أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، أبريل 16، 2025

رحلتي مع الكتابة: من المدرسة إلى العمارة



جمال الهمالي اللافي

لطالما كانت الكتابة جزءًا لا يتجزأ من رحلتي الشخصية والمهنية، نمت وتطورت معي لتصبح أداة للتعبير عن أفكاري ومشاعري. بدأت علاقتي بالكتابة كمهارة بسيطة في المدرسة الابتدائية عندما شجعني أستاذي جمعة ميلود القذافي بحفاوة كبيرة. أذكر جيدًا كيف كنت أتلقى جائزة عينية تتألف من كراسات وأقلام ومساطر بعد كل موضوع إنشاء أكتبه، وكانت تلك اللحظات تثير بداخلي سعادة طفولية عميقة. ومع ذلك، لم تكن تلك الجوائز هي الوقود الحقيقي لشغفي، بل كانت الكتابة بالنسبة لي نافذة أطل منها على أفكاري وأحلامي، وسبيلاً لأبث ما يجول بخاطري للعالم من حولي.

مع انتقالي إلى الدراسة الجامعية في قسم العمارة والتخطيط العمراني، وجدت في الكتابة وسيلة فريدة تعبر عن رؤيتي المعمارية. كنتُ أشارك في إعداد التقارير والبحوث والمقالات التي نُشرت في المجلة الحائطية بالقسم، والتي أصبحت منصة أولى لعرض أفكاري ومناقشتها.

خطوات نحو التخصص والإبداع

في بداية مسيرتي المهنية مع مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس عام 1990، كان لأسلوبي الكتابي دور بارز في قبولي بالمشروع. فبالإضافة إلى التقارير والمراسلات التي أعددتها، كنت أقدم مقترحات وأفكارًا ابتكارية تُبرز شغفي بموروث طرابلس الثقافي، وهو ما أتاح لي لاحقًا الانخراط في مجلة "آثار العرب". عبر هذه المنصة، بدأت أكتب عن رؤى معمارية تحاكي التراث وتحاول استقراء المستقبل. كانت هذه الكتابات بداية التحول نحو تخصص أعمق وإبداع أوضح.

لاحقًا، كانت رغبتي في توسيع دائرة الكتابة دافعًا لإطلاق صفحة أسبوعية بعنوان "الصفحة الرابعة" في جريدة الشط، حيث جعلتها صوت العمارة الليبية. ورغم مخاوفي من الالتزام بمحتوى غني يغطي صفحة أسبوعية، إلا أن التعاون المثمر مع الزملاء أثمر عن تجربة مميزة.

الكتابة كنافذة على المدن القديمة

لم تكن كتاباتي محصورة في الجانب المهني فقط، بل امتدت إلى عالم الأدب حيث وجدت في القصص القصيرة وسيلة مثالية لاستلهام روح المدن القديمة وسحرها المتأصل. من بين تلك الأعمال "روح المدينة" و"تأملات في مرآة غدامس"، حيث حاولت من خلالها التقاط جوهر الأماكن وتحويلها إلى مشاهد حية تنبض في أذهان القراء. هذه القصص لم تكن مجرد سرد، بل امتزجت فيها التجربة الشخصية والرؤية الفنية، مما أضفى عليها أبعاداً أكثر عمقاً وتأثيراً.

خلال عملي في مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة، استوحيت العديد من السيناريوهات من تجربتي مع طلبة المشاريع والدراسات العليا، ما أدى إلى إنتاج أشرطة وثائقية تحوّلت إلى أعمال سينمائية بارزة. كان من بينها الفيلم السينمائي "روح المدينة"، الذي عُدّ صياغة مبتكرة مختلفة عن قصتي القصيرة التي تحمل الاسم ذاته، وقد تم إنتاجه بالتعاون مع كاتب السيناريو المبدع محمد الغرياني ضمن جهود مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بالشراكة مع مؤسسة الخيالة. كما شهدت قصتي الأولى "بيت جدي"، التي كانت باكورة نصوصي الأدبية، تحولها إلى شريط فيديو وثائقي يحمل الاسم نفسه، مما فتح أمامي مجالاً جديداً لتوسيع التعبير عن التراث وإحيائه بطرق مبتكرة ومتعددة.

لاحقاً، جاءت مجلة "مربعات" كتعاون مع زملاء يشتركون معي في الاهتمام بالعمارة والتراث، ثم أطلقت مدونة "الميراث"، التي أصبحت منصة مميزة للنقاش حول مستقبل العمارة والحرف الفنية في ليبيا، جامعةً بين كتاباتي ومساهمات نخبة من الخبراء.

التحول نحو التأثير الأوسع

مع تطور التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي، بدأت كتاباتي تأخذ أبعادًا جديدة. عبر منتدى المهندسين العرب ومنصات مثل الفيسبوك وإنستغرام، تمكنت من إيصال أفكاري إلى جمهور أوسع ومشاركة رؤاي بشكل تفاعلي. كما تجاوزت الكتابة إلى تقديم محاضرات معمارية تلخص فيها تلك الأفكار، مما أضاف بُعدًا حيويًا لتجربتي.

الكتابة كرحلة مستمرة

تجربتي مع الكتابة ليست مجرد هواية، بل هي مسار مستمر يحمل بداخله رسالة للحفاظ على التراث وتعزيز الهوية الثقافية عبر العمارة. إنها دعوة لكل من يحمل قلمًا أن يجرؤ على استخدامه أداة للتغيير، وألا يتوقف عن التعبير عن رؤيته للمستقبل.

المدن التاريخية: دروس في العدالة الاجتماعية والبيئية

مدينة سوكنة التاريخية


جمال الهمالي اللافي

لطالما كانت المدن التاريخية شاهداً على عبقرية الإنسان في خلق بيئات تعكس قيمه الاجتماعية والبيئية. بين الأزقة الضيقة والأسواق المفتوحة، كانت هذه المدن نموذجاً يُحتذى به في توفير العدل والمساواة بين سكانها، مما جعلها مدناً للمشاة أولاً، قبل أن تسود هيمنة المركبات.

مدنٌ للمشاة، وليست للسيارات

في المدن التاريخية، مثل طرابلس،غدامس، غات وغيرها، نجد تصميماً يدعم أمن الإنسان وسلامته، حيث يمكن للأطفال والشيوخ السير بأمان من المنزل إلى المسجد، ومن الأسواق إلى المرافق الأخرى. هذه المدن تمثل بيئة متجانسة لا تحتاج إلى مركبات للوصول إلى الوجهات الأساسية. إنها مدن تعزز الراحة النفسية والاجتماعية لسكانها.

تحديات المدن المعاصرة

على النقيض، المدن الحديثة أضحت أسيرة التخطيط الذي يفضل المركبات على الإنسان. اللهاث وراء المخططات الغربية والعشوائية خلق أزمة في العدالة الاجتماعية والبيئية، حيث أصبح الإنسان يفضل الاعتماد على السيارة للوصول إلى منزله، خوفاً على ممتلكاته أو بسبب غياب البيئة الآمنة.

الحلول في التراث

لا يزال بعض المخططين المعماريين يترفعون عن استلهام الأفكار من المدن التاريخية، بحجة الابتعاد عن التقليد والسعي وراء الحداثة. لكن الحقيقة أن تجاهل قيم هذه المدن يؤدي إلى تعقيد حياة المجتمعات، ويُفاقم المشكلات الاجتماعية والبيئية. الدراسات الغربية نفسها بدأت تعترف بغياب العدالة في المدن الحديثة مقارنةً بالمدن التاريخية التي توفر حلولاً مستدامة وفعالة.

الخلاصة

المدن التاريخية تقدم لنا نموذجاً عملياً للحياة المتوازنة التي تجمع بين العدالة الاجتماعية والبيئية. الاستلهام من هذه المدن ليس تقليداً، بل هو فرصة لتصميم مدن أكثر إنسانية واستدامة، تعيد للإنسان مكانته في قلب التخطيط العمراني.

أوهام الحرية وأغلال العبودية: قراءة في تناقضات المجتمعات

تجذر المفهوم الصحيح للحرية ينعكس على معمار الشعوب وفنونها الحرفية وثقافتها


جمال الهمالي اللافي

من أبرز التناقضات التي تكشف عن حالة الفصام العميقة في المجتمعات التي تتسم بالجهل، ذلك التباين الجلي بين حبهم المُعلن للحرية وتوقهم إليها فكريًا، وبين استسلامهم المُمارَس للعبودية في حياتهم اليومية. تراهم يمجدون الحرية ويرفعون شعاراتها، بينما يغرقون في قيود العبودية، إلى درجة أنهم يقاومون أي محاولة لتحريرهم من أغلالها، وكأن هذه المحاولات تهدد بنسف قيمهم الراسخة.

لا تتوقف هذه الظاهرة عند المفاهيم النظرية أو السلوكية، بل تمتد جذورها إلى تفاصيل الحياة اليومية التي تعكسها المحسوسات قبل أن تتجذر في المعنويات. يظهر هذا التناقض بوضوح في اختياراتهم للطعام واللباس، وفي نمط تشييدهم للعمران الذي غالبًا ما يستنسخ أشكالًا خارجية دون أدنى فهم لطبيعة هذه التصاميم أو ملاءمتها لواقعهم، وحتى في تعاملهم مع الفنون الحرفية، حيث تطغى الرداءة على ما يُستورد ويقل فيها الإبداع نتيجة إهمالهم الاعتماد على أنفسهم في إنتاج هذه الفنون.

يزداد هذا التناقض حدة في المشهد الثقافي والأدبي، حيث يروّجون لتطلعات تبدو تحررية في الظاهر، بينما تكرس تصرفاتهم جوانب العبودية في سلوكهم، بدءًا من النفاق السياسي والاجتماعي وصولًا إلى خطابات التعصب الأعمى التي تُكرس الانتماءات القبائلية والمناطقية والجهوية والحزبية.

إن أثر هذا التناقض على السلوكيات والمعاملات اليومية يبدو جليًا؛ حيث تُظهر أبسط التعاملات مدى تشبثهم بقيود تستعبدهم، مفضلين هذه القيود على أي محاولة جادة لتوعيتهم بحقيقة واقعهم الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم. هذه القيود تشكل حاجزًا أمام أي تغيير جذري يمكن أن يُعيد بناء حياتهم على أسس أكثر وعيًا وكرامة. لذلك، فإن هذه الظاهرة تؤثر بعمق على هوية المجتمع، وتُلقي بظلال قاتمة على طبيعة تطلعاته المستقبلية، مما يجعله أسيرًا بين وهم الحرية وواقع العبودية.

الثلاثاء، أبريل 15، 2025

البيت رمز للذات: أكثر منه مجرد جدران وسقف

بيت جبلي مرتبط بمساحة مزروعة


جمال الهمالي اللافي

عندما نسمع كلمة "بيت"، غالباً ما تتشكل في أذهاننا صورة مألوفة لجدران متصلة، باب، نوافذ وسقف. لكن هل تكفي هذه الصورة لتجسيد معنى البيت؟ الحقيقة أن البيت يتجاوز مجرد كونه مكاناً للإقامة، فهو انعكاس صادق للذات. هو عالمٌ موازٍ للعالم الخارجي ولكنه يمثل قيمنا، أولوياتنا، وأسلوب حياتنا. بداخل هذا العالم الخاص، يمكن للبيت أن يصبح جنةً تنبض بالسكينة والراحة، أو يتحول إلى جحيمٍ يخنق ساكنيه. الفارق هنا لا يكمن في المظاهر فقط، بل في التناغم بين الإنسان وروحه داخل تلك الجدران.

البيت بين الجنة والجحيم

الفارق بين الجنة والجحيم في المنزل ليس في البناء أو التصميم فقط، بل فيمن يدرك كيف يحوله إلى مساحة متجددة تنبض بالحياة. للأسف، كثيرون يعيشون في بيوت تشبه الجحيم، إما بسبب قرارات خاطئة أو ضغوط اجتماعية تجبرهم على اختيار شكل معين للحياة يتعارض مع راحتهم الداخلية. ويظل البعض يكابر ويستمر في هذا النمط خوفاً من نظرة الآخرين أو تعليقاتهم.

تصميم يعكس الروح

عندما تصمم بيتاً لتسكنه، يجب أن يكون هدفك الأساسي هو خلق بيئة تدعم راحتك النفسية وتعكس قيمك وأولوياتك. التصميم ليس فقط لجذب الأنظار أو إبهار الآخرين، بل يجب أن يحقق التوازن بين الجمال الوظيفي والراحة الإنسانية.

البيت كأسلوب حياة

البيت ليس مجرد مبنى بأربع جدران وسقف؛ إنه انعكاس للذات بكل ما تحمله من تعقيدات وجمال. إنه مساحة تعبر عن هويتنا، واحتياجاتنا، وقيمنا، ويمثل الطريقة التي نختار أن نحيا بها. عندما نصمم منزلنا بعناية ونمنحه الحب والاهتمام، يتحول إلى مصدر للسكينة والانتماء.

لذا، من الضروري أن نسأل أنفسنا: كيف نريد أن نعيش؟ هل نبحث عن منزل مفعم بالهدوء والتناغم يدعم راحتنا النفسية؟ أم نسعى لبناءٍ فاخرٍ يُبهر الآخرين ولكنه يظل فارغاً من الداخل؟ الإجابة على هذا السؤال هي المفتاح لتصميم منزل يعكس عقلية أكثر نضجاً ووعياً، حيث يصبح البيت مكاناً نعيش فيه وننتمي إليه، وليس مجرد واجهة نسعى من خلالها لإرضاء الناس.

الرائحة المفقودة: ارتباط الحواس بهوية العمران

 

طريق الحلقة- مدينة طرابلس القديمة

جمال الهمالي اللافي

في سنوات الستينات والسبعينات، كانت الحياة تحمل طابعاً مميزاً يرتبط برائحة الأماكن التي عايشتها. سواءً في شارع طارق حيث المنزل، أو شارع ميزران حيث منزل الجد، أو حتى في الرحلات إلى مدن ومناطق ليبية مثل ترهونة موطن الأجداد، كانت لكل مكان رائحة تفوح بالانتعاش وتعكس جماليات العمارة فيه وتنوعها. تلك الروائح، بمزيجها الساحر، كانت تنسج علاقة عميقة بين البيئة المحلية وحواس الإنسان.

ومع منتصف السبعينات وما تبعها من عقود، بدأت هذه الروائح بالاختفاء تدريجياً، لتحل محلها رائحة واحدة مبهمة تشبه الاحتراق تنتشر في الجو، وهي ليست نتاج الشمس الحارقة. هذا التغير اللافت أثار تساؤلاتي حول طبيعة العلاقة بين حاسة الشم والتغيرات العمرانية، وحول العوامل التي قد تؤثر في قدرة الإنسان على استشعار خصوصية المكان عبر حواسه.

كيف تؤثر العمارة على الحواس؟

العمارة ليست مجرد تصميمات هندسية، بل هي انعكاس للبيئة والثقافة المحلية. المواد المستخدمة في البناء، مثل الطين أو الحجر، كانت تعكس طبيعة المكان وتساهم في خلق روائح مميزة تسكن الذاكرة. هذه الروائح ترتبط بالحياة اليومية وبهوية المكان، مما يجعل كل تجربة حسية مرتبطة بجوهر المنطقة وسكانها.

التحولات العمرانية وانعكاساتها على الحواس

التحولات التي شهدتها العقود الأخيرة، من اعتماد مواد البناء الحديثة إلى انتشار النمط العمراني العالمي، ربما ساهمت في تغييب تلك الروائح الأصيلة. هذا التوحيد في العمارة الحديثة قد أدى إلى فصل الحواس عن روح المكان، مما جعل المدن تفقد جزءاً من هويتها التي كانت تتميز بها.

الذاكرة الحسية الجماعية

لا يمكن فصل اختفاء الروائح عن فقدان جزء من "الذاكرة الحسية الجماعية". كانت هذه الروائح تجمع بين سكان الأماكن وتنقل إحساساً مشتركاً بالهوية المحلية، وعندما تتلاشى تلك الروائح، يصبح فقدانها جزءاً من فقدان الهوية الجماعية التي تربط الإنسان بمحيطه.

الأبعاد البيئية وتأثيرها على الحواس

التغيرات البيئية، مثل اختفاء النباتات المحلية أو التعديلات على طبيعة استخدام الأراضي، قد أثرت أيضاً على الجو الحسي للمناطق. الروائح كانت تعكس طابع البيئة الطبيعية، ومع اختفائها، افتقدت المجتمعات جزءاً من العلاقة العضوية مع بيئتها.

استعادة التواصل بين الحواس والعمران

لإعادة إحياء هذه العلاقة بين الحواس والبيئة العمرانية، ينبغي أن نعيد النظر في كيفية تصميم المباني واختيار موادها. يمكن التركيز على استخدام عناصر تقليدية تناسب السياق المحلي، وتحاكي التراث الثقافي والطبيعي للمنطقة، مما يعيد إحياء الاتصال العاطفي بين السكان ومحيطهم.

النظرة المستقبلية: المدن المتفاعلة مع الحواس

المستقبل يحمل فرصة لتعزيز هذا الترابط بين الحواس والبيئة من خلال تصميم المدن بطريقة تراعي التجارب الحسية للسكان. استخدام تصاميم تراعي البيئة المحلية وتوظيف مواد طبيعية قد يساهم في خلق أماكن تعزز من جودة الحياة وترتقي بتجربة الإنسان الحسية.

خاتمة: الدعوة إلى الحفاظ على الهوية

الارتباط الحسي بالمكان ليس مجرد رفاهية؛ إنه جزء أساسي من الهوية الثقافية التي ينبغي الحفاظ عليها. العمارة ليست فقط خطوطاً وهياكل، بل هي دعوة للعيش بوعي كامل، حيث تتفاعل الحواس مع البيئة لتعكس جماليات وروح المكان.

ذاكرة طرابلس المفقودة: هدم الهوية العمرانية وتوسع العشوائيات

مدينة طرابلس


جمال الهمالي اللافي

في ظل ما تشهده مدينة طرابلس من تغييرات عمرانية غير مدروسة، يبرز تحدٍ كبير يتمثل في عمليات الهدم الواسعة للمناطق التاريخية دون هدف واضح أو مبررات منطقية. المناطق التي كانت تشكل ذاكرة المدينة وأصالتها، مثل بلخير، ميزران، الظهرة، فشلوم، سيد خليفة، الهضبة، ورأس حسن، باتت مسرحًا للهدم العشوائي الذي يُفقد طرابلس تراثها ويحوّلها إلى كتل خرسانية بلا روح.

حيث لم تكن عمليات الهدم تستهدف مشاريع حديثة تُخطط لتطوير المدينة، بل كانت عبارة عن إزالة للمباني التاريخية والمعالم التراثية لصالح كتل خرسانية غير مدروسة معماريًا. هذا النهج حوّل بعض المناطق إلى عشوائيات مبعثرة، فاقدةً للتنظيم والجمال الذي كان يميزها، وألحق ضررًا لا يُعوض بالهوية الثقافية والعمرانية.

المناطق التاريخية: بوابة الذاكرة الجمعية

المناطق التاريخية مثل المناطق السكنية التي بنيت خارج أسوار المدينة القديمة أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والمناطق التي أسسها الاحتلال الإيطالي كمدينة الحدائق، هي ليست مجرد مواقع جغرافية بل تمثل النسيج الثقافي والاجتماعي للأفراد. هدم هذه المناطق التراثية لصالح كتل خرسانية غير مدروسة معماريًا يُعرض تاريخ المدينة لخطر النسيان ويهدد الروابط الإنسانية التي قامت على مدار سنوات بين سكانها. هذا النهج حوّل بعض المناطق إلى عشوائيات مبعثرة، فاقدةً للتنظيم والجمال الذي كان يميزها، وألحق ضررًا لا يُعوض بالهوية الثقافية والعمرانية.

التوسعة العشوائية للطرق

ضمن هذه السياسات غير المدروسة، ظهرت توسعة الطرق لصالح حركة السيارات، والتي أدت في الواقع إلى ازدحام مروري خانق خلال ساعات الذروة بدلًا من تحسين الحركة. هذه التوسعات لا تأخذ بعين الاعتبار احتياجات السكان أو التخطيط السليم، بل تزيد من الفوضى داخل المدينة.

غياب المخططات المدروسة وتوسع العشوائيات

مع تزايد أعداد السكان في طرابلس وحاجتهم للتوسع خارج المدينة، تم تجاهل وضع مخططات مدروسة لبناء مجتمعات جديدة تلبي احتياجاتهم. نتيجة لذلك، أصبحت الأراضي الزراعية المحيطة بالمدينة ضحيةً لهذا التوسع العشوائي الذي يفتقر إلى الخدمات الأساسية. هذا الغياب للتخطيط أدى إلى تكوين أحياء تفتقد التنظيم والبنية التحتية المناسبة.

الأثر على الترابط الاجتماعي والذاكرة الشعبية

هدم المناطق التاريخية بشكل عشوائي لا يُفقد المدينة معالمها فقط، بل يؤثر على جمال المدن وتناسق معالمها، مما يؤثر بدوره على وجدان سكانها. فالمعالم التي تحمل ذاكرة الشعب هي أكثر من مجرد مبانٍ؛ إنها رموز للهوية الجماعية وشاهد على الماضي. إلغاء هذه الرموز يؤدي إلى فقدان الروابط بين الأجيال، وإضعاف الصلة بين السكان وتاريخهم. التي كانت تتميز بها هذه المناطق. العلاقات اليومية التي جمعت سكان هذه المناطق لعقود تتلاشى، مما يُفاقم العزلة الاجتماعية ويؤدي إلى خسارة جزء أساسي من روح المكان وذاكرته الجماعية.

خطورة تصنيف المناطق التاريخية بـ"التخلف"

تصنيف المناطق التاريخية على أنها "متخلفة" يُستخدم بشكل غير مُبرر لتبرير هدمها، مما يُغفل الروابط الإنسانية والثقافية التي تُميزها. هذا النهج لا يهدف إلى تحقيق تطوير عمراني حقيقي، بل يؤدي إلى نمو عشوائي مُشوّه يعكس فوضى في التخطيط العمراني.

التوسع العمراني العشوائي أدى إلى تداخل المباني العامة والخدمية مع المجمعات السكنية بشكل يُخلّف تضاربًا واضحًا بين وظائف هذه المناطق. هذا التضارب يُزعزع النسيج الاجتماعي المتماسك ويؤثر على راحة السكان، خاصة مع الازدحام المروري الناتج عن تكدس السيارات في شوارع ضيقة لا يتجاوز عرضها أربعة أو ستة أمتار. هذه الشوارع، التي صُممت لمرور سيارة واحدة في اتجاه واحد، أصبحت تُستخدم لحركة مزدوجة غير منظمة، مما يتسبب في عرقلة مستمرة للسير.

إلى جانب ذلك، فإن استخدام الأرصفة ومداخل المنازل من قِبل مرتادي المباني العامة والخدمية أدى إلى انتهاك خصوصية السكان وزيادة الأعباء اليومية عليهم. المشهد اليومي يتسم بالفوضى، حيث تتحول الشوارع إلى ساحات للنزاعات الكلامية بين السائقين، إذ يحاول كل منهم المرور أولاً على حساب الآخرين.

الهدم ليس حلاً... بل فصل للروابط الإنسانية

عندما تهدم المعالم التاريخية أو تُغلق أحياء بأكملها أمام سكانها لتصبح مجرد مشاريع عقارية جديدة، فإن هذا الفعل يتجاوز حدود التنمية العمرانية ليصبح تعديًا على ذاكرة المجتمع وهويته الثقافية. تهجير السكان من هذه المناطق يقطع الجذور التي تربطهم ببعضهم البعض ويهدم العلاقات التي بنوها عبر عقود، ما يؤدي إلى فقدان جوهر العيش المشترك والمساندة الاجتماعية.

الحلول الممكنة: رؤية عمرانية شاملة

بدلًا من الاستمرار في هذه السياسات العشوائية، هناك حاجة ملحة لتبني رؤية متكاملة تُراعي احتياجات الحاضر والمستقبل:

  • إيقاف الهدم العشوائي: حماية المعالم والمناطق التراثية ووضع معايير صارمة للتعامل مع المباني التاريخية.
  • تخطيط مدروس للتوسع العمراني: إنشاء مخططات جديدة خارج نطاق طرابلس تحترم الأراضي الزراعية وتوفر خدمات أساسية للسكان.
  • التجديد الحضري المستدام: إعادة تأهيل المباني القديمة مع الحفاظ على طابعها التاريخي.
  • إشراك السكان: دمج السكان في عملية التطوير لضمان توافق التحسينات مع احتياجاتهم واحترام ذاكرتهم الجماعية.
  • تحسين الطرق والبنية التحتية: ضمان أن التوسعات في الطرق تسهم في تحسين الحركة بدلًا من تعطيلها.
  • إعادة تأهيل المناطق المتضررة: معالجة المناطق التي تحولت إلى عشوائيات وإعادة تصميمها بما يحترم النسيج الاجتماعي والهوية العمرانية.

رسالة ختامية: الحفاظ على الروح الثقافية للمكان

تراثنا العمراني هو أكثر من مجرد مبانٍ، إنه قصة أجيال وذاكرة شعب تستحق الاحترام والإبقاء. الحفاظ على المناطق التاريخية يُعد استثمارًا في مستقبل يُقدّر الوحدة والترابط بين أفراد المجتمع. علينا أن نتبنى رؤية عمرانية مستدامة تحترم الماضي وتحتضن المستقبل، لأن الروح الثقافية للمكان تستحق أن تبقى نابضة بالحياة.

إن السياسات الحالية تُهدد بتدمير هوية طرابلس وتراثها الثقافي، مما يفرض علينا إعادة التفكير في نهجنا العمراني. الحفاظ على المناطق التاريخية ليس رفاهية، بل هو مسؤولية تجاه الأجيال القادمة. يجب أن تكون طرابلس مدينة تحترم ماضيها وتخطط لمستقبل مستدام يوازن بين التراث والنمو العمراني.

 

العمارة الهلامية: بين ضياع الهوية وسعي المجتمع نحو الحداثة

مجمع سكني على الطراز الطرابلسي


جمال الهمالي اللافي

المقدمة:

العمارة ليست مجرد فن إنشاء المباني وتصميمها، بل هي عنصر جوهري يعكس هوية المجتمع وثقافته وتاريخه. إنها اللغة التي يتحدث بها الجيل الحاضر إلى الأجيال القادمة، وتنقل معها رسالة من القيم والتقاليد التي تشكّلت عبر الزمن. ومع التغيرات السريعة التي يشهدها العالم الحديث، نجد أن العديد من المجتمعات قد انزلقت نحو أنماط معمارية غامضة أو "هلامية" لا تحمل رؤية واضحة أو تعكس العمق الثقافي الكامن في جذور تلك المجتمعات.

هذا التطور يثير تساؤلات جوهرية حول الأسباب التي دفعت الأفراد والمؤسسات إلى تبني هذه الأنماط، والدور الذي تلعبه العوامل الاجتماعية والنفسية والتاريخية في تشكيل هذا الاتجاه. لفهم هذا التحدي المعماري، يجب علينا أن نستعرض تأثير الموضة، وسائل الإعلام، الرغبة في التفرد، وغياب التوعية المعمارية، إلى جانب الأبعاد الاقتصادية والسياسية التي تؤثر على اختيار الأنماط المعمارية السائدة.

العمارة ليست مجرد هياكل جامدة، بل هي تعبير حي عن التاريخ والمجتمع، وهي وسيلة لإيصال الثقافة إلى المستقبل. دعنا نستعرض بعض الأفكار التي قد تساعد في فهم هذا الاتجاه:

1. التأثر بالموضة المعمارية:

قد يكون السبب وراء انقياد المجتمع نحو العمارة الهلامية هو تأثير الموضة. فالمظاهر تلعب دورًا كبيرًا، ويبحث العديد من الناس عن تصاميم تبدو عصرية وحديثة، حتى لو لم تعكس هويتهم الثقافية. هذه البيوت قد تظهر جذابة للكثيرين بسبب استخدامها لبعض العناصر المعمارية المبتكرة التي قد تكون مُغْرية، ولكنها تفتقر للاحتواء الثقافي.

2. تأثير وسائل الإعلام والديكورات الحضارية:

قد نلاحظ أن وسائل الإعلام والتسويق العقاري تروج لهذا النمط بشكل كبير. حيث يستمر عرض البيوت الفاخرة التي تتمتع بمظهر عصري في الإعلانات والمجلات، مما يخلق تصورًا بأن هذه النماذج هي الأفضل وأنها تعكس نمط حياة متقدم. نتيجة لذلك، يميل المجتمع إلى تقليد هذه الأنماط بدلاً من البحث عن خيارات تعكس هويتهم الثقافية.

3. الرغبة في التفرد:

كثير من الأفراد يطمحون في الحصول على بيوت تميزهم عن الآخرين. النمط المغترب قد يُعتبر بمثابة تعبير عن التقدم والحداثة، وبالتالي، فهو شائع بين الأفراد الذين يريدون التميز، حتى لو كان ذلك يأتي على حساب هوية بلادهم.

4. السعي وراء الراحة والمرافق الحديثة:

بعض من هذه المنازل قد توفر مميزات تكنولوجية أو تصميمات تجعل الحياة اليومية أكثر راحة، مثل توزيع الغرف بطريقة تسهل الحركة، أو استخدام مواد بناء حديثة. لذا، قد تجد أن بعض الأشخاص يفضلون المظهر العصري والراحة على الجمال والهوية.

5. الجهود القانونية والتمويلية:

من الممكن أن هناك اعتبارات اقتصادية أو تمويلية تدفع المستثمرين نحو بناء هذه البيوت، لأنها قد تكون أقل تكلفه أو أسرع في البناء، مما يجعلها خياراً جذاباً لهم. إلى جانب ذلك، قد تكون هناك تسهيلات في الاستثمار البُنيوي تتمحور حول هذه الأنماط.

6. نقص التوعية والثقافة المعمارية:

من المهم أن ندرك أن هناك نقصًا في الوعي الثقافي المعماري بين شرائح واسعة من المجتمع. هذا يعني أن الناس قد لا يعرفون أو يقدرون القيمة الأعمق للعمارة التقليدية والقيم المرتبطة بها.

دعوة للتفكير:

الحوار حول العمارة ليس مجرد نقاش حول المباني، بل هو نقاش حول الهوية والثقافة والمجتمع ككل. دعونا نفتح أبواب النقاش حول مدى أهمية نقل الهوية المغربية والتراث الثقافي إلى الأجيال القادمة من خلال العمارة. يجب علينا أن نعي أن العمارة ليست مجرد هياكل، بل هي تعبير عن تاريخ وثقافة وهوية.

وأتمنى أن تساهم مجهُوداتكم في تعزيز هذه النقطة وزيادة الوعي بأهمية الإبقاء على الهوية المعمارية الليبية، والتركيز على الخيارات التي تعكس أعماقنا وتأريخنا الثقافي.

الخاتمة:

في النهاية، تظل العمارة جزءاً لا يتجزأ من الهوية الجماعية التي تجسد تاريخ وثقافة المجتمع. إن الحفاظ على الطابع المعماري الأصيل لا يُعدّ مجرد قضية جمالية، بل هو مسؤولية ثقافية تجاه الأجيال القادمة، تُعزز الارتباط بالتاريخ وتكرّس الهوية الوطنية. لذا، يجب أن نستمر في إثارة النقاش حول أهمية المعمار كوسيلة لنقل التراث الثقافي، وتوعية المجتمع بأهمية الدمج بين المعاصرة والتقاليد لتحقيق عمارة تُبرز قيمنا وموروثنا الأصيل. إن مسؤوليتنا اليوم تتطلب خطوات عملية تحافظ على هوية معمارية ليبية متجذّرة تُحتذى بها وتفخر بها الأجيال القادمة.

 

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...