أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

السبت، نوفمبر 01، 2025

حين تلتقي العمارة بأبنائها

 جدار بلا يد، وضوء بلا عين


في ليبيا، كما في كثير من السياقات التي أنهكتها العزلة المهنية والتشظي الثقافي، باتت العمارة تُمارس كفن منفصل، لا يلتفت إلى أبنائه الطبيعيين: الفنون، التصميم، الحرف. وكأنها فقدت قدرتها على احتضانهم، أو كأنهم لم يعودوا يرون فيها أمًّا، بل سلطة تُقصيهم أو تتعالى عليهم.

لكن العمارة، حين تكون صادقة، لا تُبنى بالحجر فقط، بل بالمعنى. لا تُصمَّم في فراغ، بل تتخلق من تفاعل جماعي بين من يرسم، ومن ينحت، ومن يلون، ومن يروي. وحين يغيب هذا التلاقي، لا تغيب فقط الجماليات، بل تغيب الروح.

في هذا الحوار، يتواجه المفكر والحكيم، لا ليحسما الجدل، بل ليطرحا أسئلته من قلب الواقع الليبي، حيث العمارة تتعثر، والفنون تُهمّش، والحرف تُنسى، والشراكة تتحول إلى صراع صامت.

المفكر:

لماذا تبدو العمارة في بلادنا يتيمة؟ لا تصحب معها أبناءها، لا تستدعي الفنون، ولا تستأنس بالحرف، ولا تفتح بابها إلا لمن يشبهها في العزلة.

الحكيم:

لأنها نُزعت من سياقها. العمارة حين تُفصل عن الحرفة، تفقد يدها. وحين تُقصي الفن، تفقد بصرها. وحين تحتكرها فئة دون غيرها، تفقد صوتها.

المفكر:

حتى من يمتهنون هذه المهن، لا يتواصلون. كلٌّ في جزيرته. المعماري لا يرى في الفنان إلا مزيّناً، والفنان لا يرى في الحرفي إلا منفّذاً، والحرفي لا يرى في المعماري إلا متعالياً.

الحكيم:

لأننا لم نعد نؤمن بالعمل الجماعي. نُفضّل أن نُنجز وحدنا، حتى لو كان الناتج ناقصًا. نخشَى أن يسرق الآخر الضوء، فنُطفئ المصابيح جميعًا.

المفكر:

لكن النتيجة واضحة: مدن بلا ملامح، بيوت بلا دفء، فراغات بلا معنى. العمارة صارت صدىً باهتًا، لا صدى لذاكرة، بل صدى لكتالوج مستورد.

الحكيم:

حين يغيب التلاقي، يغيب الانتماء. لا يمكن أن نبني عمارة تنتمي لبيئتنا، ونحن نرفض أن ننتمي لبعضنا.

المفكر:

أليس من حق من يملك تجربة أن يُصغي له الآخرون؟ أليس من واجب من يملك سلطة القرار أن يفتح الباب لا أن يُغلقه؟

الحكيم:

في بيئة مريضة، يُنظر إلى التجربة كتهديد، لا كإضافة. يُقصى من يملك الرؤية، ويُحتفى بمن لا يُقلق أحدًا.

المفكر:

لكن العمارة لا تُبنى بالصمت. تحتاج إلى حوار، إلى اختلاف، إلى احتكاك. تحتاج إلى من يخطط، ومن ينحت، ومن يلون، ومن يروي.

الحكيم:

وتحتاج إلى من يتواضع. من يعرف أن الجدار لا يكتمل دون يد الحرفي، وأن الضوء لا يُفهم دون عين الفنان، وأن المعنى لا يُولد إلا من تلاقيهم جميعًا.

المفكر:

ربما آن الأوان أن نعيد للعمارة أبناءها. لا كضيوف، بل كشركاء. لا كزينة، بل كأصل.

الحكيم:

حين نكفّ عن الخوف من الضوء، ونبدأ في بناء الجسور بدل الجدران، ستعود العمارة إلى أبنائها. لا كمنّة، بل كحق. وعندها فقط، يمكن أن نبدأ في بناء ما يستحق أن يبقى.

المفكر:

وإن أردنا لهذا التلاقي أن يتحقق، فلا يكفي أن نكتب عنه. لا بد من فعلٍ يُجسّده، من فضاءٍ يُحتضنه، من مشروعٍ يُعيد للعمارة أبناءها في صورة ملموسة.

الحكيم:

ربما يكون معرضًا. لا استعراضًا، بل لقاءً. يُصمَّم ويُنفَّذ جماعيًا، لا ليُبهر، بل ليُعبّر. يجمع من يرسم ومن ينحت ومن يروي، في جناح معماري مؤقت، يُبنى لا بالحجر فقط، بل بالثقة.

المفكر:

معرضٌ لا يُعلّق فيه الفن على الجدران، بل يُدمج في الجدار ذاته. لا تُعرض فيه الحرفة كتراث، بل تُمارَس كحياة. لا يُقصى فيه أحد، بل يُدعى الجميع للمساهمة.

الحكيم:

وحين يُبنى هذا الجناح، لا يكون مجرد هيكل، بل بيانًا جماعيًا يقول:

هنا، حين تلتقي العمارة بأبنائها، يولد المعنى من جديد.

السبت، أكتوبر 25، 2025

تجربة "الكون 25" كما قرأتها من زاويتي


جمال الهمالي اللافي

في ستينيات القرن الماضي، أجرى عالم السلوك جون كالهون تجربة عُرفت باسم "الكون 25"، حيث أنشأ بيئة مثالية للفئران: وفّر لها الطعام والماء والمأوى، وأزال عنها كل تهديد خارجي. في البداية، ازدهر المجتمع الفأري، لكن سرعان ما ظهرت سلوكيات غير مألوفة: عزلة، عدوانية، انكفاء على الذات، ثم انهيار كامل في التفاعل والتكاثر، وصولًا إلى الانقراض. خلص كالهون إلى أن الاكتظاظ، حتى في ظل الوفرة، يؤدي إلى انهيار اجتماعي وسلوكي، وهو ما اعتبره تحذيرًا من مصير المجتمعات البشرية إذا فقدت التوازن بين النمو والاحتواء.

لكن هذه التجربة لم تستوقفني في حيثياتها، ولا في خلاصتها كما أراد صاحبها. ما استوقفني هو ما تكشفه عن أثر البيئة العمرانية حين تُبنى بلا رؤية، وتُحشد فيها الكتل السكانية دون اعتبار للكرامة أو التفاعل أو الانتماء.

خطر الاكتظاظ لا يكمن في العدد وحده، بل يتضاعف حين يقترن بـ العشوائية العمرانية، وشيوع الفقر، وغياب البنية التحتية والخدمات الأساسية. في مشاريع العمارات السكنية التي تُبنى بنموذج مكرر، دون مرافق ترفيهية أو مساحات خضراء، يتحوّل السكن إلى عزلة جماعية، ويصبح الحيّز العمراني طاردًا لا حاضنًا. فالمكان، حين يُصمَّم بلا اعتبار للكرامة، يُعيد تشكيل السلوك بصمت، ويُغذّي الانكفاء بدل الانتماء.

وقد أثبتت دراسات علم النفس البيئي أن غياب الضوء الطبيعي، وانعدام التهوية، وضيق المساحات، تؤثر مباشرة على الصحة النفسية، وتزيد من معدلات الاكتئاب والعدوانية. كما أن التصميمات المغلقة، التي لا تتيح التفاعل البصري أو الاجتماعي، تُنتج شعورًا بالانفصال، وتُضعف الإحساس بالانتماء للمكان.

غياب المساحات الخضراء، والمرافق التي تتيح التفاعل الآمن، لا يُنتج فقط بيئة فقيرة، بل يُعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمكان، ويحوّل الحيّ إلى معبر لا إلى مستقر. وقد أشار علماء الاجتماع إلى أن المجتمعات التي تفتقر إلى رموزها الثقافية والمعمارية، تُنتج أفرادًا يشعرون بالاغتراب، حتى لو كانوا في موطنهم.

ما رأيته في الواقع لا يُفسَّر بتجربة "الكون 25"، بل يُفصح عن أن الانهيار لا يأتي من الاكتظاظ وحده. فالمدن التاريخية كانت تتميز بكثافتها العالية، وتلاصق مبانيها، وضيق شوارعها، ومع ذلك كانت المكان الآمن لسكانها، الحافظة لقيمهم، والعامل على قوتهم. في تلك المدن، كانت الكثافة تعني التقارب، لا التنافر؛ أما اليوم، فالكثافة تُنتج عزلة حين تُبنى بلا رؤية، وتُكرّس الانفصال حين تُصمّم بلا روح.

وقد بيّنت أبحاث علم النفس الاجتماعي أن الشعور بالكرامة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبيئة العمرانية التي تحترم الحاجات النفسية والاجتماعية، لا تلك التي تختزل الإنسان في وظيفة سكنية. حين يُختزل السكن إلى مأوى جسدي، ويُستبعد منه ما يُراعي الحاجات النفسية والاجتماعية، يتحوّل الحيّ إلى فضاء طارد، ويُصبح العمران أداة تكديس لا وسيلة حياة.

الانهيار يأتي من غياب القيم حين تتوفر الوسائل.

والعمارة، حين تُبنى بلا رؤية، تُصبح جزءًا من هذا الفراغ، لا علاجًا له.

بل إن العمارة المعاصرة، في كثير من نماذجها الإسكانية، لا تُبنى بلا رؤية فحسب، بل تُبنى برؤية تستهدف تدمير كرامة الإنسان، وتدفعه إلى العزلة، والعنف، وانعدام الإنتاجية، عبر بيئات مكتظة، مغلقة، تفتقر إلى الضوء، والمساحات، والمرافق التي تُنعش الروح وتُحفّز التفاعل. وقد أشار علماء النفس إلى أن البيئات التي تُقصي الإنسان من التفاعل، وتُحاصره في وحدات سكنية مغلقة، تُغذي السلوكيات الانكفائية، وتُضعف القدرة على بناء علاقات صحية.

فحين يُختزل السكن إلى مأوى جسدي، ويُستبعد منه ما يُراعي الحاجات النفسية والاجتماعية، يتحوّل الحيّ إلى فضاء طارد، ويُصبح العمران أداة تكديس لا وسيلة حياة.

فهل نعيد التفكير في ما نبنيه، أم نواصل التعايش مع فراغ لا يملؤه الإسمنت؟

الجمعة، أكتوبر 24، 2025

من الطماطم إلى الطوب: حين تُختزل العمارة في محاكاة شكلية


جمال الهمالي اللافي

مقدمة تأملية

في زمنٍ بات فيه الشكل يطغى على المعنى، تُستدعى شرائح الطماطم والدلاع كمصدر إلهام لتصاميم معمارية تُعرض بفخر على أنها "ابتكار". لكن العمارة ليست طبقًا يُزين بالمكونات العشوائية، بل هي خطاب مسؤول يُبنى على فهم عميق للبيئة والهوية والذاكرة الجمعية.

الصورة وتعليق نقدي

الصورة المرفقة تُجسد هذا التوتر بدقة: تشابه بصري بين شرائح الطماطم ومبنى حديث بتصميم منحني ومجزأ. وكأن الشكل وحده يكفي ليبرر الفكرة. هذا النوع من المحاكاة الشكلية لا يُعبّر عن وعي معماري، بل عن انحدار في سلم القيم، حين يُستبدل السياق الثقافي بالمطبخ، ويُستبدل الالتزام بالذوق العابر.

خاتمة تربط الفكرة بالواقع

العمارة ليست شطحة ولا ترفًا. إنها مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون ممارسة فنية. ومن يخلط بين الإبداع والهرطقة، عليه أن يعيد تعريف موقعه من الفكرة، لا أن يكتفي بتزيينها. إن ما يُروّج له اليوم في وسائل الإعلام العالمية من أفكار "متحررة" لا يُمثل الإبداع، بل يُمثل الغفلة. والرد القاسي أحيانًا لا يكون إلا محاولة لإيقاظ الغافل، لا لإهانته.

حين تُبنى المدن بلا ذاكرة: تأمل في المعاصرة والهوية العمرانية

مدينة القلعة بيفرن، من المدن القديمة التي هجرت وتركت لعوامل الزمن


جمال الهمالي اللافي

ينظر المعماريون في الغرب إلى حاضرهم فيرونه امتداداً عضوياً لماضٍ عمراني متجذر، تربطه سلسلة متصلة من الحلقات الحضارية، لا انقطاع فيها ولا قطيعة. كل طبقة عمرانية لديهم تنهل من سابقتها، وتضيف إليها دون أن تمحوها، فتتشكل المدن ككائن حيّ ينمو ويتطور دون أن يفقد ذاكرته.

أما نحن، ففي ظل ما يتعرض له العمران الليبي من خراب ممنهج، وما يُمحى يومياً من معالمنا التاريخية، نقف أمام سؤال مؤلم: كيف سيكون شكل العمارة في ليبيا بعد نصف قرن؟ وهل ستبقى لنا ذاكرة عمرانية نحتكم إليها، أم سنُسلّم مدننا لعشوائيات تُرسم اليوم بلا رؤية، ويُحتفى بها غداً بوصفها "عمارة محلية أصيلة"؟ أتخيل معماريّاً شاباً في ذلك المستقبل، يقف مفتخراً أمام هذه العشوائيات، ويُسميها امتداداً للهوية، بينما هي في حقيقتها انقطاعٌ عنها، وتشويهٌ لها.

في هذا السياق، يُطرح أحياناً سؤال من بعض المعماريين:

"لماذا ينبهر المعماري الليبي بالعمارة الحديثة في البلدان الأخرى، بينما يرفضها في بلاده بحجة الحفاظ على الهوية؟"

والجواب أن ما يُنظر إليه هناك ليس انبهاراً، بل إعجابٌ نابع من إدراكٍ واعٍ بأن تلك العمارة الحديثة نشأت من رؤية متكاملة، منسجمة مع قيم المجتمع، ومع البيئة والتقنيات والمواد المتاحة. أما ما يُفرض عليه في بلاده، فهو غالباً عمران بلا رؤية، بلا انسجام، وبلا احترام للذاكرة الجمعية. لهذا، فالإعجاب هناك لا يعني الرغبة في التقليد، بل هو دعوة لأن ننهج نحن أيضاً طريقاً خاصاً بنا، نبني فيه عمارة معاصرة تعبّر عن قيمنا، وتراعي معطياتنا البيئية والاقتصادية، وتستثمر ما لدينا من مواد وتقنيات، لا ما لدى غيرنا.

أما الانبهار، فهو حالة من فقدان البوصلة، يسعى فيها الفرد إلى التقليد الأعمى، ضارباً بعرض الحائط كل ما لديه من خصوصية، فلا يصل إلى شيء، ولا يبني شيئاً. فقط يعيش حالة تخبط دائم، ويُنتج عمراناً بلا روح.

ولعل ما يزيد الأمر تعقيداً هو أن التعليم المعماري نفسه، في كثير من الأحيان، لا يُدرّس كفعل ثقافي نقدي، بل كتمرين شكلي وتقني، مما يُخرج أجيالاً من المعماريين بلا حسّ تاريخي، ولا وعي سياقي، ولا قدرة على مساءلة ما يُطلب منهم إنجازه. حين يُدرّس الطالب كيف يرسم، لا كيف يفكر، فلا عجب أن يُنتج عمراناً بلا ذاكرة.

وبينما كانت مدن مثل برشلونة أو إسطنبول تعيد قراءة تراثها لتصوغ منه عمراناً معاصراً، كانت مدننا تُهدم بلا بديل، وتُبنى بلا ذاكرة، ويُحتفى فيها بالفراغ وكأنه إنجاز.

لهذا، فإن السؤال الحقيقي ليس عن ازدواجية المعايير، بل عن غياب الرؤية، وعن الحاجة إلى وعي نقدي يعيد للعمارة الليبية مكانتها كخطاب حضاري، لا كزينة شكلية أو تكرارٍ أجوف.

فهل نملك الشجاعة لنُعيد تعريف المعاصرة من داخلنا، لا من خلال مرآة الآخر؟

المسجد الليبي: من المركز إلى الهامش


  

جمال الهمالي اللافي

تمهيد

ليست المساجد مجرد مبانٍ لأداء عبادة مفروضة، بل هي تجسيد حي لروح الأمة الإسلامية، ومعمار يعكس موقع العقيدة الإسلامية في وجدان المسلمين وفي قلب المدينة. ومع تراجع هذه المكانة، تراجعت صورة المدينة الإسلامية ذاتها.

"المسجد ليس بناءً وظيفيًا فحسب، بل هو مرآة للوجدان الجمعي، ومحرابٌ للهوية."

المسجد في المخطط الإسلامي التقليدي

في التخطيط الإسلامي التقليدي، كان المسجد الجامع مركز المدينة، والمحراب هو نقطة الانطلاق في التشكيل العمراني. مآذنه كانت علامات حضرية تحدد الاتجاهات، وتربط الإنسان بالمكان والزمان. حوله تنشأ الأسواق، وتتموضع مؤسسات الدولة، ويُبنى الحي على أساس القيم الروحية التي يغذيها المسجد.

الاستعمار الإيطالي (1911–1943): التهميش المعماري المقصود

مع دخول المستعمر الإيطالي، تغيّرت أولويات التخطيط. أُقصي المسجد عن مركزية المدينة، لصالح الكنائس والمباني الإدارية التي احتلت مواقع استراتيجية، كما في ميدان الجزائر بطرابلس وكاتدرائية بنغازي. هذا التهميش لم يكن عشوائيًا، بل كان انعكاسًا لعقيدة المستعمر، التي أعادت تشكيل هوية المدينة على نحو يتعارض مع وجدان أهلها.

ما بعد الاستقلال (1951–الآن): غياب المسجد عن المشهد

رغم رحيل المستعمر، بقيت رؤيته حاضرة في التخطيط العمراني. ظهرت الأبراج والبنوك في قلب طرابلس، بينما حُشر المسجد في الزوايا المهملة. لم يعد يمثل معلمًا حضريًا، ولا يحظى باهتمام المصممين أو الحرفيين المهرة. وغابت الطرز المحلية لصالح أشكال دخيلة، تتراوح بين الطرز المستوردة، والإسراف الزخرفي، والابتذال، والحداثة الهلامية.

التحولات الاجتماعية والعمرانية: أثر التهميش على الوعي الجمعي

تراجع حضور المسجد يعكس تراجع حضور العقيدة في الحياة العامة. ومع طغيان القيم المادية، فقدت المدينة الإسلامية مركزها الروحي، وتحوّل التخطيط إلى فعل مادي مجرد، يفتقر إلى البعد القيمي الذي كان المسجد يجسده.

ومن منطلق الإيمان العميق بتأثير العمارة في تشكيل سلوك الإنسان، فإن تغييب المسجد عن قلب المدينة وعن نسيج الحي السكني لم يكن مجرد قرار تخطيطي، بل فعلٌ رمزيٌّ ترك أثره في النفوس. فكما تراجع حضور المسجد في المشهد العمراني، تراجعت معه مكانة العقيدة في وجدان الناس، وتبدلت أولوياتهم، حتى غدت المادة هي المرجع، لا الروح.

نحو استعادة المكانة

لا بد من إعادة الاعتبار للمسجد، ليس فقط في المخططات العمرانية، بل في وجدان الناس. وذلك عبر:

  • إعادة مركزية المسجد الجامع في تخطيط المدن والمناطق والمشاريع الإسكانية.
  • ربط مؤسسات الدولة والبلديات حضريًا بالمسجد.
  • تنظيم الأسواق والمرافق العامة حوله.
  • مراعاة التنوع البيئي والثقافي في التصميم.

التوصيات

من أجل استعادة المكانة المركزية للمسجد في تخطيط المدن الإسلامية المعاصرة، لا بد من فتح باب الحوار المعماري والتخطيطي عبر تنظيم ندوات ومؤتمرات متخصصة، تُعنى بمناقشة المحاور التالية:

  • إعادة التفكير في التخطيط الحضري للمدن من منظور يعيد للمسجد دوره المحوري في تشكيل الصورة العمرانية، لا بوصفه مرفقًا وظيفيًا فحسب، بل باعتباره نواة روحية وثقافية تنبع منها باقي مكونات المدينة.
  • صياغة معايير تصميم معماري للمساجد تستلهم الطرز المحلية وتراعي خصوصية كل منطقة من حيث التضاريس والمناخ والبيئة الثقافية، بما يضمن تنوعًا أصيلًا في أنماط المساجد، ويمنع الاستنساخ المعماري الذي يطمس الهوية.

الخميس، أكتوبر 23، 2025

من الجماعة إلى الذات: كشف المعمار في زمن الاستحواذ

 مقدمة لسلسلة: تأملات معمارية

جمال الهمالي اللافي

ليس هذا النص والنصوص اللاحقة له مقالات تقنية، ولا مرافعات نظرية، ولا حتى محاولات لتأريخ تجربة شخصية. إنها تأملات مكتوبة من موقع الممارسة، ومن زاوية يقظة لا تهادن الواقع ولا تنفصل عنه.
في هذه السلسلة، لا يُعرض المعمار كحرفة أو مهنة، بل كمرآة للوعي، وكمجال تتقاطع فيه الذات مع الجماعة، والبيئة مع الفكرة، والزمن مع المسؤولية.

ما يُكتب هنا ليس بحثًا عن اعتراف، ولا ردًا على تهميش، بل كشفٌ لما يُرى ولا يُقال، وتوثيقٌ لما يُعاش ولا يُؤرشف. كل نص في هذه السلسلة هو محاولة لفهم ما تبقى من المعمار حين يُنزَع عنه الاستعراض، ويُعاد إليه صدقه الأول: أن يكون فعلًا إنسانيًا مواجهًا، يصدر عن وعي لا عن رد فعل، وعن مسؤولية لا عن انفعال.


مدخل تأملي

لم تكن تجربتي المعمارية مجرد مسار مهني، بل كانت فعلًا ثقافيًا مستمرًا، بدأ من مقاعد الدراسة، وامتد عبر الوظيفة الحكومية، ثم ممارسة المهنة بحرية. كنت حريصًا على أن أكون فاعلًا، لا مجرد مشارك، في كل ما من شأنه تنشيط الحركة المعمارية، سواء في أوساط الطلاب أو المهنيين.

بين النجاح والتشويش

نجحت العديد من المبادرات التي اقترحتها، رغم ما اكتنف بعضها من ممارسات محبطة من أطراف متعددة. لم تكن هذه الممارسات حالات فردية، بل جزءًا من ثقافة سائدة، تتقن الاستحواذ ثم الإقصاء، وتُفرغ الفعل من أثره، حتى حين يبدو ناجحًا في ظاهره.

التحول نحو الفرد

في السنوات الخمس الأخيرة، وجدت نفسي أفضّل العمل الفردي، رغم اعتيادي الطويل على العمل الجماعي. توقعت أن ألامس القصور، لكن ما حدث كان مفاجئًا: تقدم غير مسبوق في فهمي لطبيعتي، وفي إنتاجي المعماري والفكري، لم أكن لأبلغه لو واصلت العمل ضمن الجماعة.

عزلة مفروضة لا مختارة

العزلة لم تكن خيارًا، بل واقعًا فرضه تردي البيئة المهنية، حيث يسعى الكثيرون للظفر بجهود الآخرين، دون أي التزام أخلاقي أو مهني. هذه الثقافة تستنزف الزمن والعمر والصحة، وتحوّل الفعل المعماري إلى سلسلة من الفعاليات الهامسية، التي تنتهي بتفرق الجميع دون أثر ملموس.

كشف المعمار

ما كشفه العمل الفردي لم يكن فقط عن الذات، بل عن طبيعة الحقل المعماري نفسه، حين يُمارس خارج منطق الاستعراض أو التواطؤ. كشفٌ لا يطلب التصفيق، بل يطلب الصدق، ويعيد تعريف الفعل المعماري كمسؤولية لا كمنصة.

الجمعة، أكتوبر 17، 2025

الهُوية المعمارية: من حضور المادة إلى حضور المعنى

العمارة ليست استجابة تقنية، بل فعلٌ ثقافيٌ يُعبّر عن الذات الجماعية

تفصيل داخلي يُجسّد حضور الهُوية في أبسط عناصرها: حديدٌ أخضر مزخرف، أصصٌ فخارية، ونظرةٌ معمارية لا تُستعرض بل تُفصح عن نفسها بهدوء.

جمال الهمالي اللافي

مواد البناء وتقنيات الإنشاء تتغير وتتطور أو تبقى على حالها لا فرق. أما الهُوية المعمارية التي تعكس ثقافة وخصوصية أمة وشعب ومنطقة فراسخة في البنيان، لا يعيبها تجدد مواد البناء أو اختلاف طرق الإنشاء. في اعتقادي وجب فهم هذه النقطة والوعي بها وعياً متجذراً في العقل والوجدان.

هذا الوعي ليس ترفًا فكريًا، بل شرطٌ أساسيٌ لفهم العمارة بوصفها خطابًا ثقافيًا لا مجرد ممارسة تقنية. فحين تُختزل العمارة في أدواتها، تُفقد قدرتها على التعبير، وتتحول إلى قشرة وظيفية بلا روح. أما حين تُستوعب الهُوية بوصفها جوهرًا متجذرًا، فإن كل مادة، مهما كانت حداثتها، تصبح قادرة على حمل المعنى، إن وُظّفت بصدق.

الهُوية المعمارية لا تُقاس بنوع الطوب أو شكل النوافذ، بل تُقاس بقدرتها على استدعاء الذاكرة، على محاورة المكان، على احترام الإنسان الذي يسكنها. إنها ليست استنساخًا للماضي، ولا انبهارًا بالمستقبل، بل موقفٌ نقديٌ من الحاضر، يُوازن بين الوفاء للجذور والانفتاح على العصر.

في زمنٍ تتسارع فيه التقنيات وتُستورد فيه النماذج، لا يكون التمسك بالهُوية انغلاقًا، بل فعلًا واعيًا. إنه موقفٌ فاعل، لا ردّ فعل. ليس رفضًا للآخر، بل تأكيدًا للذات. اختيارٌ نابع من إدراك عميق لما يُشبهنا، وما يُعبّر عنا، لا انجرارًا وراء أنماط مستوردة تُفرغ البنيان من روحه.

الهُوية المعمارية لا تُدافع عن نفسها، بل تُعلن حضورها. لا تُقاوم الذوبان، بل تُفصح عن خصوصيتها بثقة، وتُعيد تشكيل السياق بما يليق بها. إنها ليست في موقع ضعف، بل في موقع تحديد المعايير، حين يُحسن المعماري الإصغاء للذاكرة، والبيئة، والناس.

المواد تتغير، والتقنيات تتطور، لكن هذه كلها أدوات في يد المعماري، وليست محددات للهُوية. يمكن للخرسانة أن تحمل روح الطين، ويمكن للزجاج أن يعكس دفء الحجر، إن وُظّفت بوعي سياقي. فالهُوية لا تُقاس بنوع المادة، بل بقدرتها على التعبير عن الإنسان والمكان والزمان.

الهُوية لا تعني التكرار الذي يُفرغ العمارة من معناها، بل تعني التمايز. أن يكون للبنيان لهجة، وللجدار ذاكرة، وللنافذة نظرة تُشبه أهل المكان. إنها ليست استنساخًا للماضي، ولا انبهارًا بالمستقبل، بل موقفٌ نقديٌ من الحاضر، يُعيد تعريف العلاقة بين الشكل والمعنى.

إن فهم هذه النقطة لا يقتصر على المعماري وحده، بل هو مسؤولية جماعية: من صانع القرار إلى المواطن، من الأكاديمي إلى الحرفي. لأن العمارة، في جوهرها، مرآةٌ للوعي الجمعي، لا مجرد منتج فردي.

خاتمة

فليكن وعينا بالهُوية المعمارية متجذرًا، لا عاطفيًا. متزنًا، لا انفعاليًا. وليكن البناء فعلًا ثقافيًا بامتياز، لا مجرد استجابة لحاجة وظيفية. فالهُوية لا تُستحضر من خارج السياق، بل تُولد من داخله، حين يُصغي المعماري للناس والمكان والزمن،  لا للموضة أو السوق.


أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...