السبت، نوفمبر 21، 2020

المفهوم الخاطيء لعصر الحريم والعودة إلى الماضي.

 


جمال اللافي

بعد إلقائي لمحاضرة بعنوان( نحو رؤية جديدة ومعاصرة لمفهوم المسكن الاقتصادي) وذلك في العام 1993 بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس. وكان خلاصتها الدعوة للعودة إلى بيت العائلة الذي يضم في رحابه الأجيال الثلاثة الأب والأبناء والأحفاد، كطرح بديل عن البيوت الاقتصادية المتعارف عليها في المشاريع الإسكانية والمعتمد على تكرار النموذج السكني والارتفاع الرأسي في البناء. 

https://mirathlibya.blogspot.com/2008/07/blog-post_2887.html

بعد انتهاء المحاضرة وخروجي من القاعة، خاطبتني زميلة معمارية مبدية تحفظها على هذا الطرح، قائلة بلهجة منفعلة: شن بتردنا لعصر الحريم!

لم أجبها في تلك اللحظة حتى لا أفتح بابا للجدل العقيم. 

ولكني لاحظت خلال السنوات التي تعقبها، أن الحديث عن الهوية المعمارية بصفة عامة والهوية بمفهومها الشامل، المتعلقة بمعاملاتنا وتعاملاتنا وما يرتبط بها من تطبيقات في كافة المجالات العلمية والفنية والأدبية، يقابل ذلك بتحفظ شديد هو أقرب للرفض المطلق مصحوباً أيضا بالقول: شن بتردنا للماضي. 

الخلاصة:

    عصر الحريم لم يوجد في الثقافة الإسلامية يوماً في أي دولة إسلامية قامت، منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مروراً بعهد الخلفاء الراشدين وانتهاءً بالخلافة العثمانية. والمقصود في تلك الأزمان بالحريم هم فقط نساء البيت أو القصر من الجدات والأمهات والعمات والخالات والبنات. والجواري تطلق على البنات الصغيرات في السن. وليس كما صورتها رسومات المستشرقين وأفلام هوليوود وربيبتها في تشويه صورة الإسلام السينما المصرية ومن بعدها السينمات العربية.

وكل امرأة متحجبة اليوم هي في حقيقتها تخبرنا بأنها حريمٌ عليها أن يكشف عنها الغريب الأجنبي. 

أما العودة إلى الماضي، فهي بلا شك العودة للزمن المُشرّف من تاريخنا الإسلامي، عصر الحضارة والمنجزات العلمية والفنية والأدبية.

        والهوية تعني بالضرورة التواصل مع منجزات هذه الحضارة، بتبني قيمها ومنطلقاتها. والتفاعل مع معطيات الحاضر بمتطلباته وتقنياته وأدواته. ولا تعني التقوقع أو الانسلاخ عن الجذور.


الأحد، نوفمبر 08، 2020

نظرة خاطفة على ترميم المباني التاريخية، من وحي تساؤلات مهندسة معمارية.

 


جمال اللافي

§   أنا مهندسة معمارية مهتمة بمجال الترميم، اتمني منك تزويدي ببعض المراجع و الكتب لمتابعة هذا المجال، علماً بأني درست هذا المقرر عندما كنت طالبة بقسم العمارة.

·        يمكنك كتابة (مراجع في ترميم المباني التاريخية) على محرك البحث وستظهر لك النتائج.

 

ولكن يمكن اختصار مجال الترميم في هذه النقاط:

·   عند ترميم أي مبنى يجب المحافظة على كل العناصر المعمارية والزخرفية الموجودة في المبنى وتعويض الفاقد منها بنفس المواد والشكل.

·   مراعاة عدم إزالة أي عنصر معماري أو زخرفي من مكانه بحجة إعادته فيما بعد، لأن وجود هذه العناصر والمفردات بموادها الأصلية وتقنية تنفيذها وتركيبها التقليدية وبروح الحرفي الذي وضعها في مكانها هو جزء من تاريخ المبنى الذي يجب عدم طمسه.

·   عند توظيف أي مبنى تاريخي يجب تحديد الوظيفة المناسبة قبل الشروع في ترميم المبنى وما يتطلبه ذلك من إزالة أو إضافة ضرورية لبعض الحوائط لتوسعة فراغ أو أداء الفراغ لوظيفة مستجدة.

·        وأخيراً استشارة كل من له علاقة بمجالات الترميم من جميع التخصصات قبل اتخاذ أي قرار. 


§        أنا مهتمة بجانب اختيار المواد المناسبة للترميم وكيفية اختيارها، سواء باستخدام مواد محلية او مواد مصنعة خارجاً.

·   اختيار المواد ينطلق من المواد الأصلية الموجودة في المبنى نفسه من خلال ما هو موجود منها لتعويض الفاقد. ويفترض عند ترميم أي مبنى أن يكون مصدر هذه المواد من صناعة الحرفيين الليبيين ومن مواد متوفرة في البيئة المحلية. مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك بعضا من مواد البناء والتشطيب استجلبت في الماضي من الخارج كالأخشاب والبلاط والرخام والحجر.

·   أهمية البحث والتقصي أولا عن إمكانية وجود حرفي ليبي قادر على إنجاز المطلوب بكفاءة عالية، قبل التفكير في استيراد أي مادة أو صنعة حرفية من الخارج.

وحيث أنه لا وجود حالياً للحرفيين الليبيين بالصورة المتعارف عليها وبالتالي لا وجود لصناعة حرفية محلية، مما يجبر على استيراد العديد من المواد الداخلة في عملية الترميم وأيضا العمالة الفنية الماهرة في مجالات الترميم من مصادرها الخارجية.

·   كذلك حسن اختيار مصدر المادة المستوردة من الخارج ومدى ملاءمتها من جميع الجوانب بما في ذلك شكلها ومواد تصنيعها وديمومتها، فهناك دول تشتهر بالغش في الصنعة.

منهجية التعاطي مع المدن والمعالم التاريخية

 


جمال اللافي

عند التعاطي مع مسألة الحفاظ على المدن والمعالم التاريخية، يفترض بمن يتحمل هذه المسؤولية مراعاة العديد من الجوانب المرتبطة بطرق إدارة المؤسسات المعنية بهذا الشأن، وطرق التدخل في أعمال الترميم والصيانة، ألخص بعضها في الآتي لتعميم الفائدة وتوضيح الرؤية:

1.  المفترض بالمعنيين بمجال الحفاظ على المدن والمعالم التاريخية ممن يقودون مؤسساتها أن يبادروا بالتواصل أولا مع كل من يعنيهم الأمر من المتخصصين أو من المنتفعين بالمكان، للتعرف على الأقل على وجهة نظر أخرى مختلف أو متفقة،قبل اتخاذ أي إجراء ولتوسعة مداركهم المعرفية في هذا المجال قبل وضع أي تصور عام لإدارة مثل هذه المؤسسات.

2.  أهمية تنظيم العروض (محاضرات متخصصة)المرتبطة أولا بالدراسات التخطيطية التي يفترض بها أن تسبق الدراسات الهندسية والتاريخية والاجتماعية قبل القيام  بالتدخل في ترميم وصيانة وتوظيف أي مبنى تاريخي. وذلك لتفهم احتياجات كل منطقة داخل المدينة التاريخية وسبل تنشيطها والتوزيع العادل لهذه الأنشطة بين مناطق هذه المدينة حتى يتم إحياؤها جميعا وضمان نجاح أي مشروع يقام في كل منطقة من مناطقها.

3.  أهمية تواجد المدير العام للمؤسسة واللجنة الإدارية وكافة العاملين من مختلف التخصصات بهذه المؤسسة عند تنظيم هذه العروض، حتى ينتشر الوعي وتتبادل الأفكار، إلى جانب استضافة أصحاب الخبرة والاختصاص ممن تمنعهم ظروفهم من الالتحاق بالعمل بهذه المؤسسة ولا يرون مانعا من تقديم استشاراتهم متى دعت الحاجة إلى ذلك.

4.  أهمية إجراء حلقات النقاش الدورية بين الإدارة والعاملين لتذليل الصعاب وتفهم وجهات النظر المختلفة ولتلافي الأخطاء وتدارك ما فات.

5.  تجنب آفة الاعتداد بالرأي الشخصي من طرف المسؤولين أو التعاطي مع مجموعة منتقاة على أساس المحاباة، يُغض فيها النظر عن مدى خبرتهم بمجالات الحفاظ على المدن التاريخية. أو كفاءتهم المهنية على وجه العموم، مما يضر بمصلحة المؤسسة من خلال مساهمتهم في اتخاذ القرارات الارتجالية التي لا تستند إلى أي منهجية علمية فيما يتعلق بطرق وآليات وأدوات التعاطي مع المدن التاريخية ومعالمها المعمارية والعمرانية.

6.  أهمية إشراك المؤسسات الأخرى ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بمجالات الحفاظ على المدن التاريخية في اتخاذ القرارات التي تخصهم.

7.  أهمية إشراك سكان المدن التاريخية وإعلامهم وتوعيتهم بكل إجراء قبل الشروع في تنفيذ أي إجراء يمس مدينتهم وحياتهم. كذلك تحفيزهم بالحوافز التشجيعية فيما يتعلق بالتزامهم بآليات صيانة المعالم المعمارية التي يشغلونها وسبل الحفاظ على قيمتها التاريخية.

وللحديث بقية

الخميس، سبتمبر 10، 2020

وهم المعاصرة وثقافة الهدم

 

حوش قنابة- مدينة طرابلس القديمة


جمال اللافي

 

انطلاقا من قناعة، أن التأصيل للعمارة المحلية:

·   لا يعني التقوقع في الماضي، بقدر ما هي سيرورة في التاريخ، لا تتراجع إلى الخلف ولا تتوقف عند نقطة ولا تنحرف عن المسار. فهي مرتبطة بجذورها في الماضي وتتفاعل مع معطيات الحاضر، سواء تعلق الأمر بانفتاح الفكر المعماري على كل الاتجاهات المعمارية المعاصرة في العالم، أو بمواد البناء وتقنيات الإنشاء المستجدة، أو بما يستجد على الناس من حاجات ومتطلبات.

 

·   لا يرفض التطور( لا في الأشكال والتفاصيل، ولا في مواد البناء وتقنيات الإنشاء، ولا في التوزيع الفراغي للمباني)، فالتطور أمر حتمي ولا مفر منه، فهو ينبع من الفطرة البشرية، ولكنها تخطو خطواتها الثابتة وفق أصول وقواعد تضبطها وتحدد مسارها في الاتجاه الصحيح، الذي يبني على ما قبله ولا يهدم.

 

يمكن هنا الخوض في الحديث عن مفهوم المعاصرة من حيث اعتباره ظرف زمان من جهة ومن جهة أخرى حالة فكرية.

فالمعاصرة تعني الفعل في الزمن الحاضر. وكل فعل حاضر بالضرورة يبتعد بمرور الساعات والأيام والأعوام من ظرف الزمان الحاضر ليدخل في ظرف الزمان الماضي، في دورة لا تنتهي إلى قيام الساعة.

لهذا فالمعاصرة كفعل إبداعي في حقيقتها حالة حاضرة كزمن ورؤية فكرية أصيلة عندما تتولد من معطيات بيئية واحتياجات فعلية مستجدة للمجتمع المستهدف بها طرحاً ومنتوجاً مادي.

واختصاراً للموضوع سنسقط مفهوم المعاصرة على المسكن الليبي المعاصر. وهنا أمر يغيب عن عامة الناس يتعلق بتصميم المسكن. فلا يفرقون بين المسكن الذي تتوفر فيه شروط المحلية إلى جانب المعاصرة. والبيت الاستعراضي أو المستورد بحذافيره الذي لم يراع فيه المصمم أي اعتبارات تتعلق بالنواحي التالية:

1.     الخصوصية السمعية والبصرية:

·   بين أهل البيت والجيران، من حيث المواد المستخدمة في البناء التي لا تحقق العزل الصوتي. أو في تصميم مساحات وظيفية مفتوحة على إطلالة أنظار الجيران، فلا يمكن استعمالها كمساحات للجلوس خارج جدران البيت في الشهور المعتدلة أو في الصيف الحار.

·        وبين الضيوف وأصحاب البيت.

·        وبين حجرات النوم (التي تتطلب الهدوء) والمعيشة التي يكثر فيها صخب العائلة وضجيج التلفاز.

هنا نتحدث عن غياب الراحة والاستقرار والسكينة. وقصور في كفاءة التوظيف والاستعمال.

2.     الظروف البيئية المناخية:

فنجد المصمم يكثر من النوافذ الكبيرة وأبواب الشرفات الزجاجية التي تحتل كامل الحوائط دون ساتر لها من أشعة الشمس. ودون اعتبار لخاصية الزجاج الذي يسمح بدخول أشعة الشمس الساطعة التي تزعج النظر، وفي المقابل لا يسمح للحرارة المتولدة عنها بالخروج، مما يستدعي استخدام المكيفات بطاقة عالية لتبريد البيت واستعمال السواتر والكاسرات لحجب أشعة الشمس.

هنا نتحدث عن انعدام الراحة الحرارية وزيادة كلفة تنفيذ البيت ومصاريف توليد طاقة التكييف اليومية (عدم مراعات الكلفة وزيادة الأعباء الاقتصادية) بالإضافة لما يتسبب فيه التكييف الصناعي من مخاطر صحية.

3.     مواد البناء المتوفرة بالسوق المحلي وتقنبات إنشاء مكلفة:

فيضع المصمم مواد تشطيب لا وجود لها في السوق المحلي وتستعصي على صاحب المشروع استيرادها على حسابه، لوجود عوائق مادية أو خلافها. إلى جانب استخدام تقنيات إنشاء مكلفة لا تتوفر العمالة الفنية القادرة على تنفيذها بغير نظام الهيكل الخرساني الذي يستهلك كميات كبيرة من الاسمنت والحديد.

4.     كفاءة المبنى من حيث الاستعمال والوظيفة:

فيصممون فراغات ضائعة مهمتها الوحيدة إبراز جماليات الكتلة أو إحدى الواجهات. أو تصميم فراغات أساسية كحجرات النوم مثلا بمساحات إما صغيرة بحيث لا يمكن تأثيثها بكامل عناصر التأثيث المطلوبة، أو تكون بمساحات كبيرة يصعب ملؤها بعناصر التأثيث، أو تكون في جميع حوائطها فتحات لنوافذ طولية أو أبواب كبيرة فلا يمكن وضع عناصر التأثيث في أماكنها.

5.     اعتبارا ا للهوية المحلية والثقافة الإسلامية للتصميم واختلاف الطابع المعماري بين مدينة وأخرى وبيئة وأخرى:

حيث يقوم المعماري بتصميم أشكال رغم كل ما تحمله من جماليات ونقاء في تشكيلها المعماري، إلا أنها لا تنتمي إلى بيئة المكان المحلية التي صممت لها بتنوع تضاريسها ومناخها بين منطقة وأخرى. وخصوصية المجتمع وعاداته وتقاليده. إضافة إلى أنها لا تستمد مقومات حضورها في الكتلة المعمارية من المفردات المعمارية والزخارف المحلية الأصيلة، لا بالنقل الحرفي ولا بالاستنباط المعتمد على التجديد غير المُخل، حتى يمكن تعريفها وتحديد البيئة التي نشأت فيها وتنتمي إليها.

وأقل وصف لها أنها عمارة دولية تنتهج البساطة في تصميم الكتلة وعناصرها وبياض لونها، تضعها في أي بيئة فلا تشكل فارقاً، بقدر ما تطرح هذه الإشكاليات عندما تصطدم بمسألة الخصوصية الثقافية والاجتماعية والظروف البيئية والمناخية والحالة الاقتصادية للمجتمع ونذرة مواد البناء والتشطيب وغياب التقنيات الإنشائية والعمالة الفنية.

أشكال تبهر العين تعتمد على تمكن المعماري من برامج الإظهار المعماري. وعند المباشرة في التنفيذ تبدأ المشاكل في الظهور وتبدأ معها التعديلات في تصميم الخريطة لتتوافق مع الواقع. يعقبها تقديم التنازلات عن العديد من مواد البناء والتشطيب التي استعملها المعماري لتحقيق عنصر الإبهار.

 

ومن خلال هذا الاستعراض يمكننا تحديد خصائص العمارة المحلية للمسكن بتلك التي تأخذ في اعتبارها النقاط التي تم طرحها سالفا.

الجمعة، يونيو 26، 2020

بيت القادة لا بيت العبيد




جمال اللافي

راودتني هذه الأيام رغبة شديدة بإعادة إدخال خريطة معمارية صممتها ورسمت مساقطها الأفقية على الورق في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ونقلها على برنامج الرسم المعماري (SketchUp)، لأقوم باستكمال ما بدأته فيها وتحويل المساقط الأفقية إلى كتلة معمارية وواجهات. ومن تمّ إعادة النظر فيها وتعديلها من وجهة نظر جديدة بعد مرور كل هذا الزمن على تصميمها الأولي.

هذه الخريطة أعادتني بدورها إلى بداياتها في نفس الفترة، حين اتصل بي الفنان التشكيلي علي العباني، ليخبرني أنه قام بتزكيتي عند أحد أركان اللجان الثورية من أبناء مدينة ترهونة كان يتولى منصب مدير الشؤون الإدارية والمالية بمكتب الاتصال باللجان الثورية واسمه حسين السويعدي. وذلك لتصميم خريطة معمارية لمسكن سيخصص لقائدهم بمدينة ترهونة، تزامناً مع حملة تخصيص بيت له في كل مدينة.

حيث رأي هذا العضو باللجان الثورية، وربما كان ما خلص إليه هو نتاج حوار دار بين مجموعة من قيادات المدينة إلى جانب الفنان التشكيلي علي العباني (وفي قناعتي أنه صاحب الفكرة)، أن قائدهم كان يرفض هذه البيوت التي تقدم له في كل مدينة ويقوم بإهدائها إلى أحد زبانيته بتلك المدينة أو غيره. فتفتق ذهن هذه المجموعة على بناء مسكن بالمزرعة التي تم تخصيصها له بمنطقة الخضراء، بحيث يتمتع هذا البيت بمواصفات العمارة المحلية الريفية لمدينة ترهونة ويتم تصميمه الداخلي بعناصر تأثيث مستوحاة مما تمتاز به هذه المدينة من عناصر تأثيث ومفروشات. كذلك زراعة حديقته بأنواع النباتات العطرية والأشجار المثمرة التي تمتاز بها أيضاً مدينة ترهونة.

تحمست للفكرة بمجملها لقناعتي الشخصية أنها ستكون الفرصة التي انتظرها لتحقيق رؤيتي للعمارة المحلية بهذه المدينة مدعومة بكل الإمكانيات المادية والتقنية المطلوبة والخبرات الفنية التي ستجند له، في زمن شُحّت فيه الفرص والإمكانيات معاً. والتقيت بهذا العضو في الفندق الكبير صحبة الفنان التشكيلي علي العباني، ودار حوار حول الموضوع، وأبديت استعدادي التام لتحقيق هذه الفكرة بالصورة المطلوبة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى لي.

مضت أيام على ذلك اللقاء وبعد زيارتي للمزرعة المخصصة لهذا المشروع بمنطقة الخضراء، جلست فيها على طاولة التصميم، حتى وصلت إلى النتيجة التي تمكنني من مناقشتها مع ذلك العضو. التقيت به في مكتبه بشارع عمر المختار، وأخبرته بأنني قد وصلت إلى النتيجة المطلوبة، الأمر الذي يستدعي الحديث حول الأمور المالية المتعلقة بأتعاب التصميم( متجاهلا نصيحة الفنان التشكيلي علي العباني بعدم الخوض في الأمور المالية وتقديم المشروع كهدية لقائدهم، الأمر الذي سيتيح لي فرصة طلب أي شيء منهم مستقبلا قد يكون مجزياً لي أكثر من ثمن الخريطة المعمارية). وكان موقفي هذا نابعاً من عدم رغبتي بالتورط معهم في تعاملات مستقبلية ليس لها علاقة بمجالي المعماري، إلى جانب اعتبار أن التنازل عن حقي المادي لإرضاء قائدهم أو أي مسؤول منهم عني هو بمثابة سقوط بالنفس في منحدر التزلف والتسول على موائدهم.
                     رد هذا المسؤول مُستهجناً: كيف!... هذا القائد ولا يصح أن تطلب مقابلاً على خدمة أُتيحت لك الفرصة لتقدمها له.
         فأجبته: الأخ القائد يملك الملايين من الأموال والسيارات والبيوت ومتزوج ولديه أبناء. أما أنا فلا أملك منها شيئا. والتصميم المعماري هو مصدر رزقي الوحيد. وأنا لا أطالب بغير حقي.
                     ابتسم، ثم سألني: كم تريد سعراً لهذه الخريطة؟
                     ذكرت له السعر المحدد لهذه الخريطة.
                     فأجابني: هل سيدفعها نقداً أم بشيك مصدق على حسابي في المصرف.
         فكان ردي: بشيك مصدق باسم مكتب الميراث للأعمال الهندسية. وحين سيتم تحويل المبلغ سأباشر بتسليم الخريطة المعمارية لكم، في حالة لم تكن هناك أي ملاحظات عليها.

انتظرت فترة طويلة تجاوزت السنة دون أن استلم المبلغ المطلوب، وبدوري لم أُسلّم في المقابل الخريطة المعمارية. حتى اتصل بي يوماً من مدينة ترهونة ابن خالتي محمود الشوشي (هما من نفس القبيلة)، ليخبرني أنهم يريدون هذه الخريطة، وأن المبلغ سيصلني، وهو الضامن لذلك.
فكان ردي عليه: سأسلمك الخريطة مادمت ضامناً لحصولي على اتعابي. وفي حالة لم تصلني هذه الأتعاب فسيكون ذلك على مسؤوليتك.
أستلم الخريطة. ولم استلم اتعابي حتى يومنا هذا.

          اليوم وأنا أرى حال مدينة ترهونة وأهلها المزري، وأين وصل بهم الحال، تذكرت هذه القصة، وتساءلت: ماذا لو استلمت حقي في وقتها. ونُفّذت هذه الخريطة كما هو مرسوم لها، مستثمرين الإمكانيات المادية والطبيعية والبشرية وتقنيات ومواد البناء المتاحة بهذه المدينة، التي ستسخر لتنفيذ هذا البيت، كيف كان سيكون تأثير هذا المشروع على مستقبل المدينة وأهلها... بالتأكيد ستكون:
     انطلاقة على منواله يحتذي بها أبناء المدينة في تصميم بيوتهم (بيوت القادة لا العبيد) ومشاريعهم العمرانية الأخرى.
      المدى الذي ستتغير به الكثير من معالم مدينة ترهونة وتحسين بيئتها العمرانية.
     حجم الفرص التي ستتولد عنه لتحسين أوضاع أبناء المدينة المعيشية من خلال فتح أبواب عمل مرتبطة بمجال البناء وملحقاته.
      جعل مدينة ترهونة نموذجاً تحتدى به باقي المدن الليبية.

قد يسهل على المسؤول الليبي الفاسد والبطانة المحيطة به أن يسرق جهد الآخرين وحقهم المادي. ويصعب عليه أن يكون له أي إسهام على أقل تقدير في إعمار مدينته وإصلاح شؤون أهلها ورعايتهم بما يستوجبه الواجب وصلة الأرحام.

كلمة حق تؤلمني كثيراً، وآلمتني أكثر حين سطّرتُها، قبل غيري من أبناء هذه المدينة. ولكن مرارة الآلام حتماً ستوقظ يوماً ما جيلاً سيأتي، يعرف لهذه المدينة حقها عليه، فيعيد إعمارها بالنفوس الخيّرة والقيم الفاضلة قبل إعمارها بالمباني المُشيّدة. فبالأخلاق تتحرر النفوس من ربقة العبودية لغير الله سبحانه وتعالى وبها تعمر المدن وتزدهر الحرف والصناعات والفنون، ويعم السلام والأمن في ربوعها والأمان بين أهلها وجيرانها.

لمدينة ترهونة بعون الله مع المستقبل فرجاً كبيراً وخيراً كثيراً. فما سقطت أمة، إلاّ وآلمت أحرارها. فأعقب سقوطها نهضة عظيمة.



الخميس، يونيو 18، 2020

نظرة على عمارة مدن البحر المتوسط

مما لا شك فيه أن هذا المبنى يتسم بالبساطة والجمال. ولكن هل يمكننا تحديد هويته؟



جمال اللافي

عمارة المدن المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط في عمومها وبلا إستثناءات إسلامية التأثر. وهي في بساطة تكويناتها وبياض سطوحها مثلما نهلت من بعضها البعض إلاّ أنها تمايزت عن بعضها في تفاصيل مفرداتها المعمارية والزخرفية ما بين الإطناب والتبسيط. كما تمايزت هذه المدن في فترة الحكم الإسلامي بتعدد ألوان سطوح مبانيها وتنوع تفاصيل مفرداتها المعمارية والزخرفية بما يعكس التمايز في دياناتها وشرائعها.
فكان بذلك اللون مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بشريعة أو عقيدة أصحاب كل بيت من بيوتها وكل مبنى من مبانيها. ولم تخضع حتى وقت قريب العهد هذه الألوان لذوق صاحب البيت أو مالك المبنى، أو لفكرة توحيد اللون في هذه المدن تبعا للعقيدة المسيطرة أو للون الأزرق باعتباره لون هذه البحيرة المتوسطية أو لون سمائها، متجاهلين بذلك (مثلاً) اللون الأخضر باعتباره لون طبيعة أراضيها السائدة، أو الأصفر باعتباره لون شمسها الساطعة طوال أشهر السنة.

مع انتشار ظاهرة الاقتصاد السياحي في منتصف القرن العشرين وسقوط الرمزية العقائدية في اختيار ألوان سطوح المباني ومفرداتها المعمارية والزخرفية، وذلك يعود لسببين جوهريين وهما:
·        انحسار المد الإسلامي على شعوب المنطقة بعد سقوط آخر معاقل الإسلام في الأندلس.
·   التغريب الثقافي الذي واكب احتلال الشعوب الاسلامية من طرف الدول الغربية وهيمنتها على المنطقة لعقود طويلة عسكرياً وإلى يومنا هذا سياسياً وتعليمياً وثقافياً.
انتشر اللون الأزرق وطغى على باقي الألون في طلاء المفردات المعمارية من أبواب وشبابيك وقباب في مدن تونس واليونان بشكل ملفت للنظر. بينما احتفظت العديد من المدن الأخرى بحالة التمايز اللوني تبعاً للعقيدة السائدة. وكانت المدن الساحلية في ليبيا الأكثر تمسكاً بثقافة اللون الأخضر إلى عهد قريب.

استلهم العديد من المعماريون الغربيون المعاصرون معمارهم المعاصر المعتمد على نقاء الكتل وبياض السطوح من العمارة التاريخية لهذه المدن، متجاهلين صرخة الحداثة وما أعقبها من صرخات الثورة على عمارة هذه المدن التاريخية والانطلاق بالعمارة من الصفر. وأضحى تحديد الهوية المعمارية لهذه التصاميم وعلاقتها بالبيئة الثقافية لكل مدينة متوسطية رهين حالتين:

الأولى مرتبطة بلون السطوح والعناصر المعمارية وذلك على هذا النحو:
·   لو طليت هذه العناصر باللون الأزرق وسطوح المباني الخارجية باللون الأبيض فسيتبادر إلى الذهن أن هذا المبنى موجود في اليونان أو تونس مع ترجيح ضعيف أنها موجودة في فرنسا.

·   أما إذا طليت هذه العناصر باللون البني وسطوح المباني الخارجية باللون الأصفر فستذهب الترجيحات المؤكدة إلى إيطاليا ثم إسبانيا وبصورة غير مؤكدة إلى ليبيا والمغرب.

·   وفي حالة طليت هذه العناصر باللون الأخضر وسطوح المباني باللون الأبيض فمن المؤكد أن المبنى موجود في ليبيا وتأتي في المرتبة الثانية إيطاليا ثم إسبانيا.

ومن هنا نستنتج مدى تأثير ثقافة اللون على الصورة الذهنية لموقع المبنى وهويته المعمارية. والاستثناءات موجودة بصورة محدودة في كل مدينة متوسطية تم ذكرها أو لم يتم التطرق إليها بالذكر.

وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى وهي الثانية في مسألة تحديد هوية المبنى بين المدن المتشابهة في ألوان مبانيها، وهي تلك التفاصيل المعمارية والزخرفية المتعلقة بالمشغولات الخشبية كالأبواب والنوافذ وعناصر التأثيث، والمشغولات الزخرفية المعدنية المرتبطة بحديد الحماية، بالإضافة إلى الأعمال الجصية التي تدخل في زخرفة الأسقف والحوائط. فهي التي تُضفى خصوصيتها على كل مدينة من المدن المتوسطية وكل بيت من بيوتاتها تبعا لعقيدة الساكن وثقافة المدينة. وما يحدث اليوم من تجاوز لهذا الأمر يعود لمسألة انتفاء هذه الخيارات من انتمائها لثقافة العقيدة، والتماهي مع ثقافة التقليد المرتبطة بالتبعية  أو التأثر بثقافات الدول المستعمرة سواء كانت عن وعي وإدراك أو عن جهل معرفي.

إلغاء هذه التفاصيل المرتبطة باللون والزخرفة من حسابات المعماري المعاصر في تصاميمه لا يعبر عن محاولة للنأي بنفسه عما يسميه استنساخ ولصق لهذه العناصر والتفاصيل، إنما يعني ذلك أنه يفقد تصاميمه تلك الخصوصية التي تميز هوية المبنى وموقعه من رقعة هذا العالم الممتد. كما يفقد المبنى تواصله مع التاريخ، ليرمي به في منحدر الحداثة التي دعت قبل سقوطها المدوي إلى القطيعة مع الماضي (وهي تستهدف به بالدرجة الأولى ماضي الأمة الإسلامية) والانسلاخ من الهوية الثقافية المرتبطة بالعقيدة والانطلاق من نقطة الصفر (التي تعني بداية موجة الاحتلال العسكري وتوابعه التعليمية والثقافية)، التي وضع منظروها الغربيين أساساتها واتجاهاتها ومبادئها وعناصرها، وبالتالي سقوط المعماري (المسلم) من حيث يعلم أو لا يعلم في مطب التقليد المقرون بالتبعية الذي يدعي الترفع عنه.

وهنا يمكننا القول، من حيث المبدأ، قد نُقر من حيث المبدأ أن من حق هذا المعماري أن لا يصبغ عمارته بهويتها التي تعبر عن البيئة التي صممت لها، فهذا شأنه الخاص مادامت قوانين الدولة وتشريعات مبانيها تقر له بذلك. ولكن في مقابل ذلك لا يحق له أبداً الادعاء بأنه يقدم طرحاً معاصراً لعمارته المحلية بمجرد طلاء عناصر مبناه باللون الأخضر. فاللون هو أحد العناصر التي تشكل هوية المبنى وليس كل ما فيه. فاللون الأخضر منتشر في العديد من المدن المتوسطية بغض النظر عن اللون المسيطر على تلك المدينة أو عقيدة ساكنها.

ولا يفوتني هنا الإشارة إلى أن تفاصيل بعض العناصر المعمارية كفتحات النوافذ في مساحتها التي تتسع أو تضيق طولاً وعرضاً تبعاً للظروف المناخية والمؤثرات الاجتماعية، بين بيئة تبحث عن الحماية من أشعة الشمس الساطعة وارتفاع درجات حرارة الجو، والبحث عن الخصوصية. وبيئة أخرى باردة- في غالب فصول السنة- تبحث عن الدفء المفقود، ولا تضع اعتباراً للخصوصية في جميع الأحوال. بل وصل الأمر بالعمارة الأوروبية المسيحية الاتجاه إلى زيادة رقعة المساحات المفتوحة (النوافذ) من حيث العدد في الواجهة الواحدة وأبعادها دون مراعاة لمسألة سطوع الشمس وارتفاع درجات الحرارة في الدول المتوسطية المقابلة للشاطئ الأوروبي ضاربين بالخصوصية عرض الحائط السميك.

كذلك لا يعني الانفتاح على الأفنية والاتجاه بفتحات المبنى إلى الداخل أننا اكتفينا بهذا الحل للتعبير عن انتماء المبنى لعمارته المحلية. فهذه أيضا من القواسم المشتركة لعمارة مدن البحر المتوسط وغيرها من العمائر التاريخية والمعاصرة.

وأخيرا/
أن مرد هذه السطحية التي يتعامل بها المعماري في تصاميمه، وتلك النظرة القاصره في فهمه لمعنى التأصيل والمعاصرة، ناتج بالدرجة الأولى عن فقره المعرفي الذي يحدد ضحالة ما يدعيه، وهو الأمر نفسه الذي يدفع غيره من أفراد المجتمع إلى القبول بهذا المنتوج الذي يقدمه لهم هذا المعماري أو ذاك على علاته دون مراجعة أو تمحيص وفي الغالب دون مبالاة، في ظل الجهل المعرفي الذي أحاط بأفراد المجتمع بخواصه وعوامه. بل أن جهل الخواص أشد من جهل العوام. وهم من قاد مسيرة التجهيل لتصل إلى ما نحن عليه اليوم من تطاول على الموروث الثقافي، وخوض محموم في أوحال التبعية وقذاراتها المنتشرة اليوم في مدننا المعاصرة تحت مسمى الحداثة والمعاصرة.



أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...