أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الثلاثاء، سبتمبر 09، 2025

في مواجهة هشاشة العمارة الليبية المعاصرة


نقد الاستيراد المعماري غير الواعي وتغريب الخطاب المحلي

جمال الهمالي اللافي

إلى زملائي المعماريين في ليبيا،

لا جدوى من التجميل أو التلطيف. نحن، بكل وضوح، متخلفون معماريًا حتى عن دول العالم الثالث، على مستويات التنظير والتصميم والتنفيذ، وفي نظم الإنشاء وتقنياته ومواده، وفي غياب العمالة الفنية الماهرة، محليًا وأجنبيًا. أما مقارنة واقعنا بالعمارة في العالم المتقدم، فهي مؤلمة إلى حد لا يُحتمل.

هذا الواقع ليس وليد اللحظة، بل نتيجة أربعة عقود من التهميش والتخبط، وما زالت البلاد تعيش ارتداداتها حتى اليوم. لذلك، نحن مجبرون على إعادة النظر في طريقة تفكيرنا، وفي رؤيتنا لحاضر ومستقبل العمارة الليبية. لا بد أن نواجه الواقع كما هو، دون تجميل أو إنكار، وأن نكفّ عن مجاراة ما ينتجه الغرب وكأننا نملك أدواته أو نعيش ظروفه. فكل استنساخ للمنتج المعماري الغربي في بيئتنا يأتي كجنين مشوه، فاقد للمقومات، غير قابل للحياة، ولا ينسجم مع واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الذي يحرص فيه الساسة على إبقاء التخلف قائمًا، بل وجرّه إلى مزيد من الفوضى.

حتى تنزاح الغمة عن الوطن، علينا كمعماريين أن نتحلى بالوعي، وأن نفكر بمسؤولية. لا يليق بنا أن نتحدث عن "التفكيك" و"ما بعد الحداثة" وكأننا نملك مفاتيحها. بعض الخجل كافٍ لتصحيح المسار. فلا نتمادى كما تمادى ساسة البلاد والمتحكمون في اقتصادها.

العمارة الزائفة: حين تُلبّس الواجهات مفردات تقليدية بلا روح

الحوش السماوي بمدينة طرابلس القديمة- تصوير: كميلة الأسطى


جمال الهمالي اللافي

في المشهد المعماري الليبي المعاصر، تبرز ظاهرة مقلقة: استدعاء مفردات العمارة التقليدية لا بوصفها استلهامًا واعيًا، بل كزينة تُلصق على واجهات حديثة، تُفرغ من معناها وتُقدّم كدليل على "الانتماء"، بينما هي في جوهرها انفصال عنه.

العمارة التقليدية لم تكن زخرفًا، بل كانت استجابة دقيقة للبيئة، للمناخ، للثقافة، وللأعراف الاجتماعية. كانت تُبنى من الأرض، وتُصمم للناس، وتُعبّر عنهم. حين تُستدعى اليوم عناصر مثل العقود، المشربيات، أو الزخارف، دون فهم وظيفتها أو سياقها، تتحول إلى رموز مشوشة، تُنتج واجهات زائفة، لا تنتمي للماضي ولا للحاضر.

الزيف لا يُقاس بالشكل، بل بالوظيفة والسياق. حين تُستخدم المشربية كعنصر زخرفي على واجهة زجاجية، أو يُضاف الفناء في مشروع لا يحتاجه، أو تُستورد مواد لا تنتمي للمكان، فثمة انفصال عن الروح. العمارة الزائفة تُعيد إنتاج الشكل، لكنها تُقصي المعنى.

ولعل أخطر ما في هذه الظاهرة أنها تُقدّم للناس بوصفها "عودة للتراث"، بينما هي في الحقيقة تشويه له. تُربّي الذائقة على التزيين، لا على الفهم، وتُكرّس وهم الانتماء عبر مفردات بلا وظيفة.

في مواجهة هذا، لا بد من إعادة تعريف الاستلهام: أن يكون حوارًا مع الماضي، لا اقتباسًا منه. أن يُبنى المشروع من سياقه، لا أن يُلصق عليه. أن تُعاد قراءة العمارة التقليدية بوصفها خطابًا وظيفيًا واجتماعيًا، لا مجرد زخرفة.

العمارة بروحها تُبنى لتُسكن، لا لتُعرض. تُعبّر، لا تُزيّن. تُحاور، لا تُقلّد.

الاثنين، سبتمبر 08، 2025

هل يكفي المعماري أن يكون مصممًا؟


في الحاجة إلى المعماري المثقف، الناقد، والمؤرخ

جمال الهمالي اللافي


في السياق الليبي، حيث العمارة لا تزال تُعامل كمنتج بصري أو وظيفة إنشائية، يبرز سؤال جوهري: هل يكفي للمعماري أن يكون مصممًا؟ أن يتقن أدوات الرسم، ويجيد برامج النمذجة، ويُخرج مشروعًا متماسكًا شكليًا؟ أم أن العمارة، في جوهرها، تتطلب ما هو أبعد من التصميم: وعيًا ثقافيًا، حسًا نقديًا، وذاكرة تاريخية؟

المعماري الذي يكتفي بالتصميم، دون أن يُدرك السياق الذي يصمم فيه، يتحول إلى منفذ تقني، لا إلى فاعل ثقافي. وهذا ما نراه في كثير من المشاريع الليبية المعاصرة: مبانٍ أنيقة الشكل، لكنها مشوشة الهوية، غريبة عن بيئتها، عاجزة عن التعبير عن ساكنيها. إنها عمارة بلا ذاكرة، بلا موقف، بلا خطاب.

في المقابل، المعماري المثقف لا يكتفي بالسؤال "كيف؟"، بل يسأل "لماذا؟" و"لمن؟" و"في أي سياق؟". هو ناقد قبل أن يكون مصممًا، ومؤرخ قبل أن يكون منفذًا. يقرأ المكان، ويصغي إلى الزمن، ويعيد بناء العلاقة بين الإنسان والمأوى، بين الوظيفة والكرامة، بين الشكل والمعنى.

في ليبيا، حيث العمارة تعاني من الاستلاب البصري والوظيفي، يصبح هذا الدور أكثر إلحاحًا. لا نحتاج إلى المزيد من المصممين، بل إلى معماريين يعيدون الاعتبار للبساطة، للصدق، للانتماء. إلى من يرفضون الاستنساخ، ويقاومون التغريب، ويؤمنون أن كل بيت هو موقف، لا مجرد منتج.

فهل يكفي أن يكون المعماري مصممًا؟

في زمن الانهيار، لا يكفي. في زمن المقاومة، لا يُكتفى إلا بمن يحمل الوعي، ويصمم به.

اغتراب العمارة كمرآة لاغتراب المجتمع


جمال الهمالي اللافي


ما نعايشه اليوم من اغتراب العمارة عن هويتها، ومن فوضى عمرانية تتجلى في تمدد العشوائيات وانعدام أي رؤية تخطيطية لمواجهة الحاجة المتزايدة للتوسع، ليس مجرد خلل في أدوات التنظيم أو قصور في السياسات العمرانية. بل هو مرآة صادقة تعكس حقيقة المجتمع الليبي في لحظته الراهنة: مجتمع يعاني من فقدان البوصلة، وتآكل الوعي الجمعي، وتراجع الحس بالانتماء المكاني والثقافي.

فالعمارة، بوصفها تعبيرًا بصريًا عن الذات الجمعية، لا يمكن أن تنفصل عن السياق الذي تُنتج فيه. وإذا ما فقدت ملامحها، واغتربت عن بيئتها، وتنكرت لجذورها، فإن ذلك لا يدل إلا على اغتراب أعمق يسكن النفوس، ويعكس هشاشة في الهوية، وارتباكًا في الرؤية، وعجزًا عن صياغة خطاب عمراني يعبّر عن الذات لا ينسلخ عنها.

إن فوضى العمران ليست عشوائية بالصدفة، بل هي منظمة بفعل الغفلة، وممنهجة بفعل الإهمال، ومُشرعنة بصمت المؤسسات. وهي، في جوهرها، تعبير عن غياب المشروع الثقافي الذي يربط بين المكان والإنسان، بين الشكل والوظيفة، بين العمارة والكرامة.

اغتراب العمارة كمرآة لاغتراب المجتمع

ما نعايشه اليوم من اغتراب العمارة عن هويتها، ومن فوضى عمرانية تتجلى في تمدد العشوائيات وانعدام أي رؤية تخطيطية لمواجهة الحاجة المتزايدة للتوسع، ليس مجرد خلل في أدوات التنظيم أو قصور في السياسات العمرانية. بل هو مرآة صادقة تعكس حقيقة المجتمع الليبي في لحظته الراهنة: مجتمع يعاني من فقدان البوصلة، وتآكل الوعي الجمعي، وتراجع الحس بالانتماء المكاني والثقافي.

فالعمارة، بوصفها تعبيرًا بصريًا عن الذات الجمعية، لا يمكن أن تنفصل عن السياق الذي تُنتج فيه. وإذا ما فقدت ملامحها، واغتربت عن بيئتها، وتنكرت لجذورها، فإن ذلك لا يدل إلا على اغتراب أعمق يسكن النفوس، ويعكس هشاشة في الهوية، وارتباكًا في الرؤية، وعجزًا عن صياغة خطاب عمراني يعبّر عن الذات لا ينسلخ عنها.

إن فوضى العمران ليست عشوائية بالصدفة، بل هي منظمة بفعل الغفلة، وممنهجة بفعل الإهمال، ومُشرعنة بصمت المؤسسات. وهي، في جوهرها، تعبير عن غياب المشروع الثقافي الذي يربط بين المكان والإنسان، بين الشكل والوظيفة، بين العمارة والكرامة.

الأحد، سبتمبر 07، 2025

بين العودة والتقوقع: تأملات في جدل العمارة المحلية والحداثة


جمال الهمالي اللافي

يُطرح عليّ أحيانًا سؤالٌ يبدو في ظاهره استفهاميًا، لكنه يحمل في طياته نبرة تشكيك:

"لماذا تصرّ على الدعوة للعودة إلى النهل من العمارة المحلية التقليدية في عمارتك المعاصرة؟ هل هو عجز عن مواكبة مشاريع الحداثة، أم تقوقع على فكرة راودتك وأردت إثباتها رغم رفض المجتمع الليبي لها؟"

ولأن السؤال لا يُجاب عليه بردٍّ دفاعي، بل بتأملٍ في جوهر الفكرة، أجد أن العودة إلى العمارة المحلية ليست فعلًا رجعيًا ولا إثباتًا ذاتيًا، بل هي مقاومة واعية للاستلاب البصري والوظيفي الذي فرضته نماذج حداثية مستوردة، غالبًا ما جاءت منقطعة عن السياق المحلي، غريبة عن المكان، وعاجزة عن احتضان الإنسان.

العمارة التقليدية الليبية ليست مجرد زخارف أو أنماط شكلية، بل هي منظومة معيشية متكاملة، نمت من رحم البيئة، واستجابت للمناخ، واحترمت الخصوصية، وعبّرت عن روح الجماعة. من غدامس إلى طرابلس، ومن الواحات إلى المدن الساحلية، كانت العمارة المحلية قادرة على خلق فراغات تنتمي للناس، وتُشعرهم بالسكينة والانتماء.

أما مشاريع الحداثة التي تُستنسخ بلا تمحيص، فغالبًا ما تُنتج فراغات معزولة، لا تنتمي للناس ولا تنسجم مع المكان. هي حداثة بلا ذاكرة، وبلا حسٍّ نقدي، تُراكم المواد دون أن تُراكم المعنى.

لذا، فإن دعوتي ليست تقوقعًا على فكرة شخصية، بل هي سعيٌ لإعادة تعريف المعاصرة من داخل الذات، لا من خارجها. هي محاولة لتأسيس خطاب معماري نقدي يعيد الاعتبار للبساطة والصدق، ويقاوم التكلّف والاستعراض، ويُعيد وصل ما انقطع بين الإنسان والمكان.

الوعي، حتى لو كان عاجزًا عن التغيير، هو فعل مقاومة في ذاته. والعودة إلى الجذور ليست نكوصًا، بل هي خطوة إلى الأمام حين تكون الجذور حيّة، قادرة على الإنبات من جديد.

الجمعة، سبتمبر 05، 2025

العمارة كخطاب عقائدي: بين تغريب التعليم وتفكك الهوية


جمال الهمالي اللافي

في هذه الورقة الجديدة على مدونة الميراث، أتناول كيف يسهم التعليم المعماري في تغريب الوعي الجمعي، ويقود المدن الليبية نحو فقدان هويتها البصرية. هل يمكن للعمارة أن تكون وسيلة مقاومة لا أداة استلاب؟

المقدمة

في زمن تتنازع فيه الطرز المعمارية مرجعيات متباينة، لم تعد العمارة مجرد بناء يُؤوي الإنسان، بل غدت خطابًا ثقافيًا وعقائديًا يعيد تشكيل الوعي الجمعي من الداخل. فالمباني التي نعيش فيها، ونتعلم ونتسوق داخلها، ليست حيادية كما يُظن، بل تحمل في طياتها رؤى ومعتقدات قد تتصادم مع قيم المجتمع أو تُعيد توجيهها.
هذه الورقة لا تكتفي بتشخيص أزمة التعليم المعماري، بل تطرح سؤالًا أكثر عمقًا: كيف تحوّل التعليم المعماري إلى منصة تغريب، تُنتج معماريين يحملون توجهات متضاربة، ويُسهمون في تفكيك الهوية البصرية والثقافية للمدن الليبية؟ وما السبيل إلى استعادة العمارة كأداة تعبير عن الذات الجمعية، لا كوسيلة لفرض قيم دخيلة؟

1.      العمارة ليست حيادية

العمارة، في جوهرها، ليست مجرد بناء وظيفي، بل هي خطاب ثقافي محمّل بالمعتقدات والتوجهات. سواء تجلت في مبنى سكني أو مخطط عمراني، فهي تعكس رؤية المعماري ووعيه أو انبهاره، وتنقل إلى الواقع مشروعًا فكريًا قد يتصادم مع قيم المجتمع.

2.      التعليم المعماري كمنصة تغريب

يُغرق التعليم المعماري الطالب في طرز عالمية متضاربة دون أن يُبصره بخلفياتها الفكرية والعقائدية، مما يؤدي إلى إنتاج معماريين يحملون توجهات متصادمة. هذا الانفصال بين الشكل والمضمون يسهم في انحراف تدريجي للمجتمع عن قيمه، عبر مشاريع معمارية تُنفذ دون وعي بمآلاتها الثقافية.

3.      العمارة كأداة لإعادة تشكيل المجتمع

خطورة العمارة تتجاوز الأدوات الأخرى، لأنها تحتضن الإنسان وتعيد تشكيل وعيه اليومي. ومع تضارب الطرز، تتعدد القناعات داخل المجتمع الواحد، ويصبح كل فرد رهينًا للبيئة المعمارية التي يعيش فيها، مما يُضعف إمكانية تكوين رأي عام موحد.

4.      تغريب العمارة وطمس المحلي

في التعليم المعماري المعاصر، يُروَّج للطراز الغربي بوصفه معيارًا للحداثة والتطور، بينما تُهمَّش العمارة المحلية ذات البُعد الإسلامي وتُقدَّم كأثر تجاوزه الزمن. هذا التحيّز لا يقتصر على الشكل، بل يمتد إلى المضمون، حيث تُغذّى الأجيال المعمارية الجديدة بفكر مادي أو إلحادي، يُترجم عمليًا في مشاريع تفتقر إلى الروح الإسلامية. وهكذا، تُصنع بيئة عمرانية تُكرّس قيمًا دخيلة تحت شعار "مواكبة العصر"، في مقابل طمس الهوية وتهميش الجذور.

5.      أزمة الخطاب الثقافي في ظل تعدد المصادر

تعدد مصادر الثقافة داخل المجتمع الواحد يجعل من كل خطاب يحمل مضمونًا مغايرًا عرضة للرفض، مما يُعمّق الانقسام ويُضعف القدرة على بناء وعي جمعي متماسك.

6.      المدن الليبية بين فقدان الهوية وتضارب الرسائل البصرية

إن المدن الليبية اليوم تعاني من تشوّه بصري ناتج عن تضارب الطرز المعمارية المستوردة، التي لا تنتمي إلى السياق المحلي لا في مادتها ولا في روحها. هذا التراكم غير المنسجم يُنتج بيئة عمرانية مفككة، تُربك الوعي الجمعي وتُضعف الإحساس بالانتماء. فحين تغيب المرجعية العقائدية والثقافية عن التصميم، تتحول المدينة إلى معرض طرز متنافرة، لا تعكس هوية أهلها ولا تحفظ ذاكرتهم. وهكذا، تصبح العمارة أداة تغريب لا وسيلة تعبير، ويغدو الفضاء اليومي للمواطن الليبي مشحونًا برسائل بصرية لا يفهمها ولا ينتمي إليها.

الخاتمة

إن العمارة، بما تحمله من رموز ومضامين، لا تبني الجدران فقط، بل تُعيد تشكيل الإنسان داخلها. وحين يُغفل التعليم المعماري هذا البُعد، يتحوّل إلى أداة تغريب تُنتج بيئات عمرانية مفككة، تُربك الوعي وتُضعف الانتماء.
لذا، فإن إعادة النظر في مناهج التعليم المعماري ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة ثقافية لحماية المجتمع من التصدّع القيمي.
إن استعادة العمارة المحلية، لا بوصفها تراثًا جامدًا بل كخطاب حيّ متجدد، هو السبيل إلى بناء مدن تعبّر عن أهلها، وتحفظ ذاكرتهم، وتُقاوم الاستلاب البصري والفكري باسم الحداثة.

الخميس، سبتمبر 04، 2025

أزمة التخصصات المتجاورة: غياب الرؤية التكاملية في المشهد المعماري الليبي


جمال الهمالي اللافي

    في هذا النص، لا أطرح رأيًا عابرًا ولا أبحث عن جدل نظري. بل أشارككم تشخيصًا لمشكلة مهنية تتكرر في المشهد المعماري الليبي، وتُفرغ العمل الإبداعي من روحه التكاملية. وفي ختامه، أوجّه دعوة محددة، ليست عامة ولا مفتوحة، بل موجهة لمن يشتركون معي في الرؤية، ويؤمنون أن المعنى يسبق المكسب، وأن التكامل لا يُشترط، بل يُبنى.

المشهد الإبداعي الليبي: تقاطع التخصصات وتباعد الرؤى

    في الحقل الإبداعي الليبي، حيث تلتقي العمارة بالتصميم الداخلي، وتتقاطع مع تصميم الجرافيك وتنسيق الحدائق، يُفترض أن نجد بيئة خصبة للتعاون المثمر. فهذه التخصصات، رغم استقلاليتها، تشترك في هدف جوهري واحد: خلق فضاءات إنسانية متناغمة وذات قيمة وظيفية وجمالية. إلا أن الواقع المهني يكشف عن ظاهرة مقلقة تتمثل في هيمنة النزعة الفردية، التي تحوّل إمكانية العمل المشترك إلى مجرد طموح نظري بعيد المنال.

    إن إشكالية "التفرد" تضرب بجذورها في منهجية العمل السائدة. فبدلاً من أن يكون المشروع عملية تطوير تكاملية منذ مراحله الأولى، يتحول إلى سلسلة من المهام المنفصلة. يبدأ المعماري بوضع رؤيته، سواء كانت متجذرة في التراث المحلي، أو منساقة نحو الحداثة، أو حتى شاطحة في اتجاهات تجريبية. وعند هذه النقطة، بدلاً من أن يجد شركاء يثرون رؤيته ويضيفون إليها من منظور تخصصاتهم، يُطلب منه غالباً "التنحي جانباً".

    هنا تبدأ المرحلة الثانية من التشظي؛ حيث يضع كل متخصص "بصمته الخاصة" بمعزل عن روح التصميم الأصلي. فتأتي حلول التصميم الداخلي، أو هوية الجرافيك، أو تنسيق المناظر الطبيعية، كطبقات منفصلة تُضاف إلى الهيكل المعماري، وغالباً ما تتنافر معه بشكل صارخ. يصبح هذا التضارب في الأسلوب والرؤية بمثابة "ضريبة" حتمية للاستعانة بهذه الخبرات، مما ينتج عنه بيئة مبنية تفتقر إلى الانسجام والتناغم، أشبه ما تكون بقطع فنية جميلة وُضعت معاً قسراً بلا رابط.

    تتعمق هذه الأزمة حين يتحول التعاون من شراكة مهنية ضرورية إلى ما يشبه "الخدمة العابرة". ينظر المتخصصين الآخرين إلى مساهمتهم على أنها التزام مؤقت يجب إنجازه بأسرع وقت ممكن للانتقال إلى مشاريع أخرى، مما يفرغ العملية الإبداعية من أهم عناصرها: الصبر، والحوار، والنضج المشترك للوصول إلى حل تصميمي متكامل ومتفوق.

    وفي مواجهة هذا التشظي المهني، لا تبدو الحاجة إلى "شراكة تكاملية" ترفًا تنظيريًا، بل ضرورة ملحّة لإعادة الاعتبار للفعل الإبداعي بوصفه ممارسة جماعية ناضجة. إنها دعوة مفتوحة لكل من يعمل في هذه التخصصات المتجاورة، لتجاوز منطق "الخدمة العابرة" نحو تأسيس رؤية مشتركة، تُعيد للعمارة المحلية المعاصرة معناها المتكامل. رؤية لا تُختزل في المكسب المادي، بل تنشد عملًا إبداعيًا تتضافر فيه الخبرات، وتتكامل فيه البصمات، ويُصاغ فيه المشروع ككلٍّ حيّ، لا كأجزاء متنافرة. فالتأصيل لا يتحقق بالاجتهاد الفردي وحده، بل بالوعي الجمعي الذي يرى في التكامل قيمة، وفي الحوار وسيلة، وفي الصبر شرطًا للتميز.

نحو شراكة واعية: اختبار التناغم قبل الالتزام

    ومن موقعي كممارسٍ ومتابعٍ لهذا الحقل، أتوجه بدعوة صريحة إلى من يشتركون معي في الرؤية، ويؤمنون بأن التكامل ليس خيارًا تجميليًا، بل ضرورة مهنية وأخلاقية. لا أطرح هذه الدعوة على العموم، فقد خضت مرارًا تجارب تعاون لم تُفضِ إلا إلى مزيد من التنافر، حين كانت الغاية مكسبًا لا معنى، أو حضورًا لا أثر. لذلك، أخص بها من يرى في العمل الإبداعي غاية تتجاوز المكسب، وفي الشراكة وسيلة لبلوغ مشروع متكامل، حيّ، ناضج، يُصاغ بتفاعل حقيقي بين التخصصات لا بتجاورها الصامت. وستنطلق هذه الشراكة أولًا من محاولة تقريب أساليب العمل والتفكير، عبر مشاريع منجزة سابقًا قُدّمت لزبائنها، لا من مشاريع جديدة يُفترض أن تُنتج فورًا. فالتجربة المشتركة هي الشرط الأول، والانسجام المهني هو المعيار، قبل أي تورط في التزامات حالية أو قادمة. إن تأصيل العمارة المحلية المعاصرة لا يتحقق بالاجتهاد الفردي، ولا بالتعاون العابر، بل باللقاء الواعي بين من يطلبون المعنى قبل الشكل، ويؤمنون أن التكامل لا يُشترط، بل يُبنى.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...