيم والعادات والذاكرة
الجمعية التي تحتضن العمارة. حين تكون التربة فقيرة بالمعنى، تنبت عمارة هشة، بلا
جذور، سرعان ما تذبل. أما حين تكون التربة غنية بالذاكرة والهوية، فإن العمارة
تنمو قوية، قادرة على مقاومة الزمن. لذلك، لا يمكن أن نفصل نقد العمارة عن نقد
التربة التي أنبتتها: السياسات، التعليم، الاقتصاد، وحتى المزاج العام للمجتمع.
الضوء والظل
العمارة تعيش بين الضوء والظل،
بين ما يُعلن وما يُخفي. الضوء يكشف حضورها في المدينة، يبرز جمالها أو قبحها،
ويجعلها جزءًا من المشهد اليومي. أما الظل فيخفي طبقات أخرى: دوافع المصمّم، مصالح
المستثمر، أو التوترات الاجتماعية التي أحاطت بالمشروع. النقد الرصين لا يكتفي بما
يظهر في الضوء، بل يتتبع ما يختبئ في الظل، ليكشف التناقضات بين الشكل المعلن
والجوهر الكامن. بهذا يصبح النقد قراءة مزدوجة، لا تنخدع بالسطح، بل تنفذ إلى
الباطن.
الماء والجريان
الماء رمز الحياة، والجريان
رمز الاستمرارية. العمارة التي تنقطع عن تدفق الأفكار والموارد تتحول إلى قوالب
جامدة، أشبه ببرك راكدة. أما العمارة التي تتغذى من جريان الأفكار، من الحوار مع
الماضي والحاضر، ومن تفاعلها مع حاجات الناس، فإنها تبقى حيّة، متجددة، مثل نهر لا
ينضب. لذلك، النقد المعماري لا بد أن يسأل: هل هذه العمارة جزء من جريان حيّ، أم
أنها مجرد كتلة متصلبة فقدت علاقتها بالحياة؟
الزمن والصبر
الزمن هو المِحكّ الذي يكشف
صدق العمارة أو هشاشتها. بعض الأبنية تنهار سريعًا لأنها بُنيت على دوافع عابرة،
بينما أخرى تصمد لأنها ارتبطت بجذور عميقة وصبر طويل. الزمن يختبر العمارة كما
يختبر المعادن في النار: ما هو أصيل يبقى، وما هو زائف يتلاشى. لذلك، النقد لا
يكتفي بلحظة الحاضر، بل يقرأ أثر الزمن على العمارة، وكيف تتبدّل مع مرور الأجيال،
وكيف تُعيد صياغة نفسها لتبقى جزءًا من ذاكرة الناس.
الغربة والتأقلم
حين تغترب العمارة عن بيئتها
الأصلية، تواجه امتحانًا عسيرًا: هل تستطيع أن تتأقلم وتجد مكانًا جديدًا للعيش؟
أم تبقى غريبة، بلا جذور؟ الغربة تكشف قدرة العمارة على التفاعل مع الآخر، على
إعادة صياغة نفسها في سياقات جديدة، أو على الانغلاق والانطفاء. بعض العمارات تنجح
في الاندماج، فتضيف إلى المكان وتغتني به، بينما أخرى تبقى دخيلة، لا تُشبه الناس
ولا تُشبه الأرض. النقد هنا يصبح بحثًا في حدود الهوية والانفتاح، في قدرة العمارة
على أن تكون جسرًا لا جدارًا.
الخاتمة
هكذا يصبح النقاش المعماري
بحثًا في الأسباب لا في النتائج، في البذور لا في الثمار، في الضوء والظل معًا، في
الماء الذي يمنح الحياة، في الزمن الذي يختبر الصبر، وفي الغربة التي تكشف حدود
الهوية. العمارة ليست مجرد شكلٍ يُبنى، بل هي كائن حي يتأثر بالبيئة والدوافع،
ويكشف عن أمراض المجتمع كما يكشف عن طموحاته. ومن خلال هذه الاستعارات، ندرك أن
النقد ليس إدانة أو ثناء، بل فعل علاجي، بحث عن الجذور، وسعي إلى بناءٍ أكثر صدقًا
مع ذاته ومع الناس.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق