أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الخميس، سبتمبر 04، 2025

في هندسة الذات ومقاومة التكلّس: تأملات في الكتابة والتصميم


جمال الهمالي اللافي 

مقدمة 

في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها المجتمعات العربية، تبرز الحاجة إلى مراجعة المفاهيم التي تحكم العلاقة بين الفرد والمكان، بين الفكرة وأدوات التعبير، وبين الهوية وصورها المعمارية. لم تعد الكتابة ولا التصميم مجرد أدوات إنتاج، بل تحوّلت إلى وسائط مقاومة تُستعمل لاستعادة المعنى في زمن التكرار والتشويه.

هذا النص لا يُقدّم وصفًا لحالة فردية، بل يُطرح كتأمل نقدي في مسار بناء الذات، وفي تحرير المصطلح المعماري المحلي من التبعية البصرية والوظيفية. إنه دعوة لإعادة التفكير في ما يُعدّ مكتملًا، وفي ما يُظن أنه راسخ، وفي ما يُقال باسم التطوير بينما يفرّغ المعنى من جذوره.

يخاطب هذا النص كل من يمارس الكتابة أو التصميم من موقع المسؤولية، لا من موقع التكرار، وكل من يرى في الإخفاق فرصة للنضج، وفي الإيمان صمام أمان يحفظ المعنى من الانهيار. أما العزلة، التي سبق تناولها في نصوص أخرى، فتُذكر هنا كإشارة عابرة إلى لحظة مراجعة لا أكثر.

الكتابة والتصميم: أدوات مقاومة لا أدوات تزيين 

في هذا السياق، لا تُمارس الكتابة كحرفة، ولا يُنتج التصميم كوظيفة، بل يُعاد تعريفهما كوسيلتين للتعبير عن موقف، وكأداتين لمقاومة التكلّس. تُستعاد الفكرة حين تنضج، لا حين تُستدعى، ويُكتب النص لتأدية دور لا لإبهار، ويُنجز التصميم لاستعادة علاقة الإنسان بالمكان لا لإرضاء ذائقة عابرة.

النضوج لا يُبلغ بل يُبنى، والإخفاق لا يُقرأ كفشل بل كجزء من عملية التشكّل. تُكتسب ملكة التسامح مع الخطأ من إدراك أن كل تجربة، حتى المؤلمة منها، تُضيف طبقة إلى الرؤية، وتُعمّق الحس النقدي.

الزخم لا يُقاس بعدد النصوص أو التصاميم، بل بقدرة كل منها على التعبير عن لحظة صادقة. يُعاد النظر في المشاريع المكتملة، ويُكتشف فيها ما يستحق التعديل، لأن الاكتمال ليس نهاية بل لحظة مؤقتة من التوازن. الزمن وحده يفرز ما يستحق البقاء، وكل مشروع يحمل داخله بذرة مراجعة.

تحرير المصطلح وبناء المعنى 

تُطرح مسألة الهوية بوصفها عقيدة وانتماء، لا قالبًا جامدًا. تُفهم الهوية على أنها ثابتة في جوهرها، متجددة في صورها، وأن أدوات التعبير عنها يجب أن تُراجع وتُصقل، لا أن تُجمّد أو تُشوّه. يُحرَّر المصطلح المعماري المحلي من التكرار أو التشويه، لا فقط لتوضيح المفاهيم، بل لحماية المعنى من التمييع. ويُربط المصطلح بالتجربة المعيشة، لا بالنظرية المجردة، لأن المفردة لا تُستعاد إلا حين تُجسّد في البيئة والذاكرة والوظيفة.

من المسؤولية إلى الإيمان 

تُمارَس الكتابة والتصميم من موقع المسؤولية الذاتية، لا من موقع التبعية للمؤسسات أو السوق. يُقاوَم التقليد الجامد، ويُرفض التشويه باسم التطوير، لأن الحفاظ على الهوية لا يعني تكرار الصور القديمة، بل تجديد العلاقة بين الإنسان والمكان. يُصاغ الخطاب النقدي لا كترف فكري، بل كضرورة أخلاقية، تُمارَس من باب الالتزام لا من باب المجاملة.

وفي النهاية، يُكتشف أن ما يمنح القدرة على الاستمرار، حتى حين تبدو الطريق معتمة، ليس الواقع بل الإيمان. الإيمان بأن المعنى لا يُهزم، وأن الرضا الحقيقي لا يُستشعر إلا حين يُؤدى الدور بصدق، ويُربط العمل برضى الله واستعادة كرامة الوطن. فالتعب، مهما اشتد، لا يُثقل من يعمل في خدمة المعنى، بل يُنضجه.

الثلاثاء، سبتمبر 02، 2025

العمارة كفعل أخلاقي – من القيم التي لا تُشترى إلى المباني التي تُهذّب

 

جمال الهمالي اللافي

بالنظر إلى منظومة القيم التي لا تُشترى بالمال، كما وردت في الصورة المرفقة، ثم ما أضيف إليها من نقاء وتواضع وواقعية، تتضح ملامح علاقة عميقة بين العمارة وبين البنية الأخلاقية والنفسية للمجتمع. ليست هذه القيم مجرد فضائل فردية، بل هي شروط تأسيسية لأي بيئة معمارية سوية، قادرة على احتضان الإنسان وتشكيل سلوكه.

العمارة كمرآة للقيم

تتأسس العمارة على منظومة من القيم غير المادية، تشكل جوهرها وتنعكس في كل تفاصيلها. الأخلاق، الاحترام، النزاهة، الصبر، الحب، وغيرها، ليست مفاهيم مجردة، بل تظهر في توزيع الفراغات، في شكل الكتلة، في لون الطلاء، وفي علاقة المبنى بمحيطه العمراني. فالمبنى الذي يُصمم دون احترام لهذه القيم يتحول إلى عبء بصري ونفسي، يكرّس التوتر ويغذي الانفصال عن الذات والمجتمع.

النقاء، الذي لا يظهر في القائمة الأصلية، يمثل صفوة هذه القيم. إنه الصفاء الذي يجعل المعمار صادقاً، غير ملوث بالادعاء أو التزويق، ويمنح المبنى قدرة على بث الطمأنينة في النفس. أما التواضع، فهو ما يقي العمارة من الغرور البصري، ويعيدها إلى وظيفتها الإنسانية. والواقعية، بدورها، تمنح التصميم صدقاً وظيفياً، وتبعده عن المبالغة أو التزييف.

القيم التي لا تُشترى: أساس العمارة السوية

القائمة التي وردت في الصورة- الأخلاق، القيم، الاحترام، الشخصية، الحس السليم، الثقة، الصبر، الرقي، النزاهة، الحب- ليست مجرد فضائل فردية، بل هي شروط تأسيسية لأي بيئة معمارية سوية. فالمبنى الذي يُصمم دون احترام لهذه القيم، يتحول إلى عبء بصري ونفسي، يكرّس التوتر، ويغذي الانفصال عن الذات والمحيط.

·         الأخلاق والاحترام: تظهر في احترام السياق العمراني، وعدم التعدي على خصوصية الجوار.

·         الشخصية والنزاهة: تتجلى في صدق التعبير المعماري، وابتعاد التصميم عن الزيف أو الاستعراض.

·         الحس السليم والثقة: تُترجم إلى منطقية توزيع الفراغات، وسهولة التنقل، ووضوح الوظائف.

·         الرقي والحب: ينعكسان في العناية بالتفاصيل، والاهتمام بجماليات الضوء والظل، والمواد الطبيعية.

أما النقاء، الذي غاب عن القائمة، فهو جوهر هذه القيم جميعاً. إنه الصفاء الذي يجعل المعمار صادقاً، غير ملوث بالادعاء أو التكرار، ويمنح المبنى قدرة على بث الطمأنينة في النفس.

العمارة كعلاج نفسي

استوقفتني قصة رواها أحد المتابعين لصفحتي، عن حالة مرضية في إحدى الدول الأوروبية، تعاني من اضطرابات نفسية واكتئاب. لم تُجدِ الجلسات النفسية نفعاً، فاقترح الطبيب زيارة منزل المريض. قام بتغيير ألوان الحوائط والسجاد، وتعديل نوعية الأثاث وتوزيعه، فحدث تحسن كبير في الحالة، بل أعلن المريض أنه شُفي تماماً.

هذه القصة ليست استثناءً، بل تؤكد أن العمارة ليست محايدة، بل لها أثر مباشر على الصحة النفسية. الألوان، الإضاءة، توزيع الأثاث، وحتى ملمس المواد، كلها عناصر تؤثر في المزاج، وتعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان ومحيطه. في مجتمعاتنا، حيث تسود التوترات وسوء الأخلاق، فإن جزءاً من الأزمة يعود إلى بيئات عمرانية منفصلة عن القيم، تفتقر إلى التواضع، وتغرق في التزويق دون معنى.

كيف تتشرب العمارة القيم؟

العمارة لا تفرض القيم، بل تتشربها من نية المصمم، من ثقافة المجتمع، ومن فلسفة المكان. ثم تعكسها عبر:

  • شكل الكتلة: هل هي متضخمة أم متزنة؟ هل تعبر عن سلطة أم عن احتواء؟
  • الزخرفة: هل هي صادقة أم متكلفة؟ هل تحترم التراث أم تبتذله؟
  • الألوان: هل تبعث على الطمأنينة أم على التوتر؟ هل تنسجم مع المحيط أم تتصادم معه؟
  • الفراغات الداخلية: هل تتيح التأمل أم تكرّس العزلة؟ هل تحفّز الحوار أم تغلقه؟

من البيت إلى المجتمع

حين تُبنى البيوت على هذه القيم، فإنها تخرج لنا مجتمعاً سوياً، يتشرب الاحترام، ويُمارس النزاهة، ويُقدّر الصبر والرقي. العمارة هنا ليست انعكاساً فقط، بل محفّزاً للتغيير. إنها تربية صامتة، تُمارس أثرها دون خطابة، وتُعيد تشكيل الإنسان من خلال المألوف اليومي: الباب، النافذة، الضوء، والظل.

إن المبنى، في نهاية المطاف، يكون نتاجاً لمؤثراتنا، ثم يبدأ هو في التأثير علينا، في أخلاقنا وسلوكياتنا. وهذا ما يجعل من العمارة فعلاً أخلاقياً بامتياز، لا ينفصل عن منظومة القيم التي تُبنى بها، وتُبني بها الإنسان.

في ذكرى انقلاب 1969: حين بدأت الرداءة تُبنى

 


جمال الهمالي اللافي

لم يكن انقلاب سبتمبر مجرد حدث سياسي، بل كان نقطة تحول في بنية المجتمع الليبي، امتدت آثارها إلى الحرفة والكرامة والمهنة. قبل هذا التاريخ، كانت شركات المقاولات الليبية تملأ السوق، والعمالة الوطنية تقود الورش بكفاءة وانضباط، والمعماري الليبي يربط بين الفكرة والتنفيذ، لا يكتفي بالرسم ولا يُقصى عن الموقع.

لكن ما تلا الانقلاب كان تفكيكًا ممنهجًا لمنظومة العمل الوطني: أُغلقت الشركات، وأُقصيت العمالة الليبية، وجرى تحويل الحرفيين إلى موظفين في مؤسسات بيروقراطية، تحت شعارات التدريب العسكري والانضباط الثوري. فُرغت المهنة من معناها، وأُهينت كرامة المواطن، وتحوّل المعماري إلى متفرج على تنفيذ مشوّه، تقوده عمالة مستوردة لا تملك وعيًا تصميميًا ولا التزامًا مهنيًا.

اليوم، تسيطر العمالة المصرية على سوق البناء في ليبيا، لا من باب الكفاءة، بل بفعل سياسات التسهيل والاحتكار التي همّشت كل بديل. والنتيجة: غش في المواصفات، تلاعب في التنفيذ، أعمال معلقة، ومباني بلا روح.

إن استعادة الحرفة بأيدي الليبيين ليست مطلبًا مهنيًا فحسب، بل هي فعل مقاومة، واستعادة للكرامة، وبُعد من أبعاد الأمن القومي. فحين يُبنى الوطن بأيدي أبنائه، تُستعاد السيادة من بوابة الإنتاج، لا من بوابة الشعارات.

المعماري ليس مجرد مصمم، بل قائد ميداني، ومثقف بصري، وضامن للجودة. وإقصاؤه عن الموقع هو إقصاء للوعي، وتشويه للعمارة، وتفريط في الهوية.

فلنعد بناء الورشة الليبية، لا فقط بالمباني، بل بالكرامة.

الثلاثاء، أغسطس 26، 2025

من الخبرة إلى الذكاء الصناعي: مسار تشكّل الخطاب المعماري

خطاب يتشكّل من القلق: تأملات في العمارة الليبية بين الممارسة والوعي



جمال الهمالي اللافي

في هذا المنشور، أشارك خلاصة المسارات التي شكّلت خلفية كتاباتي المعمارية، وتفاعلت معها عبر السنوات:

1.      الخبرة الميدانية

سنوات من الاشتباك المعرفي والمهني مع العمارة، خصوصًا في سياقها المحلي الليبي، أفرزت لدي رؤية نقدية للإشكاليات البنيوية التي تعاني منها. هذه الرؤية كانت المنبع الأول لغالبية ما كتبته من مقالات وتأملات معمارية، وقد وجدت طريقها للنشر عبر وسائط متعددة:

  • مقالات دورية في مجلة آثار العرب، ومجلة مربعات، والصفحة الرابعة من جريدة الشط، حيث طرحت قراءاتي وتحليلاتي ضمن سياق ثقافي معماري أوسع.
  • مشاركات فكرية وحوارات معمقة في منتدى المعماريين العرب، رافقتها مقالات نقدية تفاعلية مع ما يُطرح من قضايا وإشكاليات مهنية.
  • سلسلة من المحاضرات التي بدأت منذ عام 1993 واستمرت حتى 2024، شكّلت مساحة لعرض الرؤية وتطويرها عبر التفاعل المباشر مع المهتمين والباحثين.

هذه الوسائل مجتمعة شكّلت البنية الأولى لخطابي المعماري، ووفّرت لي فضاءً لتجريب الأفكار وتطويرها ضمن سياق نقدي متجدد.

2.      الفضاء الرقمي وتفاعلاته

قبل تأسيس مدونة الميراث عام 2008، كانت مشاركتي في ملتقى المهندسين العرب هي المنصة الأولى التي احتضنت مقالاتي المعمارية وحواراتي النقدية. هناك، وجدت فضاءً مهنيًا مفتوحًا للنقاش، طرحت فيه رؤيتي وتفاعلت مع قضايا معمارية وثقافية ضمنية، مما ساهم في بلورة الخطاب وتوسيع مداه.

لاحقًا، جاءت مدونة الميراث لتكون امتدادًا أكثر تركيزًا واستقلالية، حيث بدأت بنشر تأملاتي ومقالاتي بشكل منتظم. ومع اتساع حضور منصة الفيسبوك، ظهرت أمامي كمٌّ من المنشورات العامة التي تستدعي مساءلة المفاهيم المتداولة فيها. دفعني هذا إلى التفاعل معها عبر خواطر ومداخلات سريعة، وأحيانًا مقالات منبثقة عنها، أُوضح فيها وجهة نظري وأُعيد تفكيك ما يُطرح من أفكار.

لم يكن الفضاء الرقمي مجرد وسيلة نشر، بل أصبح حقلًا حيًّا للتفاعل النقدي، يُغذي الخطاب ويختبره في آن.

3.      استدعاء الذاكرة وإعادة القراءة

خاصية الذكريات اليومية التي يعرضها الفيسبوك لما نُشر في السنوات السابقة فتحت لي بابًا لمراجعة تلك النصوص القديمة. أعدت قراءتها وصياغتها برؤية أكثر نضجًا، متكئة على تراكم الخبرة وتطور أدوات التحليل.

4.      الذكاء الصناعي كأداة تحريرية

دخول الذكاء الصناعي على خط التحرير منحني فرصة لتحسين صياغة المقالات، سواء القديمة أو المستجدة. من خلال طرح تساؤلات محددة عليه، حصلت على مراجع ومداخلات ساعدتني في تعميق الطرح وتجويد البنية المعمارية للنص.

خاتمة

وإذا كانت هذه المسارات قد شكّلت بنية خطابي المعماري، فإن غزارة المقالات التي نشرتها عبرها لم تكن تكرارًا، بل استجابة لتعدد الهواجس المرتبطة بالعمارة في ليبيا، وما يحيط بها من إشكاليات مهنية وتعليمية متجذّرة. إشكاليات لا تزال تعاني من قصور بنيوي، دون أن يظهر في الأفق أي بصيص أمل للتعاطي معها بالجدية المستحقة. من هنا، جاءت كتاباتي كمحاولة دائمة لتفكيك هذا الجمود، واستدعاء الأسئلة التي يُفترض أن تكون في صلب أي خطاب معماري مسؤول.

الاثنين، أغسطس 25، 2025

الإنسان كدعامة: نقد رمزي لمعالجات معمارية تستنزف المعنى


جمال الهمالي اللافي

     في زمنٍ باتت فيه العمارة تتسابق نحو الإبهار البصري، تظهر نماذج تصميمية توظّف الجسد البشري كعنصر إنشائي أو زخرفي، دون مساءلة رمزية هذا التوظيف أو أثره النفسي على المتلقي. من بين هذه النماذج، تلك التي تُظهر يدًا بشرية تحمل مبنى، أو جسدًا غائرًا تحت الأرض كجزء من الواجهة. للوهلة الأولى، قد يُقرأ هذا التوظيف كإبداع بصري، لكنه في جوهره يُشيع خطابًا بصريًا مشوشًا، يُفرغ الإنسان من قيمته ويحوّله إلى أداة صامتة.

الاستعراض بدل المعنى

هذه المعالجات لا تنبع من حاجة وظيفية أو سياق رمزي متماسك، بل من رغبة في لفت الانتباه. اليد التي تحمل المبنى لا تُقرأ كرمز للقوة، بل كجسد منهك تحت وطأة الأحمال. الأصابع المنحنية لا توحي بالتماسك، بل بالإجهاد والانهيار الوشيك. وهكذا، يتحوّل التصميم من احتفاء بالإنسان إلى مشهد استنزافه.

الاستلاب الرمزي والاغتراب البصري

في هذا السياق، يمكن قراءة هذه المعالجات ضمن مفهوم الاستلاب الرمزي، حيث يُسلب الإنسان من رمزيته الثقافية ويُعاد إنتاجه كعنصر زخرفي. كما يُكرّس الاغتراب البصري، حين يُقدّم الجسد في وضعية لا تنتمي إلى بيئته أو ثقافته، بل تُستورد من سياقات غريبة، فتخلق فجوة بين الشكل والمضمون، وبين العين والعقل.

التأثير النفسي على المارة والساكنين: حين يتحول المبنى إلى مشهد استنزاف

لا يقتصر الأثر على الانطباع الجمالي، بل يمتد إلى مستويات نفسية دقيقة، تُخزّن في الوجدان وتؤثر في المزاج العام:

  • المارة يمرّون في ظل انكسار رمزي، يشعرون بانقباض داخلي غير مفسّر، وكأن المبنى يئن بصمت. التصميم يُربك الإدراك البصري ويُضعف العلاقة الطبيعية بين الإنسان والمكان.
  • الساكنون أو الشاغلون يعيشون في فضاء يُكرّس فكرة الاستنزاف، مما يؤثر على الشعور بالكرامة والانتماء، ويُضعف الإحساس بالأمان النفسي.
  • البيئة الجمعية تتشكّل من مزاج عام مشحون بالتوتر، حيث يُعاد إنتاج فكرة الانهيار في كل زاوية، حتى لو كانت "جمالية" من منظور تقني.

العمارة كخطاب لا كعرض

العمارة التي تحترم الإنسان لا تُظهره وهو ينهار، بل وهو يتنفس. لا تُجسده كدعامة، بل كقيمة. وهي لا تكتفي بإبهار العين، بل تُخاطب العقل والوجدان. حين تُوظف الرموز دون وعي، يتحوّل التصميم إلى مشهد من التشويش، لا من الإلهام.

الجمعة، أغسطس 22، 2025

بين بيئة تُكرّم الإنسان وأخرى تُهينه



قراءة في التمايز الوظيفي بين "قوقل" ومؤسسات الدولة الليبية

جمال الهمالي اللافي

ليس الحديث عن بيئة العمل في شركة "قوقل" نوعًا من الترف أو الإعجاب الساذج، بل هو ضرورة معرفية وأخلاقية. لأن سرد تفاصيل تلك البيئة يفتح العقول قبل العيون على ما يجب أن يكون، ويكشف حجم البؤس البنيوي الذي يعيشه الموظف الليبي في مؤسسات الدولة، حيث لا يُحترم الإنسان، ولا يُصان جهده، ولا يُحتفى بإبداعه.

بيئة "قوقل": فلسفة تُكرّم الإنسان

في مقرات "قوقل" المنتشرة حول العالم، لا يُنظر إلى المكتب بوصفه مساحة عمل فحسب، بل بوصفه امتدادًا لكرامة الإنسان. هناك، تتنوع عناصر التأثيث لتناسب شخصية كل موظف: مكاتب قابلة للتعديل، كراسي مريحة مصممة هندسيًا، مساحات مفتوحة للتفكير الجماعي، وأخرى مغلقة للتأمل الفردي. الألوان مدروسة، والإضاءة طبيعية قدر الإمكان، والنباتات جزء من التصميم، لا مجرد زينة.

في كل زاوية، هناك دعوة غير مباشرة للإبداع: غرف اجتماعات على هيئة قطارات قديمة، مكتبات بسرٍّ معماري، جدران قابلة للكتابة، وحتى مساحات للعب والتأمل. في بعض الفروع، توجد صالات رياضية، مسابح، ملاعب كرة طائرة، وجدران تسلق. أما الطعام، فهو متاح على مدار اليوم: وجبات صحية، مشروبات متنوعة، وحلويات مدروسة، وكل ذلك مجانًا. بل إن قاعدة "150 قدم من الطعام" تُطبّق حرفيًا، بحيث لا يبتعد الموظف عن مصدر تغذية جسده وعقله.

هذه البيئة ليست عبثًا، بل فلسفة مؤسسية ترى أن الموظف المبدع يحتاج إلى راحة، وإلى مساحة، وإلى احترام. وأن الإبداع لا يُستخرج من الضغط، بل من الطمأنينة. الأهم من ذلك، أن التميز يُكافأ، ويُحتفى به، ويُمنح ما يستحق من دعم وامتيازات.

بيئة المؤسسات الليبية: واقع يُهدر الإنسان

في المقابل، يعيش الموظف الليبي في بيئة وظيفية تُشبه العقوبة. المكاتب ضيقة، الكراسي متهالكة، الإضاءة قاسية، والجدران تئن من الرطوبة. لا وجود لمساحات التفكير، ولا حتى لمساحات الراحة. الطعام؟ إن وُجد، فهو على حساب الموظف، وغالبًا ما يُؤكل على عجل في زاوية مهملة. أما التقدير، فغائب. والترقية، مشروطة بالولاء لا بالكفاءة. التميز هنا لا يُكافأ، بل يُحاصر، ويُنظر إليه بعين الريبة.

الظلم الوظيفي وهضم الحقوق ليسا استثناءً، بل قاعدة. الموظف يُعامل بوصفه عبئًا إداريًا، لا عقلًا منتجًا. يُطلب منه أن يُنجز، دون أن يُمنح الأدوات أو الاحترام أو الأفق. يُراقب، يُحاسب، يُستنزف، ثم يُنسى.

أثر التمايز على النفس والعقل

وعي الموظف الليبي بهذا التمايز لا يُنتج طموحًا، بل يُنتج إنهاكًا. لأنه يرى ما يجب أن يكون، ويُدرك أنه لن يكون. هذا الإدراك، حين يتكرّر يوميًا، يُنهك النفس، ويُطفئ الخيال، ويحوّل العمل إلى عبء وجودي. الموظف لا يطلب امتيازات "قوقل"، بل الحد الأدنى من الكرامة المهنية. لكنه يُحرم حتى من ذلك.

هذا الإدراك لا يحرره، بل يثقل كاهله. يتحول الوعي إلى عبء، والإبداع إلى لعنة. إذ لا البيئة تشجع، ولا التقدير يحضر، ولا الأفق يبدو مفتوحًا. فيعيش المبدع حالة من التآكل التدريجي، حيث تتآكل الصحة مع العمر، ويُستهلك الخيال في مقاومة الرداءة، لا في إنتاج الجمال.

من مصنع الريجية إلى فلسفة قوقل: شهادة على التهميش المؤسسي

ولعل المثال الأوضح على ذلك ما عشته شخصيًا منذ بداية عملي في مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس من العام 1990 إلى 2001، حين كان مقر المشروع في مصنع الريجية، ذلك المكان الذي كان مصنعًا لدخان السجائر، وتحول إلى بيئة عمل تجمع بين قذارة المكان وتلوث المعاملة. هناك، رأيت كيف يُكافأ الفاشلون بالترقيات والمناصب القيادية، بينما يُضايق المتميزون حتى يُدفعوا إلى الخروج، الواحد تلو الآخر. وقد خرجت أنا أيضًا، بعد سنوات من المضايقات، فاقدًا لكامل حقوقي الوظيفية. دخلت هذه المؤسسة وأنا بكامل صحتي وعافيتي، وخرجت منها "لحماً على عظمٍ" نتيجة التوترات النفسية التي تراكمت بفعل الإقصاء والتهميش. وهذه المؤسسة ليست استثناءً، فهي امتداد لجل مؤسسات الدولة، وقصتي تحكي لسان حال غيري.

لماذا نُفصّل في بيئة "قوقل"؟

لأن المقارنة تُعرّي الواقع. تُظهر أن المشكلة ليست في الإمكانيات، بل في الفلسفة. أن الفساد لا يُقاس فقط بالمال المنهوب، بل بالكرامة المهدورة في تفاصيل الحياة اليومية للموظف. أن الإصلاح لا يبدأ من القوانين، بل من إعادة تعريف الإنسان داخل المؤسسة: هل هو عقل؟ أم رقم؟ هل هو شريك؟ أم تابع؟

إن النموذج الذي تقدمه "قوقل" لا يُلهم فقط، بل يفضح. يفضح هشاشة المؤسسات التي لا ترى في الإنسان سوى رقم وظيفي، ويكشف زيف الشعارات التي تتحدث عن التميز بينما تكرّس الرداءة. وهنا، لا يكون الفرق بين "قوقل" وتلك المؤسسات فرقًا في السياسات، بل فرقًا في الفلسفة: فلسفة ترى في الإنسان طاقة خلاقة، وأخرى تراه عبداً للتراتبية.

هذا النص لا يهدف إلى تمجيد "قوقل"، بل إلى مساءلة واقعنا. إلى طرح سؤال مؤلم: ماذا يحدث للمبدع حين يُحاصر بين وعيه بما يستحق، وعجزه عن نيله؟ وهل يمكن للإبداع أن ينجو في بيئة لا تعترف به إلا إذا تنكر لذاته؟

الخميس، أغسطس 21، 2025

فوضى العمران: حين يُشوَّه المكان فيُعاد تشكيل الإنسان

حين يُشوَّه المكان، لا يعود الإنسان كما كان


قراءة نقدية في أثر التشويه البصري على السلوك المجتمعي، ومسؤولية المعماري والمؤسسات في إعادة إنتاج الإنسان.

 

جمال الهمالي اللافي

ليست الفوضى العمرانية مجرد خلل تنظيمي أو غياب للتخطيط، بل هي انعكاس لانهيار منظومة القيم وتفكك الرؤية المجتمعية. حين تُبنى المدن بلا ذاكرة، بلا احترام للهوية، يتحول الفضاء العام إلى بيئة طاردة، تُغذّي العدوان، وتُشرعن الانحراف، وتُعيد تشكيل الإنسان وفقًا لمقاييس التشويه البصري والضيق النفسي.

في غياب الهوية المعمارية، يتلاشى الانتماء، ويُستباح الجمال، ويُهمّش الإنسان. وما نشهده من تصدع أخلاقي وسلوكي ليس إلا انعكاسًا مباشرًا لفضاء عمراني مشوّه، تُهيمن عليه العشوائية، وتغيب عنه المسؤولية والوعي الجمالي. فالمكان لا يكتفي بأن يكون خلفية لحياة الإنسان، بل يُعيد تشكيل ذائقته وسلوكه، ويطبع وعيه بما يراه ويعيشه يوميًا.

المدينة كأداة تطبيع للفوضى

حين تُصبح العشوائية هي القاعدة، يتطبع الناس معها، وتُعاد صياغة مفاهيمهم عن النظام والجمال والانتماء. وهنا تكمن خطورة الفوضى العمرانية: فهي لا تُشوّه المكان فقط، بل تُعيد إنتاج الإنسان على صورتها، وتُكرّس الانحراف كواقع مألوف، لا يُسائل ولا يُستنكر.

المسؤولية الأخلاقية والمهنية

ما يحدث ليس مجرد تقصير مؤسسي، بل تخلي عن المسؤولية الأخلاقية والمهنية تجاه المجتمع. المعماري، كمثقف بصري ومهندس للمعنى، لا يُعفى من المساءلة. فحين يُنتج عمرانًا بلا روح، يُساهم في تعميق الشرخ، وتكريس العدوان، وتغذية الانحراف. وكذلك المؤسسات، حين تُدير الشأن العمراني بمنطق التسيير لا التنوير، تُكرّس الفوضى كواقع لا يُسائل.

كسر الحلقة

السؤال ليس من بدأ أولًا: الفوضى أم العدوان؟ بل كيف نكسر هذه الحلقة؟ كيف نُعيد للمدينة كرامتها، وللإنسان شعوره بالانتماء؟ كيف نُعيد الاعتبار للهوية، وللجمال، وللأخلاق المهنية؟ هذه ليست دعوة للتنظير، بل نداء لإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والمكان، على أسس من المعنى، والاحترام، والذاكرة.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...