أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، مارس 21، 2025

واقع تدريس التصميم المعماري بين التحدي والابتكار: مراجعة نقدية

مدينة طرابلس التاريخية


جمال الهمالي اللافي

        يُعد التصميم المعماري مجالاً يسعى لتحقيق تكامل الأداء الوظيفي والراحة المعيشية للمستخدمين، مع تقديم حلول مبتكرة للتحديات التي تواجه المباني المعمارية القائمة، سواء السكنية أو الخدمية. ومع ذلك، تشهد مناهج تدريس التصميم المعماري في بعض المؤسسات التعليمية انحرافاً عن هذه الغايات السامية.

        تتمثل أبرز مظاهر هذا الانحراف في تركيز بعض مدرسي مادة التصميم المعماري على دفع الطلاب لإبداع تصاميم "غريبة" أو "فريدة"، متجاهلين بذلك الأهداف الأساسية للعمارة. فالعمارة ليست مجرد استعراض للأشكال، بل هي وسيلة لتلبية احتياجات الإنسان وتعزيز جودة حياته من خلال تقديم حلول مبتكرة ومستدامة. ومع ذلك، بات الشكل الخارجي للمبنى محور اهتمام مبالغ فيه، حيث يُقيَّم الطالب بناءً على غرائبية تصميمه أكثر من جودة الأداء الوظيفي لمبناه.

        هذا النهج التدريسي لا يُؤدي فقط إلى فصل المهنة عن غاياتها الإنسانية، بل يُسهم في تهميش القيم الأساسية للعمارة. كما يعكس هذا الاتجاه واقعاً أوسع يتعلق بالمهنة حالياً، لا سيما في السياق الليبي، حيث أصبح ضعف التعليم وقصوره عن تلبية احتياجات الواقع أحد الأسباب الرئيسية لتراجع جودة المخرجات المعمارية.

        إن إعادة النظر في مناهج تدريس التصميم المعماري تتطلب التوازن بين الابتكار ومتطلبات الوظيفة، مع التركيز على تأهيل الطلاب ليصبحوا معماريين قادرين على مواجهة التحديات الحقيقية بدلاً من الاكتفاء بملاحقة غرائب التصاميم. فالعمارة، في جوهرها، تسعى لتلبية احتياجات البشر بتكامل جمالي ووظيفي.

الخميس، مارس 20، 2025

للواجهة قناع: دعوة لتحرير طرابلس من فوضى العمران


        دار هذا الحوار المثري بيني وبين أستاذي العزيز أحمد انبيص (رحمه الله وغفر له)، منذ عدة سنوات، ذكّرني بها الفيسبوك اليوم، حيث تناولنا فيه قبساً من موضوع شغل تفكيره وكان دائم الحديث عنه، ألا وهو دور واجهات المباني في صياغة هوية المدينة، ومسؤولية الجميع في الحفاظ على الفضاء العام
. أحببت اليوم أن أحيي ذكراه في نفوس كل من تتلمذ على يديه بقسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة طرابلس.

الأستاذ أحمد انبيص: "للواجهة قناع" كان العنوان الذي استوحيتُه من الملامح المعمارية التي ميزت المدينة الإيطالية "طرابلس". خذ على سبيل المثال شارع الرشيد في سوق الحوت؛ المباني هناك تبرز واجهات تشبه القناع، مؤلفة من أقواس ذات أعمدة قصيرة مكررة بإيقاع منتظم وعدد فردي، تتوسطه مدخلٌ واضحٌ في منتصف كتلة المبنى. إنها صيغة معمارية ظاهرة أيضًا في واجهات شوارع عمر المختار، الاستقلال، وحتى مبنى الخارجية. والسؤال هنا: هل يجب أن يساهم المبنى في صياغة ملامح المدينة؟ وأن يأخذ مقياسها، لتصبح واجهته ملكًا للشارع وللناس، لا ملكًا لصاحب المبنى؟ للأسف، نرى عكس ذلك كما هو الحال في شارع عمر المختار أمام مستشفى الأطفال، حيث لم يعد الرصيف أو الفضاء العام ملكًا للجميع، بل أصبح تحت سيطرة المالك.

جمال الهمالي اللافي: قبلتُ دعوتك يا أستاذ أحمد واستوعبت فكرتك، لكني لم أفهم تصرف مالك العمارة القريبة من مستشفى الجلاء سابقًا. ربما تكون هذه مسألة قانونية تحتاج لتدخل الدولة، لتحديد حدود ملكيته وسيطرته على الموقع. فالفكرة التي طرحتها حول ضرورة أن يتحول الرواق الموجود في أي عمارة إلى ملكية عامة، فكرة تستحق التأمل. ولكن ما فائدة هذا الطرح إن لم تتدخل الدولة بفرض سيطرتها على هذه الحيزات لصالح الاستخدام العام؟

الأستاذ أحمد انبيص: لا أقصد مبنى بعينه، لكننا نتحدث عن أمثلة متعددة، مثل المباني التي تبدأ من بعد محطة البنزين في شارع عمر المختار، حيث احتلت كل الشارع والفضاء العام دون أي احترام للمحيط أو سكان المدينة. هذه أمثلة تجرنا إلى مناقشات أوسع حول مسؤولية الجميع. إنها دعوة لتحرير المدينة مرة أخرى.

جمال الهمالي اللافي:  أتفق تمامًا مع طرحك يا أستاذ أحمد. تحديد حدود المسؤولية، سواء للدولة، للملاك، أو للمواطنين، هو ما يقود إلى التوازن بين الحقوق والواجبات. هذا النظام يخلق استقرارًا وازدهارًا ويُنهي الفوضى والصراعات. تحديد مركز لكل منطقة سكنية وإعادة التخطيط العمراني بما يُخصص فضاءات عامة مثل الرواق، سيخلق بيئة أكثر تنظيماً وراحة. ولكن هل يتحمل الجميع مسؤولياتهم تجاه قرارات مثل هذه؟

الأستاذ أحمد انبيص: هذا يقودنا إلى فكرة المسؤولية المشتركة؛ أن المواطن يُسائل نفسه دائمًا عمّا يحدث حوله، يطرح الحلول ويشارك فيها. فالمدينة لنا جميعاً، وليس لأحد الحق في العبث بمخططها أو حرمان أهلها من فضاءاتها العامة.

جمال الهمالي اللافي : نعم يا أستاذ أحمد، فتحديد دوائر المسؤولية يدفع الجميع لتحمل أدوارهم. هذا التعاون هو ما يخلق النظام ويُسهم في تحقيق نهضة عمرانية شاملة. التخصيص الرشيد للحيز العمراني لصالح الناس هو جزء من مسؤولية مشتركة بين الملاك، المستخدمين، والدولة.

خاتمة:  هذا الحوار الثري يطرح قضية بالغة الأهمية تتعلق بحقوق الفضاء العام ومسؤولية كل الأطراف في الحفاظ على المدينة، ويُبرز الحاجة لتفعيل دور الدولة والمجتمع في تعزيز قيمة الفضاءات المشتركة.

الأربعاء، مارس 19، 2025

التعليم المعماري بين الشهادة والجودة: تأملات في التجربة الشخصية

بعض من المحاضرات التي ألقيتها
في أكثر من مناسبة على مدار سنوات ممارسة المهنة

جمال الهمالي اللافي

يشكل التعليم نقطة الانطلاق الأساسية في تشكيل المهارات والخبرات لأي مجال مهني. ومع ذلك، لا يُقاس النجاح في مجال التعليم بمجرد الحصول على الشهادات الأكاديمية، بل يرتبط بمستوى جودة التعليم وأخلاقيات التدريس التي تؤثر تأثيرًا مباشراً على تميّز الخريجين وقدرتهم على مواجهة التحديات المهنية.

لقد خضت تجربة شخصية تعكس هذه المفارقة بشكل واضح. خلال دراستي لقسم العمارة والتخطيط العمراني، تلقيت نصيحة من أحد أعضاء هيئة التدريس، الذي كان أيضًا مشرفي الأكاديمي. بتغيير مجال تخصصي، بحجة أنني "غير مؤهل" لدراسة العمارة. كانت هذه اللحظة بداية لمسار مليء بالتحديات، لكنها كانت أيضًا حافزاً لي لإثبات العكس. ومع مرور السنوات، أثبتت لي الممارسة المهنية أن التأهيل والتميز لا يمكن اختصارهما برأي فردي أو تقييم سريع، بل يعتمد الأمر على المثابرة والتطوير الذاتي.

الفرق بين التعليم والشهادة

يمثل الحصول على الشهادة الجامعية خطوة أساسية نحو الانطلاق المهني، لكنها ليست الهدف النهائي أو المؤشر الحاسم على الكفاءة. يمكن الحصول على الشهادات بطرق مختلفة، بعضها يفتقر إلى معايير الجودة والأمانة العلمية. لكن ما يصنع الفارق الحقيقي هو المناهج الدراسية وأسلوب التدريس. الطالب الذي يتلقى تعليماً يركز على الإبداع والتحليل والنقد البنّاء سيكون بلا شك أكثر جاهزية للمجال المهني مقارنةً بمن يكتفي بالدراسة السطحية بهدف النجاح الأكاديمي فقط.

أخلاقيات التدريس: العامل الحاسم

إلى جانب المناهج الدراسية، تلعب أخلاقيات عضو هيئة التدريس دوراً كبيراً في تشكيل تجربة الطالب. الطريقة التي يتم بها توجيه الطلاب، والتفاعل معهم بصدق واحترام، يمكن أن تزرع فيهم الثقة والطموح أو تُسبب العكس تماماً. إن الثقافة التعليمية التي تشجع الحوار المفتوح وتعزز التفكير الإبداعي تعتبر أحد أهم مقومات النجاح التعليمي.

التعليم في السياق العالمي 

        من خلال مقارنة بسيطة بين الأنظمة التعليمية في الدول المتقدمة والدول المتخلفة، نجد أن هناك فجوة شاسعة تتعلق بجودة التعليم وأخلاقياته. بينما تركز الدول المتقدمة على التعليم القائم على البحث والابتكار، تظل بعض الدول المتخلفة تعاني من التعليم التقليدي الذي يفتقر إلى الديناميكية والتجديد. هنا يظهر الفارق في التحصيل العلمي وأثره المباشر على الأداء المهني.

التعليم في الدول المتخلفة

عند الحديث عن "الدول المتخلفة"، فإن هذا التوصيف لا يأتي بغرض الإساءة بل لتوصيف حالة محددة تعاني فيها الدول من تراجع منهجي ومتكرر في مختلف المجالات، بما في ذلك التعليم. هذه الدول غالبًا ما تفتقر إلى الإرادة الحقيقية للتطوير والتنمية، وتعاني من نظم تعليمية متجمدة، تفتقد للتجديد والإبداع. مقارنة بالدول التي تسعى إلى التقدم وتبذل جهودًا كبيرة نحو التطوير، نجد أن الدول المتخلفة تكرس التخلف من خلال ممارسات وأيديولوجيات تعيق نهضتها، مما ينعكس على جودة خريجيها ومستوى كفاءتهم في المجالات المهنية.

استنتاجات شخصية ودروس مستفادة

تعلّمت من تجربتي أن العقبات التعليمية لا يجب أن تكون عائقًا أمام تحقيق الطموحات. بل على العكس، يمكن للتحديات أن تصقل المهارات وتوجهها نحو الأفضل. كما أدركت أهمية المطالبة بتوفير تعليم جيد يركز على جودة المناهج وأخلاقيات التدريس، فهي الأساس لبناء مجتمع مهني متماسك ومبدع.

 

العمارة: الفن الذي يجمع بين الجمال والعلم والهوية

المسكن الغدامسي

جمال الهمالي اللافي

     العمارة ليست الابنة العاقة للفنون الجميلة، ولا هي المرأة الناشز كما يصفها البعض. إنها الأم الحاضنة التي تمتد ذراعيها لتحتضن كل الفنون الجميلة والحرفية، بل وتمتزج مع العلوم الإنسانية والتطبيقية لتخلق كياناً فريداً من نوعه. العمارة هي المجال الإبداعي الوحيد الذي أذن به الخالق سبحانه وتعالى للإنسان أن يشابهه فيه من حيث الإبداع والخلق، دون المساس بقدسية الخلق الإلهي.

     كما نتأمل جمال خلق الإنسان وننبهر بملامحه الخارجية البديعة، دون أن ندرك ما يكمن خلفها من تعقيدات مذهلة كتفاعلاته الكيميائية ونبضات خلاياه الكهربائية، كذلك الحال مع العمارة. عندما ننظر إلى المباني، ننبهر بجمال واجهاتها وتفاصيلها الخارجية دون أن نرى المواد التي صُنعت منها، أو الهيكل الخرساني الذي يدعمها، أو الأسلاك التي تمدها بالكهرباء، أو أنابيب المياه التي تدعم حياتنا اليومية. العمارة، مثل الجسد البشري، تخفي خلف جمالها الكثير من العلوم والوظائف.

     ولكن الأمر لا يتوقف عند الجمال الظاهري؛ فالعمارة تحمل أيضاً رسالة عميقة تعبر عن تاريخ الشعوب وهويتها الثقافية. تماماً كما تميزنا ألوان البشر وأجناسهم، تُعرّفنا التفاصيل والأنماط المعمارية بأصالتنا وانتمائنا. إنها ليست مجرد بناء صامت، بل هي كتاب مفتوح يحكي قصص الأجداد ويرسم ملامح المستقبل.

     العمارة ليست سجينة في قفص الغيرة مع الفنون الجميلة، بل هي تاج الفنون الملكي. إنها تخلق حواراً بين الخطوط والألوان، وتمزج بين التقاليد والابتكار، وتجمع بين الجمال والوظيفة. على سبيل المثال، تحكي العظمة الكامنة في مسجد قرطبة في إسبانيا قصة التاريخ الإسلامي، بينما يجسد تاج محل في الهند مزيجاً من الجمال والحب والهوية الثقافية.

     وفي هذا الإطار، لا يجب أن نغفل أهمية الجانب التقني والعلمي للعمارة. فالخرسانة المسلحة، ونظم التهوية الذكية، وتقنيات التصميم المستدام كلها تبرز كيف تسهم الهندسة في إحياء العمارة وجعلها قابلة للعيش والدوام.

     كما قال المعماري لويس سوليفان" : الشكل يتبع الوظيفة."  هذا المبدأ يجسد دور العمارة ليس فقط كفن، بل كعلم يخدم الإنسان والمجتمع. وعليه، عندما نعشق جمال الواجهة، يجب أن نتأمل أيضاً العمق الذي يقف وراء هذا الجمال.

     لذلك، دعوة لكل قارئ: انظر من حولك. تأمل المباني التي تعيش فيها وتراها يومياً. خلف كل واجهة قصة، خلف كل جمال كمال. العمارة ليست مجرد مشهد بصري، بل هي حياة تنبض بالفن والعلم معاً.

الثلاثاء، مارس 11، 2025

الفصام الثقافي: أزمة الموروث والتبعية


جمال الهمالي اللافي

التناقض بين حب الموروث ونبذه عملياً، العاطفة إذا اجتمعت مع الجهل، تصنع حالة من الفصام الفكري، حيث يسود تناقض صارخ بين التمسك الظاهري بالموروث الثقافي والرفض العملي له. يظهر هذا التناقض جلياً في منشورات مواقع التواصل الاجتماعي التي تحتفي بالماضي الجميل من خلال الصور الفوتوغرافية واستعراض الصناعات التقليدية، بينما في الواقع نجد عزوفاً عن إحياء هذا الموروث أو دعمه بشكل فعّال.

الانبهار بالثقافات الوافدة دون نقد، في المقابل، نلاحظ انبهاراً كبيراً بالثقافات الوافدة إلى حد التماهي معها دون تقييم مدى توافقها مع قيمنا وشريعتنا. ينعكس هذا الانبهار في قبول العديد من العادات والممارسات التي لا تتماشى مع هويتنا ولا مع ظروف مجتمعنا وبيئتنا، بل يزداد الأمر سوءاً عندما يمتد التأثير إلى المعتقدات، مما يوقع بعض الأفراد في أفكار فاسدة، ظناً منهم أنها الحل لما يعانيه المجتمع من أزمات.

غيبوبة الهوية والخضوع للواقع، وصلت هذه الحالة إلى درجة حرجة، حيث تحول المجتمع من مرحلة الغفلة إلى الغيبوبة، ومن النفور إلى التماهي التام مع الممارسات التي تضعف الشخصية وتطمس الهوية. نحن نشهد مسخاً تدريجياً للشخصية الليبية وذوبانها في قاذورات الثقافات التي لا تحمل أية قيم أخلاقية أو حضارية تُذكر.

الأصوات الخيّرة ومسؤولية التغيير، ورغم هذا الواقع المؤلم، هناك دائماً أصوات خيّرة تعلو وتحاول إيقاظ الوعي المجتمعي، لتعيد إليه توازنه. لا خير في من وعى الحقيقة إن لم يسعَ إلى نشرها وإيقاظ الآخرين من سباتهم. إنها معركة صعبة، لكنها ضرورية لاستعادة المجتمع لهويته وبناء مستقبل حضاري قائم على القيم الأصيلة.

الخاتمة: دعوة للتفاؤل والعمل المشترك، المجتمع الليبي، رغم أزماته، يملك كل ما يحتاجه للنهوض إذا تمسك بجذوره الأصيلة وسعى إلى تصحيح مساره. الحل يبدأ من إحياء القيم الصحيحة والموروث الثقافي النافع، وليس فقط بالتباهي به. علينا أن نعمل جميعاً، كأفراد وجماعات، لبناء مستقبل يعكس هويتنا الحقيقية بعيداً عن الانحراف والتقليد الأعمى.

 

الأحد، مارس 09، 2025

المعماري والفنان التشكيلي: إبداع بين الحرية والقيود


جمال الهمالي اللافي

    الإبداع، بصفته مظهرًا من مظاهر الفكر الإنساني، يتخذ أشكالًا متعددة تختلف باختلاف السياقات والقيود التي تواجه المبدع. وبينما يجد الفنان التشكيلي حريته المطلقة في اختيار الأبعاد والحجم والأسلوب الذي يعكس أفكاره، يتعامل المعماري مع واقع معقد يتطلب الموازنة بين الإبداع الفني والمعايير العملية.

بين الفن المطلق والواقع المعقّد

    الفنان التشكيلي، وهو في أجواء مرسمه، يتحكم بشكل كامل في أدواته ومساحات عمله. فهو من يقرر حجم القماشة التي تحمل رؤاه، ويختار التفاصيل التي ستتكامل لتصنع عملاً فنياً فريداً يعبر عن ذاته. على النقيض، يواجه المعماري واقعًا مختلفًا تمامًا. فمساحته محددة، وأبعاده مرسومة مسبقًا بحدود الموقع الجغرافي، والطبيعة البيئية، والثقافة المحيطة.

الأرض، القاعدة الأساسية للإبداع المعماري

    لا يمكن للمعماري أن يصمم مشروعًا بناءً على أبعادٍ وهمية، على أمل إيجاد موقع يناسبه لاحقًا. فالتصميم المعماري يبدأ دائمًا من الأرض، من الموقع الذي يحمل خصوصيته وقيوده. قطعة الأرض ليست مجرد مساحة؛ إنها قصة مكتوبة بتفاصيل المكان: الأبعاد، الطبوغرافيا، المحيط العمراني، وحتى المناخ والهوية الثقافية.

    عندما يبدأ المعماري في التصميم، فإنه يفتح صفحة بيضاء، ينطلق من معطيات الموقع ومتطلبات المشروع. هذا الانطلاق لا يقتصر على الإبداع الفني وحسب، بل يشمل تكييفًا ذكيًا للواقع، حيث يتداخل الفن مع الوظيفة لخلق تصميم يعكس احتياجات المشروع وأهدافه.

العلاقة بين البيئة والمشروع

    لا يمكن فصل العمارة عن البيئة المحيطة. فالعمارة الناجحة هي تلك التي تتناغم مع الطبيعة بدلاً من مقاومتها. يجب أن يأخذ المعماري في عين الاعتبار العوامل البيئية مثل المناخ، والتضاريس، والموارد المتاحة. كما يجب أن تكون التصاميم تعبيرًا عن هوية ثقافية، تتناسب مع المجتمع الذي تخدمه.

التحديات المعاصرة في مهنة العمارة

    في الوقت الحاضر، يواجه المعماريون تحديات متعددة، أبرزها:

· ضغوط الاستدامة: الحاجة لتصميم مبانٍ تحترم البيئة، تستهلك موارد أقل، وتدوم أطول.

· التطور التكنولوجي: استخدام برامج التصميم المتقدمة والتقنيات الحديثة لتقديم حلول معمارية مبتكرة.

· التوازن بين الإبداع والوظيفة: تحقيق رؤية فنية دون التضحية بالاحتياجات العملية.

العمارة والتزام الواقع

    لا يمكن للمعماري أن يباشر مشروعًا بناءً على تصورات وهمية. فالعملية تبدأ دائمًا من أرض الواقع، من قطعة أرض محددة بموقعها وأبعادها وظروفها. يبدأ المعماري من هذه المعطيات، مُطوّعًا خبرته لإيجاد حلول تصميمة فريدة تلبي احتياجات المشروع وتتناغم مع البيئة المحيطة.

    العمارة ليست مجرد فن، بل هي التزام بالمحيط الذي يفرض حدوده ويُلهم إبداعها. لا يحترم المعماري عمله وحسب، بل يحترم مَن يخاطبه، وهذا يُوجب على من يتعامل معه أن يُقدّر معطيات الواقع ويتجنب إدخاله في متاهات الوهم التي تُفقد الاحترام المتبادل.

العمارة كفن ملتزم

    العمارة هي ذلك التوازن الدقيق بين الفن والواقع، بين الإبداع والمسؤولية. إنها تمثل حالة من الانصهار بين الجماليات العملية وحاجة المجتمع لتصاميم تخدمه وتُلهمه. وبذلك، تظل العمارة رمزًا للفن الملتزم الذي يلامس حياة الناس بشكل مباشر.

خاتمة

    العمارة ليست مجرد بناء أشكال أو تصميم مساحات، بل هي انعكاس حقيقي للتفاعل بين الفن والواقع. إنها مزيج من الإبداع الملتزم الذي يحترم الظروف البيئية والثقافية، ويعمل على تلبية احتياجات المجتمع بذكاء وبراعة. احترام المعماري لمهنته يتطلب التقدير المتبادل لمتطلبات الواقع، لأن العمارة ليست فنًا مجردًا، بل مسؤولية تُجسّد رؤية متكاملة تخدم الحاضر وتُلهم المستقبل.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...