الأحد، أغسطس 03، 2025

العمارة الليبية: نحو سيمفونية حسية تعزفها الحياة

 


جمال الهمالي اللافي

لطالما شغفني التساؤل عن ماهية العمارة الحقيقية. هل هي مجرد كتل صامتة وهياكل وظيفية تؤوينا من عوامل الطبيعة؟ أم أنها تتجاوز ذلك لتصبح تجربة حسية متكاملة تنبض بالحياة، تخاطب الروح وتُثري الذاكرة؟

في خضم هذا التأمل، أستحضر مقولة المعماري دانيال ليبسكيند: "العمارة يجب أن تجعلنا نشعر بالاختلاف، وإذا لم يحدث هذا فالهندسة ستكون كافية. ولسنا بحاجة للعمارة". هذه المقولة تضعنا أمام حقيقة أن العمارة ليست مجرد علم وتقنية، بل هي فن عميق يلامس الوجدان. يرتبط هذا الفهم، في ذهني، بعلاقة العمارة بالموسيقى. فكل من الفنين، على اختلاف وسائلهما، يتقاطعان في مفاهيم جوهرية مثل الإيقاع، الانسجام، والتوازن. فالموسيقى تُصاغ من تتابع نغمات وإيقاعات متناغمة تتكشف في بُعد الزمان، مُشكلة هيكلاً سمعيًا معقدًا. في المقابل، تُبنى العمارة من خلال تنظيم الكتل والفراغات والعناصر، مُشكلة هيكلاً بصريًا ومكانيًا يتجلى في بُعد المكان. هذه القواسم المشتركة هي التي دفعت فلاسفة مثل يوهان فولفغانغ فون غوته ليصف العمارة بأنها "موسيقى مجمدة"، أو فريدريش شيلينغ ليراها "موسيقى صامتة".

ولكن، وعلى النقيض من فكرة العمارة الجامدة أو الصامتة التي قد توحي بها هذه التشبيهات، أرى أن العمارة الحقيقية يجب أن تُعزف وتُسمع، أن تسكنها الحياة بأصواتها التي تمنحها الروح. إن تجربتي الشخصية في مطار روما عام 1983، حيث حُفر في ذاكرتي إيقاع جميل ومنتظم لخطى فتاة في صمت الليل، ليعود صداه في وعيي بين الفينة والأخرى، تُعزز قناعتي بأن الصوت هو بعد حيوي في العمارة، لا يقل أهمية عن الأبعاد البصرية أو الوظيفية. هذا الصوت لم يكن مجرد ضجيج؛ كان لحنًا يحكي قصة ويُضفي حيوية على فراغ بدا صامتًا ومملًا.

العمارة الحسية: أكثر من مجرد شكل

المبنى ليس مجرد شكل بصري يمكن رؤيته وتصويره؛ إنه مساحة تُختبر بجميع الحواس. لكي تصبح العمارة "حية" وتتجاوز كونها مجرد "مقبرة صامتة"، يجب أن نستكشف ونُعزز جوانبها الحسية المتعددة:

·         الصوت: لحن الحياة وإيقاعها:

يُعد الصوت العنصر الأكثر قدرة على بث الروح في الفراغ المعماري، مُحوله من هيكل صامت إلى بيئة نابضة بالحياة. الأصوات، سواء كانت نابعة من الطبيعة أو من البشر، تُشكل "المشهد الصوتي" للمكان وتُضفي عليه روحًا فريدة وتجربة لا تُنسى:

o        أصوات الطبيعة:

§     خرير مياه النوافير والبرك: لا يبعث على الهدوء والاسترخاء فحسب، بل يُشكل خلفية صوتية متواصلة تُعطي إحساسًا دائمًا بالانتعاش والسكينة، خصوصًا في بيئاتنا الحارة.

§     زقزقة العصافير وتغريدها: تُشير إلى وجود حياة فطرية غنية، وتُعزز الشعور بالبهجة والاتصال بالطبيعة، لتصبح موسيقى طبيعية تُصاحب فصول اليوم.

§     حفيف أوراق الأشجار مع نسمات الهواء: يخلق إيقاعًا ناعمًا ومتغيرًا يُعبر عن حركة الهواء وتفاعل المبنى مع بيئته، ويُذكرنا بالتغيرات الموسمية ودورة الحياة، مُضفيًا على المكان موسيقى طبيعية دائمة التجدد.

o        أصوات البشر: تُعد هذه الأصوات جوهر الحياة في الفراغ المعماري، فهي بصمات الوجود الإنساني التي تملأ المكان:

§     وقع الأقدام: يمكن أن يتحول إلى إيقاع منتظم أو غير منتظم، يُعبر عن ديناميكية الحركة الإنسانية ونشاطها. في الممرات الطويلة أو القاعات الكبرى، يصبح وقع الخطى جزءًا من لحن المكان.

§     ضحكات الأطفال ولعبهم: تُضفي على الفراغ بهجة وحيوية لا تُضاهى، وتُذكرنا بالنمو والمستقبل الذي يحتضنه المكان. هي طاقة لا تنضب تُبعث في الجدران.

§     أحاديث البشر ونقاشاتهم: سواء كانت حوارات هادئة أو نقاشات حيوية، تُعكس التفاعل الاجتماعي والنشاط اليومي. حتى عناد الأطفال البريء مع والديهم، يضيف نكهة خاصة وواقعية للفراغ.

§     هذه الأصوات مجتمعة تُحول الفراغ من هياكل جامدة إلى بيئات تتنفس وتنبض بالحياة، تُحفز الذاكرة وتُعزز التجربة الإنسانية، لتصبح الفراغات المعمارية مسرحًا تُعزف عليه سيمفونية الحياة اليومية بكل تفاصيلها.

·     الرائحة: ذاكرة المكان العطرية: روائح النباتات العطرة في الحدائق (مثل الياسمين أو الفل)، عطر التراب بعد المطر الذي يُنعش الروح، أو حتى رائحة القهوة الطازجة أو الشاهي في إفطار صباحي أو رائحة الخبز الشهي الخارج تواً من فرن البيت، كلها تُساهم في خلق "ذاكرة شمية" للمكان وتُعزز من هويته وتفرده. هي بصمة غير مرئية تُثبت المكان في أذهاننا وتُعيدنا إليه.

·     الملمس: لغة المواد الصامتة: ملمس المواد المستخدمة في البناء (خشونة الحجر المحلي، نعومة الرخام، برودة المعدن في المقابض، دفء الخشب في الأثاث، أو حتى نعومة الرمال في الفناء) تُقدم تجربة حسية غنية عند التفاعل المادي مع المبنى. كل مادة لها قصتها التي ترويها من خلال إحساسنا بها، وتُثري تفاعلنا مع المكان.

·     الإضاءة: إيقاع اليوم والفصول: استخدام الضوء الطبيعي وتوجيهه بذكاء لخلق تأثيرات وظلال متغيرة على مدار اليوم والفصول يُضفي على الفراغ حيوية ويُغير من مزاجه. الإضاءة الصناعية، بتنوعها ودرجاتها، تُكمل هذا الدور لتُشكل إيقاعًا ضوئيًا يُناسب الأنشطة المختلفة على مدار الساعة، ويُبرز تفاصيل العمارة.

·     الحرارة والرطوبة: راحة الجسد والروح: الإحساس بالبرودة المنعشة في فناء داخلي صيفي مُظلل، أو دفء غرفة مشمسة في الشتاء، كلها جوانب تُعزز الراحة الحسية وتُشكل العلاقة بين المستخدم والفراغ. تصميم يُراعي هذه العناصر يُساهم في خلق بيئة مُريحة وصحية، تُقلل من الحاجة للطاقة وتزيد من جودة الحياة.

الأثر النفسي والاجتماعي للعمارة الحسية

إن الاهتمام بالجوانب الحسية في العمارة يتجاوز مجرد الجماليات ليلامس الأثر النفسي والاجتماعي على ساكني الفراغ. عندما تُصمم العمارة لتُخاطب جميع الحواس، فإنها تُساهم في خلق بيئات:

·     تُعزز الرفاهية: الفراغات التي تُقدم تجربة حسية غنية ومُريحة تُقلل من التوتر، تُحفز الإبداع، وتُعزز الشعور بالانتماء والأمان. الأماكن الصاخبة جدًا أو الصامتة جدًا، الباردة أو الحارة بشكل مفرط، أو التي تفتقر للتنوع الحسي، يُمكن أن تكون مُرهقة وتُقلل من جودة الحياة.

·     تُنمي الإحساس بالمكان: عندما نتفاعل مع مكان ما بحواسنا المتعددة، فإننا نُكوّن رابطًا أعمق معه. الأصوات المألوفة، الروائح المميزة، والملمس المريح للجدران، تُساهم في بناء "هوية المكان" في أذهاننا، وتجعله أكثر من مجرد نقطة جغرافية، ليصبح جزءًا من ذاكرتنا وكياننا.

·         تُشجع على التفاعل: العمارة التي تُفكر في الصوتيات بشكل جيد يُمكن أن تُعزز التواصل بين الأفراد. فناء داخلي يُضخم ضحكات الأطفال، أو مقعد مريح في حديقة تسمح لك بسماع حفيف الأوراق، كلها تُشجع على التجمع والتفاعل الاجتماعي، وتُعزز من نسيج المجتمع.

تحديات العمارة الحسية في السياق الليبي المعاصر

في سياقنا الليبي، أرى أن الوعي بهذه الأبعاد الحسية المتكاملة للعمارة، بما في ذلك البعد الصوتي، ليس من أولويات المعماريين أو المجتمع بشكل عام في التصميم المعاصر. غالبًا ما ينصب التركيز على الجانب الوظيفي والجمالي البصري، مُتجاهلين الدور العميق الذي يمكن أن تلعبه هذه الجوانب في إثراء التجربة الحياتية للمستخدم.

إن العمارة الليبية المعاصرة مدعوة اليوم لإعادة اكتشاف "موسيقى الحياة" في تصاميمها. هذا يتطلب منا كمعماريين ومخططين، وبالتعاون مع المجتمع، إعادة التفكير في كيفية:

·     دمج العناصر الطبيعية: يجب أن تصبح الحدائق، الساحات الخضراء، وعناصر المياه (مثل النوافير والبرك) جزءًا لا يتجزأ من التصميم المعماري والتخطيط الحضري. هذه العناصر ليست فقط جمالية أو بيئية، بل هي مصادر طبيعية للأصوات التي تُحيي الفراغات وتُضفي عليها ديناميكية مسموعة.

·     التصميم الصوتي الواعي (Acoustic Design): يجب أن نولي اهتمامًا أكبر لكيفية ارتداد الأصوات داخل الفراغات. استخدام المواد المناسبة لامتصاص أو عكس الصوت، وتصميم أحجام الفراغات بطريقة تُعزز "المشهد الصوتي" المرغوب (سواء كان للهدوء والتأمل أو للنشاط والتفاعل)، كلها جوانب حيوية. فالمعماري يجب أن يُصبح "موزعًا" للأصوات داخل تصميمه، يوجهها، ويُضخم ما هو مرغوب فيه، ويُقلل من الملوثات السمعية.

·     التشجيع على التفاعل البشري: تصميم مساحات مرنة ومفتوحة تُشجع على اللعب، الحركة، والتواصل، مما يسمح لأصوات الحياة البشرية - كضحكات الأطفال وأحاديث الكبار ووقع أقدامهم - بأن تتردد وتملأ المكان. يجب أن تُوفر العمارة مساحات تُصبح فيها هذه الأصوات جزءًا طبيعيًا ومرحبًا به، لا مجرد ضجيج.

·     إعادة إحياء العمارة التقليدية: كثير من عناصر العمارة الليبية التقليدية، مثل الأفنية الداخلية (الحوش)، كانت تُساهم بشكل طبيعي في خلق بيئات صوتية وحسية غنية. هذه الأفنية، بحجمها وتصميمها، كانت تسمح بصدى الأصوات الخافتة، وتُشجع على التجمع، وتُوفر مأوى من صخب الشارع، مما يخلق بيئة سمعية فريدة. كما أن استخدام المواد المحلية كالحجر والطوب كان يُساهم في عزل جيد للصوت وتوفير بيئة حرارية مريحة. يمكننا استلهام هذه المبادئ وتكييفها مع العمارة المعاصرة.

خاتمة: عمارة حية تتنفس وتتفاعل

إن العمارة في ليبيا، كما في أي مكان آخر، لا يجب أن تكون مجرد إجابة صامتة على الحاجة للمأوى؛ بل يجب أن تكون بيئة حية، مسرحًا للحياة بكل ما فيها من أصوات وحواس وتجارب. إن العمارة التي لا تحرك الحواس الخمسة لدى الإنسان، وبإيقاع الحياة اليومي، وبتتابع الزمن والفصول الموسمية، لهي عمارة ميتة وإن أفلحنا في تجميلها.

إن تفعيل هذه الجوانب الحسية سيُحول مبانينا ومدننا إلى أماكن لا تُرى فحسب، بل تُسمع وتُشم وتُلمس وتُحس، لتُصبح بذلك سيمفونية متكاملة تعزفها الحياة وتخلدها الذاكرة. أرى أن تحقيق ذلك يتطلب جهودًا مُشتركة: من مناهج التعليم المعماري التي يجب أن تُركز أكثر على التجربة الحسية المتكاملة، إلى المعماريين الممارسين الذين يجب أن يُصبحوا أكثر وعيًا بالبعد الصوتي والحسي لتصاميمهم، وصولاً إلى المجتمع الليبي نفسه الذي يجب أن يُقدر ويدعم هذه الأبعاد في الفراغات التي يعيش فيها ويتفاعل معها. هذه هي الخطوات العملية نحو عمارة ليبية أكثر إنسانية، أكثر حيوية، وأكثر جمالاً في جميع أبعادها. 

السبت، أغسطس 02، 2025

منازل الجنة في ليبيا: استغلال الأرض لراحة الأسرة واستدامة البيئة

 


جمال الهمالي اللافي

يسعى هذا المقال إلى اقتراح تحول جذري في فلسفة التصميم السكني في ليبيا. بدلاً من السعي نحو بناء منازل واسعة وكبيرة، يدعو المقال إلى تبني نهج يركز على الدمج الاستراتيجي للمساحات الخضراء، مثل الحدائق والأفنية الداخلية، ضمن الاستخدام الكلي للأرض. هذا النهج لا يعكس تفضيلاً جمالياً فحسب، بل يمثل عودة إلى مبادئ التصميم التي تتسم بطبيعتها بكونها أكثر استدامة، وأكثر فعالية من حيث التكلفة، وأكثر ملاءمة للرفاهية النفسية، وهو أمر بالغ الأهمية في بيئة ليبيا الحارة والجافة.

تحديات السكن الحديث وعبء المساكن الكبيرة

تتجه التطلعات السكنية المعاصرة غالبًا نحو تشييد منازل كبيرة، مدفوعة بتصورات المكانة الاجتماعية أو الرغبة في الراحة. لكن هذا السعي يتجاهل الآثار طويلة المدى والأعباء الخفية المرتبطة بهذه الخيارات. فالمنازل الكبيرة تفرض أعباءً مالية ونفسية كبيرة؛ تتطلب استثمارًا أوليًا أعلى، وتكاليف صيانة وإصلاح جارية أعلى، واستهلاكًا هائلاً للطاقة للتدفئة والتبريد، مما يؤدي إلى ارتفاع فواتير الخدمات. هذه الضغوط المالية المستمرة تؤدي إلى إجهاد نفسي كبير يمكن أن يؤثر سلبًا على رفاهية الأسرة وصحة الأطفال ونموهم. على الرغم من أن هذه المنازل تُبنى لتوفير مساحة واسعة، إلا أن الضغط المالي قد يؤدي بشكل متناقض إلى الاكتظاظ. يصبح الدافع المجتمعي لامتلاك "منازل كبيرة" مصدرًا للتوتر وعدم الاستقرار المالي، مما يستدعي إعادة تقييم لمعايير تصميم المنازل نحو الاستدامة والقدرة على تحمل التكاليف والرفاهية الحقيقية.

"منازل الجنة": إلهام من التراث لـ "السكينة"

يستلهم المقال من عمل فيتوريا ألياتا "منازل الجنة"، الذي يصف المنازل العربية والإسلامية التقليدية بأنها "جنات" توفر الهدوء والخصوصية في بيئة خارجية قاسية. يعكس التصميم الداخلي المغلق لهذه المنازل قيم الخصوصية والحشمة الإسلامية. كما يساهم دمج نوافير المياه والأشجار والنباتات في خلق أجواء فردوسية تعزز الشعور بالسلام والراحة، أو ما يُعرف بـ "السكينة" (سكينة). يؤكد هذا المفهوم أن المنزل المثالي، خاصة في المناخات الحارة، هو الذي يصمم "جنة" داخلية، مكتفية ذاتيًا وهادئة لساكنيه، بدلاً من التركيز على المظهر الخارجي أو الحجم المطلق.

الفناء والحديقة: حلول معمارية وبيئية خالدة

تُعد الأفنية والحدائق عناصر معمارية وبيئية متعددة الفوائد، خاصة في المناخات الحارة. الأفنية تعزز التهوية الطبيعية وتوفر إضاءة طبيعية وفيرة، وتقلل بشكل كبير من استهلاك الطاقة وتكاليف التبريد والتدفئة. كما أنها توفر واحة منعزلة وخاصة للأنشطة المنزلية، مما يزيد من المساحة المعيشية القابلة للاستخدام دون زيادة البصمة الكلية للمبنى. يساهم دمج النباتات الوارفة والأشجار المنتجة وميزات المياه في الأفنية والحدائق في تحقيق الاكتفاء الذاتي للأسرة من المنتجات الطازجة، ويقلل من الاعتماد على الأسواق الخارجية، ويضيف قيمة اقتصادية ملموسة.

الفوائد النفسية والاجتماعية للمساحات الخضراء

إن مفهوم "السكينة"، الذي يمثل السلام الداخلي والهدوء، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمنزل كملاذ للراحة. يتجلى هذا المفهوم في التصميم التقليدي للمنزل الإسلامي بأفنيته وميزاته الطبيعية. يرتبط التعرض المباشر للمساحات الخضراء بانخفاض مستويات التوتر، وتحسين الوظيفة المعرفية، وتقليل أعراض الاكتئاب. تُعزز هذه المساحات التماسك الأسري بتوفير منطقة خارجية آمنة وخاصة للتفاعل الأسري، وتدعم القيم الثقافية للخصوصية والنظافة. الاستثمار في المساحات الخضراء يُظهر كاستراتيجية فعالة من حيث التكلفة لتحسين الصحة العقلية، مما يخفف من الآثار السلبية لضغوط الإسكان الحديثة.

الملاءمة للواقع الليبي: إحياء التراث من أجل مستقبل مستدام

اعتمدت العمارة الليبية التقليدية، مثل بيت الفناء (الحوش)، تاريخيًا على تصاميم متكيفة مع المناخ المحلي والقيم الثقافية. ومع ذلك، أدت التحديثات إلى التخلي عن هذا النموذج لصالح تصاميم مستوحاة من الغرب، والتي غالبًا ما تتجاهل قضايا الخصوصية والتكيف المناخي. يدعو المقال إلى إحياء مبادئ العمارة الليبية التقليدية، ليس كتراجع حنيني، بل كخطوة تقدمية وعملية لإنشاء منازل تعطي الأولوية للراحة الداخلية والخصوصية والاتصال بالطبيعة، وتوفر استجابة ثقافية وبيئية سليمة للتحديات المعاصرة.

توصيات لتصميم منزل مستدام ومريح

لتحقيق بيئة سكنية مستدامة ومريحة في ليبيا، يُوصى بالآتي:

·         إعطاء الأولوية للمساحات الخضراء: تخصيص جزء كبير من الأرض للحدائق والأفنية الداخلية بدلاً من تعظيم مساحة البناء.

·     تطبيق التصميم المستجيب للمناخ: توجيه المنزل لتحقيق التهوية الطبيعية والإضاءة المثلى، واستخدام مواد البناء المحلية ذات العزل الحراري الفائق، ودمج ميزات التهوية المحسنة والمياه المبردة.

·     اختيار النباتات بعناية: اختيار الأنواع المحلية والمقاومة للجفاف، واستخدام زراعة طبقية لتوفير الظل والخصوصية، والتركيز على النباتات المنتجة لتعزيز الاكتفاء الذاتي.

·     إعطاء الأولوية للخصوصية والسكينة: تصميم التخطيط الداخلي ليعطي الأولوية للخصوصية، واستخدام معالجات حدود مناسبة، والحفاظ على مستوى عالٍ من النظافة.

·         التكامل المتناغم بين الحداثة والتقاليد: دمج تقنيات البناء الحديثة مع المبادئ التصميمية التقليدية لإنشاء منازل فعالة تكنولوجيًا وأصيلة ثقافيًا.

تُحدد "الرفاهية" الحقيقية في التصميم السكني بقدرة المنزل على توفير بيئة باردة، وخاصة، وهادئة، وصحية تعزز رفاهية الأسرة وتقلل الضغط المالي. هذا يدعو إلى تحول في طلب المستهلكين وقيم السوق نحو حلول سكنية أكثر وعيًا بالتصميم، ومسؤولية بيئيًا، ومناسبة ثقافيًا، مما يؤدي إلى تطوير مجتمعات أكثر مرونة وتناغمًا.


نحو إنسان ليبي قوي: البيئة أساس البناء لا الانهيار

 


جمل الهمالي اللافي

إن الحديث عن بناء "إنسان ليبي قوي" لا يمكن أن ينفصل، بأي حال من الأحوال، عن البيئة التي يترعرع فيها ويعيش. هذه حقيقة جوهرية، يؤكدها علم الاجتماع وعلم النفس البيئي، ومع ذلك تبقى للأسف الشديد، إما مغيبة أو مُستهزأ بها في خطابنا المجتمعي، على الرغم من أن إدراكها ضروري لتحقيق أي نهضة حقيقية. إنها لبنة أساسية في صرح التنمية البشرية، وإغفالها يعني بناء كيان ضعيف مهدد بالانهيار.

حقيقة مُرّة: تدهور البيئة العمرانية والطبيعية ومسؤولية الدولة

شهدت مدننا الليبية تحولات عمرانية جسيمة خلال العقود الماضية، غالبًا ما تمت تحت ذريعة حل أزمة السكن، لكنها أسفرت عن نتيجة كارثية: تدمير للنسيج العمراني الأصيل وتشويه للبيئة الطبيعية. استُبدلت هذه البيئات بعمارات أسمنتية كئيبة تفتقر لأدنى مقومات الجمال أو الروح الإنسانية، وأدت إلى انتشار الضوضاء والتلوث، وغياب المساحات الخضراء والجمالية البصرية. هذه البيئة المصطنعة ليست مجرد مشهد قبيح؛ إنها آلة صماء تعمل على تدمير النفس البشرية بصمت. فالبيئات الحضرية القبيحة والمكتظة والمفتقرة للعناصر الطبيعية تؤدي إلى ارتفاع مستويات التوتر والقلق، وتدهور الصحة العقلية، وفقدان الشعور بالانتماء، كما تسهم في تفشي السلوكيات السلبية وضعف الروابط المجتمعية.

تفاقمت هذه المعضلة بشكل كبير بسبب غياب المخططات العمرانية المدروسة من طرف الدولة، وتخليها عن مسؤولياتها في هذا الشأن الحيوي. فبدلاً من صياغة رؤى شاملة للمدن تستوعب النمو السكاني بطرق مستدامة وإنسانية، وجدنا أنفسنا أمام مخططات عشوائية ومكتظة أفرزتها سياسات غير مدروسة. هذه المخططات تفتقر بشكل فادح للبنى التحتية اللازمة لمواكبة الكثافة السكانية المتزايدة، ولا تُعنى بتوفير مشاريع معمارية سكنية منسجمة تراعي الجانب الجمالي والنفسي، ناهيك عن الإهمال التام للمساحات الخضراء التي تعد متنفسًا حيويًا للسكان. هذا الفراغ التخطيطي وغياب تحمل المسؤولية في رسم مستقبل عمراني مستدام، هو ما أنتج بيئات سكنية تعكس الفوضى والضيق، وتضعف من قدرة الفرد على التكيف والازدهار. إن الدولة، بمؤسساتها المعنية بالتخطيط والتنمية، تتحمل مسؤولية مباشرة في تدهور هذه البيئات وفي بناء عمارات لم تكن أبدًا جزءًا من رؤية متكاملة لمدن قادرة على احتضان أجيال قوية ومستقرة.

شرخ في البناء المعرفي: تجاهل الجذور الحقيقية

المفارقة تكمن في أن هذه الحقائق ليست خافية على المتخصصين. علماء الاجتماع وعلماء النفس في كل أنحاء العالم يقرون بأن البيئة هي حاضنة السلوك البشري. ولكن في جامعاتنا وكلياتنا ذات الصلة، يبدو أن التركيز ينصب على دراسة النتائج المدمرة أكثر من دراسة أسبابها الجوهرية. فطلاب علم الاجتماع يُرسلون لدراسة المساجين في السجون، وطلاب علم النفس يُرسلون لمعاينة الحالات في مستشفيات الأمراض العقلية. هذا التركيز على "التشخيص بعد وقوع الكارثة" يطمس الرؤية الشاملة التي تؤكد أن بيئة سليمة ومُصممة بعناية يمكن أن تكون الوقاية الأولى من هذه المشكلات.

إن هذا التجهيل المعرفي المتمثل في تجاهل الرابط الوثيق بين البيئة وصحة الإنسان النفسية والجسدية هو عقبة كبرى أمام أي تقدم. فالجذور الحقيقية لمشكلاتنا المجتمعية والنفسية لا تكمن فقط في الأفراد أو الظروف الاقتصادية، بل تمتد لتشمل البيئة المحيطة التي تشكل وعينا وسلوكنا.

نحو حلول جذرية: بناء بيئة تصنع الإنسان القوي

لصناعة إنسان ليبي قوي، لا بد أن نبدأ بإعادة بناء بيئته، وهذا يتطلب مقاربة شاملة ومتكاملة:

1.   التخطيط العمراني المستدام الموجه بالإنسان: يجب أن تتبنى البلديات والمؤسسات المعنية فلسفة تخطيط عمراني تضع الإنسان في جوهرها. هذا يعني تصميم أحياء سكنية تحترم الخصوصية وتوفر المساحات المشتركة، وتراعي الجمالية، وتدمج المساحات الخضراء، وتُشجع على المشي والتفاعل الاجتماعي. يجب التوقف عن سياسة العشوائية والتركيز على الكثافة المفرطة التي تخنق الروح وتضيق الخناق على حياة الناس.

2.   حماية البيئة الطبيعية وتجذيرها: الطبيعة ليست ترفًا، بل هي ضرورة قصوى للصحة النفسية والعقلية. يجب حماية سواحلنا، صحارينا، غاباتنا، ومساحاتنا الطبيعية، وتضمينها بشكل عضوي في التخطيط العمراني، وتسهيل الوصول إليها. غرس الأشجار في الشوارع، إنشاء الحدائق العامة، والمساحات الخضراء في كل حي هو استثمار مباشر في صحة المواطن.

3.   إصلاح المناهج التعليمية: يجب أن تعكس مناهجنا الجامعية في كليات الهندسة، التخطيط العمراني، علم الاجتماع، وعلم النفس هذه الحقائق. يجب أن يُعلّم الطلاب ليس فقط كيفية بناء المنشآت أو تحليل الظواهر الاجتماعية، بل كيف تُصمم وتُبنى بيئات تعزز الصحة النفسية والجسدية، وتُشجع على الإبداع، وتُنمّي حس الانتماء والمسؤولية المجتمعية. يجب أن تكون دراسة تأثير البيئة على الإنسان جزءًا أساسيًا من تكوينهم المعرفي.

4.   التوعية المجتمعية بأهمية البيئة: يجب إطلاق حملات توعية مكثفة تثقف المجتمع بأهمية البيئة المعمارية والطبيعية في تشكيل شخصية الإنسان. عندما يدرك الأفراد أن نوعية حياتهم وسلوكيات أبنائهم ترتبط بشكل مباشر بجودة المكان الذي يعيشون فيه، سيتغير سلوكهم وتزداد مطالبتهم ببيئة أفضل.

إن بناء إنسان ليبي قوي لا يبدأ من الفراغ، ولا يمكن أن يُنجز بمعزل عن بيئته. إنها رحلة تتطلب وعيًا جماعيًا، وتخطيطًا مستقبليًا، واستثمارًا حقيقيًا في بيئاتنا المعمارية والعمرانية والطبيعية. عندها فقط، يمكننا أن نرى أفرادًا أكثر صحة نفسية، وأكثر إنتاجية، وأكثر احترامًا لأنفسهم وللمجتمع من حولهم، قادرين على بناء مستقبل أقوى لوطنهم.

الثلاثاء، يوليو 29، 2025

أزمة الهوية في العمارة المعاصرة: بين تعليم مفرغ وإعلام مضلل

 


جمال الهمالي اللافي

شهدت العقود الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في جودة البيئة المبنية وهويتها الأصيلة في كثير من مجتمعاتنا، لتتحول المساحات الحضرية إلى مزيج غير متجانس من الأساليب والتوجهات. هذه الأزمة ليست وليدة الصدفة، بل هي محصلة لتفاعل معقد بين تعليم معماري مفرغ من العمق، وإعلام ثقافي مضلل، وتأثر غير واعٍ بنظريات غربية لا تتوافق بالضرورة مع خصوصيتنا الثقافية والعقائدية. إن المبنى، في جوهره، ليس مجرد كتلة خرسانية؛ إنه تجسيد للأفكار والفلسفات السائدة في المجتمع، ومرآة تعكس وعيه أو غيابه.

التسطيح الأكاديمي: بوابة إلى الفراغ المعماري

يكمن جزء كبير من هذه المشكلة في جوهر مناهج التعليم المعماري والفني في جامعاتنا. غالبًا ما تركز هذه المناهج على التلقين المفرط والجانب التقني البحت، مُقصيةً بذلك مهارات التفكير النقدي، والتحليل الفلسفي، والتعمق في السياق الثقافي والتاريخي للعمارة. يخرج الطالب مجهزًا بالأدوات البرمجية والإنشائية، لكنه يفتقر إلى البصيرة والرؤية اللازمة لخلق عمارة ذات معنى وهوية.

هذا التسطيح يؤدي إلى:

·     غياب النقد البناء للنماذج المستوردة: فبدلًا من تحليل المدارس المعمارية الغربية بعمق وفهم سياقها الفلسفي والاجتماعي، يتم استنساخ أشكالها وتطبيقاتها بشكل سطحي، دون مراعاة لتوافقها مع بيئتنا أو قيمنا.

·     الافتقار إلى الدراسات العميقة للهوية المعمارية الإسلامية والعربية: يُنظر إلى التراث كقوالب جاهزة تُقلّد أو تُهمل، بدلًا من كونه مصدر إلهام يمثل ثروة من المبادئ التصميمية والفلسفية التي يمكن تطويرها وتكييفها مع العصر. لا تُشجّع الدراسات التي تربط العمارة بعمقها الفكري والعقائدي.

·     التركيز المفرط على الأدوات التقنية على حساب الفكر الفلسفي والتصميمي: فيصبح الهدف هو إتقان برامج التصميم ثلاثي الأبعاد، بينما يتراجع دور الفكر التصميمي الأصيل، ومساءلة الوظيفة، وعمق العلاقة بين الإنسان والفراغ.

إعلام السطحية: تشكيل ذوق معماري مُغترب

لا يقتصر دور الإعلام على مجرد "ملء العقول بثقافة التفاهة"، بل يمتد ليصبح أداة قوية في تشكيل الذوق العام المعماري، وغالبًا ما يكون ذلك في اتجاه يعمّق أزمة الهوية. ففي ظل غياب برامج إعلامية متخصصة وجادة في النقد المعماري، أو غياب المساحات التي تشجع على الحوار حول العمارة المحلية الأصيلة:

·     تروّج برامج الديكور والمجلات غير المتخصصة لأنماط معمارية دخيلة، تعرض نماذج سكنية وتجارية لا تتناسب مع قيم المجتمع أو أنماط حياته أو ظروفه المناخية والاجتماعية. هذه البرامج تعرض "الصورة" البراقة على حساب "المضمون" والجودة، وتساهم في انتشار ثقافة التقليد الأعمى للمبهرج والجديد، حتى لو كان عديم الجدوى أو الهوية.

·     يساهم غياب النقد المعماري الجاد في استمرارية الرداءة والتسطيح، حيث لا توجد جهة إعلامية قوية تُسائل المشاريع الرديئة أو تُبرز النماذج الجيدة التي تحترم الأصالة والمعاصرة. يصبح المعماريون والمطورون في منأى عن المحاسبة المجتمعية.

·     أثر الترويج لـ "الصورة" على حساب "المضمون" في العمارة: يصبح الهدف هو تحقيق جاذبية بصرية سطحية، بغض النظر عن كفاءة الأداء الوظيفي للمبنى، أو مدى ارتباطه بسياقه الاجتماعي والثقافي. نرى واجهات مبانٍ تعكس أساليب لا صلة لها بالبيئة، وتصاميم داخلية تفتقر إلى الراحة أو الملاءمة الثقافية.

اختراق فلسفي: النظريات الغربية وتجسدها في فوضى البناء

لقد فتح التسطيح المعرفي والغياب النقدي الباب واسعًا أمام اختراقات فكرية خطيرة من النظريات الغربية المعاصرة، مثل الحداثة، وما بعد الحداثة، والتفكيكية. هذه النظريات، التي تنطلق في جوهرها من هدم أركان الإيمان بوجود الله ووحدانيته، هي امتداد لنظرية داروين في "النشوء والارتقاء" التي تُقدم كحقيقة علمية في مناهجنا. هذا التشكيك الجذري في الأصل والوجود يمتد ليؤثر على فهم الإنسان لذاته، لدوره في الكون، وبالتالي، لدوره كخالق ومنشئ للبيئة المبنية. إن المبنى هنا لا يعود مجرد وظيفة، بل يصبح تجسيدًا لفلسفة وجودية، غالبًا ما تتعارض مع عقيدتنا.

تتناقض هذه النظريات بشكل صارخ مع العقيدة الإسلامية، وتُسهم في خلق هوة عميقة بين الفكر والمعتقد، وهو ما ينعكس جليًا في الفضاء المعماري:

·     الحداثة: التي رفعت من شأن العقل ورفضت الميتافيزيقا والدين. في العمارة، تجلى ذلك في "الأسلوب الدولي" الذي نبذ التاريخ، الهوية المحلية، والزخرفة، مركزًا على الوظيفية المفرطة والنقاء الشكلي المجرد. هذا الأسلوب أنتج مبانٍ يمكن أن توجد في أي مكان في العالم، مفتقرة لأي حس ثقافي أو محلي. فعلى سبيل المثال، نرى اليوم مبانٍ زجاجية ضخمة تلتهم طاقة هائلة للتبريد في بيئات حارة، أو عمارات سكنية ذات واجهات صماء لا تعكس خصوصية الحياة الأسرية المسلمة، كل ذلك بدافع "الحداثة" البصرية المجردة.

·         ما بعد الحداثة: التي أعلنت "موت الإله" ووضعت الإنسان في مركز الكون، مُروجة للنسبية والتعددية المطلقة.

·     التفكيكية: التي تدعي تفكيك النصوص المقدسة لإعادة ترتيبها، لكن غايتها الحقيقية هي تركها مبعثرة. من هنا نشأت أفكار وتطبيقات مدمرة كإباحة الشذوذ الجنسي والنسوية، هادمة كل الثوابت والقيم. في العمارة، أدت التفكيكية إلى أعمال معمارية تفتقر للاتساق، وتكسر القواعد التقليدية، وتخلق مساحات تبعث على الارتباك واللايقين بدلًا من الطمأنينة. يمكن ملاحظة ذلك في بعض المباني التي تبدو كأنها أجزاء متفككة، أو تستخدم أشكالًا وزوايا غريبة لا تخدم وظيفة أو جمالية واضحة، ما يثير تساؤلات حول فلسفتها وغايتها في سياقنا الثقافي، بل وتؤثر سلبًا على التجربة الإنسانية للمستخدمين.

لقد تسللت هذه النظريات، على الرغم من تصادمها الجذري مع قيمنا، إلى مجالات العمارة والفنون والآداب، عبر مناهج كلياتها. فبمحاربة أي توجه يخالفها والإعلاء من شأن روادها الغربيين، نشأ لدينا انفصام حاد: مسلم متمسك بعقيدته شكلاً، لكن سلوكه وتعاملاته وقناعاته تتصادم مع هذه العقيدة في كل تفاصيل حياته، من الملبس والمأكل إلى الأفكار التي يعتنقها ومسكنه. هذا الانفصام يتجلى بوضوح في غياب الهوية المعمارية الأصيلة، واستنساخ أنماط لا تتناسب مع مناخنا، ثقافتنا، أو قيمنا، مما يساهم في اغتراب الإنسان عن محيطه المبني.

نحو نهضة معمارية: مسؤولية التعليم، الإعلام، والمعماري المثقف

إن التحدي كبير، لكن الفرصة أكبر. لقلب هذه المعادلة، يتوجب على مؤسسات التعليم والإعلام، وبخاصة المعماريون، تحمل مسؤوليتهم التاريخية.

على صعيد التعليم المعماري:

·         يجب إصلاح المناهج لتشمل التركيز العميق على الهوية الثقافية والتراث المعماري الإسلامي والعربي كمنبع للإلهام، لا مجرد مادة تاريخية جامدة.

·         يجب أن تُعزّز مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب، لتمكينهم من تحليل النظريات الغربية واستخلاص المفيد منها دون الوقوع في فخ التبعية الفكرية.

·     يجب أن يتجاوز التعليم مجرد الأدوات التقنية إلى ترسيخ الفكر الفلسفي والتصميمي الذي يربط العمارة بهويتها الإنسانية والعقائدية. يجب أن نسأل: ما هي القيم التي نريد لعمارة أن تجسدها؟

على صعيد الإعلام:

·         يجب تفعيل دور الإعلام المعماري المتخصص لرفع الوعي والذوق العام. هذا يتطلب برامج وثائقية، ومقالات نقدية، ومبادرات إعلامية تُسلط الضوء على العمارة الأصيلة والمعاصرة، وتُعرّف الجمهور بالنماذج الناجحة التي تجمع بين الجمال والوظيفة والهوية.

·         يجب أن يُسهم الإعلام في تشكيل رؤية جمالية مسؤولة لا تكتفي بالصورة، بل تتعمق في المضمون والقيم.

على المعماري:

·     عليه أن يكون مثقفًا وقائدًا للرأي العام في مجال تخصصه، لا مجرد فنان أو مهندس. يجب أن يمتلك القدرة على ربط مشروعه بالبعد الثقافي، والاجتماعي، والروحي للمجتمع.

·     يجب أن يتحول من مُقلّد إلى مُبدع أصيل، قادر على استلهام التراث وتكييفه مع متطلبات العصر، بدلًا من استيراد حلول جاهزة لا تتوافق مع بيئتنا أو قيمنا. إن مشروعًا معماريًا لا يرتقي لمستوى تطلعات المجتمع في توفير بيئة تجمع بين الجمال، والهوية الثقافية، وكفاءة الأداء الوظيفي هو خطر ثقافي يوازي خطر الأفكار الهدامة.

إنها دعوة للجميع، من مقاعد الدراسة إلى شوارعنا، ومن شاشات الإعلام إلى عقولنا: هل نختار الوعي والإصلاح، ونبني بيئة معمارية تعكس أصالتنا وتطلعاتنا، أم نستسلم للفراغ والتجهيل الذي يهدد ليس فقط عقولنا، بل مساحات عيشنا وهويتنا ذاتها؟ إن مستقبل عمارة حضارتنا يعتمد على قدرتنا على استعادة الوعي وإعادة بناء الفكر.


الاثنين، يوليو 28، 2025

الاكتفاء في المباني المعمارية: مسكن العائلة الممتدة كنموذج شامل للمستقبل

نموذج بحثي- قيد التعديل والدراسة- لمسكن العائلة الممتدة

جمال الهمالي اللافي

في ظل التحديات المتزايدة التي يفرضها الواقع المعاصر من ضغوط بيئية، اقتصادية، واجتماعية، بات البحث عن حلول سكنية تتجاوز مجرد توفير المأوى أمرًا حيويًا. هنا، يبرز مفهوم الاكتفاء في المباني المعمارية كفلسفة تصميمية شاملة تهدف إلى إنشاء منشآت قادرة على تلبية معظم احتياجاتها ووظائفها ذاتيًا، وتقليل اعتمادها على الموارد والأنظمة الخارجية.

الاكتفاء ليس مجرد ترف، بل هو ضرورة ملحة لمستقبل أكثر استدامة ومرونة. يتجسد هذا المفهوم في أبعاد متعددة ومتكاملة:

·     الاكتفاء من الطاقة: قدرة المبنى على إنتاج طاقته الخاصة، غالبًا عبر مصادر متجددة كالألواح الشمسية، مع تصميم يعزز الكفاءة الحرارية ويقلل الحاجة للتدفئة والتبريد الاصطناعي.

  • الاكتفاء من المياه: جمع ومعالجة وإعادة استخدام المياه داخل المبنى، من حصاد مياه الأمطار إلى تدوير المياه الرمادية، لتقليل الاستهلاك والاعتماد على شبكات المياه العامة.
  • الاكتفاء في إدارة النفايات: تقليل النفايات المتولدة، وفرزها، وإعادة تدويرها، وربما تحويل النفايات العضوية إلى سماد، لتحقيق مفهوم "النفايات الصفرية".
  • الاكتفاء من المواد: اختيار واستخدام مواد بناء مستدامة، معاد تدويرها، أو محلية، ذات بصمة بيئية منخفضة وعمر افتراضي طويل.
  • الاكتفاء الوظيفي (فراغات السكن): وهو البعد الذي يمس الحياة اليومية بشكل مباشر، ويعني توفير المسكن لجميع الفراغات التي تستوعب احتياجات وأنشطة ساكنيه، من الألف إلى الياء، دون الحاجة للبحث عن حلول خارجية. هذا يطرح إشكالية الموازنة بين توفير جميع الفراغات الضرورية والطارئة وتكلفة بنائها والحفاظ عليها وهي غير مستخدمة لمعظم الوقت.

مسكن العائلة الممتدة: تجسيد عملي للاكتفاء الشامل

في مواجهة هذه التحديات، يبرز مسكن العائلة الممتدة كحل معماري واجتماعي يجسد مفهوم الاكتفاء الشامل ببراعة. فبدلاً من رؤيته كنموذج تقليدي، يمكننا إعادة تصوره كنموذج عصري يجمع بين القيم الاجتماعية العميقة والحلول البيئية والاقتصادية المبتكرة.

  1. الاكتفاء الوظيفي: حل إشكالية الفراغات المتغيرة:

تُعد القدرة على تلبية احتياجات الفراغات المتغيرة داخل المسكن من أبرز مزايا مسكن العائلة الممتدة. فالمنازل المصممة للعائلات الصغيرة غالبًا ما تفتقر للمساحات الكافية عند المناسبات الكبرى، مما يدفع الأسر للبحث عن حلول خارجية مكلفة ومرهقة. هنا، يأتي دور مسكن العائلة الممتدة ليوفر فراغات متعددة الوظائف ومرنة. هذه المساحات، التي قد تُستخدم يوميًا لأنشطة العائلة المنفصلة (للذكور والإناث مع مراعاة الخصوصية)، تتحول بسلاسة إلى صالات واسعة ومتباعدة للرجال والنساء في المناسبات الاجتماعية الكبرى. هذا التصميم الذكي لا يقلل العبء الاقتصادي والنفسي على الأسرة فحسب، بل يوفر حلاً عمليًا يغني عن الحاجة لاستئجار قاعات خارجية أو الاعتماد على الجيران.

  1. تعزيز أبعاد الاكتفاء الأخرى:

بالإضافة إلى الاكتفاء الوظيفي، يساهم مسكن العائلة الممتدة بشكل فعال في تعزيز أبعاد الاكتفاء الأخرى التي ذكرناها سابقًا:

·     اقتصاديًا: يساهم تقاسم تكاليف إنشاء وصيانة أنظمة الطاقة والمياه ومعالجة النفايات بين الأسر المتعددة في تخفيف الأعباء المالية بشكل كبير. كما أن تقليل الحاجة لاستئجار قاعات خارجية للمناسبات، وتوفير جزء من فواتير الخدمات، يجعل هذا النمط من السكن أكثر جدوى مالية على المدى الطويل.

·     بيئيًا: تتيح طبيعة مسكن العائلة الممتدة إمكانية تركيب أنظمة أكبر وأكثر كفاءة لتوليد الطاقة الشمسية وحصاد المياه، مما يقلل البصمة الكربونية للمبنى ككل. كما تسهل البيئة الأسرية الكبيرة تطبيق أنظمة الفرز وإعادة التدوير والتسميد العضوي على نطاق أوسع، مما يحول النفايات إلى موارد.

·     اجتماعيًا ونفسيًا: يعزز هذا النموذج الروابط الأسرية القوية، ويوفر شبكة دعم متينة بين الأجيال (الآباء، الأبناء، الأحفاد). إن وجود الأجيال المتعددة تحت سقف واحد يمكن أن يوفر رعاية ودعمًا متبادلًا، ويساهم في نقل الخبرات والقيم، مما يغذي الشعور بالأمان والانتماء ويحارب العزلة الاجتماعية.

دعوة للمستقبل: الاكتفاء عبر التكافل

إن مسكن العائلة الممتدة، بمفهومه الشامل للاكتفاء، هو أكثر من مجرد خيار سكني؛ إنه دعوة لإعادة التفكير في رؤيتنا للمستقبل. إنه يمثل نموذجًا للتكافل والتعاون، حيث تتضافر جهود الأفراد لتحقيق اكتفاء شامل يعود بالنفع على الجميع. بدمج الحكمة من الماضي مع تقنيات الحاضر ومبادئ الاستدامة، يمكن لمسكن العائلة الممتدة أن يصبح حجر الزاوية في بناء مجتمعات أكثر مرونة، وازدهارًا، واستدامة في مواجهة تحديات الغد.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...