أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الثلاثاء، أغسطس 19، 2025

العمارة كلغة: نحو استعادة الخطاب الثقافي المفقود

 

جمال الهمالي اللافي

المقدمة

في ظل التحديات التي تواجه العمارة المعاصرة، من فقدان الهوية إلى هيمنة النماذج المستوردة، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف العمارة ليس كمجرد ممارسة تقنية، بل كخطاب ثقافي يحمل في طياته لغةً ناطقة ومشهدًا بصريًا متكاملًا. فالعمارة، كما اللغة، تمتلك مستويات من التعبير؛ من اللفظ إلى النحو إلى المعنى، ومن التخطيط إلى التكوين إلى التفاصيل. وبين هذه المستويات، تتشكل هوية المكان، وتُستعاد ذاكرة الجماعة، ويُعاد وصل ما انقطع من سياق حضاري وروحي.


    هذه المقالة تُقدّم تصورًا تأليفيًا يُفكك مستويات التعبير المعماري إلى بُعدين متكاملين: اللساني والبصري، في محاولة لاستعادة العمارة كفنٍ ناطق، وكحوارٍ حيّ بين الإنسان والمكان، بين المادة والروح، وبين الماضي والمستقبل.

هدف المقالة

تهدف هذه المقالة إلى تقديم تصور تأليفي يُعيد فهم العمارة بوصفها خطابًا لغويًا وبصريًا، يتجاوز الشكل إلى المعنى، ويتجاوز التقنية إلى الهوية. في ظل القطيعة المعرفية التي تُعاني منها الممارسة المعمارية المعاصرة، يسعى هذا الطرح إلى تفكيك مستويات التعبير المعماري، وتقديم مخطط يُعيد للعمارة لغتها، ويُعيد للخطاب المعماري دوره كوسيط ثقافي ووجداني. المقالة موجّهة لكل من يسعى إلى استعادة العمارة كفنٍ ناطق، وكحوارٍ حيّ بين الإنسان والمكان، بين المادة والروح، وبين الجماعة وذاكرتها. وهي دعوة لإعادة بناء الوعي المعماري على أسس ثقافية، تُعيد وصل ما انقطع من السياق الحضاري، وتُعيد للعمارة دورها في تشكيل الذاكرة الجمعية والهوية البصرية.

العمارة كلغة محكية: من المفردة إلى البيان

في هذا القسم، تُقارب العمارة بوصفها لغةً تُشبه اللغة المنطوقة في بنيتها ووظيفتها. فهي تتكوّن من مستويات دلالية تُشكّل الرسالة المعمارية وتُحدّد مدى وضوحها وفعاليتها. هذه المستويات تُساعد على قراءة العمارة كنص حي، له قواعده وموسيقاه الخاصة.

مستويات لغة العمارة

يتضمن العرض مخططًا بصريًا يُقسّم لغة العمارة إلى ستة مستويات، موزعة بين التعبير اللساني (اللفظ، النحو، الدلالة) والتكوين البصري (التخطيط، التكوين، التفاصيل). هذا التقسيم يُقدّم أداة تحليلية لفهم العمارة بوصفها نصًا حيًا، ويُسهم في نقد السطحية السائدة، والدعوة إلى قراءة متعددة الطبقات تُعيد الاعتبار للمعنى والهوية.

اللغة المحكية (اللسانية (

المستوى

الوصف

اللفظ المعماري

مفردات الشكل، المادة، والملمس التي تُعبّر عن هوية المبنى

التركيب النحوي

تنظيم الكتل والعلاقات المكانية كجُمل معمارية تعبّر عن عقلانية التصميم

الدلالة المعنوية

المعاني الرمزية والوجدانية التي تجعل العمارة خطابًا حيًا ومؤثرًا

 

اللغة البصرية (التكوينية)

المستوى

الوصف

التخطيطي

العلاقات الكبرى، اتجاهات الحركة، وفلسفة التنظيم المكاني

المعماري

الكتلة، التكوين، التوازن، والانفتاح والانغلاق كوسائل لتجسيد الهوية

التفصيلي

عناصر مثل الأبواب، النوافذ، الزخارف، والمواد التي تحمل لهجة محلية وثقافية


نحو تكامل لغوي بصري ووجداني

إن التمييز بين اللغة المعمارية بوصفها محكية (دلالية) وبصرية (تكوينية) لا يعني الفصل بينهما، بل يُساعد على فهم العمارة من زوايا متعددة: كيف تُعبّر عن نفسها، وكيف تُقرأ، وكيف تُخاطب الإنسان في وجدانه ووعيه.

غياب أحد هذه المستويات، سواء في البنية اللغوية أو البصرية، يُفضي إلى تشويش في الفهم، أو إلى إنتاج معماري مُسطّح لا يُعبّر عن بيئة ولا يُخاطب وجدانًا، بل يُراكم عناصر دون رسالة.

دعوة لإحياء اللغة المعمارية

في زمنٍ تتكاثر فيه الأبنية وتغيب فيه العمارة، يصبح إحياء اللغة المعمارية ضرورة ثقافية وأخلاقية. إنها دعوة للمعماري أن يكون كاتبًا بصريًا، لا مجرد مُنفّذ، وأن يُعيد للعمارة دورها كأداة للوعي، ووسيلة للمقاومة الثقافية، ومنصة للتعبير عن الذات الجمعية.

الخاتمة

إن تجاهل البنية اللغوية والبصرية للعمارة لا يُنتج فراغًا جماليًا فحسب، بل يُكرّس قطيعة معرفية مع الذات والمكان. فالمخطط المقترح هنا ليس مجرد تصنيف، بل هو دعوة لإعادة بناء الخطاب المعماري على أسس ثقافية ووجدانية، تُعيد للعمارة دورها كفنٍ ناطق، وكوسيطٍ بين الإنسان وتاريخه، بين الجماعة وذاكرتها، وبين المادة والروح. حين تُستعاد اللغة، يُستعاد المعنى، وتُستعاد العمارة بوصفها مرآةً للهوية، لا مجرد واجهة للزمن.

حين يتكلم الحجر بلغة الأمة، تُصبح العمارة مرآةً للهوية، وذاكرةً للمستقبل.

الاثنين، أغسطس 18، 2025

تفتيت المجتمع وتعدد الذائقة: أزمة الهوية في العمارة الإسلامية المعاصرة

 


جمال الهمالي اللافي

مقدمة

في زمنٍ تحولت فيه المجتمعات الإسلامية من كيانٍ واحد إلى فسيفساء متنازعة، لم يعد بالإمكان الحديث عن ذائقة فنية جامعة أو توجه معماري موحد. هذا التفكك لا يعكس فقط أزمة سياسية أو اجتماعية، بل يفضح انهيارًا أعمق في المرجعية الثقافية والدينية التي كانت توحد الذوق، السلوك، والتوجه العام.

من المجتمع إلى المجتمعات: تصحيح المفهوم

الحديث عن "المجتمعات" بدلًا من "المجتمع" ليس مجرد زلة لغوية، بل هو انعكاس لتحول تاريخي خطير. فالمجتمع الإسلامي، الذي كان يومًا ما وحدة متماسكة، أصبح اليوم مجموعة من الكيانات المتصارعة، كل منها يحمل فهمًا خاصًا للدين، للهوية، وللذوق العام. هذا التحول بدأ بانهيار الدولة الإسلامية الجامعة، وتكرّس باتفاقيات التقسيم، وتنصيب وكلاء التفتيت من عسكر وأحزاب ومنظمات مدنية.

أدوات التفتيت: من الرياضة إلى الإعلام

لم يكن التفتيت عشوائيًا، بل تم عبر أدوات مدروسة:

  • الفرق الرياضية التي تحولت إلى هويات بديلة، تُقاتل من أجلها الجماهير.
  • الأحزاب السياسية التي مزقت النسيج الاجتماعي تحت شعار الديمقراطية.
  • حرية التعبير المنفلتة التي شرعنت التطاول على العقيدة والسلوك القويم.
  • الإعلام الفضائي الذي أعاد تشكيل الوعي الجمعي وفق أجندات خارجية، تُعلي من التفكك وتُضعف الانتماء.

العمارة كمرآة للانقسام

في ظل هذا التفكك، لم تعد العمارة تعبيرًا عن هوية جماعية، بل أصبحت انعكاسًا لانقسامات فردية. تنوعت المدارس المعمارية، وتعددت الذائقات، وكلها مستوردة من خارج السياق الإسلامي، حتى فقدت العمارة وظيفتها التوحيدية، وتحولت إلى ساحة صراع بين مؤيد ومعارض ومشكك.

العمارة الإسلامية: وحدة الرؤية وتنوع التطبيق

ما يُميز العمارة الإسلامية ليس نمطًا واحدًا، بل رؤية موحدة تنبثق منها تطبيقات متعددة، تتفاعل مع البيئة دون أن تتخلى عن جوهر العقيدة. لقد كانت منفتحة على الحضارات، تأخذ منها ما لا يتعارض مع الإسلام، وتنبذ ما يخالفه. وهذا الانفتاح لم يكن ضعفًا، بل قوة حضارية واعية.

دعوة لإعادة البناء

إن استعادة الذائقة المعمارية الإسلامية لا تكون بالعودة إلى الماضي حرفيًا، بل بإحياء الفكر الإسلامي المعماري الذي يجمع بين الأصالة والانفتاح، بين العقيدة والإبداع، وبين الوحدة والتنوع. وهذا يتطلب:

  • إصلاح التعليم المعماري.
  • إعادة توجيه الإعلام الثقافي.
  • دعم المشاريع التي تستلهم من التراث دون أن تتقوقع فيه.
  • إعادة الاعتبار للمجتمع كمرجعية ذوقية، لا للفرد المنعزل.

خاتمة

ما نعيشه اليوم من تفتيت في الذائقة والسلوك والهوية هو نتيجة مباشرة لانهيار المرجعية الجامعة. والعمارة، بما تحمله من رمزية، يمكن أن تكون مدخلًا لإعادة بناء هذه المرجعية، شرط أن نعيد لها دورها كأداة وحدة لا تفرقة، وكجسر بين العقيدة والواقع، بين الإنسان وبيئته، وبين الماضي والمستقبل.

السبت، أغسطس 16، 2025

نحو إعادة تعريف تدريس مادة تاريخ العمارة


جمال الهمالي اللافي

المقدمة: لماذا نقرأ التاريخ؟

في زمنٍ تتسارع فيه التحولات، وتُستبدل فيه الجذور بالأنماط المستوردة، تبرز الحاجة إلى قراءة التاريخ لا كترفٍ ثقافي، بل كفعلٍ معماري مقاوم. نقرأ التاريخ لنستعيد العبرة، لا لنُكررها، بل لنُعيد تشكيلها بما يليق بكرامة الإنسان وذاكرة المكان. نقرأه لنُحدد مرجعيتنا، لا لنُقلّد، بل لننطلق من نقطة وعيٍ نقديٍّ يُعيد الاعتبار لتجارب الأجداد، ويُؤسس لمنهجية تصميمية تُراعي السياق، والهوية، والاحتياج. ونقرأه لنُحقق أهدافًا تتجاوز الشكل، نحو عمارةٍ تُنظّم العلاقة بين الذات والموضوع، بين الحلم والواقع، بين ما نؤمن به وما نبنيه.

في هذا المقال، أستعرض كيف يمكن للتاريخ أن يكون حليفًا في صياغة مشروع معماري يحمل روح حوش العيلة، ويُعيد للضواحي والأرياف الليبية دفئها المفقود، لا عبر الحنين، بل عبر التصميم الواعي، والذاكرة الحيّة. ومن خلال هذا التأمل، أطرح دعوة لإعادة النظر في منهج تدريس تاريخ العمارة، الذي يُدرّس اليوم بشكلٍ يُغيب جوهره النقدي والثقافي.

أولًا: التاريخ كعبرة لا كحكاية

التاريخ ليس سردًا للأمجاد، بل تفكيكٌ للخيارات التي اتخذها من سبقونا، وتحليلٌ للنتائج التي ترتبت عليها. في العمارة، كل نمطٍ بنائي وكل فراغٍ عمراني هو انعكاسٌ لفلسفةٍ في العيش، لرؤيةٍ في الزمن، ولعلاقةٍ بين الإنسان والمكان. نقرأ كيف انهارت مدنٌ حين فُصلت عن ناسها، وكيف تحوّلت البيوت إلى قوالب جامدة حين غابت عنها الروح.

"قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين" (الأنعام: 11(

التاريخ يُعلّمنا أن نطرح الأسئلة الصحيحة:

  • ما الذي يجعل البيت بيتًا؟
  • كيف يُصبح الحيّ نسيجًا حيًّا لا مجرد تقسيمات؟
  • ما الذي فقدناه حين استبدلنا "الحوش" بمساحاتٍ معزولة، وحين قُلنا "الخصوصية" ونسينا "الحميمية"؟

 

ثانيًا: التاريخ كمرجعية تصميم

في زمنٍ يُغري فيه الحداثة بالقطيعة، يُعيدنا التاريخ إلى الجذور لا لنُقلّدها، بل لنُفكّر من خلالها. نماذج مثل حوش العيلة ليست مجرد طرزٍ تقليدية، بل أنماطٌ عمرانية تُجسّد فلسفةً في التراحم، في التداخل الأسري، وفي احترام الزمن كدورةٍ لا كخطٍّ مستقيم. المرجعية التاريخية تُصبح هنا أداةً نقدية، تُساعدنا على أن نُصمّم بما يُشبهنا، لا بما يُرضي السوق.

ثالثًا: التاريخ كأفقٍ للتحوّل

قراءة التاريخ تُعلّمنا أن العمارة ليست فعلًا تقنيًّا، بل فعلٌ ثقافيٌّ يُعيد تشكيل الوعي. حين نُدرك كيف كانت العمارة في لحظات النهوض الثقافي أداةً للكرامة، وللذاكرة، وللتماسك الاجتماعي، نُدرك أن بإمكاننا اليوم أن نُعيد إنتاج لحظةٍ مشابهة. نُصمم بيتًا ليحتضن العائلة، لا ليُعجب المستثمر. نُعيد للحيّ وظيفته كنسيجٍ اجتماعي، لا كمخططٍ هندسي.
نُعيد للعمارة دورها كوسيطٍ بين الإنسان والزمن، بين الفرد والجماعة، بين الذاكرة والطموح.

رابعًا: إشكالية تدريس تاريخ العمارة

رغم أهمية التاريخ، يُدرّس في معظم كليات الفنون والعمارة كمسارٍ زمنيٍّ يُركّز على الشكل دون المضمون.

مظاهر الإشكالية:

  • عرض تسلسلي للنماذج دون تحليل للسياق
  • تصنيف الطرز وفق المواد والأساليب دون فهم فلسفتها
  • تغييب العلاقة بين العمارة والهوية، وبين الشكل والسلطة
  • الطالب يُحفظ ولا يُحلّل، ويُنتج مشاريع تُرضي السوق وتُهمّش الإنسان

خامسًا: المقترح المنهجي

يهدف هذا المقترح إلى تحويل مادة التاريخ من أرشيفٍ زمني إلى مختبرٍ نقدي يُعيد تشكيل وعي الطالب.

محاور التعديل

المحور

التعديل المقترح

المنهجية

إدماج التحليل الثقافي والاجتماعي في دراسة النماذج

المصادر

اعتماد نصوص فلسفية، سرديات محلية، وشهادات معمارية

التقييم

تشجيع المشاريع النقدية بدل الحفظ، مثل تحليل نموذج محلي من منظور ثقافي

الربط المحلي

إدماج نماذج من العمارة الليبية، وتحليلها كجزء من الهوية لا فقط التراث

النتائج

تخريج معماريين ناقدين، قادرين على إنتاج عمارة تُشبه مجتمعهم وتُعيد له المعنى

 

الخاتمة

تدريس تاريخ العمارة ليس ترفًا معرفيًا، بل ضرورة ثقافية. حين يُعاد تعريف المنهج، يُصبح التاريخ أداةً للتحرّر، لا للحفظ، ويُصبح المعماري شاهدًا على الزمن، لا مجرد ناقلٍ لأشكاله. وإننا، إذ نُطالب بإعادة النظر في هذا المنهج، لا نُطالب بتغييرٍ شكلي، بل باستعادة جوهر العمارة كفعلٍ إنساني، وكوسيطٍ للذاكرة، والكرامة، والانتماء.

 

التكييف الطبيعي: حين تستعيد العمارة صوتها وتحرّر مصطلحاتها

 


جمال الهمالي اللافي

في زمنٍ باتت فيه المصطلحات تُشكّل الوعي أكثر مما تُعبّر عنه، يتسلّل إلى الخطاب المعماري تعبيرٌ شائع يُدعى "التكييف السلبي". للوهلة الأولى، يبدو المصطلح تقنيًا محايدًا، لكنه في جوهره يحمل حكمًا ضمنيًا يُقلّل من قيمة ممارسة تصميمية عريقة، ويُكرّس هيمنة النموذج الصناعي على حساب الحكمة المناخية المتجذرة في ثقافتنا.

الأصل لا البديل

في العمارة الليبية، لم يكن التكييف الطبيعي خيارًا بديلًا، بل هو الأصل. من "حوش العيلة" إلى بيوت الأرياف، كانت الأفنية، السقائف، النوافذ المدروسة، والمواد المحلية أدوات تكييف ذكية، تُراعي المناخ وتُحاكيه، لا تُقاومه. لم تكن هذه العناصر مجرد تفاصيل تصميمية، بل كانت تعبيرًا عن فلسفة عيش، وعن علاقة الإنسان بمحيطه، وعن احترامه للبيئة والزمن.

مصطلح "التكييف السلبي": مغالطة لغوية ومفاهيمية

يُستخدم هذا المصطلح في بعض الأوساط الهندسية للإشارة إلى التكييف الطبيعي، أي ضبط الأجواء الداخلية دون اللجوء إلى أجهزة التكييف الصناعية. غير أن هذا الاستخدام يُضفي على التكييف الطبيعي صفة "السلبية"، وهي في عرف الناس دلالة على الضرر أو القصور، بينما هو في جوهره إيجابي، صحي، بيئي، واقتصادي.

لماذا نرفض هذا المصطلح؟

  • لأنه يُشوّه قيمة التكييف الطبيعي ويُضعف حضوره في الخطاب المهني.
  • لأنه يُقصي تجربة معمارية كاملة من الاعتراف المهني.
  • لأنه يُكرّس هيمنة النموذج الصناعي الذي يُقاس بالقدرة الكهربائية لا بالانسجام البيئي.

التكييف الصناعي هو ما يستحق وصف "السلبي"

  • يُضر بصحة الإنسان نتيجة التغيرات المفاجئة في درجات الحرارة وجودة الهواء.
  • يُكلف كثيرًا في الإنشاء والتشغيل والصيانة.
  • يُشوّه الواجهات المعمارية بأجهزة نافرة وغير منسجمة.
  • يُلوث البيئة نتيجة تراكم الأجهزة التالفة واستهلاك الطاقة المفرط.

فهل يُعقل أن نُسمّي التكييف الطبيعي "سلبيًا" ونُغفل هذه الأضرار؟

 من المصطلح إلى الموقف

تصحيح هذا المصطلح ليس مجرد تعديل لغوي، بل هو استعادة لكرامة المعمار المحلي، ورفضٌ ضمني لسياسات التصميم التي تُقصي الحكمة المناخية لصالح الاستيراد الأعمى. إنه دعوة لإعادة الاعتبار للعمارة كفنٍ للحياة، لا كصناعة للأجهزة.

مصطلحات بديلة أكثر دقة:

العمارة التي تُكيّف العلاقة لا الهواء فقط

العمارة الواعية لا تُكيّف الهواء فقط، بل تُكيّف العلاقة بين الإنسان والمكان. إنها تُعيد تعريف الراحة، لا كمُنتج كهربائي، بل كحالة انسجام بين الجسد والمناخ، بين الجدران والضوء، بين الظل والنسيم.

في هذا السياق، لا يعود التكييف الطبيعي مجرد تقنية، بل يصبح موقفًا ثقافيًا، وممارسة أخلاقية، ورسالة تصميمية تُعيد للعمارة دورها في حماية الإنسان، لا عزله عن بيئته.

كيف تنعكس هذه الرؤية في مشاريعنا؟

في نماذج العمارة المحلية المعاصرة، لا نُصمم فقط من أجل الراحة الحرارية، بل من أجل استعادة شعور الانتماء والكرامة. نُعيد توظيف العناصر التقليدية، لا كزينة تراثية، بل كأدوات فعالة في تحقيق التكييف الطبيعي الواعي. نُراهن على الفناء، على التوجيه المدروس، على المواد المحلية، وعلى حكمة الأجداد التي لم تُكتب في كتب، بل سكنت الجدران والظلال.

هذه ليست دعوة للعودة إلى الماضي، بل دعوة لاستعادته كمرجعية تصميمية، تُحرّرنا من التبعية التقنية، وتُعيد للعمارة دورها كوسيط بين الإنسان والمناخ، بين الذاكرة والطموح.

الخميس، أغسطس 14، 2025

النقد في العمارة: بين رحابة الإصلاح وقيود الأبراج العاجية


جمال الهمالي اللافي

يُعدّ النقد جوهر أي عملية تطوير أو بناء، وفي مجال العمارة تحديداً، تكتسب هذه العملية أهمية مضاعفة نظراً لتأثيرها المباشر على حياة الناس وتشكيل بيئتهم. ومع ذلك، لا يزال مفهوم النقد يعاني من سوء فهم واسع، غالباً ما يُخلط فيه بين النقد البنّاء الذي يسعى للإصلاح، والانتقاد الهدّام الذي يرمي إلى التجريح، لدرجة أن الخوف من النقد يدفع الكثيرين لتجنبه، اعتقاداً منهم أنه لا يحمل سوى "معول الهدم".

النقد البنّاء: أداة لإعادة البناء لا الهدم

إن التمييز بين النقد البنّاء والانتقاد الهدّام هو نقطة الانطلاق الأساسية. النقد البنّاء هو عملية تحليلية تهدف إلى إعادة بناء كيان تعرض للخلل، سواء كان فكرة معمارية، منهجية تصميم، نظاماً مؤسسياً، أو حتى سلوكاً مهنياً. هو يشبه الطبيب الذي يشخص "موطن الداء" ويصف "الدواء الناجع"، مركزاً على المشكلة وسُبل علاجها، لا على تجريح المريض. هذا النوع من النقد لا يقوّض، بل يؤسس لعملية تحسين وتطوير مستمرة.

على النقيض تماماً، يكمن الانتقاد الهدّام، والذي غالباً ما يفهمه عامة الناس بعقلية الهدم، في كونه موجهاً نحو التجريح الشخصي أو التقليل من شأن الآخر، مما يجعله مرفوضاً من المتلقي ويُفقد أي قيمة محتملة للحوار.

عقلية الإصلاح: تقبل النقد كركيزة للنمو

إن من يمتلك عقلية تسعى للإصلاح الحقيقي يتقبل أي نقد يوجه إليه بـصدر رحب وعقلية منفتحة. ينظر إليه كفرصة للتعلم والتطوير، سواء كان النقد يتعلق بفكر معماري مطروح، أدلة مستخدمة، منهجية مقترحة، مرجعية مستند إليها، آلية عمل، أو حتى سلوك وتعامُل. هذا الشخص لا يواجه النقد بـ"مدفع رشاش" للدفاع عن الذات، بل بـ"يد ممدودة للحوار والإثراء"، لأن هدفه الأسمى هو الوصول إلى أفضل الحلول الممكنة.

النقد في العمارة: ليس حكراً على الأكاديميين

هنا تبرز نقطة جوهرية في النقاش حول النقد المعماري، وهي المحاولة لحصره ضمن دائرة الأكاديميين، وتحديداً حاملي درجة الدكتوراه. هذا التصور، الذي يدعي أن النقد "عملية أكاديمية صرفة"، هو تصور محدود ومقوّض لجوهر المهنة. فالعمارة، بطبيعتها، هي تزاوج بين النظرية والتطبيق، وتتطلب رؤى من مصادر متعددة لضمان شمولية عملية التقييم والتطوير.

إن النقد في العمارة هو عملية شخصية تعكس رؤية ووجهة نظر أي ممارس للمهنة. هذا يشمل:

·     الممارس المعماري: الذي ينبع نقده من الخبرة العملية العميقة في الميدان، والتحديات الواقعية للتصميم والتنفيذ، وتأثير المباني على المستخدمين والبيئة. هذا النقد العملي لا يمكن استقاؤه من الكتب وحدها.

·     الأكاديمي: الذي يقدم نقداً من منظور نظري وفلسفي وتاريخي، مستنداً إلى البحث المعمق والنظريات الراسخة، ليثري الحقل بالتأصيل المعرفي ويدفع حدود التفكير.

·         الطالب: الذي يمتلك قدرة نقدية ناشئة، قد تكون عفويّة ومبتكرة، وتشير إلى نقاط قد يغفل عنها الأكثر خبرة.

·     المستخدم والجمهور: الذين يختبرون الفضاء المعماري في حياتهم اليومية، ونقدهم يعكس مدى نجاح المبنى في تلبية احتياجاتهم. هذا النقد الحيوي ضروري لضمان أن العمارة تخدم هدفها النهائي.

إن حصر النقد في فئة واحدة، مهما كانت مكانتها الأكاديمية، هو تقييد للتطور وإفقار للحقل المعماري الذي يزدهر بالتنوع الفكري وتبادل الرؤى. فالاختلاف بين التفوق في التدريس والقدرة على إدارة مؤسسات هندسية بفعالية يوضح أن الشهادة الأكاديمية لا تساوي بالضرورة الحكمة العملية أو القدرة الإدارية.

تعزيز ثقافة النقد البنّاء في ليبيا: دور الإعلام كبوابة

لتحقيق قفزة نوعية في مجتمع مثل المجتمع الليبي، الذي يواجه تحديات معقدة ويعاني من ترسبات الماضي، فإن تعزيز ثقافة النقد البنّاء يصبح ضرورة قصوى. هذا يتطلب جهوداً متعددة الأوجه:

1.   التعليم والتنشئة: غرس قيم التفكير النقدي والحوار المحترم منذ الصغر في المناهج الدراسية، وتوفير نماذج إيجابية من المعلمين والقادة الذين يتقبلون النقد ويقدمونه بفعالية.

2.   تهيئة البيئات الداعمة: خلق مساحات آمنة للحوار في المؤسسات، أماكن العمل، والمجتمع المدني، وتشجيع التغذية الراجعة المستمرة من خلال آليات شفافة.

3.      تغيير المفاهيم الشائعة: عبر حملات توعوية مكثفة لإعادة تعريف النقد كأداة للتحسين، والتمييز بين نقد الفكرة ونقد الشخص.

4.      تطوير المهارات الفردية: تنمية مهارات الاستماع الفعال، وصياغة النقد بشكل بنّاء، والمرونة الذهنية لدى الأفراد.

وفي هذا السياق، يلعب الإعلام دوراً محورياً كبوابة للتغيير. يمكن لوسائل الإعلام، بمختلف أشكالها، أن:

·         توّعي الجمهور بالفرق بين النقد البنّاء والانتقاد الهدّام من خلال برامج حوارية ومقالات وحملات إعلامية.

·         تسلط الضوء على أهمية النقد في العملية التعليمية، وتعزز نماذج التفكير النقدي لدى الطلاب والمعلمين.

·         تروج للقدوة الحسنة من خلال إبراز الشخصيات العامة التي تتقبل النقد وتستفيد منه.

·         تتحدى المفاهيم الخاطئة والسلوكيات السلبية التي تقمع حرية الرأي.

·         توفر منصات للنقاش الهادف الذي يشجع على المشاركة البناءة ويُبرز الحلول.

إن النقد الحقيقي، الذي ينبع من رؤى متعددة ومصادر متنوعة، هو المحرك الأساسي لأي تقدم معماري ومجتمعي. في بيئة تحاول فيها بعض العقليات قمع حرية التفكير والرأي، يصبح الاستمرار في ممارسة النقد البنّاء من قبل جميع الممارسين للمهنة، بما في ذلك خريجو العمارة وممارسوها الميدانيون، فعل مقاومة نبيلاً ومساهمة لا تقدر بثمن في بناء مستقبل معماري أفضل وأكثر استدامة.

الثلاثاء، أغسطس 12، 2025

بين عمارة السلطة وعمارة الناس: تأملات في الاغتراب المعماري

  


جمال الهمالي اللافي

في مساري المعماري، كثيرًا ما وجدت نفسي مشدودًا بين نموذجين متباينين من العمارة: الأول، رسمي ومهيب، يُكتب بأقلام السلاطين والولاة، ويُدرّس في كليات الهندسة بوصفه "التاريخ المعماري". والثاني، عفوي وتلقائي، يُكتب بأيدي الناس، ويُبنى من حاجاتهم، ويُنسج من تفاصيل حياتهم اليومية.

العمارة السلطوية، كما أراها، لا تُشيّد لتلبية احتياج، بل لتأكيد سلطة. تُبنى بمواد مستوردة، وتصاميم هندسية دقيقة، لكنها مغتربة عن المكان والناس. تعكس رغبة في السيطرة، لا في الانسجام. أما عمارة الناس، فهي نقيض ذلك: بسيطة، متكيفة، نابعة من فهم عميق للحياة، تُحاكي البيئة ولا تتعدى عليها، وتُبنى بما هو متاح، لا بما يُستورد.

ما يُدرّس في كليات العمارة، في الغالب، هو النموذج الأول. يُعرض على الطالب بوصفه "المعيار"، بينما يُغيب النموذج الشعبي، رغم أنه الأقرب للواقع، والأكثر قابلية للتكرار والتطوير. هذا التحيز في التعليم لا يخلق معمارياً متمكنًا، بل معمارياً مغتربًا، يواجه واقعًا لا يشبه ما درسه، ولا يملك أدوات للتفاعل معه.

لقد تحول التعليم المعماري، في كثير من الأحيان، إلى ممارسة تعجيزية، تُشعر الطالب بالعجز بدلًا من التمكين. وتُنتج معمارياً لا يستطيع أن يقدم شيئًا ذا قيمة فعلية، لأن ما تعلمه لا يتناسب مع ما يعيشه.

في هذا السياق، أجد أن إعادة الاعتبار لعمارة الناس ليست فقط ضرورة مهنية، بل مسؤولية ثقافية. فهذه العمارة، رغم بساطتها، تحمل في طياتها فهمًا عميقًا للهوية، وللبيئة، وللعيش المشترك. وهي، في رأيي، نقطة انطلاق حقيقية نحو عمارة أكثر صدقًا، وأكثر قدرة على التعبير عن الإنسان والمكان.

الأحد، أغسطس 10، 2025

العمارة كفلسفة: حين يلتقي المسكن بالمعنى

 


جمال الهمالي اللافي

في عالم تتسارع فيه وتيرة التشييد، وتتزايد فيه المطالب بفخامة المنازل واتساعها، تبرز تساؤلات جوهرية حول الغاية الحقيقية للمسكن. هل هو مجرد هيكل مادي يتباهى به الأفراد، أم أنه وعاء يحتضن أرواحهم ويعكس فلسفتهم في الحياة؟ هذه المفارقة تتجلى بوضوح في المقولة الشهيرة: "نحن نعيش لنبني، ولا نبني لنعيش، ولهذا بيوتنا فارهة وحياتنا فارغة".

إنها دعوة للتأمل في العلاقة بين الفضاء المعماري والراحة النفسية. في هذا السياق، تبرز تجربة فنان سعودي يملك من الثراء ما يمكنه من امتلاك قصور، لكنه اختار أن يعيش في منزل متواضع. عندما سُئل عن سبب هذا الاختيار، كانت إجابته تحمل في طياتها حكمة عميقة: "أحتاج إلى بيت يحتويني ويريحني، وليس لأتوه في غرفه وممراته".

هذه الإجابة ليست مجرد رأي شخصي، بل هي بيان معماري بحد ذاته. إنها تؤكد أن قيمة المسكن لا تكمن في حجمه أو فخامة مواده، بل في قدرته على توفير شعور بالانتماء، والهدوء، والاحتواء. هذه الفلسفة تتعارض مع النظرة التقليدية التي ترى أن العمارة هي تعبير عن الثروة والمكانة الاجتماعية. وبدلاً من ذلك، تدعو إلى فهم أعمق لوظيفة المسكن كفضاء حميمي يتناغم مع احتياجات الإنسان الروحية والنفسية، وليس فقط المادية.

إن العمارة الرصينة اليوم هي تلك التي لا تكتفي بتقديم حلول جمالية ووظيفية، بل تتجاوز ذلك لتقديم حلول إنسانية. هي العمارة التي تجعل من المنزل ملاذاً من صخب الحياة الخارجية، ومصدراً للسكينة، وتثبت أن الأناقة الحقيقية تكمن في البساطة الهادفة، وأن أغنى الأماكن قد تكون تلك التي تبدو أكثر تواضعاً من الخارج، لكنها تحتضن حياة غنية وذات معنى من الداخل.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...